المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الْحَرَامُ ، ضِدُّ الْوَاجِبِ. وَهُوَ مَا ذُمَّ فَاعِلُهُ شَرْعًا. وَلَا حَاجَةَ - شرح مختصر الروضة - جـ ١

[الطوفي]

فهرس الكتاب

- ‌الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي تَعْرِيفِ أُصُولِ الْفِقْهِ:

- ‌الْفَصْلُ الثَّانِيفِي التَّكْلِيفِ

- ‌ تَكْلِيفِ الْمُمَيِّزِ

- ‌فُرُوعٌ:

- ‌ الْجِهَادَ خَاصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ

- ‌ إِنْ صَحَّ التَّكْلِيفُ بِالْمُحَالِ لِغَيْرِهِ، صَحَّ بِالْمُحَالِ لِذَاتِهِ

-

- ‌الْفَصْلُ الثَّالِثُفِي أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ

- ‌الْوَاجِبُ

- ‌الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ

- ‌النَّدْبُ

- ‌الْحَرَامُ

- ‌الْمَكْرُوهُ:

- ‌الْمُبَاحُ:

- ‌التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ»

- ‌هَلْ يَجِبُ عَلَى اللَّهِ رِعَايَةُ الْمَصْلَحَةِ

- ‌ الْعِلَّةُ

- ‌ السَّبَبُ

- ‌ الشَّرْطُ

- ‌ فَوَائِدَ

- ‌ الثَّانِيَةُ: فِي فُرُوقٍ نَافِعَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالْعِلَّةِ وَالشَّرْطِ:

- ‌ الثَّالِثَةُ: الْمَوَانِعُ الشَّرْعِيَّةُ:

- ‌ الْأَدَاءِ وَالْإِعَادَةِ وَالْقَضَاءِ

- ‌ الْعَزِيمَةُ وَالرُّخْصَةُ

- ‌الْفَصْلُ الرَّابِعُفِي اللُّغَاتِ

- ‌ مَبْدَأِ اللُّغَاتِ

- ‌ الْأَسْمَاءُ: وَضْعِيَّةٌ، وَعُرْفِيَّةٌ، وَشَرْعِيَّةٌ، وَمَجَازٌ

- ‌ أَقْسَامِ التَّجَوُّزِ

- ‌ الصَّوْتُ:

- ‌الْكَلَامُ مَا تَضَمَّنَ كَلِمَتَيْنِ بِالْإِسْنَادِ

- ‌الْكَلَامُ: نَصٌّ، وَظَاهِرٌ، وَمُجْمَلٌ

- ‌الظَّاهِرُ:

الفصل: ‌ ‌الْحَرَامُ ، ضِدُّ الْوَاجِبِ. وَهُوَ مَا ذُمَّ فَاعِلُهُ شَرْعًا. وَلَا حَاجَةَ

‌الْحَرَامُ

، ضِدُّ الْوَاجِبِ. وَهُوَ مَا ذُمَّ فَاعِلُهُ شَرْعًا. وَلَا حَاجَةَ هُنَا إِلَى مُطْلَقًا، لِعَدَمِ الْحَرَامِ الْمُوَسَّعِ، وَعَلَى الْكِفَايَةِ، بِخِلَافِ الْوَاجِبِ.

ــ

قَوْلُهُ: «الْحَرَامُ ضِدُّ الْوَاجِبِ» ، لَمَّا ذَكَرَ الِاقْتِضَاءَ الْفِعْلِيَّ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِقِسْمَيْهِ، وَهُمَا الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ، أَخَذَ هُنَا يُبَيِّنُ حُكْمَ اقْتِضَاءِ الْكَفِّ، وَهُوَ النَّهْيُ بِقِسْمَيْهِ، وَهُمَا الْحَرَامُ وَالْمَكْرُوهُ، ثُمَّ قَسَّمَ التَّخْيِيرَ، وَهُوَ الْمُبَاحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

فَالْحَرَامُ ضِدُّ الْوَاجِبِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ مَأْمُورٌ بِهِ عَلَى الْجَزْمِ، مُثَابٌ عَلَى فِعْلِهِ، مُعَاقَبٌ عَلَى تَرْكِهِ، فَالْحَرَامُ إِذًا مَنْهِيٌّ عَنْهُ عَلَى الْجَزْمِ، مُثَابٌ عَلَى تَرْكِهِ، مُعَاقَبٌ عَلَى فِعْلِهِ.

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْحَرَامُ ضِدُّ الْحَلَالِ.

قُلْتُ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحُرْمَةِ، وَهِيَ مَا لَا يَحِلُّ انْتِهَاكُهُ.

قَوْلُهُ: «وَهُوَ» يَعْنِي الْحَرَامَ «مَا ذُمَّ فَاعِلُهُ شَرْعًا» كَمَا أَنَّ الْوَاجِبَ مَا ذُمَّ تَارِكُهُ شَرْعًا.

قَوْلُهُ: «وَلَا حَاجَةَ هُنَا إِلَى مُطْلَقًا» ، أَيْ لَا يُحْتَاجُ أَنْ نَقُولَ: الْحَرَامُ مَا ذُمَّ شَرْعًا فَاعِلُهُ مُطْلَقًا، كَمَا قُلْنَا فِي الْوَاجِبِ مَا ذُمَّ شَرْعًا تَارِكُهُ مُطْلَقًا «لِعَدَمِ الْحَرَامِ الْمُوَسَّعِ، وَعَلَى الْكِفَايَةِ بِخِلَافِ الْوَاجِبِ» وَذَلِكَ لِأَنَّا إِنَّمَا قَيَّدْنَا فِي الْوَاجِبِ بِقَوْلِنَا: مُطْلَقًا، لِيَتَنَاوَلَ الْوَاجِبَ الْمُوَسَّعَ، وَالْوَاجِبَ عَلَى الْكِفَايَةِ، كَمَا شَرَحَ هُنَاكَ، وَالْحَرَامُ لَيْسَ

ص: 359

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

فِيهِ مُوَسَّعٌ وَلَا مُضَيَّقٌ، وَلَا عَلَى الْعَيْنِ وَالْكِفَايَةِ، فَلَا حَاجَةَ بِنَا فِيهِ إِلَى التَّقْيِيدِ بِقَوْلِنَا مُطْلَقًا.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْحَرَامِ فِي ذَلِكَ، هُوَ أَنَّ مَقْصُودَ الْوَاجِبِ تَحْصِيلُ الْمَصْلَحَةِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْمُوَسَّعُ وَفَرْضُ الْكِفَايَةِ، تَعْلِيقًا لِحُصُولِ الْمَصْلَحَةِ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ مِنَ الْأَوْقَاتِ وَالْأَعْيَانِ، كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، بِخِلَافِ الْحَرَامِ، فَإِنَّ مَقْصُودَهُ نَفْيُ الْمَفْسَدَةِ. وَالْمَفْسَدَةُ يَجِبُ نَفْيُهَا عَقْلًا وَشَرْعًا مُطْلَقًا، فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ، مِنْ جَمِيعِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَعْيَانِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ.

أَمَّا الْحَرَامُ الْمُخَيَّرُ، فَيَجُوزُ وُرُودُهُ، كَالْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، لِأَنَّ الْمَفْسَدَةَ قَدْ تَتَعَلَّقُ بِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ وَالْأَشْيَاءِ، كَمَا تَتَعَلَّقُ الْمَصْلَحَةُ بِهِ، فَكَمَا جَازَ أَنْ يَقُولَ لَهُ: إِذَا حَنِثْتَ فِي يَمِينِكَ فَأَطْعِمْ، أَوِ اكْسُ، أَوْ أَعْتِقْ، كَذَلِكَ جَازَ أَنْ يَقُولَ لَهُ: لَا تَنْكِحْ هَذِهِ الْمَرْأَةَ، أَوْ أُخْتَهَا، أَوْ بِنْتَ أُخْتِهَا، أَوْ أَخِيهَا، فَيَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُمَا عَلَى التَّخْيِيرِ، أَيَّتَهُمَا شَاءَ اجْتَنَبَ وَنَكَحَ الْأُخْرَى، كَمَا أَنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ عَلَيْهِمَا، قِيلَ لَهُ: طَلِّقْ إِحْدَاهُمَا وَأَمْسِكِ الْأُخْرَى أَيَّتَهُمَا شِئْتَ.

ص: 360

ثُمَّ الْوَاحِدُ بِالْجِنْسِ أَوِ النَّوْعِ. . يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْرِدًا لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِهِ وَأَشْخَاصِهِ، كَالْأَمْرِ بِالزَّكَاةِ، وَصَلَاةِ الضُّحَى مَثَلًا، وَالنَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِ النَّهْيِ.

أَمَّا الْوَاحِدُ بِالشَّخْصِ، فَيَمْتَنِعُ كَوْنُهُ مَوْرِدًا لَهُمَا، مِنْ جِهَةٍ. أَمَّا مِنْ جِهَتَيْنِ، كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، فَلَا تَصِحُّ فِي أَشْهَرِ الْقَوْلَيْنِ لَنَا، خِلَافًا لِلْأَكْثَرِينَ.

وَقِيلَ: يَسْقُطُ الْفَرْضُ عِنْدَهَا لَا بِهَا. وَمَأْخَذُ الْخِلَافِ، أَنَّ النَّظَرَ إِلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ الْمُعَيَّنَةِ أَوْ إِلَى جِنْسِ الصَّلَاةِ.

ــ

قَوْلُهُ: «ثُمَّ الْوَاحِدُ بِالْجِنْسِ أَوِ النَّوْعِ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْرِدًا لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِهِ وَأَشْخَاصِهِ» إِلَى آخِرِهِ.

اعْلَمْ: أَنَّ الْأَشْيَاءَ بِالنَّظَرِ إِلَى كُلِّيَّتِهَا وَجُزْئِيَّتِهَا وَعُمُومِهَا وَخُصُوصِهَا مَرَاتِبُ، أَعْلَاهَا الْجِنْسُ، ثُمَّ النَّوْعُ، ثُمَّ الشَّخْصُ. كَقَوْلِنَا: الْحَيَوَانُ، الْإِنْسَانُ، زَيْدٌ، فَالْحَيَوَانُ جِنْسٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ، وَالْإِنْسَانُ نَوْعٌ لَهُ، وَزَيْدٌ شَخْصٌ مِنَ النَّوْعِ، وَكَقَوْلِنَا: الْعِبَادَةُ، الزَّكَاةُ وَالصَّلَاةُ، هَذِهِ الصَّلَاةُ، فَالْعِبَادَةُ جِنْسٌ، وَالزَّكَاةُ وَالصَّلَاةُ نَوْعٌ، وَهَذِهِ الصَّلَاةُ شَخْصٌ.

وَمَعْنَى قَوْلِنَا: الْوَاحِدُ بِالْجِنْسِ أَوِ النَّوْعِ أَنَّهُ لَفْظٌ وَاحِدٌ، وَمُسَمًّى وَاحِدٌ، دَلَّ عَلَى جِنْسٍ كَالْحَيَوَانِ، أَوْ دَلَّ عَلَى نَوْعٍ كَالْإِنْسَانِ.

ص: 361

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَالْوَاحِدُ بِالْجِنْسِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْرِدًا لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، أَيْ: يُرَدُّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَيَتَوَجَّهَانِ إِلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِهِ، أَيْ يَتَوَجَّهُ الْأَمْرُ إِلَى بَعْضِ أَنْوَاعِهِ وَالنَّهْيُ إِلَى بَعْضٍ آخَرَ مِنْهَا.

وَكَذَلِكَ الْوَاحِدُ بِالنَّوْعِ يَجُوزُ تَوَجُّهُ الْأَمْرِ إِلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَشْخَاصِهِ أَيِ: الْأَمْرُ إِلَى بَعْضِ الْأَشْخَاصِ، وَالنَّهْيُ إِلَى بَعْضٍ آخَرَ، كَالْأَمْرِ بِالزَّكَاةِ الَّتِي هِيَ نَوْعٌ لِجِنْسِ الْعِبَادَةِ، وَالْأَمْرُ بِصَلَاةِ الضُّحَى الَّتِي هِيَ بِاعْتِبَارِ إِطْلَاقِ نَوْعٍ أَوْ صِنْفٍ لِلصَّلَاةِ، وَبِاعْتِبَارِ تَقْيِيدِهَا بِيَوْمٍ بِعَيْنِهِ شَخْصٌ مِنْ أَشْخَاصِ نَوْعِ الصَّلَاةِ، وَكَالنَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِ النَّهْيِ، فَقَدْ تَوَجَّهَ الْأَمْرُ إِلَى الزَّكَاةِ وَصَلَاةِ الضُّحَى مِنْ حَيْثُ هُمَا نَوْعَانِ لِلْعِبَادَةِ، وَتَوَجَّهَ النَّهْيُ إِلَى صَلَاةِ الضُّحَى وَالصَّلَاةِ فِي وَقْتِ النَّهْيِ مِنْ حَيْثُ هُمَا شَخْصَانِ لِنَوْعِ الْعِبَادَةِ وَهُوَ الصَّلَاةُ.

وَهَذَا الْمِثَالُ إِنْ لَاحَ فِي صِحَّتِهِ أَوْ مُطَابَقَتِهِ شَيْءٌ، فَأَنْتَ قَدْ عَرَفْتَ الْقَاعِدَةَ، وَهِيَ صِحَّةُ تَوَجُّهِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إِلَى الْجِنْسِ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ أَنْوَاعِهِ وَإِلَى النَّوْعِ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ أَشْخَاصِهِ.

قَوْلُهُ: «أَمَّا الْوَاحِدُ بِالشَّخْصِ» إِلَى آخِرِهِ أَيِ: اللَّفْظُ وَالْمُسَمَّى الْوَاحِدُ إِذَا كَانَ مَفْهُومُهُ شَخْصًا مُعَيَّنًا «فَيَمْتَنِعُ كَوْنُهُ مَوْرِدًا لَهُمَا» أَيْ: لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، أَيْ: يَمْتَنِعُ تَوَجُّهُهُمَا إِلَيْهِ وَوُرُودُهُمَا عَلَيْهِ «مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ» لِأَنَّهُ تَنَاقُضٌ، كَمَا لَوْ قَالَ: صَلِّ هَذِهِ الظُّهْرَ، لَا تُصَلِّ هَذِهِ الظُّهْرَ، أَعْتِقْ هَذَا الْعَبْدَ، لَا تَعْتِقْ هَذَا الْعَبْدَ.

قَوْلُهُ: «أَمَّا مِنْ جِهَتَيْنِ» أَيْ: أَمَّا كَوْنُ الْوَاحِدِ بِالشَّخْصِ مَوْرِدًا لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ جِهَتَيْنِ «كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ» مِنْ عَمْرٍو، «فَلَا تَصِحُّ فِي أَشْهَرِ الْقَوْلَيْنِ» عَنْ

ص: 362

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أَحْمَدَ وَجَمَاعَةٍ مَعَهُ، عَلَى مَا حَكَاهُ الْآمِدِيُّ «خِلَافًا لِلْأَكْثَرِينَ» فِي صِحَّةِ ذَلِكَ.

«وَقِيلَ: يَسْقُطُ الْفَرْضُ عِنْدَهَا» أَيْ: عِنْدَ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ «لَا بِهَا» ، وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَامَ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ عَلَى عَدَمِ الصِّحَّةِ بِمَا سَنُقَرِّرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ أَلْزَمَهُ الْخَصْمُ إِجْمَاعَ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَأْمُرُوا الظَّلَمَةَ بِإِعَادَةِ الصَّلَوَاتِ، مَعَ كَثْرَةِ وُقُوعِهَا مِنْهُمْ فِي أَمَاكِنِ الْغَصْبِ، فَأَشْكَلَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ، فَحَاوَلَ الْخَلَاصَ بِهَذَا التَّوَسُّطِ، فَقَالَ: يَسْقُطُ الْفَرْضُ عِنْدَ هَذِهِ الصَّلَاةِ لِلْإِجْمَاعِ الْمَذْكُورِ لَا بِهَا، لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهَا.

قُلْتُ: وَكَأَنَّهُ جَعَلَهَا سَبَبًا لِسُقُوطِ الْفَرْضِ، أَوْ أَمَارَةً عَلَيْهِ عَلَى نَحْوٍ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ لَا عِلَّةً لِسُقُوطِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَدْعِي صِحَّتِهَا.

قُلْتُ: وَهَذَا مَسْلَكٌ ظَاهِرُ الضَّعْفِ، لِأَنَّ سُقُوطَ الْفَرْضِ بِدُونِ أَدَائِهِ شَرْعًا غَيْرُ مَعْهُودٍ، بَلْ لَوْ مَنَعَ الْإِجْمَاعَ الْمَذْكُورَ لَكَانَ أَيْسَرَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَبْعُدُ عَلَى الْخَصْمِ أَنْ يُثْبِتَ أَنَّ ظَالِمًا فِي زَمَنِ السَّلَفِ صَلَّى فِي مَكَانٍ مَغْصُوبٍ وَعَلِمَ بِهِ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَثْبُتَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الظَّلَمَةِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ، وَلَوْ سُلِّمَ ذَلِكَ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمْ أَقَرُّوا الظَّلَمَةَ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَأْمُرُوهُمْ بِالْإِعَادَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ نَقْلِ ذَلِكَ عَدَمُ وُجُودِهِ، لِجَوَازِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِعَادَةِ وُجِدَ وَلَمْ يُنْقَلْ، لِاسْتِيلَاءِ الظَّلَمَةِ وَسَطْوَتِهِمْ، أَوْ كَوْنِ الْحُكْمِ لَيْسَ مِنَ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِ الْإِنْكَارِ فِيهِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ادَّعَوُا الْإِجْمَاعَ الْمَذْكُورَ بَنَوْهُ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ:

إِحْدَاهُمَا: أَنَّ مَعَ كَثْرَةِ الظَّلَمَةِ فِي تِلْكَ الْأَعْصَارِ عَادَةً لَا يَخْلُو مِنْ إِيقَاعِ صَلَاةٍ فِي مَكَانٍ غُصِبَ مِنْ بَعْضِهِمْ.

الثَّانِيَةُ: أَنَّ السَّلَفَ يَمْتَنِعُ عَادَةً وَشَرْعًا تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى تَرْكِ الْإِنْكَارِ وَالْأَمْرِ

ص: 363

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

بِالْإِعَادَةِ، بِنَاءً مِنْ هَؤُلَاءِ عَلَى مَا ظَنُّوهُ مِنْ دَلِيلِ الْبُطْلَانِ، وَإِلَّا فَلَا إِجْمَاعَ فِي ذَلِكَ مَنْقُولٌ، تَوَاتُرًا وَلَا آحَادًا، وَالْمُقَدِّمَتَانِ الْمَذْكُورَتَانِ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَالْوَهَاَءِ.

قَوْلُهُ: «وَمَأْخَذُ الْخِلَافِ» إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: مَأْخَذُ الْخِلَافِ فِي بُطْلَانِ هَذِهِ الصَّلَاةِ وَصِحَّتِهَا هُوَ «أَنَّ النَّظَرَ إِلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ الْمُعَيَّنَةِ» الْوَاقِعَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْمَغْصُوبِ، «أَوْ إِلَى جِنْسِ الصَّلَاةِ» مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ مَكَانِ إِيقَاعِهَا، إِنْ نَظَرْنَا إِلَى عَيْنِ هَذِهِ الصَّلَاةِ اتَّجَهَ الْقَوْلُ بِالْبُطْلَانِ، لِأَنَّ نَفْسَ هَذِهِ الصَّلَاةِ حَرَامٌ مَعْصِيَةٌ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ نَظَرْنَا إِلَى جِنْسِ الصَّلَاةِ اتَّجَهَ الْقَوْلُ بِالصِّحَّةِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا مَطْلُوبَةً لِلشَّارِعِ بِاعْتِبَارِ الْجِهَتَيْنِ.

وَسَيَأْتِي الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ص: 364

النَّافِي: مَاهِيَّةُ الصَّلَاةِ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، وَالْمُرَكَّبُ مِنَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَهَذِهِ الصَّلَاةُ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ لَا يَكُونُ طَاعَةً، وَلَا مَأْمُورًا بِهِ، وَإِلَّا اجْتَمَعَ النَّقِيضَانِ.

ــ

قَوْلُهُ: «النَّافِي» أَيِ: احْتَجَّ النَّافِي لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ أَنْ قَالَ: «مَاهِيَّةُ الصَّلَاةِ» أَيْ حَقِيقَتُهَا «مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، وَالْمُرَكَّبُ مِنَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَهَذِهِ الصَّلَاةُ مَنْهِيٌّ عَنْهَا» . أَمَّا أَنَّ الصَّلَاةَ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ فَلِأَنَّ الصَّلَاةَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ أَفْعَالِهَا الْوَاجِبَةِ وَالْمَسْنُونَةِ فِيهَا، وَتِلْكَ الْأَفْعَالُ إِمَّا حَرَكَةٌ كَالْهُوِيِّ إِلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَإِمَّا سُكُونٌ كَالْقِيَامِ وَالطُّمَأْنِينَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.

وَأَمَّا أَنَّ تِلْكَ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، فَلِوُقُوعِهَا فِي مُلْكِ الْغَيْرِ وَشَغْلِ حَيِّزِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ.

وَأَمَّا أَنَّ الْمُرَكَّبَ مِنَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَلِأَنَّ الْمُرَكَّبَ لَا يَزِيدُ عَلَى الْبَسَائِطِ الَّتِي هِيَ مَادَّتُهُ إِلَّا بِالْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَهِيَ لَا تُؤَثِّرُ فِي قَلْبِ حَقِيقَةِ الْبَسَائِطِ، وَبَسَائِطُ هَذِهِ الصَّلَاةِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَهِيَ الْحَرَكَاتُ وَالسَّكَنَاتُ الْمَنْهِيُّ عَنْهَا، وَمَا لَا يَزِيدُ عَلَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا.

«وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ لَا يَكُونُ طَاعَةً وَلَا مَأْمُورًا بِهِ وَإِلَّا اجْتَمَعَ النَّقِيضَانِ» لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ نَقِيضُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَالطَّاعَةُ تَسْتَدْعِي تَعَلُّقَ الطَّلَبِ بِهَا وَتَوَجُّهَهُ إِلَيْهَا، فَلَوْ كَانَتْ

ص: 365

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

مَنْهِيًّا عَنْهَا، لَاجْتَمَعَ النَّقِيضَانِ أَيْضًا، وَهَذِهِ هِيَ الْحُجَّةُ الَّتِي اضْطَرَّتْ أَبَا بَكْرٍ مَعَ الْإِجْمَاعِ الَّذِي أَلْزَمَهُ مَا حُكِيَ عَنْهُ.

ص: 366

الْمُثْبِتُ: لَا مَانِعَ إِلَّا اتِّحَادُ الْمُتَعَلِّقَيْنِ إِجْمَاعًا، وَلَا اتِّحَادَ، إِذِ الصَّلَاةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ صَلَاةٌ مَأْمُورٌ بِهَا، وَالْغَصْبُ مِنْ حَيْثُ هُوَ غَصْبٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَعْقُولٌ بِدُونِ الْآخَرِ، وَجَمْعُ الْمُكَلَّفِ لَهُمَا لَا يُخْرِجُهُمَا عَنْ حُكْمِهِمَا مُنْفَرِدَيْنِ.

وَأَيْضًا، طَاعَةُ الْعَبْدِ وَعِصْيَانُهُ، بِخِيَاطَةِ ثَوْبٍ أُمِرَ بِخِيَاطَتِهِ، فِي مَكَانٍ نُهِيَ عَنْ دُخُولِهِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَلَوْ مَرَقَ سَهْمُهُ مِنْ كَافِرٍ إِلَى مُسْلِمٍ فَقَتَلَهُ، ضَمِنَ قِصَاصًا أَوْ دِيَةً، وَاسْتَحَقَّ سَلَبَ الْكَافِرِ.

ــ

- قَوْلُهُ: «الْمُثْبِتُ» أَيْ: هَذِهِ حُجَّةُ الْمُثْبِتِ، لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَكَانِ الْمَغْصُوبِ. وَتَقْرِيرُهَا أَنَّهُ «لَا مَانِعَ» مِنَ الصِّحَّةِ «إِلَّا اتِّحَادُ الْمُتَعَلِّقَيْنِ» يَعْنِي مُتَعَلِّقَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ «إِجْمَاعًا» أَيْ: لَا مَانِعَ إِلَّا اتِّحَادُ الْمُتَعَلِّقَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ، «وَلَا اتِّحَادَ» أَيْ: لَيْسَ مُتَعَلِّقُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مُتَّحِدًا، فَلَا مَانِعَ حِينَئِذٍ مِنَ الصِّحَّةِ، وَبَيَانُ أَنَّ مُتَعَلِّقَهُمَا غَيْرُ مُتَّحِدٍ هُوَ أَنَّ «الصَّلَاةَ مِنْ حَيْثُ هِيَ صَلَاةٌ - أَيْ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا يَلْحَقُهَا مِنْ مَكَانٍ وَغَيْرِهِ - مَأْمُورٌ بِهَا، وَالْغَصْبُ مِنْ حَيْثُ هُوَ غَصْبٌ - أَيْ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا يُلَابِسُهُ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا - مَنْهِيٌّ عَنْهُ» ، وَكُلٌّ مِنَ الصَّلَاةِ وَالْغَصْبِ مَعْقُولٌ بِدُونِ الْآخَرِ، وَيُمْكِنُ وُجُودُ أَحَدِهِمَا بِدُونِ الْآخَرِ، كَمَنْ صَلَّى وَلَمْ يَغْصِبْ، أَوْ غَصَبَ وَلَمْ يُصَلِّ، «وَجَمْعُ الْمُكَلَّفِ لَهُمَا» بِالصَّلَاةِ فِي الْمَوْضِعِ الْمَغْصُوبِ لَا يُخْرِجُهُمَا عَنْ حُكْمِهِمَا مُنْفَرِدَيْنِ - أَيْ: فِي حَالِ انْفِرَادِهِمَا، وَهُوَ الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ، وَكَوْنُهَا طَاعَةً، وَالنَّهْيُ عَنِ الْغَصْبِ، وَكَوْنُهُ مَعْصِيَةً - وَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ لَهُمَا مُجْتَمَعَيْنِ مَا يَثْبُتُ لَهُمَا مُنْفَرِدَيْنِ، لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا لَا يَقْلِبُ حَقِيقَتَهُمَا فِي أَنْفُسِهِمَا.

ص: 367

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَقَدْ ظَهَرَ لَكَ مِنْ تَقْرِيرِ حُجَّةِ النَّافِي وَالْمُثْبِتِ صِحَّةُ الْمَأْخَذِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لِلْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَنَّ النَّافِيَ نَظَرَ إِلَى عَيْنِ هَذِهِ الصَّلَاةِ، وَأَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ أَفْعَالٍ مَنْهِيٍّ عَنْهَا، فَحَكَمَ بِبُطْلَانِهَا، وَالْمُثْبِتُ نَظَرَ إِلَى جِنْسِ الصَّلَاةِ وَحَقِيقَتِهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ مَطْلُوبَةٌ لِلشَّرْعِ، لَا مِنْ جِهَةِ وُقُوعِهَا فِي مَوْضِعٍ مَغْصُوبٍ، فَتَحَقَّقَ لَهُ الْجِهَتَانِ.

قَوْلُهُ: «وَأَيْضًا طَاعَةُ الْعَبْدِ وَعِصْيَانُهُ بِخِيَاطَةِ ثَوْبٍ أُمِرَ بِخِيَاطَتِهِ فِي مَكَانٍ نُهِيَ عَنْ دُخُولِهِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ» .

هَذِهِ حُجَّةٌ أُخْرَى لِمَنْ صَحَّحَ الصَّلَاةَ. وَقَوْلُنَا: طَاعَةُ الْعَبْدِ مُبْتَدَأٌ، وَعِصْيَانُهُ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، وَ «يَدُلُّ عَلَيْهِ» خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، تَقْدِيرُهُ طَاعَةُ الْعَبْدِ وَعِصْيَانُهُ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَوْضِعِ الْمَغْصُوبِ، أَوْ يَدُلُّ عَلَى أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْوَاحِدَ بِالشَّخْصِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْرِدًا لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ جِهَتَيْنِ.

وَتَقْرِيرُ الْحُجَّةِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ السَّيِّدَ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: خِطْ هَذَا الثَّوْبَ، وَلَا تَدْخُلْ هَذِهِ الدَّارَ، فَخَاطَ الْعَبْدُ الثَّوْبَ فِي الدَّارِ الْمَذْكُورَةِ، لَعُدَّ مُطِيعًا لِسَيِّدِهِ عَاصِيًا لَهُ بِاعْتِبَارِ الْجِهَتَيْنِ، أَيْ: مُطِيعًا لَهُ مِنْ جِهَةِ امْتِثَالِ أَمْرِهِ بِخِيَاطَةِ الثَّوْبِ، عَاصِيًا لَهُ مِنْ جِهَةِ ارْتِكَابِ نَهْيِهِ بِدُخُولِ الدَّارِ الَّتِي نَهَاهُ عَنْ دُخُولِهَا.

وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، فَالصَّلَاةُ فِي الْمَوَاضِعِ الْمَغْصُوبِ مِثْلُهَا سَوَاءٌ، لِأَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى أَمَرَ عَبْدَهُ بِالصَّلَاةِ وَنَهَاهُ عَنِ الْغَصْبِ، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا كَمَا جَمَعَ الْعَبْدُ الْخَيَّاطُ بَيْنَ خِيَاطَةِ الثَّوْبِ وَدُخُولِ الدَّارِ.

وَأَيْضًا فَإِنَّ حَرَكَةَ الْعَبْدِ الْخَيَّاطِ فِي الدَّارِ الَّتِي نُهِيَ عَنْ دُخُولِهَا، وَحَرَكَةَ الْمُصَلِّي

ص: 368

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

فِي الْمَكَانِ لَيْسَتْ مَنْهِيًّا عَنْهَا لِكَوْنِهَا حَرَكَاتٍ، إِذْ لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ، لَكَانَتْ حَرَكَاتُهُمَا مَنْهِيًّا عَنْهَا حَيْثُ وُجِدَتْ، وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْهَا، لِكَوْنِهَا حَرَكَاتٍ وَاقِعَةً فِي مَكَانٍ نُهِيَ عَنْ دُخُولِهِ، وَهَذَا أَخَصُّ مِنْ مُجَرَّدِ كَوْنِهَا حَرَكَاتٍ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْأَخَصِّ لَا يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنِ الْأَعَمِّ. وَيَرْجِعُ هَذَا التَّقْرِيرُ إِلَى تَحْقِيقِ الْجِهَتَيْنِ كَمَا سَبَقَ.

قَوْلُهُ: «وَلَوْ مَرَقَ سَهْمُهُ» إِلَى آخِرِهِ، هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى الصِّحَّةِ.

وَتَقْرِيرُهُ: لَوْ رَمَى كَافِرًا، فَمَرَقَ السَّهْمُ مِنْهُ إِلَى مُسْلِمٍ فَقَتَلَهُ، لَوَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْمُسْلِمِ قِصَاصًا إِنْ كَانَ تَعَمَّدَ قَتْلَهُ بِذَلِكَ، أَوْ دِيَتَهُ إِنْ كَانَ لَمْ يَتَعَمَّدْ، أَوْ عَفَا عَنْهُ إِلَى الدِّيَةِ، وَلَاسْتَحَقَّ سَلَبَ الْكَافِرِ بِشُرُوطِهِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْفِقْهِ. وَهَذَا فِعْلٌ وَاحِدٌ اشْتَمَلَ عَلَى حَرَامٍ وَحَلَالٍ، وَخَسَارَةٍ وَرِبْحٍ، وَهُمَا مُتَقَابِلَانِ بِاعْتِبَارِ الْجِهَتَيْنِ، وَالصَّلَاةُ الْمُتَنَازَعُ فِيهَا مِثْلُهُ، هِيَ فِعْلٌ وَاحِدٌ اشْتَمَلَ عَلَى حَرَامٍ وَهُوَ الْغَصْبُ، وَحَلَالٍ أَوْ وَاجِبٍ وَهُوَ الصَّلَاةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ صَلَاةٌ بِاعْتِبَارِ الْجِهَتَيْنِ.

ص: 369

وَأُجِيبَ عَنِ الْكُلِّ، بِأَنَّ مَعَ النَّظَرِ إِلَى عَيْنِ هَذِهِ الصَّلَاةِ، لَا جِهَتَيْنِ، بِخِلَافِ مَا ذَكَرْتُمْ، ثُمَّ يَلْزَمُ عَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمِ النَّحْرِ بِالْجِهَتَيْنِ، وَلَا فَرْقَ.

ثُمَّ إِنَّ الْإِخْلَالَ بِشَرْطِ الْعِبَادَةِ مُبْطِلٌ، وَنِيَّةُ التَّقَرُّبِ بِالصَّلَاةِ شَرْطٌ. وَالتَّقَرُّبُ بِالْمَعْصِيَةِ مُحَالٌ. وَالْمُخْتَارُ صِحَّةُ الصَّلَاةِ، نَظَرًا إِلَى جِنْسِهَا، لَا إِلَى عَيْنِ مَحَلِّ النِّزَاعِ.

ــ

قَوْلُهُ: «وَأُجِيبَ عَنِ الْكُلِّ» أَيْ: عَنِ الْحُجَجِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى صِحَّةِ الصَّلَاةِ: «بِأَنَّ مَعَ النَّظَرِ إِلَى عَيْنِ هَذِهِ الصَّلَاةِ لَا جِهَتَيْنِ» .

هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْمَأْخَذِ السَّابِقِ لِلْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ أَنَّا إِذَا نَظَرْنَا إِلَى عَيْنِ هَذِهِ الصَّلَاةِ الْوَاقِعَةِ فِي الْمَكَانِ الْمَغْصُوبِ، لَمْ تَتَحَقَّقِ الْجِهَتَانِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ جِهَةِ النَّافِي لِلصِّحَّةِ، إِذَا لَمْ تَتَحَقَّقِ الْجِهَتَانِ، امْتَنَعَ قِيَاسُهَا فِي الصِّحَّةِ عَلَى طَاعَةِ الْعَبْدِ الْخَيَّاطِ وَعِصْيَانِهِ، وَمُرُوقُ السَّهْمِ مِنْ كَافِرٍ إِلَى مُسْلِمٍ، وَاتَّحَدَ مُتَعَلِّقُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهُوَ عَيْنُ هَذِهِ الصَّلَاةِ، لِأَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الصُّوَرِ تَحَقَّقَتْ فِيهِ الْجِهَتَانِ.

قَوْلُهُ: «ثُمَّ يَلْزَمُ عَلَيْهِ» إِلَى آخِرِهِ.

هَذَا إِلْزَامٌ عَلَى مَنْ صَحَّحَ هَذِهِ الصَّلَاةَ.

وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ صِحَّةَ الصَّلَاةِ فِي الْمَكَانِ الْغَصْبِ بِاعْتِبَارِ الْجِهَتَيْنِ كَمَا قَرَّرْتُمْ، يَلْزَمُ عَلَيْهِ صِحَّةُ «صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ» وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَزْمِنَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْ صِيَامِهَا بِاعْتِبَارِ الْجِهَتَيْنِ، لِأَنَّ الصَّوْمَ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَطْلُوبٌ، وَإِنَّمَا الْمَنْهِيُّ عَنْهُ إِيقَاعُهُ فِي هَذَا الزَّمَنِ الْمَنْهِيِّ عَنِ الصَّوْمِ فِيهِ، لَكِنَّهُمْ قَالُوا: لَا يَصِحُّ. وَالْفَرْقُ عَسِيرٌ، وَرُبَّمَا فَرَّقَ

ص: 370

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْفِعْلَ أَخَصُّ بِالزَّمَانِ، وَأَلْزَمُ لَهُ مِنَ الْمَكَانِ بِدَلِيلِ انْقِسَامِ الْفِعْلِ بِانْقِسَامِ الزَّمَانِ إِلَى مَاضٍ وَحَالٍ وَمُسْتَقْبَلٍ، وَلَمْ يَنْقَسِمْ بِانْقِسَامِ الْأَمْكِنَةِ، وَالْفِعْلُ وَالزَّمَانُ عَرَضَانِ وَالْمَكَانُ جِسْمٌ، وَحِينَئِذٍ جَازَ أَنْ يُؤَثِّرَ الزَّمَانُ فِي الْفِعْلِ مِنَ الْبُطْلَانِ لِاخْتِصَاصِهِ بِهِ وَلُزُومِهِ مَا لَا يُؤْثِرُهُ الْمَكَانُ لِعَدَمِ ذَلِكَ، وَهَذَا فَرْقٌ لَكِنْ فِي تَأْثِيرِهِ نَظَرٌ. وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا أَعْنِي: صَوْمَ يَوْمِ الْعِيدِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمَنْهِيُّ عَنْهُ نَفْسُ الصَّوْمِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْمَنْهِيُّ عَنْهُ إِيقَاعُ الصَّوْمِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ لَا نَفْسُ الصَّوْمِ، فَلَا تَضَادَّ بَيْنَهُمَا.

وَقَالَ بَعْضُ مُصَحِّحِي هَذِهِ الصَّلَاةِ: لَوْ لَمْ تَصِحَّ الصَّلَاةُ فِي الْمَكَانِ الْمَغْصُوبِ، لَمَا صَحَّ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ عَلَى جَمَلٍ مَغْصُوبٍ، لَكِنْ قَدْ صَحَّ هُنَاكَ فَلْتَصِحَّ الصَّلَاةُ هُنَا.

قُلْتُ: وَيُمْكِنُ الْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَحْكَامَ الْحَجِّ قَدْ دَخَلَهَا مِنَ الِاحْتِيَاطِ لِصِحَّتِهَا مَا لَمْ يَدْخُلْ أَحْكَامَ الصَّلَاةِ، حَتَّى قَالُوا: يَلْزَمُ نَفْلُ الْحَجِّ بِالشُّرُوعِ دُونَ نَفْلِ الصَّلَاةِ، وَإِنَّ مَنْ أَحْرَمَ عَنْ نَذْرٍ أَوْ عَنْ نَفْلٍ أَوْ غَيْرِهِ وَلَمْ يَكُنْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ، انْقَلَبَ الْإِحْرَامُ إِلَى فَرْضِهِ، وَإِنَّ الْإِحْرَامَ يَنْعَقِدُ بِالنِّيَّةِ، وَلَا يَزُولُ بِرَفْضِهَا. وَلَمْ يَقُولُوا كَذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ، فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهَا عَلَى الْحَجِّ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الصَّلَاةَ لِلْمَكَانِ أَلْزَمُ مِنَ الْوُقُوفِ عَلَى الْبَعِيرِ إِذْ يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى غَيْرِ بَعِيرٍ وَلَا دَابَّةٍ أَصْلًا، وَلَا يُمْكِنُ الصَّلَاةُ فِي غَيْرِ مَكَانٍ أَصْلًا.

ص: 371

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قَوْلُهُ: «ثُمَّ إِنَّ الْإِخْلَالَ بِشَرْطِ الْعِبَادَةِ مُبْطِلٌ» إِلَى آخِرِهِ، هَذَا تَأْكِيدٌ وَتَقْوِيَةٌ لِلْقَوْلِ بِبُطْلَانِ هَذِهِ الصَّلَاةِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ نِيَّةَ التَّقَرُّبِ بِالصَّلَاةِ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهَا، وَكَوْنُ هَذِهِ الصَّلَاةِ مُعَيَّنَةً مَنْهِيًّا عَنْهَا بِمَا سَبَقَ مِنَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ مُخِلٌّ بِشَرْطِ صِحَّتِهَا، إِذِ التَّقَرُّبُ بِالْمَعْصِيَةِ مُحَالٌ، لِتَنَاقُضِ الْمَعْصِيَةِ وَالْقُرْبَةِ، وَالْإِخْلَالُ بِشَرْطِ الْعِبَادَةِ مُبْطِلٌ لَهَا، فَهَذِهِ الصَّلَاةُ قَدِ اخْتَلَّ شَرْطُ صِحَّتِهَا، وَهُوَ نِيَّةُ التَّقَرُّبِ بِهَا، فَتَكُونُ بَاطِلَةً.

وَاعْلَمْ: أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ بِاعْتِبَارِ الْمَأْخَذِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ النَّظَرُ إِلَى عَيْنِ الصَّلَاةِ الْوَاقِعَةِ، لَا إِلَى الصَّلَاةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ.

قَوْلُهُ: «وَالْمُخْتَارُ صِحَّةُ الصَّلَاةِ» فِي الْمَوْضِعِ الْمَغْصُوبِ «نَظَرًا إِلَى جِنْسِهَا» أَيْ: إِلَى الصَّلَاةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ «لَا إِلَى عَيْنِ مَحَلِّ النِّزَاعِ» يَعْنِي الصَّلَاةَ الْمُعَيَّنَةَ فِي مَكَانٍ مَغْصُوبٍ، وَهُوَ اخْتِيَارٌ لِأَحَدِ الْمَأْخَذَيْنِ السَّابِقَيْنِ.

وَإِنَّمَا اخْتَرْتُ هَذَا الْمَأْخَذَ لِوُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ الصِّحَّةَ وَالْبُطْلَانَ وَنَحْوَهُمَا أَحْكَامٌ مِنَ الشَّرْعِ، وَأَحْكَامُ الشَّرْعِ مِنْ حَيْثُ هِيَ كُلِّيَّةٌ، وَالتَّخْصِيصُ وَالتَّعْيِينُ فِيهَا عَارِضٌ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّرْعَ مَثَلًا يَفْرِضُ صُورَةَ فِعْلٍ كُلِّيٍّ، ثُمَّ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِمَا يَرَاهُ، فَيَقُولُ: السَّرِقَةُ فِيهَا الْقَطْعُ، وَالزِّنَى فِيهِ الْحَدُّ، وَالْقَتْلُ فِيهِ الْقَوَدُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ، أَمَّا هَذِهِ السَّرِقَةُ، أَوْ هَذَا الزِّنَى، أَوْ هَذَا الْقَتْلُ الْمُعَيَّنُ، أَوْ سَرِقَةُ زَيْدٍ أَوْ عَمْرٍو أَوْ زِنَاهُمَا أَوْ قَتْلُهُمَا، فَإِنَّمَا عَرَضَ ذَلِكَ ضَرُورَةُ تَعَيُّنِ الْمَحَلِّ، فَكَذَلِكَ حُكْمُ الشَّرْعِ هَاهُنَا إِنَّمَا تَوَجَّهَ إِلَى الصَّلَاةِ الْكُلِّيَّةِ، أَعْنِي صُورَةَ الصَّلَاةِ الْمَوْجُودَةِ فِي الذِّهْنِ الَّتِي يَصِحُّ صُدُورُهَا عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ فِي مَكَانٍ مَغْصُوبٍ، فَإِذَا وَقَعَتْ فِي مَكَانٍ مَغْصُوبٍ

ص: 372

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

لَحِقَهَا حُكْمُ الشَّرْعِ بِحَسَبِ اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِ إِذَا لَمْ يَكُنْ نَصٌّ خَالٍ عَنْ مَعَارِضٍ، وَحِينَئِذٍ تَتَحَقَّقُ الْجِهَتَانِ كَمَا قُلْنَا.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَاعِدَةَ وُجُوبُ تَصْحِيحِ تَصَرُّفَاتِ الْعُقَلَاءِ الْمُكَلَّفِينَ مَا وُجِدَ السَّبِيلُ إِلَى ذَلِكَ، خُصُوصًا الْعِبَادَاتُ الَّتِي هِيَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ سبحانه وتعالى.

فَقَوْلُنَا فِي تَصْحِيحِهَا جَارٍ عَلَى الْقَاعِدَةِ، وَقَوْلُ الْخَصْمِ فِي إِبْطَالِهَا خَارِجٌ عَنْهَا، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مُوَافَقَةَ الْقَوَاعِدِ أَوْلَى مِنْ مُخَالَفَتِهَا.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الصَّلَاةَ تَتَضَمَّنُ مَصْلَحَةً، وَالْغَصْبَ يَتَضَمَّنُ مَفْسَدَةً، وَالْعِنَايَةُ بِتَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ إِنْ لَمْ تَكُنْ أَشَدَّ مِنَ الْعِنَايَةِ بِدَفْعِ الْمَفْسَدَةِ، فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ تَسَاوِيَهَا، لِأَنَّ تَحْصِيلَ الْمَصْلَحَةِ مَقْصُودٌ لِذَاتِهِ، وَدَفْعَ الْمُفْسِدَةِ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ مَا يَعْرِضُ مِنَ الضَّرَرِ بِسَبَبِ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ، فَنَحْنُ فِي تَصْحِيحِنَا لِلصَّلَاةِ جَمَعْنَا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ:

تَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ بِتَصْحِيحِهَا، وَدَفْعِ مَفْسَدَةِ الْغَصْبِ بِتَأْثِيمِ فَاعِلِهِ، وَالْخَصْمُ بِإِبْطَالِ الصَّلَاةِ أَلْغَى تَحْصِيلَ مَصْلَحَتِهَا، فَكَانَ مَا اخْتَرْنَاهُ أَوْلَى.

وَقَدْ يُقَالُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: كَمَا أَنَّ دَفْعَ الْمُفْسِدَةِ مَقْصُودٌ لِمَا يَعْرِضُ مِنْهَا مِنَ الضَّرَرِ كَذَلِكَ تَحْصِيلُ الْمَصْلَحَةِ مَقْصُودٌ لِمَا يَعْرِضُ مِنْهُ مِنَ النَّفْعِ، فَكِلَاهُمَا مَقْصُودٌ لِغَيْرِهِ، فَلَا تَكُونُ الْعِنَايَةُ بِتَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ أَرْجَحُ.

وَالْجَوَابُ أَنَّا قَدْ قُلْنَا: إِنْ لَمْ تَكُنِ الْعِنَايَةُ بِتَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ أَشَدُّ فَلَا أَقَلَّ مِنَ التَّسَاوِي، وَإِذَا تَسَاوَيَا كَانَ تَعْيِينُ دَفْعِ مَفْسَدَةِ الْغَصْبِ تَرْجِيحًا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ،

ص: 373

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَحِينَئِذٍ يَجِبُ تَحْصِيلُ الْأَمْرَيْنِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.

فَإِنْ قِيلَ: تَصْحِيحُ الصَّلَاةِ حَقُّ اللَّهِ سبحانه وتعالى، وَدَفْعُ مَفْسَدَةِ الْغَصْبِ بِإِبْطَالِهَا حَقَّ الْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، فَيَنْبَغِي تَرْجِيحُهُ لِمَا عُرِفَ مِنْ مُحَافَظَةِ الشَّرْعِ عَلَى حَقِّهِ لِفَقْرِهِ، وَغِنَى اللَّهِ سبحانه وتعالى.

قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ رُجْحَانَ حَقِّ الْعَبْدِ. وَالْقَاعِدَةُ الَّتِي يَقُولُهَا الْفُقَهَاءُ بَاطِلَةٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عليه السلام: دَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى وَتَتَحَاصُّ الزَّكَاةُ وَالْحَجُّ وَالدَّيْنُ فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا تَرْجِيحَ حَقِّ الْعَبْدِ، لَكِنَّ حَقَّ الْعَبْدِ هُنَا يَحْصُلُ بِتَأْثِيمِ الْغَاصِبِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِبْطَالِ الصَّلَاةِ، غَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّ إِبْطَالَ الصَّلَاةِ أَبْلَغُ فِي تَحْصِيلِ حَقِّ الْعَبْدِ بِدَفْعِ مَفْسَدَتِهِ وَحَسْمِ بَابِ الْغَصْبِ عَنْهُ، لَكِنَّ الْأَبْلَغِيَّةَ لَا ضَرُورَةَ إِلَيْهَا وَلَا حَاجَةَ مَعَ مُعَارَضَةِ مَفْسَدَةِ إِبْطَالِ الْعِبَادَةِ لَهَا، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

ص: 374

تَنْبِيهٌ: مُصَحِّحُو هَذِهِ الصَّلَاةِ قَالُوا: النَّهْيُ، إِمَّا رَاجِعٌ إِلَى ذَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَيُضَادُّ وُجُوبَهُ، نَحْوُ {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} ، أَوْ إِلَى خَارِجٍ عَنْ ذَاتِهِ، نَحْوُ {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} مَعَ «لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ» ، فَلَا يُضَادُّهُ، فَيَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَلِكُلٍّ حُكْمُهُ، أَوْ إِلَى وَصْفِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَقَطْ، نَحْوَ {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} مَعَ {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} وَ «دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ» ، وَكَالنَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْأَمَاكِنِ وَالْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، وَكَإِحْلَالِ الْبَيْعِ مَعَ الْمَنْعِ مَعَ الرِّبَا فَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَنَا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.

ــ

«تَنْبِيهٌ» : مِنْ أَصْلِ الْمُخْتَصَرِ. قَوْلُهُ: «مُصَحِّحُو هَذِهِ الصَّلَاةِ» يَعْنِي: الصَّلَاةَ فِي الْمَكَانِ الْمَغْصُوبِ. «قَالُوا: النَّهْيُ» إِلَى آخِرِهِ، يَعْنِي: قَالُوا: النَّهْيُ إِمَّا أَنْ يَرْجِعَ إِلَى ذَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، أَوْ إِلَى خَارِجٍ عَنْ ذَاتِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهِ، أَوْ إِلَى وَصْفِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.

فَالرَّاجِعُ إِلَى ذَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ يُضَادُّ وُجُوبَهُ، نَحْوُ: لَا تَقْرَبُوا الزِّنَى، وَلَا تَأْكُلُوا الرِّبَا، وَلَا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ، وَنَحْوُهُ مِنَ الْمَنْهِيَّاتِ لِأَعْيَانِهَا وَحَقَائِقِهَا، فَإِيجَابُ مِثْلِ هَذِهِ الْمَنْهِيَّاتِ مَعَ قِيَامِ النَّهْيِ عَنْهَا مُتَضَادٌّ قَطْعًا، كَمَا لَوْ قَالَ: لَا تَقْرَبُوا الزِّنَى وَقَدْ أَوْجَبْتُهُ عَلَيْكُمْ، إِذْ يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّهُ مَطْلُوبُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ تَنَاقُضٌ.

وَالنَّهْيُ الرَّاجِعُ إِلَى خَارِجٍ عَنْ ذَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{أَقِمِ الصَّلَاةَ} [الْإِسْرَاءِ: 78]، {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الْبَقَرَةِ: 43] ، مَعَ قَوْلِهِ عليه السلام: لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَالذَّهَبَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ فِي النَّهْيِ لِلصَّلَاةِ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ مُضَادًّا لِلنَّهْيِ، فَيَصِحَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يُصَلِّيَ فِي ثَوْبٍ حَرِيرٍ أَوْ ذَهَبٍ. «لِكُلٍّ» ، أَيْ: وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَنْهِيِّ «حُكْمُهُ» ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَكُونُ مُطِيعًا بِفِعْلِ الصَّلَاةِ، وَيُثَابُ عَلَيْهَا، عَاصِيًا بِلُبْسِ الْحَرِيرِ، وَيُعَاقَبُ عَلَيْهِ.

ص: 375

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَقَوْلُنَا: وَلَمْ يَتَعَرَّضْ فِي النَّهْيِ لِلصَّلَاةِ احْتِرَازٌ مِمَّا لَوْ تَعَرَّضَ لَهَا فِيهِ بِأَنْ قَالَ: لَا تُصَلِّ فِي ثَوْبٍ حَرِيرٍ، أَوْ لَا تَلْبَسِ الْحَرِيرَ فِي الصَّلَاةِ، إِذْ يَصِيرُ النَّهْيُ رَاجِعًا إِلَى ذَاتِ الصَّلَاةِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، وَإِلَى شَرْطِهَا فِي الثَّانِيَةِ، وَكِلَاهُمَا مُبْطِلٌ.

وَقَدْ وَقَعَ النِّزَاعُ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي ثَوْبِ الْغَصْبِ وَالْحَرِيرِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْمَلْبُوسَاتِ الْمُحَرَّمَةِ، بِنَاءً عَلَى مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنِ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَفِيهِ دِرْهَمٌ حَرَامٌ، لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ عز وجل لَهُ صَلَاةً مَا دَامَ عَلَيْهِ رَوَاهُ أَحْمَدُ. فَعَلَّلَ بِالْحُرْمَةِ فِي ثَمَنِ الثَّوْبِ، فَيَحْرُمُ لُبْسُهُ لِذَلِكَ.

وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي صَلَاةِ مَنْ فِي يَدِهِ خَاتَمٌ مِنْ ذَهَبٍ، لِأَنَّهُ ارْتِكَابٌ لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ رُجُوعِ النَّهْيِ إِلَى أَمْرٍ خَارِجٍ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَالْأَشْبَهُ فِي هَذَا كُلِّهِ مَا اخْتَرْنَاهُ فِي الصَّلَاةِ فِي الْمَوْضِعِ الْمَغْصُوبِ، وَبَعْضُهُ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ مِنْ بَعْضٍ.

وَالرَّاجِعُ إِلَى وَصْفِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَقَطْ، نَحْوُ قَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الْبَقَرَةِ: 43]، مَعَ قَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النِّسَاءِ: 43]، وَقَوْلِهِ عليه السلام: دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ، وَكَالنَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْأَمَاكِنِ السَّبْعَةِ وَأَوْقَاتِ النَّهْيِ الْخَمْسَةِ، وَكَإِحْلَالِ الْبَيْعِ بِقَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [الْبَقَرَةِ: 275]، مَعَ النَّهْيِ عَنِ الرِّبَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} [آلِ عِمْرَانَ: 130]، {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [الْبَقَرَةِ: 278] ، فَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ عِنْدَنَا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِمَا سَيَأْتِي فِي الدَّلِيلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ص: 376

وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: هُوَ فَاسِدٌ غَيْرُ بَاطِلٍ، إِعْمَالًا لِدَلِيلَيِ الْجَوَازِ وَالْمَنْعِ.

لَنَا: أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ، لَيْسَ هَذِهِ الصِّفَةَ، بَلِ الْمَوْصُوفُ بِهَا، وَإِلَّا لَلَزِمَ صِحَّةُ بَيْعِ الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ، إِذِ النَّهْيُ عَنْهَا لِوَصْفِهَا، وَهُوَ تَضَمُّنُهَا الْغَرَرَ، لَا لِكَوْنِهَا بَيْعًا، إِذِ الْبَيْعُ مَشْرُوعٌ إِجْمَاعًا.

ــ

«وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ» يَعْنِي هَذَا الْمَنْهِيَّ عَنْ وَصْفِهِ «فَاسِدٌ غَيْرُ بَاطِلٍ» ، وَهُوَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى «إِعْمَالًا» أَيْ: فَرَّقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِلِ «إِعْمَالًا لِدَلِيلَيِ الْجَوَازِ وَالْمَنْعِ» وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله نَظَرَ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَنَحْوِهَا، فَرَآهَا مِنْ حَيْثُ ذَوَاتِهَا مَشْرُوعَةً، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ النَّهْيُ بِهَا مِنْ جِهَةِ وُقُوعِهَا عَلَى حَالٍ وَوَصْفٍ مَمْنُوعٍ، كَالصَّلَاةِ: هِيَ فِي نَفْسِهَا مَشْرُوعَةٌ، لَكِنَّ إِيقَاعَهَا فِي حَالِ السُّكْرِ وَالْحَيْضِ أَوْ فِي الْأَمَاكِنِ وَالْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا وَاتِّصَافَهَا بِذَلِكَ هُوَ الْمَمْنُوعُ، وَالْبَيْعُ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ مَشْرُوعٌ، وَإِنَّمَا الْمَمْنُوعُ إِيقَاعُهُ عَلَى صِفَةِ الرِّبَا أَوْ مُقْتَرِنًا بِشَرْطٍ فَاسِدٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّ بَيْعَ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ يَصِحُّ، وَتَلْغُو الزِّيَادَةُ وَتَلْزَمُ بِاتِّصَالِ الْقَبْضِ بِهِ، وَيَكُونُ مَكْرُوهًا لِتَعَلُّقِ النَّهْيِ بِوَصْفِهِ وَاتِّصَافِهِ بِالْفَسَادِ وَكَذَلِكَ الطَّوَافُ مَشْرُوعٌ، وَإِيقَاعُهُ مَعَ الْحَدَثِ مَمْنُوعٌ، وَالطَّلَاقُ مَشْرُوعٌ، وَإِيقَاعُهُ فِي الْحَيْضِ مَمْنُوعٌ، وَالسَّفَرُ مَشْرُوعٌ، وَقَصْدُ الْإِبَاقِ فِيهِ عَنِ السَّيِّدِ مَمْنُوعٌ، فَلِذَلِكَ أَجَازَ التَّرَخُّصَ لِلْعَاصِي بِسَفَرِهِ، وَصَحَّحَ طَوَافَ الْمُحْدِثِ، وَأَوْقَعَ الطَّلَاقَ فِي الْحَيْضِ.

قَالَ: فَمَطْلُوبِيَّةُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ مِنْ حَيْثُ ذَوَاتِهَا دَلِيلُ الْجَوَازِ، وَتَعَلُّقُ النَّهْيِ بِهَا مِنْ

ص: 377

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

جِهَةِ أَوْصَافِهَا دَلِيلُ الْمَنْعِ، وَإِعْمَالُ الدَّلِيلِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ، فَأَعْمَلْنَا الدَّلِيلَيْنِ، وَجَعَلْنَا هَذَا الْقِسْمَ وَاسِطَةً بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَسَمَّيْنَاهُ: الْفَاسِدَ، فَيَصِحُّ لِدَلِيلِ الصِّحَّةِ، لَكِنْ مَعَ ضَعْفٍ يَتَوَقَّفُ عَلَى انْضِمَامٍ مُقَوٍّ إِلَيْهِ، كَالْقَبْضِ فِي بَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ، أَوْ مَعَ كَرَاهَةٍ كَطَوَافِ الْمُحْدِثِ لِدَلِيلِ الْمَنْعِ.

قَوْلُهُ: «لَنَا» أَيْ: عَلَى أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَرْجِعُ النَّهْيُ عَنْهُ إِلَى ذَاتِهِ «أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ لَيْسَ هَذِهِ الصِّفَةَ بَلِ الْمَوْصُوفُ بِهَا» ، فَلَيْسَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ وَصْفَ الصَّلَاةِ بِكَوْنِهَا وَاقِعَةً فِي حَالِ السُّكْرِ، وَلَا وَصْفَ الْبَيْعِ بِأَنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى زِيَادَةٍ رِبَوِيَّةٍ، وَلَا وَصْفَ الطَّوَافِ بِوُقُوعِهِ فِي حَالِ الْحَدَثِ، وَنَحْوَهُ مِنَ الصُّوَرِ، بَلِ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ نَفْسُ الصَّلَاةِ الْوَاقِعَةِ حَالَ السُّكْرِ، وَنَفْسُ الْبَيْعِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الزِّيَادَةِ، وَنَفْسُ الطَّوَافِ الْوَاقِعِ حَالَ الْحَدَثِ، كَمَا أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ نَفْسُ الزِّنَى الْوَاقِعِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْحَرْثِ شَرْعًا.

قَوْلُهُ: «وَإِلَّا لَلَزِمَ» إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِالصِّفَةِ لَلَزِمَ صِحَّةُ بَيْعِ الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ بَيْعِهَا إِنَّمَا هُوَ لِصِفَةٍ وَهُوَ تَضَمُّنُهُ الْغَرَرَ، لَا لِكَوْنِهِ بَيْعًا، إِذِ الْبَيْعُ مِنْ حَيْثُ هُوَ بَيْعٌ مَشْرُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَمَا بَطَلَ بَيْعُ الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ بِاتِّفَاقٍ مَعَ اشْتِمَالِهِ عَلَى جِهَةِ بَيْعٍ

ص: 378

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

مَشْرُوعٍ وَوَصْفٍ مَمْنُوعٍ، وَلَمْ يَقُلْ فِيهِ مَا قَالَ فِي بَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ، دَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا تَوَجَّهَ إِلَى الذَّاتِ الْمُتَّصِفَةِ لَا إِلَى صِفَةِ الذَّاتِ، وَقَدْ نَبَّهْتُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ عَلَى أَنَّ تَلْخِيصَ مَأْخَذِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ النَّهْيَ فِيهَا عَنِ الْمَوْصُوفِ أَوْ عَنِ الصِّفَةِ.

تَنْبِيهَانِ: اعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذَا الْأَصْلِ أَدْخَلُ فِي التَّدْقِيقِ وَأَشْبَهُ بِالتَّحْقِيقِ، ثُمَّ لَمَّا تَقَرَّرَ هَذَا الْخِلَافُ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ، خَرَجَ عَنْ قَاعِدَةِ كُلٍّ مِنْهُمْ بَعْضُ الصُّوَرِ، فَاحْتَاجَ ذَلِكَ إِلَى جَوَابٍ.

أَمَّا مَنْ قَالَ: يَرْجِعُ النَّهْيُ إِلَى الْمَوْصُوفِ لَا إِلَى الصِّفَةِ، فَوَرَدَ عَلَيْهِ نَحْوُ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ، فَإِنَّهُ يُنْفِذُهُ وَيُوقِعُهُ، مَعَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ يَقْتَضِي تَعَلُّقَهُ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي عَدَمَ وُقُوعِهِ لِكَوْنِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ.

وَجَوَابُهُ: أَنَّ الدَّلِيلَ لَمَّا قَامَ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ، صَرَفْنَا النَّهْيَ عَنْهُ إِلَى مَا يَلْزَمُ مِنْهُ مِنْ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ، جَمْعًا بَيْنَ دَلِيلِ النُّفُوذِ وَاحْتِيَاجِ النَّهْيِ إِلَى مُتَعَلِّقٍ.

وَأَمَّا مَنْ قَالَ: يَرْجِعُ النَّهْيُ إِلَى وَصْفِ الْفِعْلِ، فَوَرَدَ عَلَيْهِ مِثْلُ صَلَاةِ الْمُحْدِثِ وَالْحَائِضِ، فَإِنَّ دَلِيلَهُ يَقْتَضِي صِحَّتَهَا، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الصَّلَاةَ لِذَاتِهَا مَطْلُوبَةٌ، وَإِنَّمَا الْمَمْنُوعُ إِيقَاعُهَا حَالَ الْحَدَثِ وَالْحَيْضِ.

فَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الدَّلِيلَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ فِي الصَّلَاةِ، فَانْتَفَتْ لِانْتِفَاءِ شَرْطِهَا بِالْحَدَثِ وَالْحَيْضِ، بِخِلَافِ طَوَافِ الْمُحْدِثِ، إِذْ لَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ لِلطَّوَافِ.

ص: 379

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَكَذَلِكَ يَتَأَتَّى الْجَوَابُ عَنْ لُحُوقِ النَّسَبِ فِي الزِّنَى، حَيْثُ كَانَ طَلَبُ الْوَلَدِ بِالْوَطْءِ مَشْرُوعًا، وَإِنَّمَا الْمَمْنُوعُ إِيقَاعُهُ فِي الْأَجْنَبِيَّةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُلْحَقَ.

فَيُقَالُ: دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ شَرْطَ لُحُوقِهِ أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ فِي مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ شَرْعًا بِنِكَاحٍ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ، فَانْتَفَى اللُّحُوقُ لِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ.

قُلْتُ: وَحَاصِلُ الْأَمْرِ يَرْجِعُ إِلَى تَخْصِيصِ الْقَوَاعِدِ بِالدَّلِيلِ، وَهُوَ جَائِزٌ، كَتَخْصِيصِ الْعُمُومِ وَالْقِيَاسِ.

نَعَمْ قَدْ يَقَعُ التَّرْجِيحُ بِقِلَّةِ التَّخْصِيصِ، لِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، فَأَيُّ الْمَذْهَبَيْنِ كَانَ التَّخْصِيصُ عَلَيْهِ أَقَلَّ كَانَ رَاجِحًا، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِاسْتِقْرَاءِ فُرُوعِ الْقَاعِدَةِ.

التَّنْبِيهُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلِي فِي «الْمُخْتَصَرِ» : «أَوْ إِلَى وَصْفِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَقَطْ» ، مَعَ قَوْلِي بَعْدَ ذَلِكَ:«إِنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ لَيْسَ هَذِهِ الصِّفَةَ بَلِ الْمَوْصُوفُ بِهَا» ظَاهِرُ التَّنَاقُضِ، لِأَنَّهُ مَتَى كَانَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ الْمَوْصُوفَ لَمْ يَكُنِ النَّهْيُ رَاجِعًا إِلَى وَصْفِهِ فَقَطْ.

وَإِنَّمَا تَابَعْتُ الشَّيْخَ أَبَا مُحَمَّدٍ وَهُوَ تَابَعَ الشَّيْخَ أَبَا حَامِدٍ، وَمَا ذَكَرْتُهُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ مَعْنَى مَا ذَكَرَاهُ جَمِيعًا، وَإِذَا تَأَمَّلْتَهُ أَنْتَ عَرَفْتَهُ، وَلَمْ أَتَنَبَّهْ لِهَذَا إِلَّا الْآنَ.

وَكَذَلِكَ قَوْلِي فِيهِ: «وَإِلَّا لَلَزِمَ صِحَّةُ بَيْعِ الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ إِذِ النَّهْيُ عَنْهَا لِوَصْفِهَا وَهُوَ تَضَمُّنُهَا الْغَرَرَ» . الصَّوَابُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: إِذِ النَّهْيُ عَنْهُ لِوَصْفِهِ وَهُوَ تَضَمُّنُهُ

ص: 380

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْغَرَرَ رَدًّا لِلضَّمِيرِ إِلَى الْبَيْعِ لَا إِلَى الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ، وَالْأَمْرُ فِي هَذَا أَقْرَبُ، وَالْمَضَامِينُ: مَا فِي أَصْلَابِ الْفُحُولِ مِنَ الْمَاءِ، وَالْمَلَاقِيحُ: مَا فِي بُطُونِ النُّوقِ مِنَ الْأَجِنَّةِ، الْوَاحِدُ مَلْقُوحَةٌ، ذَكَرَ ذَلِكَ الْجَوْهَرِيُّ.

ص: 381