المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفرق بين الفرض والواجب - شرح مختصر الروضة - جـ ١

[الطوفي]

فهرس الكتاب

- ‌الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي تَعْرِيفِ أُصُولِ الْفِقْهِ:

- ‌الْفَصْلُ الثَّانِيفِي التَّكْلِيفِ

- ‌ تَكْلِيفِ الْمُمَيِّزِ

- ‌فُرُوعٌ:

- ‌ الْجِهَادَ خَاصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ

- ‌ إِنْ صَحَّ التَّكْلِيفُ بِالْمُحَالِ لِغَيْرِهِ، صَحَّ بِالْمُحَالِ لِذَاتِهِ

-

- ‌الْفَصْلُ الثَّالِثُفِي أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ

- ‌الْوَاجِبُ

- ‌الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ

- ‌النَّدْبُ

- ‌الْحَرَامُ

- ‌الْمَكْرُوهُ:

- ‌الْمُبَاحُ:

- ‌التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ»

- ‌هَلْ يَجِبُ عَلَى اللَّهِ رِعَايَةُ الْمَصْلَحَةِ

- ‌ الْعِلَّةُ

- ‌ السَّبَبُ

- ‌ الشَّرْطُ

- ‌ فَوَائِدَ

- ‌ الثَّانِيَةُ: فِي فُرُوقٍ نَافِعَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالْعِلَّةِ وَالشَّرْطِ:

- ‌ الثَّالِثَةُ: الْمَوَانِعُ الشَّرْعِيَّةُ:

- ‌ الْأَدَاءِ وَالْإِعَادَةِ وَالْقَضَاءِ

- ‌ الْعَزِيمَةُ وَالرُّخْصَةُ

- ‌الْفَصْلُ الرَّابِعُفِي اللُّغَاتِ

- ‌ مَبْدَأِ اللُّغَاتِ

- ‌ الْأَسْمَاءُ: وَضْعِيَّةٌ، وَعُرْفِيَّةٌ، وَشَرْعِيَّةٌ، وَمَجَازٌ

- ‌ أَقْسَامِ التَّجَوُّزِ

- ‌ الصَّوْتُ:

- ‌الْكَلَامُ مَا تَضَمَّنَ كَلِمَتَيْنِ بِالْإِسْنَادِ

- ‌الْكَلَامُ: نَصٌّ، وَظَاهِرٌ، وَمُجْمَلٌ

- ‌الظَّاهِرُ:

الفصل: ‌الفرق بين الفرض والواجب

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَقَالَ الْآمِدِيُّ: الْوَاجِبُ: مَا تَرْكُهُ سَبَبٌ لِلذَّمِّ شَرْعًا فِي حَالَةٍ مَا. فَقَوْلُهُ: فِي حَالَةٍ مَا، مُحَافَظَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوَاجِبَاتِ الثَّلَاثَةِ، لِأَنَّ تَرْكَهَا إِنَّمَا يَكُونُ سَبَبًا لِلذَّمِّ. وَقَالَ ابْنُ الصَّيْقَلِ: الْوَاجِبُ: هُوَ الْفِعْلُ الْمُقْتَضَى مِنَ الشَّارِعِ، الَّذِي يُلَامُ تَارِكُهُ شَرْعًا، وَهُوَ مَعْنَى مَا ذَكَرْنَا، غَيْرَ أَنَّ اللَّوْمَ أَخَفُّ مِنَ الذَّمِّ.

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: اللَّوْمُ: الْعَذْلُ. وَقَالَ أَيْضًا: اسْتَلَامَ الرَّجُلُ إِلَى النَّاسِ: اسْتَذَمَّ.

فَعَلَى هَذَا هُمَا سَوَاءٌ.

فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي حَدِّ الْوَاجِبِ يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ وَاجِبٍ، فَإِنَّ تَارِكَهُ مَذْمُومٌ شَرْعًا، وَهُوَ بَاطِلٌ بِالنَّائِمِ وَالنَّاسِي، فَإِنَّهُمَا يَتْرُكَانِ الْوَاجِبَاتِ حَالَ النَّوْمِ وَالنِّسْيَانِ وَلَا يُذَمَّانِ.

فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْوُجُوبَ وَالذَّمَّ مِنْ لَوَاحِقِ التَّكْلِيفِ، وَالنَّاسِي وَالنَّائِمِ وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ لَا يَفْهَمُ الْخِطَابَ، غَيْرُ مُكَلَّفٍ عِنْدَنَا فِي حَالِ الْعُذْرِ، وَإِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الْخِطَابُ بَعْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ تَكْلِيفِ النَّائِمِ وَالنَّاسِي. وَإِذَا كَانَا غَيْرَ مُكَلَّفَيْنِ لَمْ يَنْتَقِضِ الْحَدُّ بِهِمَا، كَمَا لَا يَنْتَقِضُ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ.

وَقِيلَ: حَدُّ الْوَاجِبِ: مَا يَتَعَرَّضُ تَارِكُهُ لِلْعِقَابِ وَاللَّوْمِ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي حَدِّ الْوَاجِبِ.

‌الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ

قَوْلُهُ: «وَهُوَ» يَعْنِي الْوَاجِبَ «مُرَادِفٌ لِلْفَرْضِ عَلَى الْأَصَحِّ» أَيْ: أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ رضي الله عنه. «وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الْفَرْضُ

ص: 274

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْمَقْطُوعُ بِهِ، وَالْوَاجِبُ الْمَظْنُونُ» يَعْنِي أَنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ، فَقَالُوا: الْفَرْضُ مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ شَرْعًا، كَنَصِّ الْكِتَابِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ، وَالْوَاجِبُ: مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍ كَالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ.

وَمَعْنَى قَوْلِنَا: «مُرَادِفٌ لِلْفَرْضِ» ، أَيْ: مُسَاوِيهِ فِي الْمَعْنَى، تَشْبِيهًا لَهُ بِرَدِيفِ الرَّاكِبِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَى رِدْفِ الدَّابَّةِ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذَيْنِ اسْمَانِ عَلَى مُسَمًّى وَاحِدٍ، كَمَا أَنَّ ذَيْنَكَ رَاكِبَانِ عَلَى مَرْكُوبٍ وَاحِدٍ.

قَوْلُهُ: «إِذِ الْوُجُوبُ لُغَةً: السُّقُوطُ، وَالْفَرْضُ: التَّأْثِيرُ، وَهُوَ أَخَصُّ، فَوَجَبَ اخْتِصَاصُهُ بِقُوَّةٍ حُكْمًا، كَمَا اخْتُصَّ لُغَةً» .

هَذَا تَقْرِيرُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ. وَبَيَانُهُ: أَنَّ الْوُجُوبَ فِي اللُّغَةِ السُّقُوطُ، كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ. وَالْفَرْضُ: التَّأْثِيرُ، وَإِلَى مَعْنَاهُ يَرْجِعُ أَكْثَرُ فُرُوعِ مَادَّتِهِ.

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْفَرْضُ: الْحَزُّ فِي الشَّيْءِ، وَفَرْضُ الْقَوْسِ: هُوَ الْحَزُّ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الْوَتَرُ، وَالْفَرِيضُ: السَّهْمُ الْمَفْرُوضُ فَوْقَهُ، وَالتَّفْرِيضُ: التَّحْزِيزُ، وَالْمِفْرَضُ: الْحَدِيدَةُ الَّتِي يُحَزُّ بِهَا، وَالْفِرَاضُ: فُوَّهَةُ النَّهْرِ.

وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ، فَالْفَرْضُ أَخَصُّ مِنَ السُّقُوطِ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مَثَلًا مِنْ سُقُوطِ

ص: 275

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْحَجَرِ وَنَحْوِهِ عَلَى الْأَرْضِ، أَنْ يَحُزَّ وَيُؤَثِّرَ فِيهَا، وَيَلْزَمُ مِنْ حَزِّهِ وَتَأْثِيرِهِ فِي الْأَرْضِ، أَنْ يَكُونَ قَدْ سَقَطَ، وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهَا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَجَبَ اخْتِصَاصُ الْفَرْضِ بِقُوَّةٍ فِي الْحُكْمِ، كَمَا اخْتُصَّ بِقُوَّةٍ فِي اللُّغَةِ، حَمْلًا لِلْمُسَمَّيَاتِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى مُقْتَضَيَاتِهَا اللُّغَوِيَّةِ، إِذِ الْأَصْلُ عَدَمُ التَّغْيِيرِ.

وَقَوْلُنَا: الْفَرْضُ مَا كَانَ طَرِيقُ ثُبُوتِهِ قَطْعِيًّا، هُوَ نَوْعُ اخْتِصَاصٍ لَهُ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ.

قَوْلُهُ: «وَالنِّزَاعُ لَفْظِيٌّ» إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: أَنَّ النِّزَاعَ فِي الْمَسْأَلَةِ، إِنَّمَا هُوَ فِي اللَّفْظِ، مَعَ اتِّفَاقِنَا عَلَى الْمَعْنَى. إِذْ لَا نِزَاعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي انْقِسَامِ مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ عَلَيْنَا وَأَلْزَمَنَا إِيَّاهُ مِنَ التَّكَالِيفِ، إِلَى قَطْعِيٍّ وَظَنِّيٍّ. وَاتَّفَقْنَا عَلَى تَسْمِيَةِ الظَّنِّيِّ وَاجِبًا، وَبَقِيَ النِّزَاعُ فِي الْقَطْعِيِّ، فَنَحْنُ نُسَمِّيهِ وَاجِبًا وَفَرْضًا بِطَرِيقِ التَّرَادُفِ، وَهُمْ يَخُصُّونَهُ بِاسْمِ الْفَرْضِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَضُرُّنَا وَإِيَّاهُمْ، فَلْيُسَمُّوهُ مَا شَاءُوا.

ثُمَّ قَدْ ذَكَرَ الْجَوْهَرِيُّ أَنَّ الْفَرْضَ هُوَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى، سُمِّيَ بِذَلِكَ، لِأَنَّ لَهُ مَعَالِمَ وَحُدُودًا، وَقَالَ فِي الْبَابِ أَيْضًا: فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْنَا كَذَا، وَافْتَرَضَ، أَيْ: أَوْجَبَ، وَالِاسْمُ الْفَرِيضَةُ. هَذَا نَقَلَهُ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ.

وَإِذَا اسْتَوَى الْفَرْضُ وَالْوَاجِبُ فِيمَا قُلْنَا فَهُمَا سَوَاءٌ فِي الشَّرْعِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ

ص: 276

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

التَّغْيِيرِ، وَاخْتِلَافُ طَرِيقِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَالْقَطْعِ وَالظَّنِّ، لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ حَقِيقَتِهِ فِي نَفْسِهِ.

تَنْبِيهٌ: الَّذِي نَصَرَهُ أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ، مِنْ أَنَّ الْوَاجِبَ مُرَادِفٌ لِلْفَرْضِ، لَكِنَّ أَحْكَامَ الْفُرُوعِ قَدْ بُنِيَتْ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ ذَكَرُوا أَنَّ الصَّلَاةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى فُرُوضٍ وَوَاجِبَاتٍ وَمَسْنُونَاتٍ، وَأَرَادُوا بِالْفُرُوضِ الْأَرْكَانَ.

وَحُكْمُهُمَا مُخْتَلِفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ طَرِيقَ الْفَرْضِ مِنْهَا أَقْوَى مِنْ طَرِيقِ الْوَاجِبِ.

وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَاجِبَ يُجْبَرُ إِذَا تُرِكَ نِسْيَانًا بِسُجُودِ السَّهْوِ، وَالْفَرْضُ لَا يَقْبَلُ الْجَبْرَ، وَكَذَا الْكَلَامُ فِي فُرُوضِ الْحَجِّ وَوَاجِبَاتِهِ، حَيْثُ جُبِرَتْ بِالدَّمِ دُونَ الْأَرْكَانِ.

وَأَشَارَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ إِلَى الْوَجْهَيْنِ، فَقَالَ: الْفَرْضُ: هُوَ الْوَاجِبُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، لِاسْتِوَاءِ حَدِّهِمَا، وَالثَّانِيَةُ: الْفَرْضُ آكَدٌ، فَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ لِمَا يُقْطَعُ بِوُجُوبِهِ، وَقِيلَ: مَا لَا يُسَامَحُ فِي تَرْكِهِ عَمْدًا وَلَا سَهْوًا، نَحْوَ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ.

قُلْتُ: وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ رحمه الله فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ، فَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا: هِيَ وَاجِبَةٌ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَضَهَا، وَهَذَا تَسْوِيَةٌ مِنْهُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَدَقَةَ الْفِطْرِ، وَأَنَا مَا أَجْتَرِئُ أَنْ أَقُولَ: إِنَّهَا فَرْضٌ، وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ يَدْفَعُ أَنَّهَا فَرْضٌ، وَهَذَا فَرْقٌ مِنْهُ بَيْنَهُمَا.

وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ، وَهَلْ هُمَا فَرْضٌ أَوْ

ص: 277

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَاجِبٌ؟ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ. وَصَحَّحَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي «الْفُصُولِ» أَنَّهُمَا وَاجِبٌ لَا فَرْضٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: «ثُمَّ لِنَتَكَلَّمْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَحْكَامِ» يَعْنِي فِي مَسَائِلِهِ. وَالْكَلَامُ السَّابِقُ، كَأَنَّهُ فِي أَمْرٍ كُلِّيٍّ مُتَعَلِّقٍ بِالْوَاجِبِ، فَجُعِلَ مُتَّصِلًا بِالْكَلَامِ فِي حَدِّهِ، وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُهُ مَسْأَلَةً مِنْ مَسَائِلِ الْوَاجِبِ. وَهُوَ كَذَلِكَ وَلَا حَرَجَ.

ص: 278

الْوَاجِبُ

وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْأُولَى: الْوَاجِبُ يَنْقَسِمُ إِلَى مُعَيَّنٍ، كَإِعْتَاقِ هَذَا الْعَبْدِ، وَالتَّكْفِيرِ بِهَذِهِ الْخَصْلَةِ، وَإِلَى مُبْهَمٍ فِي أَقْسَامٍ مَحْصُورَةٍ كَإِحْدَى خِصَالِ الْكَفَّارَةِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ: الْجَمِيعُ وَاجِبٌ، وَهُوَ لَفْظِيٌّ. وَبَعْضُهُمْ: مَا يُفْعَلُ، وَبَعْضُهُمْ: وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ، وَيَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ.

ــ

قَوْلُهُ: «الْوَاجِبُ» ، أَيْ: ذِكْرُ الْكَلَامِ عَلَى الْوَاجِبِ فِي أَحْكَامِهِ الْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ. «وَفِيهِ مَسَائِلُ» :

«الْأُولَى: الْوَاجِبُ يَنْقَسِمُ إِلَى مُعَيَّنٍ، كَإِعْتَاقِ هَذَا الْعَبْدِ» إِلَى آخِرِهِ.

هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُعْرَفُ بِمَسْأَلَةِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، وَهُوَ وُجُوبٌ وَاحِدٌ لَا بِعَيْنِهِ مِنْ أَشْيَاءَ.

وَتَلْخِيصُ الْقَوْلِ فِيهِ:

إِنَّ الْوَاجِبَ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا، كَإِعْتَاقِ هَذَا الْعَبْدِ، مِثْلَ أَنْ يَنْذُرَ عِتْقَ هَذَا الْعَبْدِ الْمُعَيَّنِ، أَوْ عِتْقَ زَيْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ، فَيَكُونُ مُخَاطَبًا بِعِتْقِهِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَكَذَلِكَ مَنْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِمَالٍ بِعَيْنِهِ، كَهَذِهِ الدَّنَانِيرِ، أَوِ الْإِبِلِ أَوِ الْخَيْلِ وَنَحْوِهِ، كَانَ مُخَاطَبًا بِالصَّدَقَةِ بِهِ بِعَيْنِهِ حَسَبَ مَا الْتَزَمَهُ بِالنَّذْرِ. وَكَذَا لَوْ فُرِضَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ التَّكْفِيرَ عَلَى عِبَادِهِ أَوْ بَعْضِهِمْ، فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَوْ غَيْرِهَا، بِخَصْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ الْمَشْرُوعَةِ، كَالْإِعْتَاقِ أَوِ الْإِطْعَامِ أَوِ الْكُسْوَةِ، وَجَبَتْ تِلْكَ الْخَصْلَةُ بِعَيْنِهَا.

ص: 279

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُبْهَمًا فِي أَقْسَامٍ مَحْصُورَةٍ، كَإِحْدَى خِصَالِ الْكَفَّارَةِ، كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [الْمَائِدَةِ: 89] .

قُلْتُ: وَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى قَوْلِنَا: فِي أَقْسَامٍ مَحْصُورَةٍ، لِأَنَّ السَّيِّدَ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: اخْدِمْنِي الْيَوْمَ نَوْعًا مِنَ الْخِدْمَةِ، أَيَّ أَنْوَاعِهَا شِئْتَ، أَوْ تَصَدَّقْ عَنِّي بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ مَالِي، أَيَّهَا شِئْتَ، أَوْ أَكْرِمْ شَخْصًا مِنَ النَّاسِ، أَوْ مِنْ أَصْحَابِي أَيَّهُمْ شِئْتَ، صَحَّ هَذَا الْكَلَامُ عَقْلًا، وَخَرَجَ بِهِ عَنِ الْعُهْدَةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْأَقْسَامُ مَحْصُورَةً فِي الْخِطَابِ.

وَلَكِنَّ الشَّيْخَ أَبَا مُحَمَّدٍ تَابَعَ أَبَا حَامِدٍ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ، وَذَكَرَ صِفَةَ الْحَصْرِ وَهِيَ غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ.

«وَقَالَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ: الْجَمِيعُ وَاجِبٌ» وَهَذَا مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ وَابْنِهِ أَبِي هَاشِمٍ. أَطْلَقَا الْقَوْلَ بِوُجُوبِ جَمِيعِ الْخِصَالِ عَلَى التَّخْيِيرِ.

قَوْلُهُ: «وَهُوَ لَفْظِيٌّ» يَعْنِي الْخِلَافَ بَيْنَ الْجُمْهُورِ، وَبَيْنَ أَصْحَابِ هَذَا الْقَوْلِ. وَقَدْ صَرَّحَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي «شَرْحِ الْعَهْدِ» بِأَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ، أَيْ: فِي اللَّفْظِ، وَالْمَعْنَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ جَمِيعَ الْخِصَالِ، لَمْ يُثَبْ ثَوَابَ أَدَاءِ الْوَاجِبِ إِلَّا عَلَى وَاحِدَةٍ، وَلَوْ تَرَكَ الْجَمِيعَ، لَمْ يُعَاقَبْ عِقَابَ تَرْكِ الْوَاجِبِ إِلَّا عَلَى وَاحِدَةٍ، وَلَوْ وَجَبَ الْجَمِيعُ، لَتَرَتَّبَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ عَلَى جَمِيعِ الْخِصَالِ، وَتَقَدَّرَ بِهِ، وَلَمَا خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ بِفِعْلِ وَاحِدَةٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ

ص: 280

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

بِالْإِجْمَاعِ. وَوَافَقَ الْخَصْمُ عَلَى هَذَا فَلَمْ يَبْقَ النِّزَاعُ إِلَّا فِي اللَّفْظِ. غَيْرَ أَنَّ نَصْبَ الْخِلَافِ مَعَهُمْ جَرَى عَلَى عَادَةِ الْأُصُولِيِّينَ، وَدَفْعًا لِشُبْهَةِ غَالِطٍ إِنْ كَانَ.

ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُمْ: يَجِبُ الْجَمِيعُ عَلَى التَّخْيِيرِ، كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ فِي نَفْسِهِ، إِذْ مُقْتَضَى وُجُوبُ الْجَمِيعِ: أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ إِلَّا بِفِعْلِ الْجَمِيعِ. وَمُقْتَضَى التَّخْيِيرِ: أَنَّهُ يَبْرَأُ بِفِعْلِ أَيِّهَا شَاءَ، وَهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ بِوُجُوبِ الْجَمِيعِ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْجَمِيعِ، وَهُوَ صَحِيحٌ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ وُجُوبُ فِعْلِ الْجَمِيعِ، أَوْ وُجُوبُ الْجَمِيعِ عَلَى الْبَدَلِ، لَا عَلَى الْجَمْعِ. بِمَعْنَى: إِنْ لَمْ تَفْعَلْ هَذَا افْعَلْ هَذَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ.

وَقَالَ الْقَرَافِيُّ فِي مَعْنَاهُ: إِنَّ الْوُجُوبَ تَعَلُّقٌ بِالْجَمِيعِ عَلَى وَجْهٍ تَبْرَأُ الذِّمَّةُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ، وَهُوَ مَعْنَى مَا قُلْنَاهُ: وَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ.

وَأَقُولُ: إِنَّ الْغَلَطَ فِي الْمَسْأَلَةِ، إِمَّا مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ الْوُجُوبَ مَعَ التَّخْيِيرِ لَا يَجْتَمِعَانِ، أَوْ مِنَ الْجُمْهُورِ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ، بِأَنْ رَأَوْا لَهُمْ عِبَارَةً مُوهِمَةً أَوْ بَعِيدَةَ الْغَوْرِ، فَظَنُّوا أَنَّهُمْ أَرَادُوا وُجُوبَ الْجَمِيعِ، كَمَا وَهَّمُوا عَلَيْهِمْ فِي تَلْخِيصِ مَسْأَلَةِ تَحْسِينِ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحِهِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي تُوجَدُ فِي كُتُبِ الْمُعْتَزِلَةِ، عَلَى خِلَافِ الْمَنْقُولِ عَنْهُمْ فِيهَا، كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي كِتَابِ «رَدِّ الْقَوْلِ الْقَبِيحِ بِالتَّحْسِينِ

ص: 281

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَالتَّقْبِيحِ» .

قَوْلُهُ: «وَبَعْضُهُمْ: مَا يَفْعَلُ، وَبَعْضُهُمْ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ» أَيْ: وَقَالَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ: الْوَاجِبُ مِنْ خِصَالِ الْوَاجِبِ مِنْهَا وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ، «وَيَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ»

ص: 282

لَنَا: الْقَطْعُ بِجَوَازِ قَوْلِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ: خِطْ هَذَا الثَّوْبَ، أَوِ ابْنِ هَذِهِ الْحَائِطَ، لَا أُوجِبُهُمَا عَلَيْكَ جَمِيعًا، وَلَا وَاحِدًا مُعَيَّنًا، بَلْ أَنْتَ مُطِيعٌ بِفِعْلِ أَيِّهِمَا شِئْتَ. وَلِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ بِلَفْظِ (أَوْ) ، وَهِيَ لِلتَّخْيِيرِ وَالْإِبْهَامِ.

قَالُوا: فَإِنِ اسْتَوَتِ الْخِصَالُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَصْلَحَةِ الْمُكَلَّفِ وَجَبَتْ، وَإِلَّا اخْتُصَّ بَعْضُهَا بِذَلِكَ، فَيَجِبُ.

ــ

قَوْلُهُ: «لَنَا: الْقَطْعُ» هَذَا حِينَ الشُّرُوعِ فِي أَدِلَّةِ الْمَسْأَلَةِ.

وَتَقْرِيرُ هَذَا الدَّلِيلِ: أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إِيجَابِ وَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ جَائِزٌ عَقْلًا وَشَرْعًا.

أَمَّا عَقْلًا، فَلِأَنَّ السَّيِّدَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ:«خِطْ هَذَا الثَّوْبَ، أَوِ ابْنِ هَذَا الْحَائِطَ، لَا أُوجِبُهُمَا عَلَيْكَ جَمِيعًا، وَلَا وَاحِدًا» مِنْهُمَا «مُعَيَّنًا، بَلْ أَنْتَ مُطِيعٌ بِفِعْلِ أَيِّهِمَا شِئْتَ» فَهَذَا وَاجِبٌ مُخَيَّرٌ، لِأَنَّهُ نَفَى وُجُوبَ الْجَمِيعِ، وَوُجُوبَ الْمُعَيَّنِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِعْلُهُ أَحَدُهُمَا، فَلَا يَصِحُّ أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْهُمَا مَا يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ، إِذْ يَلْزَمُ أَنَّ قَبْلَ فِعْلِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَهُوَ مُنَاقِضٌ لِسَبْقِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ وَاحِدٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ يُعَيِّنُهُ بِاخْتِيَارِهِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.

وَأَمَّا شَرْعًا، فَلِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي خِصَالِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِلَفْظِ (أَوْ) ، وَهِيَ لِلتَّخْيِيرِ وَالْإِبْهَامِ، فَيَقْتَضِي أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْهَا وَاحِدٌ مُخَيَّرٌ، كَمَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَاسْتِدْلَالُنَا هَهُنَا عَلَى الْجَوَازِ الشَّرْعِيِّ، وَقَدْ ثَبَتَ الْوُقُوعُ، وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْجَوَازِ.

قُلْتُ: وَفِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْجَوَازِ بِالْوُقُوعِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ خَصْمٌ مُنَازِعٌ، كَانَ دَعْوَى الْوُقُوعِ مَحَلَّ النِّزَاعِ، بَلْ هُوَ يَقُولُ: الْوَاجِبُ فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ الْجَمِيعُ، لِأَنَّهَا فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ مَحَلِّ النِّزَاعِ.

ص: 283

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

تَنْبِيهٌ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، إِنَّمَا وَضَعَهَا الْأُصُولِيُّونَ لِأَجْلِ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ، وَمَا أَشْبَهَهَا مِنَ الْأَحْكَامِ التَّخْيِيرِيَّةِ، وَلِهَذَا لَا تَكَادُ تَجِدُ أَحَدًا مِنْهُمْ يُمَثِّلُ إِلَّا بِهَا. وَبَعْضُهُمْ يَذْكُرُ قَوْلَهُ سبحانه وتعالى:{فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [الْبَقَرَةِ: 196] فِي فِدْيَةِ الْحَلْقِ فِي الْإِحْرَامِ.

وَتَمَسُّكُ الْجُمْهُورِ فِي التَّخْيِيرِ إِنَّمَا هُوَ بِلَفْظِ «أَوْ» فِي الْكَفَّارَةِ وَشِبْهِهَا، فَيَنْبَغِي لَنَا تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي مَعْنَى «أَوْ» لُغَةً، ثُمَّ فِيمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ شَرْعًا، إِذْ كَانَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ لَمْ يَعْقِدْ لِحُرُوفِ الْمَعَانِي بَابًا مُفْرَدًا عَلَى عَادَةِ أَكْثَرِ الْأُصُولِيِّينَ، يَذْكُرُ أَحْكَامَ «أَوْ» وَغَيْرِهَا مِنَ الْحُرُوفِ فِيهِ، وَتَابَعْتُهُ عَلَى ذَلِكَ.

أَمَّا الْكَلَامُ عَلَى «أَوْ» مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ، فَأَنَا أُلَخِّصُ أَقْوَالَ مَنْ وَقَفْتُ عَلَى قَوْلِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهَا، وَأُنَبِّهُ عَلَى مَا فِي كَلَامِهِمْ مِمَّا يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ. وَقَدْ سَبَقَ الْوَعْدُ مِنِّي بِذِكْرِ أَقْسَامِ «أَوْ» عِنْدَ تَعْرِيفِ الْحُكْمِ بِأَنَّهُ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى بِالِاقْتِضَاءِ، أَوِ التَّخْيِيرِ.

فَقَالَ الْقَرَافِيُّ: «أَوْ» لَهَا خَمْسَةُ مَعَانٍ: الْإِبَاحَةُ وَالتَّخْيِيرُ، نَحْوَ: اصْحَبِ الْعُلَمَاءَ أَوِ الزُّهَّادَ، فَلَكَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَخُذِ الثَّوْبَ أَوِ الدِّينَارَ، فَلَيْسَ لَكَ الْجَمْعُ

ص: 284

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

بَيْنَهُمَا، وَالشَّكُّ، نَحْوَ: جَاءَنِي زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو، وَأَنْتَ لَا تَدْرِي الْآتِيَ مِنْهُمَا، وَالْإِبْهَامُ نَحْوَ: جَاءَنِي زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو، وَأَنْتَ تَعْلَمُ الْآتِيَ مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا قَصَدْتَ الْإِبْهَامَ عَلَى السَّامِعِ خَشْيَةَ مَفْسَدَةِ التَّعْيِينِ. وَالتَّنْوِيعُ: نَحْوَ: الْعَدَدُ إِمَّا زَوْجٌ أَوْ فَرْدٌ، قَالَهُ الْمُبَرِّدُ.

قُلْتُ: وَمُقْتَضَى تَقْسِيمِهِ، أَنَّ الْإِبَاحَةَ وَالتَّخْيِيرَ قِسْمَانِ مِنْ أَقْسَامِهَا الْخَمْسَةِ، وَكَلَامُهُ نَصٌّ فِي ذَلِكَ.

وَالتَّحْقِيقُ، أَنَّهُمَا قِسْمٌ وَاحِدٌ، كَمَا سَيَأْتِي فِي كَلَامِ الْمُبَرِّدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِبَاحَةِ هِيَ التَّخْيِيرُ، بِأَنْ يُقَالَ: إِنْ شِئْتَ افْعَلْ كَذَا، وَإِنْ شِئْتَ لَا تَفْعَلْ.

هَذَا هُوَ مَعْنَاهَا عَلَى كُلِّ قَوْلٍ، فَجَعْلُهُمَا قِسْمَيْنِ يُوهِمُ أَنَّ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ فِي الصُّحْبَةِ، دُونَ الثَّوْبِ وَالدِّينَارِ فِي الْأَخْذِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ وَضْعِ اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَرِينَةٍ عُرْفِيَّةٍ، وَهُوَ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ صُحْبَةِ الْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ لَا خَسَارَةَ فِيهِ وَلَا نَقْصَ، بَلْ هُوَ زِيَادَةٌ فِي دِينِ الْآمِرِ وَالْمَأْمُورِ وَمُرُوءَتِهِمَا، بِخِلَافِ أَخْذِ الثَّوْبِ وَالدِّينَارِ، فَإِنَّ اجْتِمَاعَهُمَا لِلْمَأْمُورِ نَقْصٌ فِي مَالِيَّةِ الْآمِرِ، إِذَا كَانَ بَائِعًا أَوْ وَاهِبًا وَنَحْوَهُ، وَهُوَ فِي الْعُرْفِ لَا يُوثِرُ ذَلِكَ، وَهَذَا كُلُّهُ مُشَارٌ إِلَيْهِ فِي كِتَابِ الْمُبَرِّدِ، فِي كِتَابِ «حُرُوفِ الْقُرْآنِ» ، لَهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [الْبَقَرَةِ: 19]، حَيْثُ قَالَ: وَأَوْ، تَكُونُ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَوِ الْأَشْيَاءِ، وَتَكُونُ لِلْإِبَاحَةِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ وَاحِدٌ.

ص: 285

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قُلْتُ: تَبَيَّنَ بِهَذَا مَا قُلْتُهُ، مِنْ أَنَّ الْإِبَاحَةَ وَالتَّخْيِيرَ قِسْمٌ وَاحِدٌ.

ثُمَّ قَالَ الْمُبَرِّدُ فِي الْمِثَالِ: تَقُولُ: جَالِسْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا أَوْ خَالِدًا، أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَهْلٌ لِلْمُجَالَسَةِ، فَإِنْ جَالَسْتَ الْجَمِيعَ، فَأَنْتَ مُطِيعٌ، وَإِنْ جَالَسْتَ وَاحِدًا لَمْ تَعْصِ. فَإِذَا قُلْتُ: خُذْ مِنِّي ثَوْبًا أَوْ دِينَارًا، فَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَهْلٌ لِأَنْ تَأْخُذَهُ، وَلَكِنَّ الْمُعْطِيَ يَمْنَعُكَ، فَإِنَّهُمَا وَاحِدٌ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَرَضِيٌّ، إِلَّا أَنَّ لِأَحَدِهِمَا مَانِعًا.

قُلْتُ: قَوْلُهُ: وَلَكِنَّ الْمُعْطِيَ يَمْنَعُكَ، يَعْنِي الْجَمْعَ بَيْنَ الثَّوْبِ وَالدِّينَارِ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْقَائِلِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ إِلَّا قَرِينَةُ الْعُرْفِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَإِلَّا فَلَفْظُ «أَوْ» مَعْنَاهَا فِي الصُّورَتَيْنِ وَاحِدٌ.

وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: أَوْ: حَرْفٌ، إِذَا دَخَلَ عَلَى الْخَبَرِ دَلَّ عَلَى الشَّكِّ وَالْإِبْهَامِ، وَإِذَا دَخَلَ عَلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، دَلَّ عَلَى التَّخْيِيرِ وَالْإِبَاحَةِ. فَالشَّكُّ كَقَوْلِكَ: رَأَيْتُ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا، وَالْإِبْهَامُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سَبَأٍ: 24] ، وَالتَّخْيِيرُ، كَقَوْلِكَ: كُلِ السَّمَكَ أَوِ اشْرَبِ اللَّبَنَ، أَيْ: لَا تَجْمَعْ بَيْنَهُمَا، وَالْإِبَاحَةُ كَقَوْلِكَ: جَالِسِ الْحَسَنَ أَوِ ابْنَ سِيرِينَ.

قُلْتُ: فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ التَّخْيِيرِ وَالْإِبَاحَةِ، حَيْثُ أَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِلَفْظٍ

ص: 286

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَمِثَالٍ. وَكَذَلِكَ ابْنُ جِنِّي فِي «اللُّمَعِ» وَغَيْرُهُ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا، فَكَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ جَوَازَ الْجَمْعِ فِي الْإِبَاحَةِ دُونَ التَّخْيِيرِ.

قُلْتُ: وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلْقَرِينَةِ الْعُرْفِيَّةِ كَمَا ذَكَرْتُ، فَإِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ السَّمَكِ وَاللَّبَنِ فِي الْأَكْلِ مُضِرٌّ مَذْمُومٌ مِنْ جِهَةِ الطِّبِّ، بِخِلَافِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ فِي الْمُجَالَسَةِ، فَلِذَلِكَ فَهِمُوا الْفَرْقَ، لَا لِمَعْنًى خَاصٍّ بِالتَّخْيِيرِ دُونَ الْإِبَاحَةِ.

وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي «مُشْكِلِ الْقُرْآنِ» : «أَوْ» تَأْتِي لِلشَّكِّ نَحْوَ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ أَوْ مُحَمَّدًا، وَتَكُونُ لِلتَّخْيِيرِ، كَمَا فِي آيَةِ الْكَفَّارَةِ، وَفِدْيَةِ الْحَلْقِ، وَتَلَاهُمَا.

قُلْتُ: وَقَدْ لَاحَ مِنْ كَلَامِ الْجَوْهَرِيِّ وَغَيْرِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِبَاحَةِ وَالتَّخْيِيرِ، وَبَقِيَّةُ مَعَانِي «أَوْ» ، وَأَنَّ الْإِبَاحَةَ وَالتَّخْيِيرَ، فِي الطَّلَبِ، وَالشَّكِّ وَالْإِبْهَامِ وَالتَّنْوِيعِ، فِي الْخَبَرِ. وَصَرَّحَ الْقَرَافِيُّ بِهَذَا الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا.

قُلْتُ: وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ اللُّغَةِ، أَنَّ «أَوْ» جَاءَتْ عَلَى غَيْرِ بَابِهَا فِي اقْتِضَائِهَا أَحَدَ الشَّيْئَيْنِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ، نَذْكُرُ مِنْهَا مَا تَيَسَّرَ، وَنُبَيِّنُ أَنَّهَا جَارِيَةٌ عَلَى مُقْتَضَى «أَوْ» فِي أَصْلِ الْبَابِ، وَأَنَّ خِلَافَ ذَلِكَ إِمَّا تَسَامُحٌ، أَوْ وَهْمٌ مِمَّنْ قَالَهُ.

وَقَدْ قَالَ ابْنُ جِنِّي فِي «اللُّمَعِ» - وَهُوَ مِنْ فُحُولِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَئِمَّتِهِمْ -: وَأَيْنَ وَقَعَتْ «أَوْ» فَهِيَ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ. وَكَذَلِكَ حَكَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي «الْعُدَّةِ» عَنْ أَحْمَدَ رحمه الله. وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الْمُخْتَارُ، وَهُوَ حَمْلُ أَلْفَاظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى مُقْتَضَيَاتِهَا الظَّاهِرَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي عُرْفِ أَهْلِ اللُّغَةِ، مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ قَاطِعٌ أَوْ رَاجِحٌ، وَلَا يَتَسَارَعُ إِلَى تَحْرِيفِهَا عَنْ مَوْضُوعَاتِهَا بِأَدْنَى احْتِمَالٍ، فَمِنَ الْمَوَاضِعِ

ص: 287

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْمَذْكُورَةِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي قَوْلِهِ سبحانه وتعالى: {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا} {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [الْمُرْسَلَاتِ: 5 - 6]، {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] ، {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه: 113] ، أَنَّ «أَوْ» فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ بِمَعْنَى وَاوِ النَّسَقِ.

قُلْتُ: وَتَوْجِيهُهَا عَلَى أَصْلِ الْبَابِ، أَنَّهَا فِي قَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} لِلتَّنْوِيعِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُلْقِي الذِّكْرَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ مُنَوَّعًا، أَيْ: إِعْذَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَيْهِمْ، وَإِنْذَارٌ لَهُمْ. وَالْكَلَامُ هُنَا فِي سِيَاقِ الْقَسَمِ، كَأَنَّهُ سبحانه وتعالى قَالَ: أَقْسَمْتُ بِالْمَلَائِكَةِ الْمُلْقِيَاتِ الذِّكْرَ، إِعْذَارًا أَوْ إِنْذَارًا، أَيَّ ذَلِكَ شِئْتَ أَيُّهَا النَّبِيُّ، أَوْ شِئْتُمْ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، فَهُوَ قَسَمٌ عَظِيمٌ، كَقَوْلِهِ:{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الْوَاقِعَةِ: 75 - 76]، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا} [الْإِسْرَاءِ: 110]، أَيْ: بِأَيِّهِمَا دَعَوْتَهُ فَهُوَ عَظِيمٌ، وَهُوَ اللَّهُ سبحانه وتعالى. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]، فَمَعْنَاهُ: أَلِينَا لَهُ الْقَوْلَ، عَلَى رَجَاءٍ مِنْكُمَا أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ مِنْهُ، تَذَكُّرُهُ أَوْ خَشِيَتُهُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ - وَهُوَ إِيمَانُهُ - يَتَرَتَّبُ غَالِبًا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّ مَنْ خَشِيَ اللَّهَ تَعَالَى آمَنَ بِهِ، وَمَنْ تَذَكَّرَ وَأَجَادَ النَّظَرَ، تَرَتَّبَ عَلَى تَذَكُّرِهِ الْعِلْمُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، ثُمَّ تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ الْعِلْمِ الْإِيمَانُ.

وَكَذَا الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ} - يَعْنِي الْقُرْآنَ - {لَهُمْ ذِكْرًا} [طَه: 113] أَيْ: صَرَّفْنَا لَهُمُ الْوَعِيدَ فِي الْقُرْآنِ، وَعَامَلْنَاهُمْ

ص: 288

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

مُعَامَلَةَ مَنْ يَرْجُو مِنْهُمْ، أَوْ لَهُمْ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ: التَّقْوَى أَوْ إِحْدَاثَ الذِّكْرَى، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، بِالتَّقْوَى بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، أَوْ بِالذِّكْرِ بِوَاسِطَةِ التَّقْوَى، لِأَنَّ مَنْ حَدَثَ لَهُ ذِكْرٌ وَنَظَرٌ، اتَّقَى اللَّهَ غَالِبًا، كَمَا سَبَقَ.

وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النَّحْلِ: 77]، {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصَّافَّاتِ: 147] ، {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النَّجْمِ: 9] فَقَالَ: ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ «أَوْ» فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، بِمَعْنَى بَلْ، عَلَى مَذْهَبِ التَّدَارُكِ لِكَلَامٍ غُلِطَ فِيهِ. قَالَ: وَلَيْسَ كَمَا تَأَوَّلُوا، بَلْ هِيَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بِمَعْنَى الْوَاوِ.

قُلْتُ: وَتَوْجِيهُ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى أَصْلِ الْبَابِ.

أَمَّا قَوْلُهُ سبحانه وتعالى: {كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} فَمَعْنَاهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -: لَوْ كَشَفَ لَكُمْ عَنْ أَمْرِ السَّاعَةِ وَسُرْعَتِهِ، لَتَرَدَّدْتُمْ: هَلْ هُوَ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ أَقْرَبَ مِنْهُ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} ، فَقَدْ ذَكَرَ الْجَوْهَرِيُّ فِيهَا قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بِمَعْنَى بَلْ يَزِيدُونَ، وَأَنْشَدَ عَلَيْهِ قَوْلَ ذِي الرُّمَّةِ:

بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ فِي رَوْنَقِ الضُّحَى

وَصُورَتُهَا أَوْ أَنْتِ فِي الْعَيْنِ أَمْلَحُ

أَيْ: بَلْ أَنْتِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا عَلَى أَصْلِهَا فِي التَّرَدُّدِ وَالشَّكِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ: أَيْ: لَوْ رَأَيْتُمُوهُمْ، لَتَرَدَّدْتُمْ. هَلْ هُمْ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ؟ قَالَ الْمُبَرِّدُ: هُوَ كَقَوْلِهِ عز وجل:

ص: 289

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

{يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} [آلِ عِمْرَانَ: 13]، قَالَ: هَذَا كَقَوْلِكَ: رَأَيْتُ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا، لِأَنَّ هَهُنَا الْمَرْئِيَّ لَيْسَ إِلَّا وَاحِدًا مِنْهُمَا، لَا يَجْتَمِعُ أَحَدُهُمَا مَعَ الْآخَرِ، وَهَهُنَا قَدْ ثَبَتَ مِائَةُ أَلْفٍ مَعَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا عَلَى تَقْدِيرِ تَحَقُّقِهَا. هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ فِي هَذَا. قُلْتُ وَأَمَّا بَيْتُ ذِي الرُّمَّةِ، فَهُوَ مُتَّجِهٌ عَلَى أَصْلِ الْبَابِ، لِأَنَّ مَقْصُودَهُ مِنْهُ أَنَّ مَحْبُوبَتَهُ لِفَرْطِ جَمَالِهَا يَتَرَدَّدُ النَّاظِرُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ صُورَةِ الشَّمْسِ أَيُّهُمَا أَمْلَحُ، كَمَا قَالَ الْآخَرُ:

فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي أَأَنْتِ كَمَا أَرَى

أَمِ الْعَيْنُ مَزْهُوٌّ إِلَيْهَا حَبِيبُهَا

أَيْ: إِنِّي مُتَرَدِّدٌ فِي أَمْرِكَ، فَمَا أَدْرِي: هَلْ بِجَمَالِكَ الَّذِي أُدْرِكُهُ تَحَقَّقَ فِيَّ نَفْسُ الْأَمْرِ، أَوْ أَنَّ ذَلِكَ يُخَيَّلُ إِلَيَّ لِفَرْطِ حُبِّي إِيَّاكَ؟

وَمِنْهَا قَوْلُهُ سبحانه وتعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [الْبَقَرَةِ: 19] ، زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَبَعْضُهُمْ بِمَعْنَى بَلْ، تَقْدِيرُهُ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الْمُسْتَوْقِدِ وَالصَّيِّبِ، أَوْ كَمَثَلِ الْمُسْتَوْقَدِ بَلِ الصَّيِّبِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، بَلْ هِيَ عَلَى أَصْلِهَا فِي التَّخْيِيرِ، كَأَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى قَالَ لِلْمُخَاطَبِينَ: قَدْ عَلِمْتُمْ حَالَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ، فَلَكُمْ أَنْ تَجْعَلُوا مَثَلَهُمْ كَمَثَلِ الْمُسْتَوْقِدِ، أَوِ الصَّيِّبِ، لِأَنَّ تَمَثُّلَهُمْ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَحِيحٌ مُطَابِقٌ.

وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}

ص: 290

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[الْبَقَرَةِ: 74]، كَمَا ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ: وَيَزِيدُونَ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا كَالَّتِي قَبْلَهَا، بِمَعْنَى الْوَاوِ، أَوْ بَلْ، وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَتَخَرُّجُهُمَا عَلَى أَصْلِ الْبَابِ مِنْ وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْمُبَرِّدُ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّقْدِيرَ: لَوْ كَشَفَ لَكُمْ عَنْ قُلُوبِكُمْ فِي قَسَاوَتِهَا، لَتَرَدَّدْتُمْ، هَلْ هِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً؟ كَمَا ذَكَرَ فِي قَوْلِهِ:{أَوْ يَزِيدُونَ} .

وَالثَّانِي: أَنَّهَا لِلتَّنْوِيعِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ بَعْضَكُمْ قُلُوبُهُمْ كَالْحِجَارَةِ، وَبَعْضَكُمْ قُلُوبُهُمْ أَقْسَى، كَمَا يُقَالُ: أَتَيْتُ بَنِي فُلَانٍ، فَمَا رَأَيْتُ إِلَّا فَقِيهًا أَوْ قَارِئًا.

هَذَا حَاصِلُ كَلَامِهِ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ، لَا يَتَحَصَّلُ مِنْهُ إِلَّا بِالْقُوَّةِ. وَذَكَرَ الْجَوْهَرِيُّ أَنَّ «أَوْ» تَكُونُ بِمَعْنَى «إِلَى» كَقَوْلِكَ: لَأَضْرِبَنَّهُ أَوْ يَتُوبَ.

قُلْتُ: وَهَذِهِ هِيَ الَّتِي يَنْتَصِبُ بَعْدَهَا الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ بِإِضْمَارِ «أَنْ» ، وَأَمْثِلَتُهَا كَثِيرَةٌ، وَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى أَصْلِ الْبَابِ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: لَأُخَيِّرَنَّهُ بَيْنَ التَّوْبَةِ وَالضَّرْبِ. وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى عَلَى ذَلِكَ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى:

خَسْفَانِ ثُكْلٌ وَغَدْرٌ أَنْتَ بَيْنَهُمَا

فَاخْتَرْ وَمَا فِيهِمَا حَظٌّ لِمُخْتَارِ

وَكَذَلِكَ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:

[فَقُلْتُ لَهُ لَا تَبْكِ عَيْنُكَ] إِنَّمَا

نُحَاوِلُ مُلْكًا أَوْ نَمُوتَ فَنُعْذَرَا

أَيْ: غَايَةُ سَعْيِنَا وَمُحَاوَلَتِنَا أَحَدُ شَيْئَيْنِ: إِمَّا الْمُلْكُ، أَوِ الْمَوْتُ دُونَهُ فَنُعْذَرُ.

ص: 291

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

فَأَمَّا قَوْلُهُ سبحانه وتعالى: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الْإِنْسَانِ: 24] ، فَلَمْ يَحْضُرْنِي الْآنَ كَلَامُ أَحَدٍ فِيهِ، إِلَّا الْقَاضِي أَبَا يَعْلَى فِي «الْعُدَّةِ» فَقَالَ:«أَوْ» إِذَا كَانَتْ فِي الْخَبَرِ، فَهِيَ لِلشَّكِّ، وَإِذَا كَانَتْ فِي الطَّلَبِ وَالْأَمْرِ فَهِيَ لِلتَّخْيِيرِ، وَإِذَا كَانَتْ فِي النَّهْيِ، فَقَدْ تَكُونُ لِلْجَمْعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} . وَقِيلَ: تَكُونُ لِلتَّخْيِيرِ، لِأَنَّ النَّهْيَ أَمْرٌ بِالتَّرْكِ، وَأَيَّهُمَا تَرَكَ كَانَ مُطِيعًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ.

قُلْتُ: أَمَّا التَّخْيِيرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ عليه السلام مَأْمُورٌ بِمَعْصِيَةِ الْآثِمِ مِنْهُمْ وَالْكَفُورِ جَمِيعًا، فَلَا يَخْرُجُ عَنِ الْعُهْدَةِ بِمَعْصِيَةِ أَحَدِهِمَا.

وَأَمَّا فِي غَيْرِ الْآيَةِ، فَالتَّخْيِيرُ مُحْتَمَلٌ، نَحْوَ: لَا تَأْكُلْ خُبْزًا أَوْ تَمْرًا، أَوْ لَا تَصْحَبْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا. أَيْ: أَنْتَ مَنْهِيٌّ عَنْ أَكْلِ أَوْ صُحْبَةِ أَحَدِهِمَا أَيَّهُمَا شِئْتَ.

وَمَعْنَى كَوْنِ النَّهْيِ بِأَوْ لِلْجَمْعِ، مَا ذَكَرَهُ الْمُبَرِّدُ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [الْبَقَرَةِ: 19]، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالنَّهْيُ أَنْ تَقُولَ: لَا تُجَالِسْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا، لَيْسَ فِيهِمَا رِضًى، فَإِنْ جَالَسَهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ، أَوْ الِاجْتِمَاعِ، فَهُوَ عَاصٍ.

قُلْتُ: وَعَلَى هَذَا اسْتَقَرَّ الْحُكْمُ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ «أَوْ» فِيهَا

ص: 292

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

بِمَعْنَى وَلَا، أَيْ لَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا وَلَا كَفُورًا، تَحْقِيقًا لِإِفَادَةِ الْجَمْعِ، وَهُوَ غُلُوٌّ فِي التَّحْرِيفِ.

وَبَعْضُهُمْ قَالَ: هِيَ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَتَقْدِيرُهُ: لَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا وَكَفُورًا.

وَهُوَ ظَاهِرُ الْفَسَادِ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ إِنَّمَا نَهَى عَنْ طَاعَتِهِمَا جَمِيعًا، وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى النَّهْيِ عَنْ طَاعَةِ أَحَدِهِمَا. وَالْمَعْنَى عَلَى أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ طَاعَتِهِمَا عَلَى الْجَمْعِ وَالْإِفْرَادِ.

وَالْأَقْرَبُ فِي تَخْرِيجِهِمَا عَلَى أَصْلِ الْبَابِ، أَنَّهَا لِلتَّنْوِيعِ، إِذْ مِنَ الْقَوْمِ مَنْ كَانَ يُكَذِّبُهُ وَلَا يَأْتَمِنُهُ عَلَى مَا يَقُولُ، فَهَذَا كَفُورٌ، كَأَبِي جَهْلٍ وَأَبِي لَهَبٍ وَغَيْرِهِمَا، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ مُصَدِّقًا لَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَلَكِنْ مَنَعَهُ الْحَيَاءُ وَالنَّخْوَةُ مِنْ مُتَابَعَتِهِ، كَأَبِي طَالِبٍ وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ:{وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [الْبَقَرَةِ: 144]، {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [الْبَقَرَةِ: 146] ، فَهَذَا النَّوْعُ، مِنْهُمْ آثِمٌ، وَلَيْسَ كَافِرًا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، لِأَنَّهُ مُعْتَقِدٌ لِلصِّدْقِ وَإِنَّمَا كُفْرُ هَذَا النَّوْعِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ الِاسْتِكْبَارُ وَالِاحْتِشَامُ عَنْ مُتَابَعَةِ الْحَقِّ، كَكُفْرِ إِبْلِيسَ بِالِاسْتِكْبَارِ مَعَ الْعِيَانِ، فَاللَّهُ تَعَالَى نَهَاهُ عَنْ طَاعَتِهِمْ، وَنَوَّعَهُمْ لَهُ إِلَى مُصَدِّقٍ آثِمٍ بِالِاسْتِكْبَارِ، وَإِلَى

ص: 293

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

مُكَذِّبٍ كَافِرٍ بِالتَّكْذِيبِ، فَتَقْدِيرُهُ: لَا تُطِعْ مِنْهُمْ أَحَدًا، لَا مِنْ نَوْعِ الْأَثَمَةِ وَلَا مِنْ نَوْعِ الْكَفَرَةِ. مَعَ أَنَّ النَّوْعَيْنِ يَجْمَعُهُمُ الْكُفْرُ، لَكِنَّ جِهَةَ كُفْرِهِمْ مُخْتَلِفَةٌ كَمَا بَيَّنَّا، فَهَذَا مَا اتَّفَقَ مِنْ تَحْقِيقِ الْقَوْلِ فِي مَعْنَى «أَوْ» لُغَةً.

وَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يَقِفُ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ يَزْعُمُ أَنِّي أَطْنَبْتُ فِيهِ، وَخَرَجْتُ عَمًّا أَنَا بِصَدَدِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْأُصُولِ إِلَى مَبَاحِثِ اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا قَصَدْتُ أَنْ أُقَرِّرَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ، لِأَنَّهَا مِنَ الْكُلِّيَّاتِ، وَقَدْ وَقَعَ فِيهَا الْخُلْفُ وَالِاضْطِرَابُ، فَكَانَ فِي تَحْقِيقِ الْقَوْلِ فِيهَا كَشْفُ اللَّبْسِ عَنِ النَّاظِرِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَغَيْرِهِمَا، فَإِنَّ مَنْ تَدَبَّرَ تَخْرِيجَنَا لِلصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى أَصْلِ الْبَابِ فِي «أَوْ» ، أَمْكَنَهُ أَنْ يُخَرِّجَ عَلَى ذَلِكَ مَا وَقَعَ لَهُ مِنَ الصُّوَرِ الَّتِي لَمْ نَذْكُرْهَا، وَإِنَّمَا وَضَعْنَا هَذَا لِلْمُحَقِّقِينَ الْعَارِفِينَ لِلْعِلْمِ وَالنَّظَرِ فِيهِ، وَلَا عِبْرَةَ بِأَهْلِ الضَّجَرِ وَضَعْفِ النَّظَرِ.

وَأَمَّا مَا يَنْبَنِي عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ شَرْعًا، فَمِنْهُ الْكَفَّارَاتُ، وَمِنْهَا كَفَّارَةُ الْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ، وَهَلْ هِيَ عَلَى التَّرْتِيبِ أَوِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ عِتْقِ رَقَبَةٍ وَصِيَامِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ وَإِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَقَوْلَانِ لِأَحْمَدَ، أَظْهَرَهُمَا التَّرْتِيبُ، إِلْحَاقًا لَهَا بِكَفَّارَةِ الظِّهَارِ قِيَاسًا، وَلِظَاهِرِ حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ حَيْثُ بَدَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ بِالْعِتْقِ، ثُمَّ الصِّيَامِ، ثُمَّ الْإِطْعَامِ.

ص: 294

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَمِنْهَا كَفَّارَتَا الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ، وَهُمَا عَلَى التَّرْتِيبِ فِي الْخِصَالِ الثَّلَاثِ، وَمَا أَظُنُّ أَحَدًا قَالَ فِيهِمَا بِالتَّخْيِيرِ، لِنَصِّ الْكِتَابِ عَلَى التَّرْتِيبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} ، {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ} [الْمُجَادَلَةِ: 4] .

وَمِنْهَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، وَهِيَ تَجْمَعُ التَّرْتِيبَ وَالتَّخْيِيرَ بِنَصِّ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [الْمَائِدَةِ: 89] ، فَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ هَذِهِ الثَّلَاثِ، وَالتَّرْتِيبُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [الْمَائِدَةِ: 89] .

قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَلِلتَّخْيِيرِ وَالتَّرْتِيبِ أَلْفَاظٌ تَدُلُّ عَلَيْهِمَا فِي اللُّغَةِ، وَالَّذِي رَأَيْتُهُ لِلْفُقَهَاءِ أَنَّ صِيغَةَ «أَوْ» تَقْتَضِي التَّخْيِيرَ، نَحْوُ: افْعَلُوا كَذَا أَوْ كَذَا، وَكَذَلِكَ صِيغَةُ: افْعَلُوا إِمَّا كَذَا وَإِمَّا كَذَا، وَصِيغَةُ: مَنْ لَمْ يَجِدْ، أَوْ: إِنْ لَمْ تَجِدْ كَذَا فَكَذَا، تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، وَهُوَ أَلَّا يَعْدِلَ إِلَى الثَّانِي إِلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْأَوَّلِ.

ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى هَذَا سُؤَالًا، وَهُوَ أَنَّ مَا ذُكِرَ، يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ أَوْ لَا يُشَرَّعَ اسْتِشْهَادُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ إِلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ رَجُلَيْنِ، عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [الْبَقَرَةِ: 282] ، لَكِنَّهُ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، فَيَلْزَمُ إِمَّا أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ، وَهُوَ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ، وَإِمَّا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فِي امْتِنَاعِ اسْتِشْهَادِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، مَعَ وُجُودِ رَجُلَيْنِ.

ثُمَّ أَجَابَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ، بِمَا حَاصِلُهُ: إِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ صِيغَةَ الشَّرْطِ لَيْسَتْ مُنْحَصِرَةً فِي دَلَالَتِهَا عَلَى التَّرْتِيبِ، بَلْ كَمَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ تَارَةً، فَهِيَ تُفِيدُ الْحَصْرَ أُخْرَى، كَقَوْلِنَا: مَنْ لَمْ يَكُنْ حَيًّا، فَهُوَ مَيِّتٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ زَيْدٌ مُتَحَرِّكًا، فَهُوَ سَاكِنٌ،

ص: 295

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أَيْ حَالُهُ مُنْحَصِرَةٌ فِي الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، وَإِذَا كَانَتْ تَصْلُحُ لِلتَّرْتِيبِ وَالْحَصْرِ لَمْ تَتَعَيَّنْ لِأَحَدِهِمَا إِلَّا بِدَلِيلٍ أَوْ قَرِينَةٍ، فَإِذَا انْتَفَى أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَعْنِي التَّرْتِيبَ أَوِ الْحَصْرَ، فَيَتَعَيَّنُ الْآخَرُ.

وَالْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ، مَعْنَاهَا حَصْرُ الْبَيِّنَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْكَامِلَةِ، مِنَ الشَّهَادَةِ فِي الْأَمْوَالِ، فِي الرَّجُلَيْنِ، وَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ. أَمَّا الشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ، أَوِ النُّكُولُ وَالْيَمِينُ، فَلَيْسَ حُجَّةً كَامِلَةً مِنَ الشَّهَادَةِ الْمَحْضَةِ، بَلْ مِنْهَا وَمِنْ غَيْرِهَا، وَهُوَ الْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ.

قُلْتُ: هَذَا حَاصِلٌ جَوَابُهُ، وَهُوَ جَيِّدٌ، غَيْرَ أَنَّ قَوْلَهُ: صِيغَةُ الشَّرْطِ لَا تَحْسُنُ إِلَّا فِي التَّرْتِيبِ وَالْحَصْرِ، فَإِذَا انْتَفَى أَحَدُهُمَا تَعَيَّنَ الْآخَرُ، فِيهِ نَظَرٌ، بَلْ قَدْ جَاءَتْ لِمَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ التَّسْوِيَةُ فِي أَصْلِ الْمَقْصُودِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَإِنْ تَفَاوَتَا فِي كَمَالِهِ.

كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ وَقَدْ أُغِيرَ عَلَى أَمْوَالِهِ فَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُ إِلَّا أَعْنُزٌ:

إِذَا مَا لَمْ يَكُنْ غَنَمٌ فَمِعْزًى

كَأَنَّ قُرُونَ جِلَّتِهَا عِصِيُّ

فَتَمْلَأُ بَيْتَنَا أَقِطًا وَسَمْنًا

وَحَسْبُكَ مِنْ غِنًى شِبَعٌ وَرِيٌّ

أَيِ: الْمَقْصُودُ مِنَ الْغَنَمِ حَاصِلٌ مِنَ الْمِعْزَى، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْغَنَمِ أَكْمَلَ، وَهَذَا الْمَعْنَى بِالْآيَةِ أَنْسَبُ، أَيْ: مَقْصُودُ الشَّاهِدَيْنِ حَاصِلٌ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الرَّجُلَيْنِ أَكْمَلَ، لِبُعْدِهِمَا عَنِ الْغَلَطِ، وَاحْتِيَاجِهِمَا إِلَى التَّذَاكُرِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْمَرْأَتَيْنِ:{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [الْبَقَرَةِ: 282]، وَلِهَذَا قُلْنَا: لَا يَتَرَجَّحُ الرَّجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ عِنْدَ التَّعَارُضِ، لِحُصُولِ أَصْلِ

ص: 296

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْمَقْصُودِ، وَإِنْ كَانَ التَّرْجِيحُ بِذَلِكَ يَتَعَدَّى تَحْصِيلًا لِكَمَالِ الْمَقْصُودِ.

وَمِنْهَا: فِدْيَةُ حَلْقِ الرَّأْسِ فِي الْإِحْرَامِ، وَلَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِعُذْرٍ أَنَّهَا عَلَى التَّخْيِيرِ، لِقَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [الْبَقَرَةِ: 196] ، وَلِحَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، وَكَانَ مَعْذُورًا، فِيهِ نَزَلَتِ الْآيَةُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: احْلِقْ رَأْسَكَ، وَانْسُكْ نَسِيكَةً، أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَاخْتُلِفَ فِيهِ، وَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ: التَّخْيِيرُ لِلَفْظِ الْآيَةِ، وَالتَّرْتِيبُ تَغْلِيظًا عَلَى الْحَالِقِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَتَخْصِيصًا لِلتَّخْيِيرِ بِسَبَبِ الْآيَةِ، وَهُوَ حَالُ الْعُذْرِ.

وَمِنْهَا، الْفِدْيَةُ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ الْمَقْتُولِ فِي الْإِحْرَامِ. وَفِيهِ قَوْلَانِ عَنْ أَحْمَدَ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُخَيِّرَةٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} إِلَى قَوْلِهِ: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [الْمَائِدَةِ: 95] .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا مُرَتَّبَةٌ. إِنْ تَعَذَّرَ مِثْلُ الصَّيْدِ أَطْعَمَ، فَمَنْ لَمْ يَجِدِ الْإِطْعَامَ، صَامَ. وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ، إِلْحَاقُهَا بِالْكَفَّارَاتِ الْمُرَتَّبَةِ، لَكِنَّ ظَاهِرَ النَّصِّ خِلَافُهُ، فَيَكُونُ قِيَاسًا مُصَادِمًا لِلنَّصِّ.

وَمِنْهَا، الْمُسْتَحَاضَةُ الْمُتَحَيِّرَةُ تَجْلِسُ سِتًّا أَوْ سَبْعًا، لِقَوْلِهِ عليه السلام لِحَمْنَةَ

ص: 297

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

بِنْتِ جَحْشٍ كَانَتْ مُسْتَحَاضَةً: تَحَيَّضِي سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فِي عِلْمِ اللَّهِ، فَهَذِهِ صِيغَةُ تَخْيِيرٍ، لَكِنَّهُ تَخْيِيرُ اجْتِهَادٍ، لَا تَخْيِيرُ تَشَهٍّ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهَا تَجْتَهِدُ فِي السِّتِّ وَالسَّبْعِ، فَأَيُّهُمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهَا جَلَسَتْهُ، إِذْ لَوْ كَانَ تَخْيِيرًا مَحْضًا، لَلَزِمَ مِنْهُ جَوَازُ أَنْ تَجْلِسَ سَبْعًا مَعَ غَلَبَةِ ظَنِّهَا أَنَّ حَيْضَهَا سِتٌّ، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى تَجْوِيزِ تَرْكِ الصَّلَاةِ فِي زَمَنٍ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهَا وَجُوبُهَا فِيهِ، وَلَيْسَ بِجَائِزٍ، فَيَرْجِعُ حَاصِلُ الْأَمْرِ فِي هَذَا الْمَكَانِ، إِلَى أَنَّ «أَوْ» إِمَّا إِبْهَامِيَّةٌ، لِأَنَّ أَحَدَ الْمِقْدَارَيْنِ مِنَ الزَّمَانِ قَدِ اسْتَبْهَمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَيْهَا أَنْ تَتَعَيَّنَ لِلْجُلُوسِ فِيهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ ضَبْطٌ لَهُ، وَقَدْ يَشْتَبِهُ عَلَيْهَا. وَإِمَّا تَنْوِيعِيَّةٌ: أَيِ: الزَّمَنُ الَّذِي تَجْلِسِينَ فِيهِ شَرْعًا، يَتَنَوَّعُ إِلَى سِتَّةٍ وَسَبْعَةٍ، فَاجْلِسِي أَحَدَهُمَا بِالِاجْتِهَادِ.

وَمِنْهُ فِي الْبُيُوعِ: بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، نَحْوُ: بِعْتُكَ بِعَشَرَةٍ نَقْدًا، أَوْ بِعِشْرِينَ نَسِيئَةً، فَلَا يَصِحُّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ لِلْجَهَالَةِ، وَأَجَازَهُ قَوْمٌ، وَيَصْلُحُ أَنْ يُحْتَجَّ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى عليه السلام:{أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ} [الْقَصَصِ: 28] ، بِنَاءً عَلَى شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا، إِذْ هُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: تَزَوَّجْتُ ابْنَتَكَ عَلَى أَنْ أَرْعَى لَكَ ثَمَانِيَ أَوْ عَشَرَ سِنِينَ، وَعَلَى هَذَا الِاحْتِجَاجِ كَلَامٌ لَا يَخْفَى.

ص: 298

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ أَوْ هَذَا، وَأَنْكَحْتُكَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ أَوْ هَذِهِ، فَلَا يَصِحُّ، لِاقْتِضَاءِ «أَوْ» أَحَدَ الشَّيْئَيْنِ. وَشَرْطُ صِحَّةِ ذَلِكَ التَّعْيِينُ، وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ.

وَمِنْهُ فِي الطَّلَاقِ: إِذَا قَالَ لِثَلَاثِ نِسْوَةٍ: هَذِهِ أَوْ هَذِهِ وَهَذِهِ طَالِقٌ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّ الثَّالِثَةَ تُطَلَّقُ مَعَ إِحْدَى الْأُولَتَيْنِ، وَتَخْرُجُ بِالْقُرْعَةِ، وَقِيلَ: بَلْ يُقْرِعُ بَيْنَ الْأُولَى وَبَيْنَ الْأُخْرَيَيْنِ مَعًا، فَإِنْ وَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى الْأُولَى طُلِّقَتْ وَحْدَهَا، وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى الْأُخْرَيَيْنِ طُلِّقَتَا جَمِيعًا دُونَ الْأُولَى.

قُلْتُ: وَمَأْخَذُ الْخِلَافِ: أَنَّ التَّرَدُّدَ بِأَوْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، هَلْ هُوَ بَيْنَ الْأُولَيَيْنِ، فَتَكُونُ إِحْدَاهُمَا الْمُطَلَّقَةَ مَعَ الثَّالِثَةِ، أَوْ بَيْنَ الْأُولَى وَحْدَهَا وَالْأُخْرَيَيْنِ مَعًا، فَيَكُونُ الْحُكْمُ مَا ذَكَرْنَا وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ عَلَى الْأَوَّلِ إِحْدَى هَاتَيْنِ طَالِقٌ وَهَذِهِ الثَّالِثَةُ طَالِقٌ، أَوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ هَذِهِ أَوْ هَذِهِ الثَّالِثَةُ طَالِقٌ، وَهَذِهِ الثَّالِثَةُ طَالِقٌ فَطَلَاقُ الثَّالِثَةِ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَالتَّرَدُّدُ فِي إِحْدَى الْأُولَتَيْنِ؟

وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي تَقْدِيرُهُ: هَذِهِ الْأُولَى طَالِقٌ، أَوْ هَاتَانِ الْأُخْرَيَانِ طَالِقَتَانِ فَالتَّرَدُّدُ بَيْنَ طَلَاقِ الْأُولَى وَحْدَهَا، وَطَلَاقِ الْأُخْرَيَيْنِ مَعًا. وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ يُطَلِّقُ

ص: 299

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

مِنْهُمَا اثْنَتَانِ بِالْجُمْلَةِ، لَكِنَّ عَلَى الْأَوَّلِ تُطَلَّقُ إِحْدَى الْأُولَتَيْنِ مَعَ الثَّالِثَةِ وَلَا بُدَّ، وَعَلَى الثَّانِي تُطَلَّقُ إِمَّا الْأُولَى وَحْدَهَا، وَإِمَّا الْأُخْرَيَانِ، فَطَلَاقُ الِاثْنَتَيْنِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ هُوَ عَلَى أَحَدِ تَقْدِيرَيْنِ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَرْجَحُ.

وَرُجْحَانُهُ مُسْتَمَدٌّ مِنْ قَاعِدَةٍ عَرَبِيَّةٍ، وَهِيَ: أَنَّ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لَهُ فِي الْجَمْعِ وَالْإِفْرَادِ، فَنَقُولُ: الزَّيْدُونَ قَائِمُونَ، وَلَا يَجُوزُ قَائِمٌ، وَزَيْدٌ قَائِمٌ، وَلَا يَجُوزُ قَائِمُونَ، وَتَقُولُ: زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو قَائِمٌ، وَلَا يَجُوزُ قَائِمَانِ، لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ أَحَدِهِمَا، وَزَيْدٌ وَعَمْرٌو قَائِمَانِ، وَلَا يَجُوزُ قَائِمٌ، لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْهُمَا جَمِيعًا، كَمَا لَا تَقُولُ: الزَّيْدَانِ قَائِمٌ إِلَّا بِتَقْدِيرِ تَكْرَارِ الْخَبَرِ تَقْدِيرًا، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ.

إِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَتَقْدِيرُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ هَذِهِ أَوْ هَذِهِ طَالِقٌ وَهَذِهِ، فَالْخَبَرَانِ مُطَابِقَانِ. وَتَقْدِيرُهَا عَلَى الثَّانِي: هَذِهِ طَالِقٌ، أَوْ هَذِهِ وَهَذِهِ طَالِقٌ، فَالْخَبَرُ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ غَيْرُ مُطَابِقٍ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ: أَوْ هَذِهِ وَهَذِهِ طَالِقَتَانِ، لِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِالطَّلَاقِ عَنْهُمَا جَمِيعًا لَا عَنْ إِحْدَاهُمَا، فَهَذَا كَشْفُ الْمَسْأَلَةِ. وَإِنْ بَقِيَ فِيهَا عَلَيْكَ تَوَقُّفٌ فَاسْتَخْرِجْهُ بِالنَّظَرِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ ظَهَرَ.

أَمَّا لَوْ قَالَ لِإِحْدَى زَوْجَتَيْهِ أَوْ أَمَتَيْهِ: أَنْتِ أَوْ هَذِهِ طَالِقٌ أَوْ حُرَّةٌ، احْتُمِلَ أَنْ تُطَلَّقَ وَتُعْتَقَ الْمُخَاطَبَةُ تَغْلِيبًا لِجَانِبِ الْمُخَاطَبِ لِسَبْقِهِ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يُقْرَعَ بَيْنَهُمَا، قَطْعًا لِإِشْكَالِ التَّرَدُّدِ بِالْقُرْعَةِ.

ص: 300

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَمِنْهُ الْحُكْمُ فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [الْمَائِدَةِ: 33]، فَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ أَيَّ ذَلِكَ شَاءَ فَعَلَ بِهِمْ. وَحَكَى ابْنُ الْبَنَّا فِي شَرْحِ الْخِرَقِيِّ هَذَا التَّخْيِيرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ. قُلْتُ: هُوَ نَظَرٌ إِلَى اقْتِضَاءِ «أَوْ» التَّخْيِيرَ، وَمَنَعَ الْجُمْهُورُ مِنْ حَمْلِهَا عَلَى التَّخْيِيرِ، لِأَنَّ الْقَتْلَ إِذَا جَازَ تَرْكُهُ لَمْ يَجُزْ فِعْلُهُ احْتِيَاطًا لِلدِّمَاءِ. وَإِلَى هَذَا أَشَارَ أَحْمَدُ رحمه الله فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ أَخَافَ السَّبِيلَ وَلَمْ يَقْتُلْ نُفِيَ، وَلَا يَكُونُ السُّلْطَانُ مُخَيَّرًا فِي قَتْلِهِ. وَهَؤُلَاءِ حَمَلُوا «أَوْ» فِي هَذِهِ بِهَذَا الدَّلِيلِ عَلَى التَّنْوِيعِ، أَيْ: إِنَّ عَذَابَ الْمُحَارِبِينَ يَتَنَوَّعُ بِحَسَبِ تَنَوُّعِ أَفْعَالِهِمْ.

فَمَذْهَبُ أَحْمَدَ أَنَّهُ إِنْ أَخَافَ السَّبِيلَ إِخَافَةً مُجَرَّدَةً، نُفِيَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ أَخْذًا مُجَرَّدًا، قُطِّعَ فِيمَا يُقْطَعُ فِيهِ السَّارِقُ، وَإِنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ، قُتِلَ، وَفِي صَلْبِهِ قَوْلَانِ. وَإِنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ، قُتِلَ وَصُلِبَ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ كَذَلِكَ.

وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُمْ إِذَا قَصَدُوا قَطْعَ الطَّرِيقِ، وَأُخِذُوا قَبْلَ أَنْ يَأْخُذُوا مَالًا، أَوْ يَقْتُلُوا نَفْسًا، حَبَسَهُمُ الْإِمَامُ حَتَّى يَتُوبُوا، وَإِنْ أَخَذُوا مِنْ مَالِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ مَا يُقْطَعُ فِيهِ السَّارِقُ، قُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَإِنْ قَتَلُوا وَلَمْ

ص: 301

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

يَأْخُذُوا مَالًا، قُتِلُوا حَدًّا، لَا يُسْقِطُهُ عَفْوُ أَوْلِيَاءِ مَنْ قَتَلُوهُ، وَإِنْ قَتَلُوا، وَأَخَذُوا الْمَالَ، فَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ: إِنْ شَاءَ قَتَلَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ صَلَبَهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَمَا دُونَ، يَصْلُبُ أَحَدَهُمْ حَيًّا، وَيَبْعَجُ بَطْنَهُ بِرُمْحٍ حَتَّى يَمُوتَ، وَإِنْ شَاءَ، قَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَقَتَلَهُمْ وَصَلَبَهُمْ.

وَمِنْهُ أَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ: الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ، وَمُسْتَنَدُهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: فَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ بَعْدَ الْيَوْمِ، فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَقْتُلُوا، أَوْ يَأْخُذُوا الْعَقْلَ، وَفِي لَفْظٍ: مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَعْفُوَ، وَإِمَّا أَنْ يَقْتُلَ وَلِهَذَا الْأَصْلِ فُرُوعٌ تَقَعُ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ.

وَمِنْ فُرُوعِ التَّخْيِيرِ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا جَنَى خَطَأً، فَسَيِّدُهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ فِدَائِهِ وَتَسْلِيمِهِ فِي الْجِنَايَةِ، فَإِنِ اخْتَارَ فَدَاءَهُ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ، أَوْ أَرْشُ جِنَايَتِهِ، وَلَهُ فِدَاؤُهُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ، لِأَنَّهُ إِنْ أَدَّى أَقَلَّهُمَا، فَهُوَ الْوَاجِبُ، وَإِنْ أَدَّى أَكْثَرَهُمَا، فَقَدِ الْتُزِمَ ضَرَرَ الزِّيَادَةِ، وَهُوَ لَا يُمْنَعُ، وَإِنِ اسْتَوَتِ الْقِيمَةُ وَالْأَرْشُ، صَارَ التَّخْيِيرُ ضَرُورِيًّا، إِذْ لَا أَقَلَّ، فَيَجِبُ، وَلَا أَكْثَرَ، فَيَلْزَمُ ضَرُورَةً، وَإِنْ سَلَّمَهُ، فَأَبَى وَلِيُّ الْجِنَايَةِ قَبُولَهُ، وَقَالَ: بِعْهُ أَنْتَ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أَشْبَهُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ، وَيَبْرَأُ بِالتَّسْلِيمِ، لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَيَبْرَأُ بِأَحَدِهِمَا، كَالتَّكْفِيرِ بِإِحْدَى الْخِصَالِ.

ص: 302

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَلَوْ جَنَى الْعَبْدُ عَمْدًا، فَعَفَا الْوَلِيُّ عَنِ الْقِصَاصِ عَلَى رَقَبَةِ الْعَبْدِ، فَهَلْ يَمْلِكُهُ بِغَيْرِ رِضَا السَّيِّدِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَصَحُّهُمَا لَا يَمْلِكُهُ بِدُونِ رِضَاهُ، لِأَنَّهُ بِالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ صَارَتْ جِنَايَتُهُ كَالْمُوجِبَةِ لِلْمَالِ، وَالسَّيِّدُ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَسْلِيمِ الْعَبْدِ كَمَا سَبَقَ، وَمِلْكُ الْوَلِيِّ لِرَقَبَتِهِ بِدُونِ رِضَا السَّيِّدِ يُنَافِي التَّخْيِيرَ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ هَذَا فُرُوعٌ مُؤْنِسَةٌ بِهَذَا الْأَصْلِ، لِيَتَبَيَّنَ لِلنَّاظِرِ كَيْفَ تُفَرَّعُ الْأَحْكَامُ عَنْ أُصُولِهَا، وَاقْتِنَاصُهَا مِنْهَا.

وَثَمَّ فُرُوعٌ أُخَرُ لَمْ أَذْكُرْهَا خَشْيَةَ الْإِطَالَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذِهِ الْمَبَاحِثَ اللُّغَوِيَّةَ وَالشَّرْعِيَّةَ فِي أَثْنَاءِ مَسْأَلَةِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ قَبْلَ كَمَالِهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ مُنَاسِبٌ لِقَوْلِنَا:«وَلِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ بِلَفْظِ» أَوْ «وَهِيَ لِلتَّخْيِيرِ وَالْإِبْهَامِ» .

قَوْلُهُ: «قَالُوا: فَإِنِ اسْتَوَتِ الْخِصَالُ» إِلَى آخِرِهِ.

هَذَا دَلِيلُ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْوَاجِبَ جَمِيعُ الْخِصَالِ. وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ خِصَالَ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، إِمَّا أَنْ تَسْتَوِيَ فِي تَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ الْمُكَلَّفِ أَوْ لَا تَسْتَوِيَ؟ فَإِنِ اسْتَوَتْ، بِأَنْ كَانَتْ مَصْلَحَتُهُ مَثَلًا فِي التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ مِثْلَ مَصْلَحَتِهِ فِي التَّكْفِيرِ بِالصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا وَاجِبًا، لِأَنَّ اخْتِيَارَ التَّكْفِيرِ بِبَعْضِهَا مَعَ تَسَاوِيهَا فِي الْمَصْلَحَةِ يَكُونُ تَرْجِيحًا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَوِ الْجَمِيعُ فِي الْمَصْلَحَةِ، بَلِ اخْتُصَّ بِهَا بَعْضُ الْخِصَالِ، أَوْ تَرَجَّحَ فِيهَا، مِثْلُ إِنِ اخْتُصَّ الْعِتْقُ

ص: 303

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

بِمَصْلَحَةِ التَّكْفِيرِ، أَوْ كَانَ أَرْجَحُ فِي حُصُولِهَا مِنَ الصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ، وَجَبَ أَنْ يَتَعَيَّنَ ذَلِكَ الْبَعْضُ فَيَكُونُ هُوَ الْوَاجِبَ عَيْنًا لَا عَلَى التَّخْيِيرِ.

ص: 304

قُلْنَا: مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُوبِ رِعَايَةِ الْأَصْلَحِ، وَعَلَى أَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ ذَاتِيَّانِ، أَوْ بِصِفَةٍ، وَهُمَا مَمْنُوعَانِ، بَلْ ذَلِكَ شَرْعِيٌّ، فَلِلشَّرْعِ فِعْلُ مَا شَاءَ مِنْ تَخْصِيصٍ وَإِبْهَامٍ.

ــ

قَوْلُهُ: «قُلْنَا: مَبْنِيٌّ» أَيْ: قُلْنَا هَذَا الدَّلِيلُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ مَمْنُوعَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: وُجُوبُ رِعَايَةِ الْأَصْلَحِ لِلْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى، وَهُوَ أَصْلٌ مَمْنُوعٌ عِنْدَنَا، وَيَكْفِينَا مَنْعُهُ فِي إِبْطَالِ دَلِيلِكُمُ الْمَذْكُورِ، وَإِنْ تَبَرَّعْنَا بِمُسْتَنَدِ الْمَنْعِ، فَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ رِعَايَةِ الْأَصْلَحِ أَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَلَزِمَ أَنَّ خَلْقَ الْكُفَّارِ، وَتَسْلِيطَ الشَّيْطَانِ الْمُضِلِّ، وَالشَّهَوَاتِ الْمُسْتَمِيلَةِ لَهُمْ إِلَى الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ، وَافْتِقَارَ الْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ، وَتَخْلِيدَ الْجَمِيعِ فِي النَّارِ، أَصْلَحُ لَهُمْ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِالضَّرُورَةِ، وَقَدِ اضْطُرَّ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي تَمْشِيَةِ هَذَا الْأَصْلِ إِلَى أَنِ الْتَزَمَ أَنَّ تَخْلِيدَ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ أَصْلَحُ لَهُمْ. وَمَذْهَبٌ يَنْتَهِي إِلَى هَذَا الْفَسَادِ لَا يَسْتَحِقُّ جَوَابًا. وَحِينَئِذٍ نَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْقَصْدَ مِنَ التَّكْلِيفِ بِخِصَالِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ مَصْلَحَةُ الْمُكَلَّفِ، حَتَّى يَنْظُرَ: هَلْ تَسْتَوِي فِي حُصُولِهِ مَصْلَحَتُهُ أَوْ تَتَفَاوَتُ؟ بَلِ الْقَصْدُ مِنْ ذَلِكَ التَّعَبُّدُ الْمَحْضُ. وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ مَصْلَحَةُ الْمُكَلَّفِ، وُجُوبًا عَلَى قَوْلِهِمْ، أَوْ تَفَضُّلًا عَلَى قَوْلِنَا، لَكِنْ لَا نَلْتَزِمُ أَنَّهَا اسْتَوَتْ فِي حُصُولِ أَصْلِ الْمَصْلَحَةِ.

وَفَوَّضَ اللَّهُ سبحانه وتعالى إِلَى الْمُكَلَّفِ اخْتِيَارَ بَعْضِهَا، فَكَانَ ذَلِكَ التَّفْوِيضُ

ص: 305

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

هُوَ الْمُرَجِّحُ، فَلَا يَلْزَمُ التَّرْجِيحُ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، وَدَلَّ عَلَى التَّفْوِيضِ الْمَذْكُورِ وُرُودُ النَّصِّ بِلَفْظِ «أَوْ» الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّخْيِيرِ فِي اللِّسَانِ.

الْأَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ حُسْنَ الْفِعْلِ وَقُبْحَ الْفِعْلِ عِنْدَهُمْ ذَاتِيَّانِ بِصِفَةٍ. أَيْ: أَنَّ الْأَفْعَالَ عِنْدَهُمْ، مِنْهَا مَا هُوَ حَسَنٌ لِمَعْنًى، أَوْ وَصْفٍ قَائِمٍ بِهِ اقْتَضَى كَوْنَهُ حَسَنًا، وَمِنْهَا مَا هُوَ قَبِيحٌ لِوَصْفٍ قَامَ بِهِ اقْتَضَى أَحَدُهُمَا حُسْنَ الصِّدْقِ وَالْآخَرُ قُبْحَ الْكَذِبِ. وَلَمَّا كَانَ مِنْ مَذْهَبِهِمْ هَذَا، اقْتَضَى عِنْدَهُمْ أَنَّ خِصَالَ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، لَا بُدَّ وَأَنْ تَقُومَ بِهَا أَوْصَافٌ تَقْتَضِي حُسْنَهَا، فَإِنْ تَسَاوَتْ فِي تِلْكَ الصِّفَاتِ تَسَاوَتْ فِي الْحُسْنِ، وَتَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ، فَيَلْزَمُ إِيجَابُ جَمِيعِهَا، وَإِنْ تَفَاوَتَتْ فِي صِفَاتِهَا، تَعَيَّنَ مِنْهَا الْأَرْجَحُ الْأَصْلَحُ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ.

وَهَذَا الْأَصْلُ مَمْنُوعٌ أَيْضًا عِنْدَنَا، بَلْ حُسْنُ الْأَفْعَالِ وَقُبْحُهَا مُسْتَفَادٌ مِنْ أَمْرِ الشَّرْعِ وَنَهْيِهِ، لَا مِنْ ذَوَاتِهَا، وَلَا مِنْ صِفَاتٍ قَامَتْ بِهَا. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ:«بَلْ ذَلِكَ» يَعْنِي: الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ «شَرْعِيٌّ» «فَلِلشَّرْعِ فِعْلُ مَا شَاءَ مِنْ تَخْصِيصٍ وَإِبْهَامٍ» أَيْ: مِنْ تَعْيِينِ الْوَاجِبِ وَالتَّخْيِيرِ فِيهِ، وَلِهَذَا مَزِيدُ تَحْقِيقٍ فِي آخِرِ هَذَا الْفَصْلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

تَنْبِيهٌ: قَوْلُنَا عَلَى الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ: ذَاتِيَّانِ بِصِفَةٍ، هُوَ مَنْقُولٌ ثَابِتٌ عَنِ

ص: 306

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْأُصُولِيِّينَ، وَفِيهِ تَنَاقُضٌ نُنَبِّهُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَالْكَرَّامِيَّةَ وَالْبَرَاهِمَةَ قَالُوا: الْأَفْعَالُ حَسَنَةٌ أَوْ قَبِيحَةٌ لِذَاتِهَا، ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ كَذَلِكَ مِنْ غَيْرِ صِفَةٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ هِيَ كَذَلِكَ بِصِفَةٍ كَمَا شَرَحْنَا. وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ قَبِيحَةٌ بِصِفَةٍ قَامَتْ بِهَا، وَهِيَ حَسَنَةٌ لِذَاتِهَا بِغَيْرِ صِفَةٍ، وَالْقَوْلَانِ الْأَخِيرَانِ يَلْزَمُهُمَا التَّنَاقُضُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا: هَذَا قَبِيحٌ أَوْ حَسَنٌ لِذَاتِهِ أَنَّ عِلَّةَ قُبْحِهِ وَحُسْنِهِ ذَاتُهُ وَحَقِيقَتُهُ، وَمَعْنَى قَوْلِنَا: هَذَا حَسَنٌ أَوْ قَبِيحٌ بِصِفَةٍ، أَنَّ عِلَّةَ حُسْنِهِ أَوْ قُبْحِهِ صِفَةٌ قَامَتْ بِهِ، فَقَوْلُنَا مَثَلًا: الْكَذِبُ قَبِيحٌ لِذَاتِهِ، أَيْ: هُوَ قَبِيحٌ لِكَوْنِهِ كَذِبًا، وَإِذَا قُلْنَا هُوَ قَبِيحٌ بِصِفَةٍ، مَعْنَاهُ: هُوَ قَبِيحٌ لِقِيَامِ صِفَةٍ بِهِ أَوْجَبَتْ كَوْنَهُ قَبِيحًا، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: الْأَفْعَالُ قَبِيحَةٌ لِذَاتِهَا بِصِفَةٍ، وَإِسْنَادُهُمُ الْقُبْحَ إِلَيْهَا حُكْمٌ عَقْلِيٌّ، وَقَدْ جَعَلُوا لَهُ عِلَّتَيْنِ: ذَوَاتَ الْأَفْعَالِ وَصِفَاتِهَا الْقَائِمَةَ بِهَا، وَالْحُكْمُ الْعَقْلِيُّ لَا تَتَعَدَّدُ عِلَّتُهُ، وَلَا يَجْتَمِعُ عَلَى أَثَرٍ وَاحِدٍ مُؤَثِّرَانِ عَقْلًا لِمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ.

وَحِينَئِذٍ يُقَالُ: إِنْ كَانَتِ الْأَفْعَالُ قَبِيحَةً لِذَاتِهَا وَلِصِفَةٍ قَامَتْ بِهَا، فَهُوَ تَنَاقُضٌ، وَإِثْبَاتُ الشَّيْءِ مَعَ مَا يَقْتَضِي عَدَمَهُ. وَعَلَى هَذَا فَالصَّوَابُ فِي عِبَارَةِ الْمُخْتَصَرِ أَنْ يُقَالَ:«عَلَى أَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ ذَاتِيَّانِ أَوْ بِصِفَةٍ» بِلَفْظِ «أَوْ» وَتَكُونُ لِتَنْوِيعِ مَذْهَبِهِمْ إِلَى أَنَّ الْأَفْعَالَ حَسَنَةٌ أَوْ قَبِيحَةٌ لِذَاتِهَا، وَإِلَى أَنَّهَا كَذَلِكَ لِأَوْصَافٍ قَامَتْ بِهَا. اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ التَّنَاقُضِ إِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ قُلْنَا: الْأَفْعَالُ قَبِيحَةٌ لِذَاتِهَا وَلِصِفَةٍ،

ص: 307

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَنَحْنُ إِنَّمَا قُلْنَا: هِيَ قَبِيحَةٌ لِذَاتِهَا بِصِفَةٍ بِالْبَاءِ لَا بِاللَّامِ الْمُفِيدَةِ لِلتَّعْلِيلِ، وَحِينَئِذٍ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ قُبْحِهَا ذَاتَهَا. وَالصِّفَةُ الْقَائِمَةُ بِهَا شَرْطٌ، لَا عِلَّةٌ ثَابِتَةٌ، وَلَا يَجْتَمِعُ عَلَى الْأَثَرِ مُؤَثِّرَانِ، فَلَا يَلْزَمُ التَّنَاقُضُ، وَهَذَا اعْتِذَارٌ جَيِّدٌ عَنِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ، فَتَصِحُّ عِبَارَةُ الْمُخْتَصَرِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ.

قُلْتُ: وَأَجَابَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَنْ أَصْلِ دَلِيلِهِمُ الْمَذْكُورِ بِجَوَابٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ تَسَاوِيَ الْخِصَالِ فِي الْمَصْلَحَةِ، عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ، يَمْنَعُ مِنْ تَعْيِينِ بَعْضِهَا، لِلُزُومِ التَّرْجِيحِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، وَحُصُولُ الْمَصْلَحَةِ بِوَاحِدٍ مِنْهَا يَمْنَعُ مِنْ إِيجَابِ مَا فَوْقَهُ، لِأَنَّهُ ضَرَرٌ مَحْضٌ، حَصَلَتِ الْمَصْلَحَةُ بِدُونِهِ. فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ وَاحِدٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ.

قُلْتُ: وَلَيْسَ لِلْخَصْمِ هُنَا إِلَّا مَنْعُ حُصُولِ الْمَصْلَحَةِ بِوَاحِدٍ، لَكِنَّهُ بَعِيدٌ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، لِلْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ فِي الْكَفَّارَةِ.

ص: 308

قَالُوا: عَلِمَ مَا أَوْجَبَ، وَمَا يَفْعَلُ الْمُكَلَّفُ، فَكَانَ وَاجِبًا مُعَيَّنًا.

قُلْنَا: عِلْمُهُ تَابِعٌ لِإِيجَابِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُعَيَّنِ الْمَحَلِّ، وَإِلَّا لَعَلِمَهُ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَفِعْلُ الْمُكَلَّفِ يُعَيَّنُ مَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَيِّنًا.

ــ

قَوْلُهُ: «قَالُوا: عَلِمَ مَا أَوْجَبَ» إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلُ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْمُخَيَّرِ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى يَعْلَمُ مَا أَوْجَبَهُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنْ خِصَالِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، وَيَعْلَمُ الْخَصْلَةَ الَّتِي يُؤَدِّيهَا الْمُكَلَّفُ، فَيَكُونُ مُعَيَّنًا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: «قُلْنَا: عِلْمُهُ تَابِعٌ لِإِيجَابِهِ» إِلَى آخِرِهِ. هَذَا جَوَابُ مَا ذَكَرُوهُ عَلَى تَعْيِينِ الْوَاجِبِ.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّا لَا نَمْنَعُ أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى يَعْلَمُ مَا أَوْجَبَ، لَكِنَّا نَقُولُ: عِلْمُهُ تَابِعٌ لِإِيجَابِهِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ يَتْبَعُ الْمَعْلُومَ، أَيْ: يَتَعَلَّقُ بِهِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ. وَإِيجَابُهُ سبحانه وتعالى غَيْرُ مُعَيَّنِ الْمَحَلِّ، أَيْ مَحَلِّ الْإِيجَابِ، أَيْ: مُتَعَلَّقُهُ مِنْ أَقْسَامِ الْوَاجِبِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: مَنْ حَنِثَ، فَكَفَّارَةُ حِنْثِهِ الْعِتْقُ بِعَيْنِهِ مَثَلًا، وَالْإِطْعَامُ بِعَيْنِهِ، بَلْ قَالَ: كَفَّارَتُهُ إِطْعَامٌ أَوْ كِسْوَةٌ أَوْ عِتْقٌ، فَثَبَتَ أَنَّ مَحَلَّ الْإِيجَابِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، إِذْ لَوْ كَانَ مُعَيَّنًا لَعَلِمَهُ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مُبْهَمٌ فِي أَقْسَامٍ وَهُوَ

ص: 309

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

سُبْحَانَهُ قَدْ عَلِمَهُ مُعَيَّنًا، وَذَلِكَ مُحَالٌ لِاسْتِلْزَامِهِ انْقِلَابَ الْعِلْمِ جَهْلًا، فَثَبَتَ أَنَّ الْوَاجِبَ الْمُخَيَّرَ غَيْرُ مُعَيَّنِ الْمَحَلِّ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِ أَوْجَبَ وَاحِدًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ.

وَأَمَّا فِعْلُ الْمُكَلَّفِ لِلْعِتْقِ، أَوِ الْإِطْعَامِ، أَوِ الْكِسْوَةِ، فَلَيْسَ فِعْلًا لِمَا كَانَ مُعَيَّنًا فِي عِلْمِ اللَّهِ سبحانه وتعالى، بَلْ هُوَ تَعْيِينٌ لِمَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَيِّنًا، وَقَدْ عَلِمَ سبحانه وتعالى أَنَّ الْمُكَلَّفَ سَيُعَيِّنُهُ بِفِعْلِهِ. فَحَاصِلُ الْجَوَابِ: أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى عِلْمُهُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، وَعَلِمَ أَنَّهُ سَيَتَعَيَّنُ، وَالْعِلْمُ أَنَّهُ سَيَتَعَيَّنُ لَيْسَ فِي لَفْظِ «الْمُخْتَصَرِ» دَلَالَةٌ عَلَيْهِ.

ثُمَّ قَالَ الْغَزَالِيُّ: لَوْ أَتَى الْمُكَلَّفُ بِالْجَمِيعِ، أَوْ تَرَكَ الْجَمِيعَ، كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُعَيَّنُ وَاحِدًا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى؟

قُلْتُ: فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا لَا يَرِدُ، لِأَنَّ الْخَصْمَ يَقُولُ: إِنَّمَا يَكُونُ الْوَاجِبُ وَاحِدًا مُعَيَّنًا فِي عِلْمِ اللَّهِ سبحانه وتعالى، بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ سَيُعَيِّنُ وَاحِدًا بِفِعْلِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَتَى بِالْجَمِيعِ، فَالْمُعَيَّنُ لِلْوُجُوبِ فِي حَقِّهِ وَاحِدٌ، وَالزَّائِدُ تَطَوُّعٌ.

قُلْنَا: فَمَنْ تَرَكَ الْجَمِيعَ، يَلْزَمُ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَصْلًا.

قُلْتُ: وَالَّذِي رَأَيْتُهُ فِي جَوَابِ هَذَا السُّؤَالِ هُوَ هَذَا، وَهُوَ غَيْرُ مَرْضِيٍّ، وَوَجْهُ الْقَدْحِ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُكَلَّفَ يُعَيِّنُ بِفِعْلِهِ مَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَيِّنًا، بَلْ يُؤَدِّي مَا كَانَ مُتَعَيَّنًا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى لِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُكَلَّفَ أَدَّى مَا أُوجِبَ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالَّذِي أَدَّاهُ مُتَعَيِّنٌ فِي

ص: 310

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

نَفْسِهِ، وَفِي عِلْمِ اللَّهِ سبحانه وتعالى. فَلْيَكُنْ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ هُوَ هُوَ.

الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى حِينَ أَوْجَبَهُ، إِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ عَلِمَ عَيْنَ مَا يَفْعَلُهُ الْمُكَلَّفُ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ عَلَى أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ سبحانه وتعالى مُتَعَلِّقٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، كُلِّيِّهَا وَجَزِّئِيِّهَا، مَاضِيًا وَحَالًا وَمُسْتَقْبَلًا، أَوْ عَلِمَ عَيْنَ مَا يَفْعَلُهُ الْمُكَلَّفُ، وَحِينَئِذٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقُ الْإِيجَابِ هُوَ عَيْنُ مُتَعَلِّقِ الْعِلْمِ أَوْ غَيْرُهُ، فَإِنْ كَانَ مُتَعَلِّقُ الْإِيجَابِ عَيْنَ مُتَعَلِّقِ الْعِلْمِ، فَقَدْ أَوْجَبَهُ مُعَيَّنًا، لِأَنَّهُ عَلِمَهُ مُعَيَّنًا، وَمُتَعَلِّقُهُمَا وَاحِدٌ، فَالْوَاجِبُ مُعَيَّنٌ. وَإِنْ كَانَ مُتَعَلِّقُ الْإِيجَابِ غَيْرَ مُتَعَلِّقِ الْعِلْمِ، لَزِمَ أَنَّ مَا عَلِمَهُ غَيْرُ مَا أَوْجَبُهُ، فَالْمُكَلَّفُ إِنَّمَا أَدَّى الْمَعْلُومَ لَا الْوَاجِبَ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ، هَذَانِ الْوَجْهَانِ مَقْصُودُهُمَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ طَرِيقُ تَقْرِيرِهِمَا وَالْعِبَارَةُ فِيهِمَا.

وَالْمُخْتَارُ فِي الْجَوَابِ: أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى يُوجِبُهُ مُعَيَّنًا بِالْإِضَافَةِ إِلَى عِلْمِهِ بِهِ، مُبْهَمًا بِالْإِضَافَةِ إِلَى عِلْمِ الْمُكَلَّفِينَ، لَكِنَّ مَوْضُوعَ النَّظَرِ فِي الْمَسْأَلَةِ إِنَّمَا هُوَ الْإِيجَابُ أَوِ الْوَاجِبُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى عِلْمِ الْمُكَلَّفِينَ لَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ سبحانه وتعالى. وَهَذَا يُشْبِهُ مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي تَكْلِيفِ الْمُكْرَهِ، مِنْ أَنَّ لِلَّهِ سبحانه وتعالى فِي خَلْقِهِ تَصْرِيفَيْنِ: تَكْوِينِيٌّ يَجْرِي عَلَيْهِمْ فِيهِ مَا لَا يُطِيقُونَهُ، وَتَكْلِيفِيٌّ لَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ فِيهِ إِلَّا مَا يُطِيقُونَهُ.

وَحَاصِلُ الْجَوَابِ: أَنَّ مَا اخْتُصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَنَّا، مِنْ عِلْمٍ وَإِرَادَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَيْسَ مَوْضُوعَ نَظَرِنَا، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُوجِبَ عَلَيْنَا شَيْئًا مُعَيَّنًا فِي عِلْمِهِ، مُبْهَمًا فِي عِلْمِنَا، وَيَكُونُ مِنْ ذَوَاتِ الْجِهَتَيْنِ.

ص: 311

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ

وَقْتُ الْوَاجِبِ إِمَّا بِقَدْرِ فِعْلِهِ، وَهُوَ الْمُضَيَّقُ، أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ، وَالتَّكْلِيفُ بِهِ خَارِجٌ عَلَى تَكْلِيفِ الْمُحَالِ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَهُوَ الْمُوَسَّعُ، كَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ عِنْدَنَا، لَهُ فِعْلُهُ فِي أَيِّ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ شَاءَ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ، إِلَّا بِشَرْطِ الْعَزْمِ عَلَى فِعْلِهِ فِيهِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ أَبُو الْحُسَيْنِ.

وَأَنْكَرَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ الْمُوَسَّعَ.

ــ

الْوَاجِبُ الْمُضَيَّقُ وَالْمُوَسَّعُ

«الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ» مِنْ مَسَائِلِ الْوَاجِبِ: «وَقْتُ الْوَاجِبِ إِمَّا بِقَدْرِ فِعْلِهِ» كَالْيَوْمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّوْمِ «وَهُوَ» الْوَاجِبُ «الْمَضَيَّقُ» أَيْ: ضُيِّقَ عَلَى الْمُكَلَّفِ فِيهِ، حَتَّى لَا يَجِدَ سَعَةً يُؤَخِّرُ فِيهَا الْفِعْلَ أَوْ بَعْضَهُ، ثُمَّ يَتَدَارَكُهُ، إِذْ كُلُّ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهُ لَمْ يُمْكِنْ تَدَارُكُهُ إِلَّا قَضَاءً، أَوْ يَكُونُ وَقْتُ الْوَاجِبِ أَقَلَّ مِنْ قَدْرِ فِعْلِهِ كَإِيجَابِ عِشْرِينَ رَكْعَةً فِي زَمَنٍ لَا يَسَعُ أَكْثَرَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ، وَالتَّكْلِيفُ بِهِ خَارِجٌ عَلَى تَكْلِيفِ الْمُحَالِ الْمَعْرُوفِ بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، إِنْ جَازَ التَّكْلِيفُ بِفِعْلٍ لَا يَتَّسِعُ وَقْتُهُ الْمُقَدَّرُ لَهُ، وَإِلَّا فَلَا، لِأَنَّهُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ مَا لَا يُطَاقُ، «أَوْ» يَكُونُ وَقْتُ الْوَاجِبِ «أَكْثَرَ» مِنْ قَدْرِ فِعْلِهِ «وَهُوَ الْمُوَسَّعُ، كَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ عِنْدَنَا، لَهُ فِعْلُهُ» أَيْ: فِعْلُ الْوَاجِبِ مِنَ الصَّلَوَاتِ «فِي أَيِّ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ شَاءَ» فِي أَوَّلِهِ أَوْ آخِرِهِ أَوْ وَسَطِهِ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنْهُ «وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ إِلَّا بِشَرْطِ الْعَزْمِ عَلَى فِعْلِهِ فِيهِ» أَيْ: فِي آخِرِ الْوَقْتِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْجُبَّائِيِّ وَابْنِهِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ «وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ أَبُو الْحُسَيْنِ» يَعْنِي الْعَزْمَ «وَأَنْكَرَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ الْمُوَسَّعَ» وَقَالُوا: وَقْتُ الْوُجُوبِ هُوَ آخِرُ الْوَقْتِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْفِعْلِ

ص: 312

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْوَاقِعِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ نَفْلٌ يَسْقُطُ الْفَرْضُ بِهِ، وَالْكَرْخِيُّ مِنْهُمْ، تَارَةً يَقُولُ بِتَعْيِينِ الْوَاجِبِ بِالْفِعْلِ، فِي أَيِّ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ كَانَ، وَتَارَةً يَقُولُ: إِنْ بَقِيَ الْفَاعِلُ مُكَلَّفًا إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ كَانَ فِعْلُهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَاجِبًا، وَإِلَّا فَهُوَ نَفْلٌ.

ص: 313

لَنَا: الْقَطْعُ بِجَوَازِ قَوْلِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ: افْعَلِ الْيَوْمَ كَذَا، فِي أَيِّ جُزْءٍ شِئْتَ مِنْهُ، وَأَنْتَ مُطِيعٌ إِنْ فَعَلْتَ، وَعَاصٍ إِنْ خَرَجَ الْيَوْمُ وَلَمْ تَفْعَلْ، وَأَيْضًا، النَّصُّ قَيَّدَ الْوُجُوبَ بِجَمِيعِ الْوَقْتِ، فَتَخْصِيصُ بَعْضِهِ بِالْإِيجَابِ تَحَكُّمٌ.

قَالُوا: جَوَازُ التَّرْكِ فِي بَعْضِ الْوَقْتِ يُنَافِي الْوُجُوبَ فِيهِ، فَدَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِ الْوُجُوبِ بِالْجُزْءِ الَّذِي لَا يَجُوزُ التَّرْكُ فِيهِ، وَهُوَ آخِرُهُ، وَجَوَازُ تَقْدِيمِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ رُخْصَةٌ، كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ.

قُلْنَا: مَعَ اشْتِرَاطِ الْعَزْمِ عَلَى الْفِعْلِ، لَا نُسَلِّمُ مُنَافَاةَ التَّرْكِ الْوُجُوبَ.

قَالُوا: لَا دَلِيلَ فِي النَّصِّ عَلَى وُجُوبِ الْعَزْمِ، فَإِيجَابُهُ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ.

قُلْنَا: مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ، فَهُوَ وَاجِبٌ، وَأَيْضًا، لَمَّا حَرُمَ الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الطَّاعَةِ، حَرُمَ تَرْكُ الْعَزْمِ عَلَيْهَا، وَفِعْلُ مَا يَحْرُمُ تَرْكُهُ وَاجِبٌ، وَمَحْذُورُ الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ، كَوْنُهُ نَسْخًا عِنْدَكُمْ، وَنَحْنُ نَمْنَعُهُ.

ــ

«لَنَا: الْقَطْعُ بِجَوَازِ قَوْلِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ: افْعَلِ الْيَوْمَ كَذَا» مِثْلُ أَنْ قَالَ: ابْنِ لِي هَذَا الْحَائِطَ، أَوْ خِطْ لِي هَذَا الثَّوْبَ «فِي أَيِّ جُزْءٍ شِئْتَ مِنْهُ وَأَنْتَ مُطِيعٌ إِنْ فَعَلْتَ، وَعَاصٍ إِنْ خَرَجَ الْيَوْمُ وَلَمْ تَفْعَلْ» فَإِنْ كَانَ الْإِنْكَارُ لِجَوَازِهِ عَقْلًا، فَهَذَا دَلِيلُ الْعَقْلِ قَاطِعٌ فِي جَوَازِهِ، وَإِنْ كَانَ الْإِنْكَارُ لَهُ شَرْعًا، فَدَلِيلُ الشَّرْعِ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ «أَيْضًا» وَذَلِكَ لِأَنَّ «النَّصَّ قَيَّدَ الْوُجُوبَ بِجَمِيعِ الْوَقْتِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الْإِسْرَاءِ: 78]، وَقَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130] ، وَقَوْلِهِ عليه السلام لِلْأَعْرَابِيِّ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ فَبَيَّنَ لَهُ بِفِعْلِهِ فِي الْيَوْمَيْنِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: الْوَقْتُ مَا بَيْنَ

ص: 314

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

هَذَيْنِ يَعْنِي: مَا بَيْنَ أَوَّلِ الْوَقْتِ وَآخِرِهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ، وَإِذَا قَيَّدَ النَّصُّ الْوُجُوبَ بِجَمِيعِ الْوَقْتِ «فَتَخْصِيصُ بَعْضِهِ» بِأَنَّهُ وَقْتُ الْوُجُوبِ «تَحَكُّمٌ» عَلَى النَّصِّ بِالتَّخْصِيصِ.

«قَالُوا: جَوَازُ التَّرْكِ» إِلَى آخِرِهِ. هَذَا حُجَّةُ مَنْ أَنْكَرَ الْمُوَسَّعَ، وَهُوَ أَنَّ جَوَازَ تَرْكِ الْفِعْلِ فِي بَعْضِ الْوَقْتِ يُنَافِي وُجُوبَهُ فِيهِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي زَمَنٍ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ فِيهِ، وَإِلَّا لَكَانَ الْوَاجِبُ غَيْرَ وَاجِبٍ، وَهُوَ مُحَالٌ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِصَاصِ وُجُوبِ الْفِعْلِ بِالْجُزْءِ الَّذِي لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ فِيهِ مِنَ الْوَقْتِ، وَهُوَ آخِرُهُ.

وَأَمَّا جَوَازُ تَقْدِيمِ الْفِعْلِ عَلَى آخِرِ الْوَقْتِ كَفِعْلِ الصَّلَوَاتِ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِهَا فَهُوَ رُخْصَةٌ، كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ، الْعَامِ وَالْعَامَيْنِ، وَتَقْدِيمِ الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ إِلَى وَقْتِ الْأَوْلَى بِالْجَمْعِ.

«قُلْنَا: مَعَ اشْتِرَاطِ الْعَزْمِ» إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: قُلْنَا: جَوَازُ التَّرْكِ فِي بَعْضِ الْوَقْتِ يُنَافِي الْوُجُوبَ فِيهِ، مَعَ اشْتِرَاطِ الْعَزْمِ عَلَى الْفِعْلِ فِي آخِرِهِ، أَوْ مَعَ عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ.

الْأَوَّلُ: مَمْنُوعٌ، فَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَعَ اشْتِرَاطِ الْعَزْمِ، يُنَافِي تَرْكُ الْفِعْلِ فِي بَعْضِ الْوَقْتِ وُجُوبَهُ فِيهِ، لِأَنَّ التَّرْكَ إِنَّمَا يُنَافِي الْوُجُوبَ إِذَا خَلَا الْوَقْتُ مِنَ الْوَاجِبِ أَوْ بَدَلِهِ، وَمَعَ اشْتِرَاطِ الْعَزْمِ لَمْ يَخْلُ الْوَقْتُ مِنْهُمَا، لِأَنَّ تَعْجِيلَ الْفِعْلِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَإِنْ فَاتَ، لَكِنَّ بَدَلَهُ - وَهُوَ الْعَزْمُ - لَمْ يَفُتْ.

وَالثَّانِي: وَهُوَ جَوَازُ التَّرْكِ مَعَ عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْعَزْمِ، مُسَلَّمٌ أَنَّهُ يُنَافِي الْوُجُوبَ، لَكِنَّا

ص: 315

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

لَا نَقُولُ بِهِ.

«قَالُوا: لَا دَلِيلَ فِي النَّصِّ» إِلَى آخِرِهِ، هَذَا مَنْعٌ لِاشْتِرَاطِ الْعَزْمِ عَلَى الْفِعْلِ.

وَتَقْرِيرُهُ، أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِي النَّصِّ عَلَى وُجُوبِ الْعَزْمِ عَلَى الْفِعْلِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ إِذَا تُرِكَ فِي أَوَّلِهِ، لِأَنَّ النُّصُوصَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْمَوَاقِيتِ إِنَّمَا دَلَّتْ عَلَى إِيقَاعِ الْعِبَادَةِ فِي الْوَقْتِ، فَإِيجَابُ الْعَزْمِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ، فَيَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ.

«قُلْنَا» يَعْنِي فِي الدَّلَالَةِ عَلَى اشْتِرَاطِ الْعَزْمِ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ «مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ» ، وَالْعَزْمُ هَهُنَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ، فَيَكُونُ وَاجِبًا.

أَمَّا الْأُولَى: فَسَيَأْتِي تَقْرِيرُهَا فِي مَكَانِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَتَقَرَّرَ بِبَيَانِ الْوَجْهِ الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّهُ «لَمَّا حَرُمَ الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الطَّاعَةِ، حُرُمَ تَرْكُ الْعَزْمِ عَلَيْهَا» فَكَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْزِمَ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ عِنْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا، يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَتْرُكَ الْآنَ الْعَزْمَ عَلَى فِعْلِهَا إِذَا دَخَلَ وَقْتُهَا، لِأَنَّ التَّكْلِيفَ الشَّرْعِيَّ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْأَبْدَانِ بِالْأَفْعَالِ، وَإِلَى الْقُلُوبِ بِالنِّيَّاتِ وَالْعَزَائِمِ، وَلِأَنَّ تَرْكَ الْعَزْمِ عَلَى الطَّاعَةِ تَهَاوُنٌ بِأَمْرِ الشَّرْعِ، فَيَكُونُ حَرَامًا وَإِذَا حَرُمَ تَرْكُ الْعَزْمِ عَلَى الطَّاعَةِ، كَانَ الْعَزْمُ عَلَيْهَا وَاجِبًا، لِأَنَّ «فِعْلَ مَا يَحْرُمُ تَرْكُهُ وَاجِبٌ» وَالْحَرَامُ يَجِبُ تَرْكُهُ،

ص: 316

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَلَا يُمْكِنُ تَرْكُهُ إِلَّا بِفِعْلِ ضِدِّهِ، وَالْحَرَامُ هُنَا تَرْكُ الْعَزْمِ، فَيَكُونُ تَرْكُهُ بِفِعْلِ الْعَزْمِ وَاجِبًا، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.

قَوْلُهُ: «وَمَحْذُورُ الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ» إِلَى آخِرِهِ، هَذَا جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِيجَابُ الْعَزْمِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ، وَمَعْنَى الْجَوَابِ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ، فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّنَا، لِأَنَّ الْمَحْذُورَ مِنْهُ كَوْنُ الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ نَسْخًا، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَكُمْ، وَنَحْنُ نَمْنَعُ ذَلِكَ، كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ النَّسْخِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْمَانِعِينَ مِنَ اشْتِرَاطِ الْعَزْمِ فِي الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ أَسْئِلَةً:

أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُكَلَّفَ إِمَّا أَنْ يَعْزِمَ عَلَى تَرْكِ الْعِبَادَةِ فِي وَقْتِهَا، فَيَكُونُ عَاصِيًا، أَوْ عَلَى فِعْلِهَا، فَيَكُونُ مُطِيعًا، أَوْ لَا عَلَى تَرْكِهَا وَلَا فِعْلِهَا، وَهَذِهِ الْحَالُ وَاسِطَةٌ بَيْنَ طَرَفَيْنِ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّهَا حَرَامٌ، مَعَ أَنَّ تَرْكَ الْعَزْمِ عَلَى الصَّلَاةِ يُسَاوِي الْعَزْمَ عَلَى تَرْكِهَا؟

وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا، قَدْ لَاحَ مِمَّا سَبَقَ وَنَزِيدُهُ إِيضَاحًا بِطَرِيقٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْعِبَادَةِ مِنْ أَسْبَابِ إِيقَاعِهَا، وَإِيقَاعُهَا وَاجِبٌ، وَسَبَبُ الْوَاجِبِ وَاجِبٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْعَزْمَ عَلَيْهَا مِنْ أَسْبَابِ إِيقَاعِهَا، لِأَنَّ سَبَبَ الْفِعْلِ مَا تُوُصِّلَ بِهِ إِلَيْهِ، وَأَعَانَ عَلَيْهِ. وَالْعَزْمُ عَلَى الْعِبَادَةِ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَيْهَا، وَيُعِينُ عَلَيْهَا، فَيَكُونُ مِنْ أَسْبَابِهَا، فَيَكُونُ وَاجِبًا.

ثُمَّ إِنَّ لَنَا مَنْعَ تَصَوُّرِ الْوَاسِطَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّخْصَ إِنْ كَانَ سَاهِيًا

ص: 317

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أَوْ غَافِلًا، فَلَيْسَ مُكَلَّفًا، وَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا مُتَيَقِّظًا عَالِمًا بِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِالصَّلَاةِ، فَهَذَا لَا يَخْلُو مَنْ قَصْدٍ يَتَعَلَّقُ بِهَا، فَإِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ قَصْدُهُ بِأَنْ يَفْعَلَهَا فِي آخِرِ الْوَقْتِ، أَوْ بِأَنْ لَا يَفْعَلَهَا، وَالْوَاسِطَةُ الَّتِي وَسَّطْتُمُوهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى صَلَاةِ مَنْ قَصَدَ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ.

السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَزْمَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَدَلًا عَنْ أَصْلِ الْفِعْلِ، أَوْ عَنْ تَعْجِيلِهِ، فَإِنْ كَانَ بَدَلًا عَنِ الْفِعْلِ، لَزِمَ سُقُوطُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَنْ لَا يَجِبَ فِعْلُهُ آخِرَ الْوَقْتِ، لِئَلَّا يَجْتَمِعَ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ، وَإِنْ كَانَ بَدَلًا عَنْ تَعْجِيلِ الْفِعْلِ، فَقَدْ صَارَ مُخَيَّرًا بَيْنَ تَعْجِيلِهِ وَتَأْخِيرِهِ مَعَ الْعَزْمِ عَلَى فِعْلِهِ آخِرَ الْوَقْتِ، فَاسْتَحَالَتِ الْمَسْأَلَةُ، وَانْتَقَلَتْ إِلَى مَسْأَلَةِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، وَزَالَ الْوَاجِبُ الْمُوَسَّعُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَصَارَتِ الْمَسْأَلَتَانِ وَاحِدَةً.

وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْعَزْمَ بَدَلٌ عَنْ تَعْجِيلِ الْفِعْلِ، لَا عَنْ أَصْلِهِ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ التَّعْجِيلِ، وَالتَّأْخِيرِ مَعَ الْعَزْمِ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي زَوَالَ الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَا يُنَافِيهِ، بَلِ الْوَاجِبُ الْمُوَسَّعُ ثَابِتٌ، وَلَهُ نَظَرٌ إِلَى الْمُخَيَّرِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَتَعَلُّقٌ بِهِ.

أَوْ نَقُولُ: هُوَ مُوَسَّعٌ مِنْ وَجْهٍ، مُخَيَّرٌ مِنْ وَجْهٍ، وَإِذَا ثَبَتَ التَّخْيِيرُ، انْبَنَى عَلَيْهِ التَّوْسِيعُ. وَسَنُبَيِّنُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ بَيْنَ الْمُوَسَّعِ وَالْمُخَيَّرِ وَفَرْضِ الْكِفَايَةِ قَدْرًا مُشْتَرِكًا، تَصِيرُ جَمِيعُهَا مِنْ جِهَتِهِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ.

السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَنَّ وُجُوبَ الْعَزْمِ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ مِنْ أَحْكَامِ الْإِيمَانِ الْعَامَّةِ، لَا مِنْ خَصَائِصِ الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ.

وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا لَا يَنْفِي اشْتِرَاطَهُ وَبَدَلِيَّتَهُ فِي الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ إِمَّا مِنَ

ص: 318

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْجِهَةِ الْعَامَّةِ، وَهِيَ جِهَةُ كَوْنِ الْوَاجِبِ إِيمَانًا، أَوْ مِنْ أَعْمَالِ الْإِيمَانِ، أَوْ مِنَ الْجِهَةِ الْخَاصَّةِ، وَهِيَ كَوْنُهُ شَرْطًا، وَبَدَلًا فِي الْمُوَسَّعِ، وَيَكُونُ ثُبُوتُهُ بِشَيْئَيْنِ: عَامٌّ وَخَاصٌّ.

ص: 319

قَالُوا: نَدْبٌ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، لِجَوَازِ تَرْكِهِ فِيهِ. وَاجِبٌ فِي آخِرِهِ لِعَدَمِ ذَلِكَ.

قُلْنَا: النَّدْبُ يَجُوزُ تَرْكُهُ مُطْلَقًا، وَهَذَا بِشَرْطِ الْعَزْمِ عَلَى فِعْلِهِ، فَلَيْسَ بِنَدْبٍ، بَلْ مُوَسَّعٌ فِي أَوَّلِهِ مُضَيَّقٌ عِنْدَ بَقَاءِ قَدْرِ فِعْلِهِ.

قَالُوا: لَوْ غَفَلَ عَنِ الْعَزْمِ وَمَاتَ، لَمْ يَعْصِ.

قُلْنَا: لِأَنَّ الْغَافِلَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، حَتَّى لَوْ تَنَبَّهَ لَهُ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى تَرْكِهِ عَصَى.

ــ

«قَالُوا: نَدْبٌ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ» إِلَى آخِرِهِ، هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ لَهُمْ.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْمُوَسَّعَ مَنْدُوبٌ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ تَرْكُهُ فِيهِ، وَكُلُّ مَا جَازَ تَرْكُهُ فِي وَقْتٍ، فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ فِيهِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، فَهُوَ وَاجِبٌ فِي آخِرِهِ، لِعَدَمِ ذَلِكَ، أَيْ: لِعَدَمِ جَوَازِ تَرْكِهِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ فِي تَقْرِيرِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ نَظَرًا لَفْظِيًّا، وَهُوَ أَنَّ وَجْهَ تَقْرِيرِهِ عَلَى لَفْظِهِ، أَنَّ الْمُوَسَّعَ نَدْبٌ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ تَرْكُهُ، وَمَا جَازَ تَرْكُهُ، فَهُوَ نَدْبٌ، لَكِنَّهُ يَبْطُلُ بِالْمُبَاحِ وَالْمَكْرُوهِ وَالْحَرَامِ، إِذْ كُلُّهَا يَجُوزُ تَرْكُهَا، وَلَيْسَتْ نَدْبًا، وَوَجْهُ تَصْحِيحِهِ، مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي تَقْرِيرِهِ، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا: نَدْبٌ: أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، فَتَقْرِيرُهُ إِذًا هَكَذَا:

الْمُوَسَّعُ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ تَرْكُهُ فِيهِ، وَكُلُّ مَا جَازَ تَرْكُهُ فَهُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ.

«قُلْنَا» : لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ نَدْبٌ فِي أَوَّلِهِ، وَلَا أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ. قَوْلُكُمْ: لِأَنَّهُ يَجُوزُ تَرْكُهُ، قُلْنَا: مُطْلَقًا أَوْ بِشَرْطِ الْعَزْمِ. الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ

ص: 320

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

يَكُونُ نَدْبًا، لِأَنَّ النَّدْبَ يَجُوزُ تَرْكُهُ مُطْلَقًا، وَالْمُوَسَّعُ إِنَّمَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِشَرْطِ الْعَزْمِ عَلَى فِعْلِهِ، فَلَيْسَ بِنَدْبٍ، بَلْ مُوَسَّعٌ فِي أَوَّلِهِ لِجَوَازِ تَرْكِهِ، مُضَيَّقٌ فِي آخِرِهِ عِنْدَ بَقَاءِ قَدْرِ فِعْلِهِ.

وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفِعْلَ: إِمَّا أَنْ يُعَاقَبَ عَلَى تَرْكِهِ مُطْلَقًا، وَهُوَ الْمُضَيَّقُ، أَوْ لَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ مُطْلَقًا، وَهُوَ النَّدْبُ، أَوْ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ فِي جَمِيعِ الْوَقْتِ لَا فِي بَعْضِ أَجْزَائِهِ، وَهُوَ الْوَاجِبُ الْمُوَسَّعُ.

سَمَّيْنَاهُ وَاجِبًا لِلُحُوقِ الْعِقَابِ عَلَى تَرْكِهِ بِالْجُمْلَةِ، وَسَمَّيْنَاهُ مُوَسَّعًا لِحُصُولِ التَّوْسِعَةِ فِي وَقْتِهِ عَنْ قَدْرِ فِعْلِهِ، وَعَلَى الْمُكَلَّفِ فِي جَوَازِ تَأْخِيرِهِ فِي بَعْضِ أَجْزَاءِ وَقْتِهِ.

«قَالُوا: لَوْ غَفَلَ عَنِ الْعَزْمِ وَمَاتَ لَمْ يَعْصِ» . أَيْ: وَلَوْ كَانَ الْعَزْمُ وَاجِبًا لَعَصَى بِمَوْتِهِ وَهُوَ تَارِكٌ لَهُ، لِأَنَّ تَارِكَ الْوَاجِبِ عَاصٍ.

قُلْنَا: إِنَّمَا لَمْ يَعْصِ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الْغَافِلَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، لِمَا سَبَقَ فِي مَسْأَلَةِ النَّائِمِ وَالنَّاسِي، حَتَّى إِنَّ هَذَا الْغَافِلَ لَوْ تَنَبَّهَ لِلْعَزْمِ وَاسْتَمَرَّ عَلَى تَرْكِهِ عَصَى، لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي وُجُوبِ الْعَزْمِ. وَتَارِكُ الْوَاجِبِ إِنَّمَا يَكُونُ عَاصِيًا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا. وَهَذَا مَعْذُورٌ بِالْغَفْلَةِ، فَلَا يَكُونُ عَاصِيًا.

ص: 321

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ

إِذَا مَاتَ فِي أَثْنَاءِ الْمُوَسَّعِ، قَبْلَ فِعْلِهِ وَضِيقِ وَقْتِهِ، لَمْ يَمُتْ عَاصِيًا، لِأَنَّهُ فَعَلَ مُبَاحًا، وَهُوَ التَّأْخِيرُ الْجَائِزُ. لَا يُقَالُ: إِنَّمَا جَازَ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ، لِأَنَّا نَقُولُ: ذَلِكَ غَيْبٌ، فَلَيْسَ إِلَيْنَا، وَإِنَّمَا الشَّرْطُ، الْعَزْمُ وَالتَّأْخِيرُ إِلَى وَقْتٍ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ الْبَقَاءُ إِلَيْهِ، فَلَوْ أَخَّرَهُ مَعَ ظَنِّ الْمَوْتِ قَبْلَ الْفِعْلِ، عَصَى اتِّفَاقًا، فَلَوْ لَمْ يَمُتْ، ثُمَّ فَعَلَهُ فِي وَقْتِهِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ أَدَاءٌ لِوُقُوعِهِ فِي وَقْتِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: هُوَ قَضَاءٌ؛ لِأَنَّهُ تَضَيَّقَ عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى ظَنِّهِ الْمَوْتَ قَبْلَ فِعْلِهِ، فَفِعْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنِ الْوَقْتِ الْمُضَيَّقِ. وَقَدْ أَلْزَمَ وُجُوبَ نِيَّةِ الْقَضَاءِ، وَهُوَ بَعِيدٌ، إِذْ لَا قَضَاءَ فِي وَقْتِ الْأَدَاءِ، وَأَنَّهُ لَوِ اعْتَقَدَ قَبْلَ الْوَقْتِ انْقِضَاءَهُ، عَصَى بِالتَّأْخِيرِ وَلَهُ الْتِزَامُهُ وَمَنْعُ وَقْتِ الْأَدَاءِ فِي الْأَوَّلِ، وَتَعْصِيَتُهُ فِي الثَّانِي، لِعُدُولِهِ عَمَّا ظَنَّهُ الْحَقَّ. وَالظَّنُّ مَنَاطُ التَّعَبُّدِ، بِدَلِيلِ عَدَمِ جَوَازِ تَقْلِيدِ الْمُجْتَهِدِ مِثْلَهُ.

"

ــ

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ "

" إِذَا مَاتَ " يَعْنِي الْمُكَلَّفَ " فِي أَثْنَاءِ " وَقْتِ الْوَاجِبِ " الْمُوَسَّعِ قَبْلَ فِعْلِهِ، وَضِيقِ وَقْتِهِ " مِثْلَ أَنْ مَاتَ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ وَقْتِ الظُّهْرِ مَا يَتَّسِعُ لِفِعْلِهَا، وَلَمْ يُصَلِّهَا " لَمْ يَمُتْ عَاصِيًا، لِأَنَّهُ فَعَلَ مُبَاحًا وَهُوَ التَّأْخِيرُ الْجَائِزُ " بِحُكْمِ تَوْسِيعِ الْوَقْتِ.

أَمَّا لَوْ أَخَّرَهُ حَتَّى ضَاقَ الْوَقْتُ عَنْ فِعْلِهِ، مِثْلَ أَنْ مَاتَ وَلَمْ يَبْقَ مِنَ الْوَقْتِ مَا يَتَّسِعُ إِلَّا لِأَقَلِّ مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ، فَإِنَّهُ يَمُوتُ عَاصِيًا.

وَالتَّحْقِيقُ: أَنْ يَكُونَ عِصْيَانُهُ مُقَدَّرًا بِقَدْرِ مَا أَخَّرَهُ حَتَّى ضَاقَ الْوَقْتُ عَنْهُ. إِنْ

ص: 322

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

ضَاقَ عَنْ رَكْعَةٍ أَوْ رَكْعَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ، كَانَ عَاصِيًا بِحَسَبِ ذَلِكَ، وَلَا يُجْعَلُ فِي مَعْصِيَتِهِ كَمَنْ فَوَّتَ الْوَاجِبَ كُلَّهُ.

قَوْلُهُ: " لَا يُقَالُ " إِلَى آخِرِهِ، هَذَا إِيرَادُ اعْتِرَاضٍ عَلَى مَا ذَكَرَ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنْ يُقَالَ: " إِنَّمَا جَازَ " التَّأْخِيرُ فِي الْمُوَسَّعِ " بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ " وَهُوَ أَنْ يَبْقَى إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ، فَيَفْعَلُ الْوَاجِبَ، أَمَّا مَعَ مَوْتِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَمِنْ أَيْنَ لَنَا جَوَازُ التَّأْخِيرِ؟

وَجَوَابُهُ: " أَنَّا نَقُولُ: ذَلِكَ " يَعْنِي سَلَامَةَ الْعَاقِبَةِ " غَيْبٌ، فَلَيْسَ " يَعْنِي الْغَيْبَ " إِلَيْنَا " أَيْ: لَمْ نُكَلَّفْ عِلْمَهُ، وَلَا بِنَاءَ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ، إِذْ لَا نَعْلَمُ هَلْ يَبْقَى إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ، فَيَفْعَلُ الْوَاجِبَ أَوْ لَا؟ وَلَا يَجُوزُ لَنَا لَوْ سَأَلْنَا أَنْ نُعَلِّقَ الْجَوَابَ، فَنَقُولُ: إِنْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّكَ تَعِيشُ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ، جَازَ لَكَ التَّأْخِيرُ، وَإِلَّا فَلَا، لِأَنَّهُ إِحَالَةٌ لَهُ عَلَى الْجَهَالَةِ، وَلَا يَحْصُلُ لَهُ الْبَيَانُ، وَإِنَّمَا سَأَلَ لِيُبَيَّنَ لَهُ.

قَوْلُهُ: " وَإِنَّمَا الشَّرْطُ " إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: لَيْسَتْ سَلَامَةُ الْعَاقِبَةِ بِشَرْطٍ فِي جَوَازِ تَأْخِيرِ الْمُوَسَّعِ، وَإِنَّمَا الشَّرْطُ " الْعَزْمُ " فِيهِ كَمَا سَبَقَ " وَالتَّأْخِيرُ إِلَى وَقْتٍ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ الْبَقَاءُ إِلَيْهِ " كَأَوَاخِرِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فِعْلِهَا، وَإِلَى شَعْبَانَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَضَاءِ رَمَضَانَ فِي حَقِّ شَابٍّ، أَوْ شَيْخٍ صَحِيحِ الْجِسْمِ، لَيْسَ بِهِ سَبَبُ عِلَّةٍ، وَالسَّنَةِ

ص: 323

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَالسَّنَتَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَجِّ فِي حَقِّ الشَّابِّ، وَنَحْوِهِ.

وَبِالْجُمْلَةِ: يَخْتَلِفُ الظَّنُّ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، وَقُوَى الرِّجَالِ، فَإِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ الْبَقَاءُ إِلَى وَقْتٍ، جَازَ تَأْخِيرُ الْمُوَسَّعِ إِلَيْهِ بِمُقْتَضَى الظَّنِّ، وَهُوَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، وَمُسْتَنَدٌ مَرْضِيٌّ.

قَوْلُهُ: " فَلَوْ أَخَّرَهُ مَعَ ظَنِّ الْمَوْتِ " إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: لَوْ أَخَّرَ الْمُوَسَّعَ عَنْ أَوَّلِ وَقْتِهِ، مَعَ ظَنِّهِ أَنَّهُ يَمُوتُ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَهُ، مِثْلَ أَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَمُوتُ بَعْدَ الزَّوَالِ بِقَدْرِ فِعْلِهِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَأَخَّرَهُ مَعَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُبَادِرْ بِفِعْلِهِ مِنْ أَوَّلِ وَقْتِهِ، عَصَى بِمُجَرَّدِ هَذَا التَّأْخِيرِ بِاتِّفَاقِ الْأُصُولِيِّينَ، لِأَنَّهُ أَخَّرَ الْوَاجِبَ فِي وَقْتِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى فِعْلِهِ، وَظَنَّ مَوْتَهُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَعَدَمَ اسْتِدْرَاكِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَصَارَ كَمَنْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ، فَتَرَكَ إِزَالَتَهَا مِنْ مَكَانٍ ظَنَّ أَنَّ النَّارَ سَتَأْتِي عَلَيْهَا فِيهِ فَتُحْرِقُهَا، وَمَنَاطُ الْإِثْمِ وَالْمَعْصِيَةِ تَرْكُ إِحْرَازِ الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ، مَعَ ظَنِّ فَوَاتِهِ.

قَوْلُهُ: " فَلَوْ لَمْ يَمُتْ " إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: فَلَوْ أَخَّرَ الْوَاجِبَ الْمُوَسَّعَ مَعَ ظَنِّ فَوَاتِهِ بِالْمَوْتِ، ثُمَّ بَانَ خَطَأُ ظَنِّهِ فَلَمْ يَمُتْ، ثُمَّ فَعَلَ الْوَاجِبَ فِي الْوَقْتِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ أَدَاءٌ لِوُقُوعِهِ فِي وَقْتِهِ.

ص: 324

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

" وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: هُوَ قَضَاءٌ، لِأَنَّهُ تَضَيَّقَ عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى ظَنِّهِ الْمَوْتَ قَبْلَ فِعْلِهِ "، أَيْ: لَمَّا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَمُوتُ قَبْلَ فِعْلِهِ، صَارَ مُضَيَّقًا فِي حَقِّهِ بِمُقْتَضَى ظَنِّهِ ذَلِكَ، وَصَارَ كَأَنَّ آخِرَ وَقْتِهِ هُوَ أَوَّلُ الْوَقْتِ الَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ يَمُوتُ فِيهِ، فَصَارَ فِعْلُهُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ خَارِجًا عَنِ الْوَقْتِ الْمُضَيَّقِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ فَعَلَهُ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ الْأَصْلِيِّ الْمُقَدَّرِ لَهُ شَرْعًا، وَهُوَ عِنْدَ صَيْرُورَةِ ظِلِّ الشَّيْءِ مِثْلَهُ فِي الظُّهْرِ.

وَمَأْخَذُ الْخِلَافِ: أَنَّ الْمُلَاحَظَ هَاهُنَا هُوَ تَصَرُّفُ الشَّرْعِ فِي تَقْدِيرِ الْوَقْتِ فِي الْأَصْلِ، أَوْ تَصَرُّفِهِ فِي التَّعَبُّدِ بِالظَّنِّ، لِأَنَّا إِنْ لَاحَظْنَا الْأَوَّلَ، فَالْوَقْتُ الْأَصْلِيُّ بَاقٍ، وَأَلْغَيْنَا ظَنَّ الْمَوْتِ قَبْلَ الْفِعْلِ لِتَبَيُّنِ بُطْلَانِهِ، وَإِنْ لَاحَظْنَا الثَّانِيَ، فَقَدْ عَصَى بِمُقْتَضَى ظَنِّهِ الْمَذْكُورِ، وَاسْتَقَرَّ الْحُكْمُ عَلَيْهِ، وَانْتَقَلَ الْحُكْمُ مِنَ التَّقْدِيرِ الشَّرْعِيِّ إِلَى مُقْتَضَى التَّعَبُّدِ الِاجْتِهَادِيِّ الظَّنِّيِّ.

قَوْلُهُ: " وَقَدْ أَلْزَمَ " إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: وَقَدْ أَلْزَمَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ " نِيَّةَ الْقَضَاءِ، وَهُوَ بَعِيدٌ " أَيْ: أَلْزَمَهُ الْأُصُولِيُّونَ، فَقَالُوا لَهُ. إِذَا قُلْتَ: إِنَّ هَذَا الْفِعْلَ قَضَاءٌ، لَزِمَكَ أَنْ تُوجِبَ إِيقَاعَهُ بِنِيَّةِ الْقَضَاءِ، وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ وَقْتَ الْأَدَاءِ بِأَصْلِ الشَّرْعِ بَاقٍ، وَلَا قَضَاءَ فِي وَقْتِ الْأَدَاءِ، لِأَنَّ الْأَدَاءَ وَالْقَضَاءَ مُتَنَافِيَانِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي

ص: 325

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

بَيَانِهِمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: " وَأَنَّهُ لَوِ اعْتَقَدَ قَبْلَ الْوَقْتِ انْقِضَاءَهُ " إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: وَأَلْزَمَ أَبُو بَكْرٍ أَيْضًا عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَوِ اعْتَقَدَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ انْقِضَاءَ الْوَقْتِ، مِثْلَ أَنْ ظَنَّ قَبْلَ زَوَالِ الشَّمْسِ أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ قَدِ انْقَضَى، أَنْ يَكُونَ عَاصِيًا بِالتَّأْخِيرِ الَّذِي غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ فَعَلَهُ مِنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ إِلَى آخِرِهِ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، إِنَّمَا هُوَ عَلَى شَيْءٍ غَلِطَ فِيهِ وَهْمُهُ، وَوَقْتُ الْعِبَادَةِ لَمْ يَدْخُلْ بَعْدُ، وَلَمْ يُخَاطِبْ بِفِعْلِهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَعْدُ. حَتَّى لَوْ صَلَّى حِينَئِذٍ يَنْوِي فَرِيضَةَ الْوَقْتِ انْقَلَبَتْ نَفْلًا، لِعَدَمِ مُصَادَفَتِهَا وَقْتَهَا، فَالْقَوْلُ بِتَعْصِيَتِهِ مَعَ هَذَا بَعِيدٌ جِدًّا.

قَوْلُهُ: " وَلَهُ الْتِزَامُهُ " إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: لِأَبِي بَكْرٍ الْتِزَامُ مَا أَلْزَمَهُ مِنَ الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَهُمَا وُجُوبُ نِيَّةِ الْقَضَاءِ فِيمَا يَفْعَلُهُ هَذَا الشَّخْصُ، وَتَعْصِيَتُهُ فِيمَا إِذَا اعْتَقَدَ قَبْلَ الْوَقْتِ انْقِضَاءَهُ.

" وَمَنْعُ "، أَيْ: وَلَهُ مَنْعُ الْأَدَاءِ فِي الْأَوَّلِ، وَتَعْصِيَتُهُ فِي الثَّانِي ".

أَيْ: لَهُ أَنْ يَقُولَ فِي الْإِلْزَامِ الْأَوَّلِ: لَا أُسَلِّمُ أَنَّ وَقْتَ الْأَدَاءِ بَاقٍ، حَتَّى يَكُونَ إِيجَابِي نِيَّةَ الْقَضَاءِ فِيهِ عَلَيْهِ بَعِيدًا، بَلْ وَقْتُ الْأَدَاءِ خَرَجَ بِمُقْتَضَى ظَنِّهِ أَنَّ هَذَا

ص: 326

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الزَّمَنَ الَّذِي بَقِيَ هُوَ آخِرُ حَيَاتِهِ، فَإِذَا كَذَبَ ظَنُّهُ، وَاسْتَمَرَّتْ حَيَاتُهُ، صَارَ كَمَا لَوْ مَاتَ، ثُمَّ عَاشَ فِي الْوَقْتِ، فَإِنَّهُ يَفْعَلُ الصَّلَاةَ بِتَكْلِيفٍ ثَانٍ، مُنْقَطِعٍ عَنِ الْأَوَّلِ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا، يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْأَدَاءِ بِظَنِّ الْمَوْتِ، وَيَتَضَيَّقُ الْوَقْتُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَتَكُونُ حَيَاتُهُ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ، كَالْمُسْتَجَدَّةِ فِي زَمَنٍ مُسْتَأْنَفٍ، وَنَشْأَةٍ ثَانِيَةٍ.

وَلَهُ أَنْ يَقُولَ فِي الْإِلْزَامِ الثَّانِي: يَعْصِي بِالتَّأْخِيرِ الَّذِي ظَنَّهُ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ - وَلَمْ يَكُنِ الْوَقْتُ قَدْ دَخَلَ بَعْدُ - لِعُدُولِهِ عَمَّا ظَنَّهُ الْحَقَّ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَهُوَ أَنَّهُ ظَنَّ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى أَنَّ الْوَاجِبَ لَمْ يَبْقَ مِنْ وَقْتِهِ إِلَّا قَدْرُ فِعْلِهِ، فَلَمَّا عَدَلَ عَنْهُ بِالتَّأْخِيرِ، صَارَ مُخَالِفًا، فَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ مَنْ ظَنَّ الْحَقَّ ظَنًّا صَحِيحًا مُطَابِقًا، ثُمَّ عَدَلَ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَخَّرَ الْوَاجِبَ حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهُ، فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ مَنْ خَالَفَ الظَّنَّ الْمُطَابِقَ، لِأَنَّ الظَّنَّ مَنَاطُ التَّعَبُّدِ، أَيْ: مُتَعَلِّقُ التَّعَبُّدِ، لِأَنَّ الشَّرْعَ عَلَّقَ التَّعَبُّدَاتِ بِوُجُودِ الظُّنُونِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُطَابِقَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَقَالَ مَثَلًا: إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّكُمْ أَنَّ هَذِهِ جِهَةُ الْقِبْلَةِ فَصَلُّوا إِلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَهَا، وَلَوْ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً يَظُنُّهَا زَوْجَتَهُ لَمْ يَأْثَمْ، وَلَوْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ يَظُنُّهَا أَجْنَبِيَّةً أَثِمَ، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ الْحَدُّ لِمُصَادَفَةِ الْمَحَلِّ الْقَابِلِ، كُلُّ هَذَا تَعْلِيقًا لِلْأَحْكَامِ بِالظَّنِّ وَالِاعْتِقَادِ.

وَبِالْجُمْلَةِ، فَقَدْ أُرِيقَتِ الدِّمَاءُ، وَاسْتُبِيحَتِ الْفُرُوجُ، وَمُلِكَتِ الْأَمْوَالُ شَرْعًا، بِنَاءً عَلَى ظَوَاهِرِ النُّصُوصِ، وَالْعُمُومَاتِ وَالْأَقْيِسَةِ وَأَخْبَارِ الْآحَادِ، وَالْبَيِّنَاتِ الْمَالِيَّةِ. وَإِنَّمَا يُفِيدُ ذَلِكَ جَمِيعُهُ الظَّنَّ، وَلَيْسَ الْأَمْرَانِ اللَّازِمَانِ لِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَيَثْبُتَانِ بِمُقْتَضَى ظَنِّ الْمُكَلَّفِ الْمَذْكُورِ، الَّذِي جُعِلَ هُوَ وَحَقِيقَتُهُ مَنَاطًا لِلْأَحْكَامِ شَرْعًا.

ص: 327

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قَوْلُهُ: " بِدَلِيلِ عَدَمِ جَوَازِ تَقْلِيدِ الْمُجْتَهِدِ مِثْلَهُ " هَذَا تَقْرِيرٌ لِكَوْنِ الظَّنِّ مَنَاطَ التَّعَبُّدِ، أَيْ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الظَّنَّ مَنَاطُ التَّعَبُّدِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ مُجْتَهِدٍ مِثْلِهِ، كَمَا ذَكَرَ فِي آخِرِ " الْمُخْتَصَرِ "، وَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ سبحانه وتعالى. وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّ ظَنَّ الْمُجْتَهِدِ جُعِلَ مَنَاطًا لِتَعَبُّدِهِ، فَأَيُّ شَيْءٍ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، كَانَ ذَلِكَ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ. وَالَّذِي يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ غَيْرِهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ لَيْسَ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّهِ، بَلْ فِي حَقِّ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ، لِجَوَازِ تَفَاوُتِ الِاجْتِهَادَيْنِ بِأَنْ يُخْطِئَ أَحَدُهُمَا، وَيُصِيبَ الْآخَرُ، فَأُلْزِمَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُقْتَضَى اجْتِهَادِهِ، لِأَنَّهُ كَسْبُهُ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ. لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ. فَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي حَقِّ هَذَا الْمُكَلَّفِ الْمَذْكُورِ: يَلْزَمُهُ مُقْتَضَى ظَنِّهِ، لِأَنَّهُ مَنَاطُ تَكْلِيفِهِ، بِدَلِيلِ شَوَاهِدِ الشَّرِيعَةِ، فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّهِ، دُونَ مَا ثَبَتَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ.

وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ فِي الرَّدِّ عَلَى الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ طَرِيقَةً أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ جَمِيعَ الْوَقْتِ كَانَ وَقْتًا لِلْأَدَاءِ قَبْلَ ظَنِّ الْمُكَلَّفِ تَضْيِيقَهُ بِالْمَوْتِ، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، ثُمَّ ظَنَّ الْمُكَلَّفُ الْمَذْكُورُ إِنَّمَا أَثَّرَ فِي تَأْثِيمِهِ بِالتَّأْخِيرِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَأْثِيمِهِ بِالتَّأْخِيرِ مُخَالَفَةُ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ بَقَاءُ الْوَقْتِ الْأَصْلِيِّ وَقْتًا لِلْأَدَاءِ فِي حَقِّهِ، كَمَا لَوْ أَخَّرَ الْوَاجِبَ الْمُوَسَّعَ مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ، فَإِنَّ وَقْتَ الْأَدَاءِ الْأَصْلِيِّ بَاقٍ فِي حَقِّهِ، وَقَدْ وَافَقَ الْقَاضِي عَلَى ذَلِكَ.

ص: 328

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قُلْتُ: وَهَذَا قَدْ لَاحَ مِنْهُ مَنْزَعٌ صَعْبٌ عَلَى الْقَاضِي. وَهُوَ أَنَّ الْأَدَاءَ وَالْقَضَاءَ وَنَحْوَهُ، مِنْ بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ، وَالْإِثْمُ عَلَى التَّأْخِيرِ مِنْ بَابِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ، وَظَنُّ الْمُكَلَّفِ إِنَّمَا يُنَاسِبُ تَأْثِيرَهُ فِي الْأُمُورِ التَّكْلِيفِيَّةِ، فَيَقْلِبُ حَقَائِقَهَا، لِأَنَّهَا أُمُورٌ تَقْدِيرِيَّةٌ أَوْ إِلْزَامِيَّةٌ، كَالْإِثْمِ وَالثَّوَابِ، فَجَازَ أَنْ تَتْبَعَ الظُّنُونَ وَالِاعْتِقَادَاتِ، أَمَّا الْأُمُورُ الْوَضْعِيَّةُ كَأَوْقَاتِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِهَا، فَلَا يَقْوَى ظَنُّ الْمُكَلَّفِ عَلَى قَلْبِ حَقَائِقِهَا. وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَ الْقَاضِي: إِنَّ بِمُقْتَضَى ظَنِّ هَذَا الْمُكَلَّفِ صَارَ وَقْتُ الْأَدَاءِ الْأَصْلِيُّ وَقْتَ قَضَاءٍ فِي حَقِّهِ هُوَ قَلْبٌ لِحَقِيقَةِ أَمْرٍ وَضْعِيٍّ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى ثُبُوتِهِ. أَمَّا الصُّورَةُ الَّتِي قَاسَ عَلَيْهَا الْآمِدِيُّ، وَهِيَ تَأْخِيرُ الْمُوَسَّعِ بِدُونِ الْعَزْمِ، فَلِلْقَاضِي أَنَّ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا، بِأَنَّ هَذَا الْمُكَلَّفَ لَمَّا أَخَّرَ الْوَاجِبَ مَعَ ظَنِّ الْمَوْتِ قَبْلَ فِعْلِهِ، حَصَلَ هُنَا ظَنٌّ نَاسَبَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَالظَّنُّ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ. بِخِلَافِ مَا إِذَا أَخَّرَ الْوَاجِبَ تَارِكًا لِلْعَزْمِ عَلَى فِعْلِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ عَصَى مَعْصِيَةً عَدَمِيَّةً، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهَا، فَلَا يَقْوَى عَلَى مُنَاسَبَةِ تَغْيِيرِ أَمْرٍ وَضْعِيٍّ، بِخِلَافِ الظَّنِّ الْوُجُودِيِّ، الَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مَنَاطُ تَكْلِيفِهِ، وَأَمَارَةُ أَحْكَامِ الشَّرْعِ فِي حَقِّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

تَنْبِيهٌ: نَحْنُ إِلَى الْآنَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ وَفُرُوعِهِ، بِحَسَبِ تَقْرِيرِ مَا فِي «الْمُخْتَصَرِ» فَلْنَذْكُرْ هَاهُنَا فِيهِ أَبْحَاثًا مِنْ بَابِ التَّحْقِيقِ وَالتَّكْمِلَةِ لَهُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: النَّاسُ إِمَّا مُنْكِرٌ لِلْمُوَسَّعِ، أَوْ مُثْبِتٌ لَهُ، وَالْمُنْكِرُ إِمَّا مُخَصِّصٌ لِلْوُجُوبِ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ، أَوْ بِآخِرِهِ، أَوْ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ.

ص: 329

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، فَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى الشَّافِعِيَّةِ، مَنْقُولٌ مِنْ كُتُبِ الْأُصُولِ عَلَى مَا حَكَاهُ الْقَرَافِيُّ.

قُلْتُ: وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِمْ فِي الْمَغْرِبِ: يَنْقَضِي وَقْتُهَا بِمُضِيِّ قَدْرِ وُضُوءٍ، وَسَتْرِ عَوْرَةٍ، وَأَذَانٍ، وَإِقَامَةٍ، وَخَمْسِ رَكَعَاتٍ، لَكِنَّهُمُ الْيَوْمَ قَائِلُونَ بِالْمُوَسَّعِ، مُنْكِرُونَ لِخِلَافِهِ، وَمَدْرَكُ قَوْلِهِمْ فِي الْمَغْرِبِ سَمْعِي، مَعَ أَنَّ الْقَدِيمَ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّ لَهَا وَقْتَيْنِ كَغَيْرِهَا، وَرَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ فِي «الْمِنْهَاجِ» .

وَوَجْهُ هَذَا الْمَذْهَبِ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ بِهِ: أَنَّ الْوَقْتَ سَبَبُ الْوُجُوبِ، وَبِدُخُولِ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهُ يَتَحَقَّقُ دُخُولُهُ بِتَحَقُّقِ السَّبَبِ، وَالْأَصْلُ تَرَتُّبُ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى أَسْبَابِهَا، فَيَتَعَلَّقُ الْوُجُوبُ بِمَا تَحَقَّقَتْ بِهِ سَبَبِيَّتُهُ، وَهُوَ أَوَّلُ الْوَقْتِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْوَاقِعُ بَعْدَ ذَلِكَ قَضَاءً، سَدَّ مَسَدَّ الْأَدَاءِ.

وَضُعِّفَ هَذَا الْمَذْهَبُ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ الْإِذْنُ فِي تَفْوِيتِ الْأَدَاءِ لِفِعْلِ الْقَضَاءِ، لِغَيْرِ عُذْرٍ، لِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الصَّلَوَاتِ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَهَذَا غَيْرُ مَعْهُودٍ فِي الشَّرِيعَةِ، بِخِلَافِ تَفْوِيتِ الْأَدَاءِ لِفِعْلِ الْقَضَاءِ لِعُذْرٍ، كَمَا فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ وَالْحَائِضِ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَعْهُودٌ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ تَخْصِيصُ الْوُجُوبِ بِآخِرِ الْوَقْتِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ، قَالُوا: لِأَنَّ الشَّيْءَ يَدُورُ مَعَ خَاصَّتِهِ وُجُودًا وَعَدَمًا، يَثْبُتُ لِثُبُوتِهَا، وَيَنْتَفِي لِانْتِفَائِهَا. وَخَاصَّةُ الْوُجُوبِ الْإِثْمُ عَلَى التَّرْكِ، وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ

ص: 330

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَوَسَطِهِ، ثَابِتَةٌ فِي آخِرِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ وَقْتُ الْوُجُوبِ لَا غَيْرُ.

وَيَرُدُّ عَلَى هَذَا، أَنَّ إِيقَاعَ الْفِعْلِ قَبْلَ آخِرِ الْوَقْتِ لَا يَكُونُ وَاجِبًا، وَإِجْزَاءُ غَيْرِ الْوَاجِبِ عَنِ الْوَاجِبِ خِلَافُ الْأَصْلِ وَالْقَوَاعِدِ، وَالرُّخْصَةُ لَمْ يَقُمْ دَلِيلُهَا فِي الصَّلَاةِ، بِخِلَافِهَا فِي الزَّكَاةِ.

وَالْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، مِنْهُ قَوْلَانِ لِلْكَرْخِيِّ الْمُتَقَدِّمُ حِكَايَتُهُمَا فِي الْكَلَامِ عَلَى عِبَارَةِ «الْمُخْتَصَرِ» :

أَحَدُهُمَا: إِنْ بَقِيَ الْفَاعِلُ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ بِصِفَةِ التَّكْلِيفِ، كَانَ مَا فَعَلَهُ أَوَّلَ الْوَقْتِ وَاجِبًا، فَمَا أَجْزَأَ عَنِ الْوَاجِبِ إِلَّا وَاجِبٌ، وَإِلَّا كَانَ نَفْلًا.

وَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْفِعْلَ يَكُونُ مَوْقُوفًا مِنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ إِلَى آخِرِهِ، لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ نَفْلٌ وَلَا فَرْضٌ، وَهُوَ خِلَافُ الْقَوَاعِدِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي لَهُ: أَنَّ زَمَنَ الْوُجُوبِ يَتَعَيَّنُ بِالشُّرُوعِ وَالْإِيقَاعِ، بِمَعْنَى أَنَّ زَمَنَ الْوُجُوبِ هُوَ زَمَنُ الْإِيقَاعِ، أَيَّ وَقْتٍ كَانَ لَا يَتَعَدَّاهُ، حَذَرًا مِنَ الْإِشْكَالَاتِ السَّابِقَةِ.

وَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ تَحَقُّقَ الْوُجُوبِ لَابُدَّ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْفِعْلَ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، يَكُونُ الْوُجُوبُ تَابِعًا لِلْفِعْلِ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْهُودٍ.

ثُمَّ قَوْلٌ خَامِسٌ لِمُنْكِرِي الْمُوَسَّعِ، ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ وَلَمْ أُحَقِّقْهُ أَنَا، وَكَأَنَّهُ مُكَرَّرٌ أَوْ مُتَدَاخِلٌ مَعَ مَا سَبَقَ، فَلَمْ أَذْكُرْهُ.

ص: 331

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَأَمَّا الْمُثْبِتُ لِلْمُوَسَّعِ، وَهُمْ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ، وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَصِفَتُهُ مَا سَبَقَ فِي الْكَلَامِ عَلَى «الْمُخْتَصَرِ» .

وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ - وَهُوَ الْبَحْثُ الثَّانِي هَاهُنَا - أَنَّ الْخِطَابَ فِي الْمُوَسَّعِ وَالْمُخَيَّرِ وَفَرْضِ الْكِفَايَةِ جَمِيعًا مُتَعَلِّقٌ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، فَيَجِبُ تَحْصِيلُهُ، وَيَحْرُمُ تَعْطِيلُهُ.

فَالْمُشْتَرَكُ فِي الْمُوَسَّعِ وَهُوَ مَفْهُومُ الزَّمَانِ وَمُطْلَقُهُ مِنَ الْوَقْتِ الْمُقَرَّرِ الْمَحْدُودِ شَرْعًا، بِمَعْنَى أَنَّ الْوَاجِبَ إِيقَاعُهُ فِيمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ زَمَنٍ مِنْ أَزْمِنَةِ الْوَقْتِ الشَّرْعِيِّ. أَعْنِي مَا بَيْنَ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى أَنَّ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ فِي الظُّهْرِ مَثَلًا، فَمَتَى أَوْقَعَ الصَّلَاةَ فِي هَذَا الزَّمَنِ الْمُطْلَقِ كَانَ آتِيًا بِالْمُشْتَرَكِ، فَيَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ أَدَاءً، وَإِنْ أَخَّرَهُ حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ الشَّرْعِيُّ، كَانَ مُعَطَّلًا لِلْمُشْتَرَكِ عَنِ الْعِبَادَةِ الْوَاجِبَةِ فِيهِ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّأْخِيرُ، وَيَلْزَمُهُ اسْتِدْرَاكُهُ قَضَاءً.

وَالْمُشْتَرَكُ فِي الْمُخَيَّرِ هُوَ مَفْهُومُ أَحَدِ الْخِصَالِ، فَهُوَ مُتَعَلِّقُ الْوُجُوبِ وَأَمَّا مُتَعَلِّقُ التَّخْيِيرِ، فَهُوَ خُصُوصِيَّاتُ الْخِصَالِ، مِنْ إِطْعَامٍ أَوْ كُسْوَةٍ أَوْ عِتْقٍ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِإِحْدَى الْخِصَالِ وَلَا بُدَّ، وَهُوَ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ جَمِيعِهَا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا يَصْدُقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا إِحْدَى الْخِصَالِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَرْكُ الْجَمِيعِ، لِئَلَّا يَتَعَطَّلَ الْمُشْتَرَكُ، لِأَنَّ الْجَمِيعَ أَعَمُّ مِنَ الْمُشْتَرَكِ، وَتَارِكُ الْأَعَمِّ تَارِكٌ لِلْأَخَصِّ وَمُعَطِّلٌ لَهُ، وَلَهُ

ص: 332

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْخِيَارُ بَيْنَ خُصُوصِيَّاتِ الْخِصَالِ، إِنْ شَاءَ أَطْعَمَ، أَوْ كَسَا، أَوْ عَتَقَ، فَالْوَاجِبُ - وَهُوَ الْمُشْتَرَكُ - لَا تَخْيِيرَ فِيهِ، إِذْ لَا قَائِلَ بِأَنَّهُ إِنْ شَاءَ فَعَلَ إِحْدَى الْخِصَالِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَالْمُخَيَّرُ فِيهِ - وَهُوَ خُصُوصِيَّاتُ الْخِصَالِ - لَا وُجُوبَ فِيهِ، إِذْ لَا قَائِلَ بِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْخِصَالِ عَلَى الْجَمْعِ.

وَالْمُشْتَرَكُ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ هُوَ مَفْهُومُ أَيِّ طَوَائِفِ الْمُكَلَّفِينَ، كَإِحْدَى الْخِصَالِ فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، غَيْرَ أَنَّ الْخِطَابَ تَعَلَّقَ بِالْجَمِيعِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، لِتَعَذُّرِ خِطَابِ بَعْضِ مَجْهُولٍ أَوْ مُعَيَّنٍ، مَعَ تَسَاوِي الْجَمِيعِ فِيهِ، فَيَكُونُ تَرْجِيحًا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، وَلَا جَرَمَ أَنَّهُ سَقَطَ الْوُجُوبُ عَنِ الْجَمِيعِ بِفِعْلِ إِحْدَى الطَّوَائِفِ، لِحُصُولِ الْمُشْتَرَكِ الْوَافِي بِالْمَقْصُودِ، وَأَثِمَ الْجَمِيعُ بِتَرْكِ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ لَهُ، لِتَعَطُّلِ الْمُشْتَرَكِ، فَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي الْأَبْوَابِ الثَّلَاثَةِ.

الْبَحْثُ الثَّالِثُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَبْوَابِ الثَّلَاثَةِ: وَهُوَ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمُكَلَّفُ، وَفِي الْمُخَيَّرِ هُوَ الْوَاجِبُ نَفْسُهُ، وَهُوَ إِحْدَى الْخِصَالِ، وَفِي الْمُوَسَّعِ هُوَ الْوَاجِبُ فِيهِ، وَهُوَ الزَّمَانُ.

وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ عَنَّا سُؤَالٌ قَدْ يَسْتَصْعِبُ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: لِمَ لَمْ تَقُولُوا: إِنَّ الْوَاجِبَ فِي الْمُخَيَّرِ جَمِيعُ الْخِصَالِ، وَيَسْقُطُ بِفِعْلِ بَعْضِهَا، كَمَا قُلْتُمْ: إِنَّ الْوُجُوبَ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ عَلَى الْجَمِيعِ، وَيَسْقُطُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ؟ فَيُقَالُ: لِأَنَّ إِيجَابَ أَحَدِ

ص: 333

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

هَذَيْنِ، أَوْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى زَيْدٍ مَعْقُولٌ، وَيُجْعَلُ الْخِيَارُ فِي التَّعْيِينِ إِلَيْهِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَعْطِيلُ الْوَاجِبِ. بِخِلَافِ إِيجَابِ شَيْءٍ مَا عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ، أَوْ هَؤُلَاءِ الْأَشْخَاصِ، لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى أَنْ يَتَوَاكَلُوا، وَيُحِيلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَا مُرَجِّحَ فِيهِ، فَيَتَعَطَّلُ الْوَاجِبُ بِالْكُلِّيَّةِ، إِلَّا أَنْ يَعُودَ الْمُوجِبُ، فَيُعَيِّنَ لِلْفِعْلِ أَحَدَهُمْ، فَيَكُونَ إِيجَابًا مُبْتَدَأً مُعَيَّنًا، لَكِنْ فِيهِ تَطْوِيلٌ لِطَرِيقِ تَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ الْوَاجِبِ، وَتَمَادٍ فِي إِيقَاعِهَا، فَكَانَ مَا سَلَكْنَاهُ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ أَقْرَبُ، وَهُوَ أَنْ يُخَاطَبَ الْجَمِيعُ بِالْوَاجِبِ، فَإِذَا عَلِمُوا ذَلِكَ تَوَفَّرَتْ دَوَاعِيهِمْ، أَوْ دَاعِيَةُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ عَلَى الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ، فَيَخْرُجُ الْجَمِيعُ بِذَلِكَ، وَلَا يَسَعُهُمُ التَّوَاكُلُ.

ص: 334

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ

مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ، إِمَّا غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلْمُكَلَّفِ، كَالْقُدْرَةِ وَالْيَدِ فِي الْكِتَابَةِ، وَحُضُورِ الْإِمَامِ وَالْعَدَدِ فِي الْجُمُعَةِ، فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، إِلَّا عَلَى تَكْلِيفِ الْمُحَالِ. أَوْ مَقْدُورٌ، فَإِنْ كَانَ شَرْطًا، كَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ، وَالسَّعْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ، فَهُوَ وَاجِبٌ إِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِعَدَمِ إِيجَابِهِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ شَرْطًا.

ــ

«الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ»

مِنْ مَسَائِلِ الْوَاجِبِ: فِيمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ، وَقَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَسْأَلَةِ «الْمُخْتَصَرِ» ، نَذْكُرُ تَحْقِيقًا، وَهُوَ أَنَّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُوبُ الْوَاجِبِ، فَلَا يَجِبُ إِجْمَاعًا، سَوَاءً كَانَ سَبَبًا، أَوْ شَرْطًا، أَوِ انْتِفَاءَ مَانِعٍ.

فَالسَّبَبُ، كَالنِّصَابِ، يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُوبُ الزَّكَاةِ، فَلَا يَجِبُ تَحْصِيلُهُ عَلَى الْمُكَلَّفِ، لِتَجِبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ.

وَالشَّرْطُ، كَالْإِقَامَةِ، هِيَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ أَدَاءِ الصَّوْمِ، فَلَا يَجِبُ تَحْصِيلُهَا إِذَا عَرَضَ مُقْتَضَى السَّفَرِ، لِيَجِبَ عَلَيْهِ فِعْلُ الصَّوْمِ.

وَالْمَانِعُ، كَالدَّيْنِ، لَا يَجِبُ نَفْيُهُ لِتَجِبَ الزَّكَاةُ.

وَأَمَّا مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ إِيقَاعُ الْوَاجِبِ، فَالنِّزَاعُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيهِ.

قَوْلُهُ: «مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ إِمَّا غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلْمُكَلَّفِ» إِلَى آخِرِهِ، مَعْنَاهُ: أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ ضَرْبَانِ:

أَحَدُهُمَا: غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلْمُكَلَّفِ، أَيْ: لَيْسَ فِي قُدْرَتِهِ وَوُسْعِهِ وَطَاقَتِهِ تَحْصِيلُهُ، وَلَا هُوَ إِلَيْهِ، كَالْقُدْرَةِ وَالْيَدِ فِي الْكِتَابَةِ، فَإِنَّهُمَا شَرْطٌ فِيهَا، وَهُمَا مَخْلُوقَانِ لِلَّهِ تَعَالَى

ص: 335

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَالْمُكَلَّفُ، لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى إِيجَادِهِمَا. وَحُضُورُ الْإِمَامِ وَالْعَدَدِ الْمُشْتَرَطِ لِلْجُمُعَةِ فِي الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُمَا شَرْطٌ لَهَا، وَلَيْسَ إِلَى آحَادِ الْمُكَلَّفِينَ بِالْجُمُعَةِ إِحْضَارُ الْخَطِيبِ لِيُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ، وَلَا إِحْضَارُ آحَادِ النَّاسِ لِيُتِمَّ بِهِمُ الْعَدَدَ، فَهَذَا الضَّرْبُ غَيْرُ وَاجِبٍ إِلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِتَكْلِيفِ الْمُحَالِ، لِأَنَّهُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِهِ، لِأَنَّ مَنْ قِيلَ لَهُ: أَوْجَبْنَا عَلَيْكَ أَنْ تَعْمَلَ لِنَفْسِكَ قُدْرَةً وَيَدًا، ثُمَّ تَكْتُبُ، فَقَدْ كُلِّفَ مُحَالًا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَهَذَا الضَّرْبُ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الشُّرُوطِ الَّتِي لَا يَجِبُ تَحْصِيلُهَا كَمَا سَبَقَ، لِأَنَّ الْيَدَ وَالْقُدْرَةَ شَرْطَانِ لِصِحَّةِ الْكِتَابَةِ عَقْلًا، وَحُضُورُ الْإِمَامِ وَالْعَدَدِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْجُمُعَةِ شَرْعًا.

الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا هُوَ مَقْدُورٌ لِلْمُكَلَّفِ، ثُمَّ هُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِوُقُوعِ الْفِعْلِ، أَوْ غَيْرَ شَرْطٍ، فَإِنْ كَانَ شَرْطًا كَالطَّهَارَةِ وَسَائِرِ الشُّرُوطِ لِلصَّلَاةِ، وَكَالسَّعْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ، فَإِنْ صَرَّحَ بِعَدَمِ إِيجَابِهِ، كَقَوْلِهِ: صَلِّ، وَلَا أُوجِبُ عَلَيْكَ الْوُضُوءَ، لَمْ يَجِبْ عَمَلًا بِمُوجِبِ التَّصْرِيحِ، وَإِنْ صَرَّحَ بِإِيجَابِهِ، وَجَبَ لِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِإِيجَابٍ وَلَا عَدَمِهِ، بَلْ أَطْلَقَ، وَجَبَ أَيْضًا عِنْدَنَا، وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ.

وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا يَجِبُ، وَإِلَى التَّقْسِيمِ الْمَذْكُورِ أَشَرْتُ. فَهُوَ وَاجِبٌ إِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِعَدَمِ إِيجَابِهِ، فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ الْقِسْمَانِ الْأَخِيرَانِ، وَهُوَ مَا إِذَا صَرَّحَ بِالْإِيجَابِ أَوْ أَطْلَقَ.

قَوْلُهُ: «وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ شَرْطًا» هُوَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُقُوعُ الْوَاجِبِ لَوْ لَمْ يَجِبْ، لَمْ يَكُنْ شَرْطًا لِلْوَاجِبِ، لَكِنَّهُ شَرْطٌ لَهُ، فَيَكُونُ وَاجِبًا.

أَمَّا الْمُلَازَمَةُ، فَلِأَنَّ الْوُجُوبَ مِنْ لَوَازِمِ الشَّرْطِ، لِأَنَّ كُلَّ شَرْطٍ فِي شَيْءٍ فَهُوَ وَاجِبٌ لَهُ. وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ هَذَا الْمُتَنَازَعَ فِيهِ شَرْطٌ، فَلِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ شَرْطٌ، وَإِذَا كَانَ شَرْطًا، كَانَ وَاجِبًا، لِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ الْوَاجِبَ لَازِمٌ لِلشَّرْطِ، وَوُجُودُ الْمَلْزُومِ - الَّذِي هُوَ الشَّرْطُ

ص: 336

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

هُنَا - يُوجِبُ وُجُودَ اللَّازِمِ - الَّذِي هُوَ الْوَاجِبُ -، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْمُتَنَازَعُ فِيهِ شَرْطًا، وَالْفَرْضُ أَنَّهُ شَرْطٌ. هَذَا خُلْفٌ.

وَتَلْخِيصُ الدَّلِيلِ: لَوْ لَمْ يَكُنْ شَرْطُ الْفِعْلِ وَاجِبًا، لَمَا كَانَ شَرْطًا، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ شَرْطًا، هَذَا تَنَاقُضٌ.

ص: 337

فَإِنْ قِيلَ: الْخِطَابُ اسْتِدْعَاءُ الْمَشْرُوطِ، فَأَيْنَ دَلِيلُ وُجُوبِ الشَّرْطِ؟ قُلْنَا: الشَّرْطُ لَازِمٌ لِلْمَشْرُوطِ، وَالْأَمْرُ بِاللَّازِمِ مِنْ لَوَازِمِ الْأَمْرِ بِالْمَلْزُومِ، وَإِلَّا كَانَ تَكْلِيفًا بِالْمُحَالِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا، لَمْ يَجِبْ، خِلَافًا لِلْأَكْثَرِينَ.

قَالُوا: لَابُدَّ مِنْهُ فِيهِ.

قُلْنَا: لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَإِلَّا لَوَجَبَتْ نِيَّتُهُ، وَلَزِمَ تَعَقُّلُ الْمُوجِبِ لَهُ، وَعُصِيَ بِتَرْكِهِ بِتَقْدِيرِ إِمْكَانِ انْفِكَاكِهِ.

ــ

قَوْلُهُ: «فَإِنْ قِيلَ» إِلَى آخِرِهِ، هَذَا اعْتِرَاضٌ عَلَى الْقَوْلِ بِإِيجَابِ الشَّرْطِ.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْخِطَابَ إِنَّمَا اسْتَدْعَى الْمَشْرُوطَ - وَهُوَ الصَّلَاةُ مَثَلًا - فِي قَوْلِهِ: صَلِّ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِإِيجَابِ الشَّرْطِ، وَهُوَ الْوُضُوءُ، وَالسُّتْرَةِ، وَالِاسْتِقْبَالُ، وَغَيْرُهَا، وَمَعَ عَدَمِ التَّصْرِيحِ بِإِيجَابِهِ لَا دَلِيلَ عَلَى وُجُوبِهِ، فَأَيْنَ دَلِيلُهُ؟

قَوْلُهُ: «قُلْنَا: الشَّرْطُ لَازِمٌ لِلْمَشْرُوطِ» إِلَى آخِرِهِ، هَذَا جَوَابُ الِاعْتِرَاضِ الْمَذْكُورِ.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الشَّرْطَ لَازِمٌ لِلْمَشْرُوطِ، أَيْ: لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ، كَمَا لَا يَنْفَكُّ الْجِدَارُ عَنِ السَّقْفِ، حَيْثُ كَانَ لَازِمًا لَهُ، «وَالْأَمْرُ مِنْ لَوَازِمِ الْأَمْرِ بِالْمَلْزُومِ» أَيْ: يَلْزَمُ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَلْزُومِ - وَهُوَ الصَّلَاةُ هَاهُنَا - الْأَمْرَ بِاللَّازِمِ، وَهُوَ الْوُضُوءُ، كَمَا يَلْزَمُ مِنَ الْأَمْرِ بِبِنَاءِ السَّقْفِ الْأَمْرُ بِبِنَاءِ الْحَائِطِ عَقْلًا «وَإِلَّا» أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ بِاللَّازِمِ مِنْ لَوَازِمِ الْأَمْرِ بِالْمَلْزُومِ، لَكَانَ تَكْلِيفًا بِالْمُحَالِ، إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: صَلِّ صَلَاةً شَرْعِيَّةً، مِنْ

ص: 338

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

شَرْطِ صِحَّتِهَا الْوُضُوءُ، وَلَسْتَ مَأْمُورًا بِهِ، أَوْ بِغَيْرِ وُضُوءٍ. وَوُجُودُ صَلَاةٍ شَرْعِيَّةٍ بِدُونِ وُضُوءٍ مُحَالٌ، كَمَا أَنَّ وُجُودَ سَقْفٍ لَا جِدَارَ تَحْتَهُ يَلْزَمُهُ مُحَالٌ.

قَوْلُهُ: «وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ» ، أَيْ: عَدَمُ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ، لَا أَنَّا نَمْنَعُ جَوَازَهُ، إِذْ قَدْ قَرَّرْنَاهُ فِيمَا سَبَقَ، فَلَا يَسَعُنَا هَاهُنَا مَنْعُهُ، بَلْ هُوَ جَائِزٌ، لَكِنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ. وَلِأَنَّ التَّكَالِيفَ الشَّرْعِيَّةَ الْفَرْعِيَّةَ لَمْ يَقَعْ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْمُحَالِ، فَجَعْلُ هَذَا الْحُكْمِ مِنْهَا أَوْلَى مِنْ إِخْرَاجِهِ عَنْهَا. وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ تَكْلِيفَ الْمُحَالِ لَمْ يَقَعْ إِلَّا فِي خَلْقِ الْأَفْعَالِ.

وَتَلْخِيصُ هَذَا الْجَوَابِ: أَنَّهُ بِالْمَنْعِ، لِقَوْلِهِمْ: مَعَ عَدَمِ التَّصْرِيحِ بِإِيجَابِ الشَّرْطِ لَا دَلِيلَ عَلَى وُجُوبِهِ.

وَمَعْنَاهُ: لَا نُسَلِّمُ انْحِصَارَ طَرِيقِ الْإِيجَابِ فِي التَّصْرِيحِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ الْإِيجَابُ تَصْرِيحًا وَمُطَابَقَةً، وَقَدْ يَكُونُ إِيمَاءً وَالْتِزَامًا، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الشَّرْطَ لَازِمٌ لِلْمَشْرُوطِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَلْزُومِ أَمْرٌ بِاللَّازِمِ.

قَوْلُهُ: «وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا» إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ شَرْطًا، كَمَسْحِ جُزْءٍ مِنَ الرَّأْسِ فِي غَسْلِ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ، وَإِمْسَاكِ جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ مَعَ النَّهَارِ فِي الصَّوْمِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ لَيْسَ شَرْطًا فِي الْوُضُوءِ، وَالثَّانِي لَيْسَ شَرْطًا فِي الصَّوْمِ، بِخِلَافِ النِّيَّةِ فِيهِمَا، وَالْوُضُوءِ فِي الصَّلَاةِ، فَهَذَا لَا يَجِبُ، خِلَافًا لِلْأَكْثَرِينَ، حَيْثُ قَالُوا بِوُجُوبِهِ.

قَوْلُهُ: «قَالُوا: لَابُدَّ مِنْهُ فِيهِ» . هَذَا دَلِيلُ الْأَكْثَرِينَ عَلَى وُجُوبِهِ.

ص: 339

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ لَابُدَّ مِنْهُ فِي الْوَاجِبِ، وَمَا لَابُدَّ مِنْهُ فِي الْوَاجِبِ يَكُونُ وَاجِبًا.

أَمَّا الْأُولَى: فَبِاتِّفَاقٍ. إِذْ لَابُدَّ فِي الْوُضُوءِ مِنْ غَسْلِ جُزْءٍ مِنَ الرَّأْسِ.

وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَلِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ اللَّازِمُ، وَمَا لَابُدَّ مِنْهُ لَازِمٌ، فَمَا لَابُدَّ مِنْهُ وَاجِبٌ، فَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ وَاجِبٌ.

قَوْلُهُ: «قُلْنَا: لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ» أَيْ: كَوْنُ مَا لَا يُتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ لَابُدَّ مِنْهُ فِي الْوَاجِبِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، فَلَا يَكُونُ وَاجِبًا. أَمَّا أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، فَلِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا: لَابُدَّ مِنَ الشَّيْءِ أَنَّ فِعْلَهُ لَازِمٌ، لَكِنَّ اللُّزُومَ تَارَةً شَرْعِيٌّ، وَتَارَةً عَقْلِيٌّ، وَالشَّرْعِيُّ مُنْتَفٍ، لِانْتِفَاءِ الْخِطَابِ الْمُقْتَضِي، إِذِ الْكَلَامُ فِيمَا إِذَا كَانَ الْأَمْرُ بِالْوَاجِبِ مُطْلَقًا، لِمَنْ يَتَعَرَّضُ لِمَا لَمْ يَتِمَّ إِلَّا بِهِ نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا. وَالْعَقْلِيُّ أَيْضًا. مُنْتَفٍ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ الْوَاجِبُ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ اللُّزُومَ الْعَقْلِيَّ مَوْجُودٌ، لَكِنْ لَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ، إِذْ مَوْضُوعُ النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ اللُّزُومُ الشَّرْعِيُّ. أَعْنِي مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ الشَّرْعِيُّ شَرْعًا إِلَّا بِهِ، وَلَيْسَ شَرْطًا فِيهِ.

وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّ الْخِطَابَ الشَّرْعِيَّ مُنْتَفٍ فَيَنْتَفِي الْوُجُوبُ.

قُلْتُ: وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ يَلْزَمُ نَافِي الْوُجُوبِ هُنَا مَا لَزِمَ نَافِيهِ فِي الْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَهُوَ أَنَّ مَا لَابُدَّ مِنْهُ فِي الْوَاجِبِ هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَلْزُومِ أَمْرٌ بِاللَّازِمِ. وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَمَدَارُ حُجَّةِ الْمُثْبِتِينَ هَاهُنَا عَلَيْهِ.

ص: 340

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قَوْلُهُ: «وَإِلَّا لَوَجَبَتْ نِيَّتُهُ إِلَى آخِرِهِ» هَذِهِ إِلْزَامَاتٌ ثَلَاثَةٌ، تُلْزِمُ مَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ هُنَا. وَتَقْرِيرُهَا:

أَمَّا الْإِلْزَامُ الْأَوَّلُ، فَيُقَالُ: لَوْ كَانَ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ - وَهُوَ غَيْرُ شَرْطٍ - وَاجِبًا، لَوَجَبَتْ نِيَّتُهُ، أَيِ: النِّيَّةُ لِفِعْلِهِ، كَالنِّيَّةِ لِغَسْلِ جُزْءٍ مِنَ الرَّأْسِ، وَإِمْسَاكِ جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ، لَكِنْ لَا تَجِبُ نِيَّتُهُ بِاتِّفَاقٍ، فَلَا يَكُونُ وَاجِبًا. أَمَّا الْمُلَازَمَةُ، فَلِأَنَّ كُلَّ وَاجِبٍ تَجِبُ لَهُ النِّيَّةُ، لِأَنَّ كُلَّ وَاجِبٍ عِبَادَةٌ، وَكُلُّ عِبَادَةٍ تَجِبُ لَهَا النِّيَّةُ، فَكُلُّ وَاجِبٍ تَجِبُ لَهُ النِّيَّةُ. وَأَمَّا أَنَّهُ إِذَا لَمْ تَجِبُ نِيَّتُهُ لَا يَكُونُ وَاجِبًا، فَلِأَنَّ النِّيَّةَ مِنْ لَوَازِمِ الْوَاجِبِ، وَإِذَا انْتَفَى اللَّازِمُ انْتَفَى مَلْزُومُهُ.

فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ النِّيَّةَ مِنْ لَوَازِمِ الْوَاجِبِ، إِذْ بَعْضُ الْوَاجِبَاتِ لَا تَجِبُ فِيهَا النِّيَّةُ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ مَسَائِلِ الْوَاجِبِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُوبِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ وُجُوبُ نِيَّتِهِ.

قُلْنَا: النِّيَّةُ إِنَّمَا تَسْقُطُ فِي بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَوْنِهِ عِبَادَةً يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ فِعْلًا وَتَرْكًا، فَلَا، وَنَحْنُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ نَعْتَبِرُهُ، وَنَشْتَرِطُ فِيهِ النِّيَّةَ.

وَأَمَّا الْإِلْزَامُ الثَّانِي، فَيُقَالُ: لَوْ كَانَ هَذَا الَّذِي لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ وَاجِبًا، لَزِمَ تَعَقُّلُ الْمُوجِبِ لَهُ، أَيْ: لَزِمَ أَنْ يَتَعَقَّلَ الْمُكَلَّفُ مَنْ أَوْجَبَهُ عَلَيْهِ، لَكِنْ لَا يَجِبُ تَعَقُّلُ الْمُوجِبِ لَهُ، فَلَا يَكُونُ وَاجِبًا.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمُلَازَمَةَ صَحِيحَةٌ، إِذْ لَابُدَّ فِي الْوَاجِبِ مِنْ مُوجِبٍ لَهُ، يَلْزَمُ مِنْ تَعَقُّلِ الْوَاجِبِ تَعَقُّلُهُ، كَمَا يَلْزَمُ مِنْ تَعَقُّلِ الْفِعْلِ تَعَقُّلُ فَاعِلِهِ، وَمِنْ تَعَقُّلِ الْأَثَرِ تَعَقُّلُ

ص: 341

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

مُؤَثِّرِهِ، لَكِنَّ انْتِفَاءَ اللَّازِمِ - وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ تَعَقُّلُ الْمُوجِبِ لِمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ - مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ: لَمَّا دَلَّ الدَّلِيلُ الِالْتِزَامِيُّ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ جُزْءٍ مِنَ الرَّأْسِ مَعَ الْوَجْهِ تَحْقِيقًا لِغَسْلِ الْوَجْهِ، كَانَ الْمُوجِبُ لِغَسْلِ جُزْءٍ مِنَ الرَّأْسِ هُوَ الْمُوجِبُ لِغَسْلِ الْوَجْهِ، فَالْمُوجِبُ الْمُتَعَقَّلُ فِي غَسْلِ الْوَجْهِ هُوَ بِعَيْنِهِ مُتَعَقَّلٌ فِي غَسْلِ جُزْءٍ مِنَ الرَّأْسِ.

وَأَمَّا الْإِلْزَامُ الثَّالِثُ، فَيُقَالُ: لَوْ كَانَ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ وَاجِبًا، لَكَانَ بِتَقْدِيرِ انْفِكَاكِهِ عَنِ الْوَاجِبِ يَعْصِي الْمُكَلَّفُ بِتَرْكِهِ، لَكِنَّهُ لَا يَعْصِي بِتَرْكِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ إِمْكَانُ اسْتِيعَابِ غَسْلِ الْوَجْهِ بِدُونِ غَسْلِ شَيْءٍ مِنَ الرَّأْسِ وَاسْتِيعَابِ الْيَوْمِ بِدُونِ إِمْسَاكِ جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ، لَمَا عَصَى بِتَرْكِ الْجُزْءِ مِنْهُمَا، وَإِذَا لَمْ يَعْصِ بِتَرْكِهِ لَا يَكُونُ وَاجِبًا، لِأَنَّ الْعِصْيَانَ بِالتَّرْكِ مِنْ خَوَاصِّ الْوَاجِبِ، وَإِذَا انْتَفَتْ خَاصَّةُ الشَّيْءِ انْتَفَى ذَلِكَ الشَّيْءُ.

وَالِاعْتِرَاضُ عَلَى هَذَا الْإِلْزَامِ أَنْ يُقَالَ: الِانْفِكَاكُ الَّذِي قَدَّرْتُمُوهُ مُحَالٌ فِي الْعَادَةِ، لِأَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَ حَدِّ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ تَحْقِيقًا، بِحَيْثُ يُمْكِنُ اسْتِيعَابُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِحُكْمِهِ دُونَ جُزْءٍ مِنْ مُجَاوَرِهِ مِمَّا لَا قُوَّةَ لِلْبَشَرِ عَلَى تَحْقِيقِهِ، وَإِذَا كَانَ مُحَالًا فِي الْعَادَةِ جَازَ أَنْ يَلْزَمَهُ مُحَالٌ عَادِيٌّ، وَهُوَ عَدَمُ التَّعْصِيَةِ بِتَرْكِهِ، فَيَكُونُ عَدَمُ تَعْصِيَتِهِ بِتَرْكِهِ مُحَالًا لَازِمًا لِمُحَالٍ، وَالْمُحَالُ يَلْزَمُهُ الْمُحَالُ.

أَوْ يُقَالُ: الْوَاجِبُ شَرْعًا عَلَى وِزَانِ الْوَاجِبِ عَقْلًا، وَكَمَا أَنَّ الْوَاجِبَ عَقْلًا تَارَةً يَكُونُ وُجُوبُهُ لِذَاتِهِ، وَتَارَةً لِغَيْرِهِ. فَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ شَرْعًا، تَارَةً يَجِبُ قَصْدًا بِالنَّظَرِ إِلَى

ص: 342

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

نَفْسِهِ، وَتَارَةً يَجِبُ تَبَعًا بِالنَّظَرِ إِلَى غَيْرِهِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَإِنَّ غَسْلَ جُزْءٍ مِنَ الرَّأْسِ وَنَحْوَهُ لَيْسَ وَاجِبًا بِالْقَصْدِ، بَلْ تَبَعًا لِغَسْلِ الْوَجْهِ، مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ غَسْلُهُ إِلَّا بِهِ، فَإِذَا أَمْكَنَ اسْتِيعَابُ غَسْلِ الْوَجْهِ بِدُونِهِ انْتَفَتِ الْجِهَةُ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا وَجَبَ، وَعَادَ إِلَى جِهَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ وَهِيَ عَدَمُ الْوُجُوبِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ عَدَمُ وُجُوبِهِ بِتَقْدِيرِ الِانْفِكَاكِ مَحَلَّ وِفَاقٍ، خَارِجًا عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ مَادَامَ كَذَلِكَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ قَدْ يَتَعَارَضُ مِنْ جِهَتَيْنِ، فَيُرَجِّحُ أَهَمَّهُمَا، أَوْ يَتَوَقَّفُ إِنِ اسْتَوَيَا، وَذَلِكَ كَالْمُحْرِمَةِ يَجِبُ عَلَيْهَا كَشْفُ وَجْهِهَا، وَسَتْرُ رَأْسِهَا، وَلَابُدَّ فِي اسْتِيعَابِ كَشْفِ الْوَجْهِ مِنْ كَشْفِ جُزْءٍ مِنَ الرَّأْسِ، وَلَابُدَّ فِي اسْتِيعَابِ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ، مِنْ تَغْطِيَةِ جُزْءٍ مِنَ الْوَجْهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تُغَطِّيَ جُزْءًا مِنْ وَجْهِهَا تَبَعًا لِرَأْسِهَا، مُحَافَظَةً عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ، إِذْ أَمْرُهَا فِي الْإِحْرَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْفِيفِ لِذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكْشِفَ جُزْءًا مِنْ رَأْسِهَا تَبَعًا لِوَجْهِهَا، مُحَافَظَةً عَلَى وَظِيفَةِ الْإِحْرَامِ لِأَنَّهُ الْعِبَادَةُ الْحَاضِرَةُ النَّادِرَةُ.

تَنْبِيهٌ: قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: قَوْلُنَا: مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ أَوْلَى مِنْ قَوْلِنَا: يَجِبُ التَّوَصُّلُ إِلَى الْوَاجِبِ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، إِذْ قَوْلُنَا: يَجِبُ مَا لَيْسَ

ص: 343

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

بِوَاجِبٍ مُتَنَاقِضٌ.

قُلْتُ: وَلَا تَنَاقُضَ فِيهِ، وَإِنَّمَا تَابَعَ فِيهِ أَبَا حَامِدٍ رضي الله عنهما.

وَبَيَانُ عَدَمِ التَّنَاقُضِ فِيهِ: هُوَ أَنَّ مَوْضُوعَ إِثْبَاتِ الْوُجُوبِ وَنَفْيِهِ فِي الْعِبَارَةِ لَيْسَ مُتَّحِدًا، بَلْ مُتَعَدِّدًا، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ التَّنَاقُضُ لَوْ كَانَ مُتَّحِدًا، كَقَوْلِنَا: يَجِبُ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، أَوْ يَجِبُ التَّوَصُّلُ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَبَيَانُ تَعَدُّدِ مَوْضُوعِ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ قَوْلُنَا: يَجِبُ مَوْضُوعُهُ، أَيِ: التَّوَصُّلُ، فَهُوَ مُسْنَدٌ إِلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ لَهُ.

وَقَوْلُنَا بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ مَوْضُوعُهُ الَّذِي سُلِبَ عَنْهُ هُوَ «مَا» الَّتِي بِمَعْنَى الَّذِي.

وَتَقْدِيرُهُ بِالْمِثَالِ: يَجِبُ التَّوَصُّلُ إِلَى غَسْلِ الْوَجْهِ الْوَاجِبِ بِغَسْلِ جُزْءٍ مِنَ الرَّأْسِ، فَمَا صَارَ قَوْلُهُ يَجِبُ التَّوَصُّلُ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، كَقَوْلِهِ: يَجِبُ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ حَتَّى يَكُونَ مُتَنَاقِضًا، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ الْعِبَارَتَيْنِ سَوَاءٌ، لَكِنَّ قَوْلَنَا: يَجِبُ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي هَذَا الْبَابِ لَيْسَ مُتَنَاقِضًا، لِأَنَّ شَرْطَ التَّنَاقُضِ اتِّحَادُ الْجِهَةِ، وَهِيَ هَاهُنَا غَيْرُ مُتَّحِدَةٍ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: يَجِبُ مِنْ حَيْثُ تَوَقُّفِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ بِالنَّظَرِ إِلَى نَفْسِهِ كَمَا شَرَحْنَاهُ.

وَثَبَتَ بِهَذَا، أَنَّ قَوْلَنَا: مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ وَاجِبٌ، وَقَوْلَنَا: التَّوَصُّلُ إِلَى الْوَاجِبِ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، سَوَاءٌ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي مَقْصُودِ هَذَا الْبَابِ. وَإِنَّمَا فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ تَنَاقُضٌ لَفْظِيٌّ، لِكَوْنِهَا اشْتَمَلَتْ عَلَى إِثْبَاتِ لَفْظِ الْوُجُوبِ وَنَفْيِهِ، مَعَ اخْتِلَافِ مَحَلِّهِ، فَظَنَّاهُ تَنَاقُضًا مَعْنَوِيًّا، أَوْ لَعَلَّهُمَا كَرِهَا التَّنَاقُضَ اللَّفْظِيَّ فَعَدَلَا عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ص: 344

فَرْعَانِ

أَحَدُهُمَا: إِذَا اشْتَبَهَتْ أُخْتُهُ أَوْ زَوْجَتُهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ، أَوْ مَيْتَةٌ بِمُذَكَّاةٍ، حَرُمَتَا، إِحْدَاهُمَا بِالْأَصَالَةِ، وَالْأُخْرَى بِعَارِضِ الِاشْتِبَاهِ. وَقِيلَ: تُبَاحُ الْمُذَكَّاةُ وَالْأَجْنَبِيَّةُ، لَكِنْ يَجِبُ الْكَفُّ عَنْهُمَا، وَهُوَ تَنَاقُضٌ، إِذْ لَا مَعْنَى لِتَحْرِيمِهِمَا إِلَّا وُجُوبُ الْكَفِّ. وَلَعَلَّ هَذَا الْقَائِلَ، يَعْنِي أَنَّ تَحْرِيمَهُمَا عَرَضِيٌّ، وَتَحْرِيمُ الْأُخْرَيَيْنِ أَصْلِيٌّ، فَالْخِلَافُ إِذَنْ لَفْظِيٌّ.

ــ

قَوْلُهُ: «فَرْعَانِ»

يَعْنِي لِمَسْأَلَةٍ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ وَسِيلَةٌ إِلَى الْوَاجِبِ الْمَقْصُودِ.

ثُمَّ الْوَسِيلَةُ، إِمَّا أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَيْهَا وُجُودُ الْمَقْصُودِ، أَوْ وُجُودُ مَعْنًى فِي الْمَقْصُودِ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَقْصُودِ.

وَالتَّوَقُّفُ فِي الْأَوَّلِ، إِمَّا شَرْعِيٌّ، كَتَوَقُّفِ وُجُودِ الصَّلَاةِ عَلَى الطَّهَارَةِ، أَوْ عُرْفِيٌّ، كَتَوَقُّفِ وُجُودِ صُعُودِ السَّطْحِ عَلَى نَصْبِ السُّلَّمِ، أَوْ عَقْلِيٌّ، كَتَوَقُّفِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ أَوْ غَيْرِهِمَا عَلَى تَرْكِ الِاسْتِدْبَارِ.

وَالثَّانِي: كَإِيجَابِ خَمْسِ صَلَوَاتٍ لِتَعْيِينِ صَلَاةٍ مَنْسِيَّةٍ فِي نَفْسِهَا، أَوْ لِلْقَطْعِ بِفِعْلِهَا، وَكَالتَّوَقُّفِ عِنْدَ اشْتِبَاهِ النَّجِسِ بِالطَّاهِرِ، وَالْمَيْتَةِ بِالْمُذَكَّاةِ، وَالْمَنْكُوحَةِ بِالْأُخْتِ، وَكَغَسْلِ جُزْءٍ مِنَ الرَّأْسِ مَعَ الْوَجْهِ، وَإِمْسَاكِ جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ مَعَ النَّهَارِ فِي الصَّوْمِ تَحْصِيلًا لِلِاسْتِيعَابِ. وَهَذَا الْكَلَامُ كَالْمُقَدِّمَةِ عَلَى هَذَا الْفَرْعِ، لِأَنَّهُ كُلِّيٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ تَكْمِيلًا لِفَائِدَتِهِ.

قَوْلُهُ: «إِذَا اشْتَبَهَتْ أُخْتُهُ أَوْ زَوْجَتُهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ، أَوْ مَيْتَةٌ بِمُذَكَّاةٍ حَرُمَتَا» يَعْنِي الْأُخْتَ فِيمَا إِذَا اشْتَبَهَتْ بِأَجْنَبِيَّةٍ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهِمَا، وَالزَّوْجَةُ إِذَا اشْتَبَهَتْ

ص: 345

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

بِأَجْنَبِيَّةٍ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَطَأَهُمَا، وَالْمُذَكَّاةُ إِذَا اشْتَبَهَتْ بِالْمَيْتَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَهُمَا، «إِحْدَاهُمَا بِالْأَصَالَةِ» وَهِيَ الْأُخْتُ وَالْأَجْنَبِيَّةُ وَالْمَيْتَةُ، «وَالْأُخْرَى بِعَارِضِ الِاشْتِبَاهِ» وَهِيَ الزَّوْجَةُ وَالْمُذَكَّاةُ، لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ بِالْأَصَالَةِ يَجِبُ اجْتِنَابُهُ، وَلَا يَتِمُّ اجْتِنَابُهُ إِلَّا بِاجْتِنَابِ مَا اشْتَبَهَ بِهِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ، فَهُوَ وَاجِبٌ، فَاجْتِنَابُ مَا اشْتَبَهَ بِالْمُحَرَّمِ بِالْأَصَالَةِ وَاجِبٌ.

«وَقِيلَ: تُبَاحُ الْمُذَكَّاةُ وَالْأَجْنَبِيَّةُ، لَكِنْ يَجِبُ الْكَفُّ عَنْهُمَا. وَهُوَ تَنَاقُضٌ، إِذْ لَا مَعْنَى لِتَحْرِيمِهِمَا إِلَّا وُجُوبُ الْكَفِّ» عَنْهُمَا، فَقَوْلُهُ: يُبَاحَانِ وَيَجِبُ الْكَفُّ عَنْهُمَا، كَقَوْلِهِ: يُبَاحَانِ وَيَحْرُمَانِ.

قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَأَبُو حَامِدٍ: وَإِنَّمَا تَوَهَّمَ هَذَا مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لَهُمَا، قَائِمٌ بِذَاتَيْهِمَا، كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ بِالْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ مُتَعَلِّقَانِ بِالْفِعْلِ، وَهَمَا: الْإِذْنُ فِي الْفِعْلِ، وَوُجُوبُ الْكَفِّ، وَحِينَئِذٍ يَتَحَقَّقُ التَّنَاقُضُ.

قَوْلُهُ: «وَلَعَلَّ هَذَا الْقَائِلَ» إِلَى آخِرِهِ، هَذَا مُحَاوَلَةٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ قَوْلَ هَذَا الْقَائِلِ: يُبَاحَانِ، وَيَجِبُ الْكَفُّ عَنْهُمَا، يُرِيدُ أَنَّ تَحْرِيمَهُمَا - يَعْنِي تَحْرِيمَ الْأَجْنَبِيَّةِ وَالْمُذَكَّاةِ - عَرَضِيٌّ، أَيْ: بِعَارِضِ الِاشْتِبَاهِ كَمَا سَبَقَ، وَهُمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُبَاحَانِ، وَتَحْرِيمَ الْأُخْرَيَيْنِ، وَهُمَا الْأُخْتُ وَالْمَيْتَةُ، أَصْلِيٌّ، أَيْ: بِالْأَصَالَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بِدَلِيلِ الشَّرْعِ الْأَصْلِيِّ الِابْتِدَائِيِّ، «فَالْخِلَافُ

ص: 346

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

إِذًا» أَيْ: عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ «لَفْظِيٌّ» أَيْ: فِي اللَّفْظِ، لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ صَارَ كَالْأَوَّلِ، سَوَاءً فِي أَنَّ إِحْدَاهُمَا حَرُمَتْ بِالْأَصَالَةِ، وَالْأُخْرَى بِعَارِضِ الِاشْتِبَاهِ.

تَنْبِيهٌ: إِذَا قَرَّرْنَا شَيْئًا، ثُمَّ قُلْنَا: فَالْحُكْمُ إِذًا كَذَا، مَعْنَاهُ، الْحُكْمُ إِذْ ذَاكَ، أَوْ إِذِ الْحَالُ عَلَى مَا وَصَفَ كَذَا، فَإِذًا هَاهُنَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ إِذِ الَّتِي هِيَ ظَرْفُ زَمَنٍ مَاضٍ، وَمِنْ جُمْلَةٍ بَعْدَهَا تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا لَكِنْ حُذِفَتِ الْجُمْلَةُ تَخْفِيفًا، وَأُبْدِلَ مِنْهَا التَّنْوِينُ، كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: حِينَئِذٍ وَسَاعَتَئِذٍ وَلَيْلَتَئِذٍ، وَالْمَعْنَى: حِينَ إِذْ كَانَ ذَلِكَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

نَهَيْتُكَ عَنْ طِلَابِكَ أُمَّ عَمْرٍو

بِعَافِيَةٍ وَأَنْتَ إِذٍ صَحِيحُ

أَيْ: وَأَنْتَ إِذْ نَهَيْتُكَ صَحِيحٌ، وَلَيْسَتْ «إِذًا» هَذِهِ هِيَ النَّاصِبَةُ لِلْفِعْلِ الْمُضَارِعِ، لِأَنَّ تِلْكَ تَخْتَصُّ بِهِ، وَلِذَلِكَ عَمِلَتْ فِيهِ، وَلَا يَعْمَلُ إِلَّا مَا يَخْتَصُّ، وَهَذِهِ لَا تَخْتَصُّ بِهِ بَلْ تَدْخُلُ عَلَى الْمَاضِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا} [النِّسَاءِ: 67]، {إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ} [الْإِسْرَاءِ: 100] ، {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ} [الْإِسْرَاءِ: 75] ، وَعَلَى الِاسْمِ كَقَوْلِكَ: إِذَا كُنْتُ ظَالِمًا فَإِذًا حُكْمُكَ فِيَّ مَاضٍ. عَلَى أَنِّي لَوْلَا قَوْلُ النُّحَاةِ: أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ إِلَّا مَا اخْتَصَّ، وَإِذًا عَامِلَةٌ فِي الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ النَّصْبَ، فَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِهِ، لَقُلْتُ: إِنَّ «إِذًا» فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدَةٌ، وَإِنَّ مَعْنَاهُ تَقْيِيدُ مَا بَعْدَهَا بِزَمَنٍ أَوْ حَالٍ، لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: أَنَا إِذَنْ أُكْرِمَكَ، وَأَنَا إِذَنْ أَزُورَكَ، فَيَقُولُ السَّامِعُ: إِذَنْ أُكْرِمَكَ، هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَنَا أُكْرِمَكَ زَمَنَ، أَوْ حَالَ، أَوْ عِنْدَ زِيَارَتِكَ لِي.

ص: 347

الثَّانِي: الزِّيَادَةُ عَلَى الْوَاجِبِ، إِنْ تَمَيَّزَتْ، كَصَلَاةِ التَّطَوُّعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَكْتُوبَاتِ، فَنَدْبٌ اتِّفَاقًا، وَإِنْ لَمْ تَتَمَيَّزْ، كَالزِّيَادَةِ فِي الطُّمَأْنِينَةِ، وَالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ، وَمُدَّةِ الْقِيَامِ، وَالْقُعُودِ عَلَى أَقَلِّ الْوَاجِبِ، فَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ الْقَاضِي، نَدْبٌ عِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ، وَهُوَ الصَّوَابُ، وَإِلَّا لَمَا جَازَ تَرْكُهُ. وَالنَّدْبُ لَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ.

ــ

قَوْلُهُ: «الثَّانِي» يَعْنِي: الْفَرْعَ الثَّانِيَ مِنَ الْفَرْعَيْنِ عَلَى مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ، فَهُوَ وَاجِبٌ. وَوَجْهُ فَرْعِيَّتِهِ: أَنَّ غَيْرَ الْوَاجِبِ فِيهِ لَاحِقٌ لَهُ مِنْ آخِرِهِ، وَفِيمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ هُوَ لَاحِقٌ لَهُ مِنْ أَوَّلِهِ، وَكِلَاهُمَا فِيهِ اخْتِلَافٌ كَمَا رَأَيْتَ، وَسَتَرَى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

«الزِّيَادَةُ عَلَى الْوَاجِبِ» ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُتَمَيِّزَةً عَنْهُ أَوْ لَا. «فَإِنْ تَمَيَّزَتْ» عَنْهُ «كَصَلَاةِ التَّطَوُّعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَكْتُوبَاتِ» فَهِيَ - يَعْنِي الزِّيَادَةَ الْمُتَمَيِّزَةَ - «نَدْبٌ اتِّفَاقًا» ، إِذْ لَا نَصَّ فِي وُجُوبِهَا وَلَا إِجْمَاعَ، وَلَا جَامِعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْوَاجِبِ حَتَّى تُقَاسَ عَلَيْهِ، وَلَا اشْتَدَّتْ مُلَابَسَتُهَا لِلْوَاجِبِ حَتَّى تَلْحَقَ بِهِ، وَلَا مَدْرَكَ لِثُبُوتِ الْأَحْكَامِ شَرْعًا إِلَّا هَذِهِ الْأَدِلَّةُ: النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ، وَالِاسْتِدْلَالُ.

«وَإِنْ لَمْ تَتَمَيَّزْ» الزِّيَادَةُ عَلَى الْوَاجِبِ، أَيْ: لَا تَنْفَصِلُ حَقِيقَتُهَا مِنْ حَقِيقَتِهِ حِسًّا، «كَالزِّيَادَةِ فِي الطُّمَأْنِينَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَمُدَّةِ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ عَلَى أَقَلِّ الْوَاجِبِ» ، وَهُوَ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ، فَهِيَ - يَعْنِي الزِّيَادَةَ الَّتِي هَذَا شَأْنُهَا -

ص: 348

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

«وَاجِبٌ عِنْدَ الْقَاضِي» أَبِي يَعْلَى، «نَدْبٌ عِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ وَهُوَ الصَّوَابُ» .

قَوْلُهُ: «وَإِلَّا لَمَا جَازَ تَرْكُهُ» ، أَيْ: لَوْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ نَدْبًا «لَمَا جَازَ تَرْكُهُ» أَيْ: تَرْكُ النَّدْبِ، أَوِ الْفِعْلِ الَّذِي تَحَقَّقَتْ بِهِ الزِّيَادَةُ، لَكِنْ قَدْ جَازَ تَرْكُهُ، فَلَا يَكُونُ وَاجِبًا.

بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ أَنَّ عَدَمَ جَوَازِ التَّرْكِ مِنْ لَوَازِمِ الْوَاجِبِ وَخَوَاصِّهِ. فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ وَاجِبًا لَثَبَتَتْ لَهُ هَذِهِ الْخَاصَّةُ، وَهِيَ عَدَمُ جَوَازِ التَّرْكِ، لَكِنَّهَا مَا ثَبَتَتْ، بِدَلِيلِ جَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُجْزِئِ دُونَهَا، وَتَرْكِهَا بَعْدَ التَّلَبُّسِ بِهَا، مِثْلَ: أَنْ زَادَ فِي الرُّكُوعِ عَلَى الِانْحِنَاءِ بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ مَسُّ رُكْبَتَيْهِ بِيَدَيْهِ، وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُجْزِئُ فِيهِ، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ، وَإِذَا جَازَ تَرْكُهُ لَا يَكُونُ وَاجِبًا، لِأَنَّ جَوَازَ التَّرْكِ وَالْوُجُوبِ مُتَنَافِيَانِ، فَيَكُونُ مَنْدُوبًا.

قَوْلُهُ: «وَالنَّدْبُ لَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ» هَذَا اسْتِيفَاءٌ لِلدَّلِيلِ وَجَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ يَجُوزُ تَرْكُهَا، بِمَعْنَى الِاقْتِصَارِ عَلَى الْمُجْزِئِ دُونَهَا، وَتَرْكُهَا ابْتِدَاءً، فَلِمَ قُلْتَ: إِنَّهُ إِذَا أَتَى بِهَا عَلَى الْقَدْرِ الْمُجْزِئِ، وَتَلَبَّسَ بِهَا لَا تَجِبُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ الِاقْتِصَارِ دُونَهَا عَدَمُ وُجُوبِهَا إِذَا تَلَبَّسَ بِهَا؟ فَكَانَ الْجَوَابُ مَا ذَكَرْتُهُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ وَجَبَتْ بِالتَّلَبُّسِ بِهَا، لَكَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ لُزُومِ النَّقْلِ بِالشُّرُوعِ فِيهِ، وَالنَّدْبُ عِنْدَنَا لَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ، وَالْقَاضِي يُوَافِقُ عَلَى ذَلِكَ.

حُجَّةُ الْقَاضِي عَلَى الْوُجُوبِ: أَنَّ نِسْبَةَ الْوَاجِبِ وَالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ إِلَى الْأَمْرِ وَاحِدَةٌ،

ص: 349

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَالْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ أَمْرٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَمْرُ إِيجَابٍ، وَأَحَدُهُمَا غَيْرُ مُتَمَيِّزٍ مِنَ الْآخَرِ، فَانْتَظَمَهُمَا انْتِظَامًا وَاحِدًا، وَالْكُلُّ امْتِثَالٌ.

وَالْجَوَابُ: أَنَّ أَكْثَرَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ مَمْنُوعَةٌ، إِذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ نِسْبَتَهَا إِلَى الْأَمْرِ وَاحِدَةٌ، بَلِ الْوَاجِبُ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ بِالْوُجُوبِ، وَالزِّيَادَةُ بِالنُّدْبِيَّةِ. وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَمْرَ فِي نَفْسِهِ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا هُوَ وَاحِدٌ فِي لَفْظِهِ، أَمَّا فِي حَقِيقَتِهِ فَهُوَ فِي تَقْدِيرِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا جَازِمٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَاجِبِ، وَالثَّانِي غَيْرُ جَازِمٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزِّيَادَةِ. وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ انْتَظَمَهُمَا انْتِظَامًا وَاحِدًا، بَلْ بِالْوُجُوبِ وَالنُّدْبِيَّةِ كَمَا قَرَّرْنَا.

وَاعْلَمْ أَنَّ لِهَذَا الْأَصْلِ مَأْخَذًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُعَلَّقَ عَلَى الِاسْمِ: هَلْ يَقْتَضِي الِاقْتِصَارَ عَلَى أَوَّلِ ذَلِكَ الِاسْمِ وَالْبَاقِي سَاقِطٌ، أَوْ يَقْتَضِي اسْتِيعَابَ ذَلِكَ الِاسْمِ؟

فِيهِ خِلَافٌ بَيْنِ الْأُصُولِيِّينَ، وَأَكْثَرُ مَنْ يَلْهَجُ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ، وَالْأَوَّلُ اخْتِيَارُ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مَأْخَذًا لِهَذَا الْفَرْعِ، وَإِلَّا فَهُوَ يُشْبِهُهُ.

تَنْبِيهٌ: لَوْ مَسَحَ جَمِيعَ الرَّأْسِ، فَعِنْدَ مَنْ لَا يَرَى وُجُوبَ اسْتِيعَابِهِ، هَلْ يَقَعُ مَسْحُ جَمِيعِهِ وَاجِبًا، أَوِ الزَّائِدُ عَلَى الْمُجْزِئِ مِنْهُ نَفْلٌ؟ عَلَى الْخِلَافِ. أَمَّا تَطْوِيلُ التَّحْجِيلِ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، فَهُوَ نَدْبٌ بِلَا خِلَافٍ، لِتَمَيُّزِهِ بِتَمْيِيزِ أَجْزَاءِ مَحَلِّهِ، وَهُوَ الْعُضْوُ الْمَغْسُولُ، وَقَدْ نُقِلَ مِثْلُ هَذَا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ مُعْتَمَدَ الْفَرْقِ غَسْلُ الْيَدِ مَحْدُودٌ، يَعْنِي بِخِلَافِ مَسْحِ

ص: 350

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الرَّأْسِ.

تَنْبِيهٌ: قَالَ الْقَرَافِيُّ: لَيْسَ كُلُّ وَاجِبٍ يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ، وَلَا كُلُّ مُحَرَّمٍ يُثَابُ عَلَى تَرْكِهِ.

أَمَّا الْأَوَّلُ: فَكَنَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ وَالْأَقَارِبِ وَالدَّوَابِّ، وَرَدِّ الْغُصُوبِ وَالْوَدَائِعِ وَالدُّيُونِ وَالْعَوَارِي، فَإِنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَإِذَا فَعَلَهَا الْإِنْسَانُ غَافِلًا عَنِ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا وَقَعَتْ وَاجِبَةً، مُجْزِئَةً، مُبْرِئَةً، وَلَا يُثَابُ عَلَيْهَا.

وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ يَخْرُجُ الْإِنْسَانُ عَنْ عُهْدَتِهَا بِمُجَرَّدِ تَرْكِهَا، وَإِنْ لَمْ يَشْعُرْ، فَضْلًا عَنِ الْقَصْدِ إِلَيْهَا، حَتَّى يَنْوِيَ امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا، فَلَا ثَوَابَ حِينَئِذٍ. نَعَمْ مَتَى اقْتَرَنَ قَصْدُ الِامْتِثَالِ فِي الْجَمِيعِ حَصَلَ الثَّوَابُ.

قُلْتُ: هَذَا الْكَلَامُ مُوهِمٌ، بَلْ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ، وَالْآخَرُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ. وَكَذَلِكَ الْحَرَامُ ضَرْبَانِ: مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِهِ الثَّوَابُ، وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ. وَعِنْدِي فِي هَذَا نَظَرٌ.

بَلِ التَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ: الْوَاجِبُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ جَزْمًا، وَشَرْطُ تَرَتُّبِ الثَّوَابِ عَلَيْهِ نِيَّةُ التَّقَرُّبِ بِفِعْلِهِ، وَالْحَرَامُ هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ جَزْمًا، وَشَرْطُ تَرَتُّبِ الثَّوَابِ عَلَى تَرْكِهِ نِيَّةُ التَّقَرُّبِ بِهِ، فَتَرَتُّبُ الثَّوَابِ وَعَدَمُهُ فِي فِعْلِ الْوَاجِبِ وَتَرْكِ الْحَرَامِ وَعَدَمِهِمَا رَاجِعٌ إِلَى وُجُودِ شَرْطِ الثَّوَابِ وَعَدَمِهِ، وَهُوَ النِّيَّةُ، لَا إِلَى انْقِسَامِ الْوَاجِبِ وَالْحَرَامِ فِي نَفْسِهِمَا.

ص: 351

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَأَمَّا قَوْلُهُ: الْمُحَرَّمَاتُ يَخْرُجُ الْإِنْسَانُ عَنْ عُهْدَتِهَا بِمُجَرَّدِ تَرْكِهَا، وَإِنْ لَمْ يَشْعُرْ، فَفِيهِ تَحْقِيقٌ سَبَقَ فِي مَسْأَلَةِ تَكْلِيفِ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الْإِسْلَامِ.

وَقَدِ انْتَهَى الْكَلَامُ فِي الْوَاجِبِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى.

ص: 352