الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَ
الْكَلَامُ: نَصٌّ، وَظَاهِرٌ، وَمُجْمَلٌ
. فَالنَّصُّ لُغَةً: الْكَشْفُ وَالظُّهُورُ، وَمِنْهُ نَصَّتِ الظَّبْيَةُ رَأْسَهَا، أَيْ: رَفَعَتْهُ وَأَظْهَرَتْهُ، وَمِنْهُ مِنَصَّةُ الْعَرُوسِ. وَاصْطِلَاحًا: الصَّرِيحُ فِي مَعْنَاهُ، وَقِيلَ: مَا أَفَادَ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ احْتِمَالٍ.
وَحُكْمُهُ، أَنْ لَا يُتْرَكَ إِلَّا بِنَسْخٍ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَا تَطَرَّقَ إِلَيْهِ احْتِمَالٌ يُعَضِّدُهُ دَلِيلٌ، وَعَلَى الظَّاهِرِ، وَلَا مَانِعَ مِنْهُ، إِذِ الِاشْتِقَاقُ الْمَذْكُورُ يَجْمَعُهُمَا.
ــ
قَوْلُهُ: «وَالْكَلَامُ نَصٌّ وَظَاهِرٌ وَمُجْمَلٌ» .
قُلْتُ: انْتَهَى مَا كَانَ اتَّفَقَ ذِكْرُهُ مِنْ كُلِّيَّاتِ مَبَاحِثِ الْعَرَبِيَّةِ وَمُقَدِّمَاتِهَا، وَالْكَلَامُ مِنَ الْآنَ فِي مَبَاحِثَ أُصُولِيَّةٍ، أَعْنِي: شَأْنُهَا فِي الْعَادَةِ أَنْ تُذْكَرَ فِي الْأُصُولِ، وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعُهَا الْأَلْفَاظَ، فَهِيَ كَأَنَّهَا ذَاتُ وَجْهَيْنِ: مِنْ جِهَةِ الْعَادَةِ أُصُولِيَّةٌ، وَمِنْ جِهَةِ التَّحْقِيقِ لُغَوِيَّةٌ.
وَوَجْهُ انْحِصَارِ الْكَلَامِ فِي النَّصِّ وَالظَّاهِرِ وَالْمُجْمَلِ: هُوَ أَنَّ اللَّفْظَ إِمَّا أَنْ يَحْتَمِلَ مَعْنًى وَاحِدًا فَقَطْ، أَوْ يَحْتَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ مَعْنًى وَاحِدٍ، وَالْأَوَّلُ النَّصُّ، وَالثَّانِي: إِمَّا أَنْ يَتَرَجَّحَ فِي أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، أَوْ لَا يَتَرَجَّحَ، وَهُوَ الْمُجْمَلُ.
قَوْلُهُ: «فَالنَّصُّ لُغَةً: الْكَشْفُ وَالظُّهُورُ» إِلَى آخِرِهِ.
أَيِ: النَّصُّ فِي اللُّغَةِ هُوَ مَا ذُكِرَ «وَمِنْهُ: نَصَّتِ الظَّبْيَةُ رَأْسَهَا، أَيْ: رَفَعَتْهُ وَأَظْهَرَتْهُ، وَمِنْهُ: مِنَصَّةُ الْعَرُوسِ» : وَهُوَ الْكُرْسِيُّ الَّذِي تَجْلِسُ عَلَيْهِ لِظُهُورِهَا عَلَيْهِ.
قُلْتُ: النَّصُّ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الرَّفْعُ إِلَى غَايَةِ مَا يَنْبَغِي. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: قَوْلُهُمْ نَصَصْتُ نَاقَتِي، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: النَّصُّ: السَّيْرُ الشَّدِيدُ حَتَّى يَسْتَخْرِجَ أَقْصَى مَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
عِنْدَهَا، قَالَ: وَلِهَذَا قِيلَ: نَصَصْتُ الشَّيْءَ: رَفَعْتُهُ، وَمِنْهُ مِنَصَّةُ الْعَرُوسِ، وَنَصَصْتُ الْحَدِيثَ إِلَى فُلَانٍ، أَيْ: رَفَعْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
وَجِيدٍ كَجِيدِ الرِّيمِ لَيْسَ بِفَاحِشٍ
…
إِذَا هِيَ نَصَّتْهُ وَلَا بِمُعَطَّلِ
قَوْلُهُ: «وَاصْطِلَاحًا» ، أَيْ: وَالنَّصُّ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ هُوَ الصَّرِيحُ فِي مَعْنَاهُ. وَالصَّرِيحُ: الْخَالِصُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَمَعْنَى كَوْنِ النَّصِّ هُوَ «الصَّرِيحَ فِي مَعْنَاهُ» : كَوْنُهُ خَالِصَ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، لَا يَشُوبُهُ احْتِمَالُ دَلَالَةٍ عَلَى غَيْرِهِ.
وَقِيلَ: هُوَ «مَا أَفَادَ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ احْتِمَالٍ» ، فَقَوْلُهُ: مَا أَفَادَ بِنَفْسِهِ: احْتِرَازٌ مِمَّا لَا يُفِيدُ بِنَفْسِهِ، بَلْ بِانْضِمَامِ غَيْرِهِ إِلَيْهِ، كَالْقَرِينَةِ فِي الْمَجَازِ وَالْمُشْتَرَكِ، وَالْبَيَانِ فِي الْمُجْمَلِ.
وَقَوْلُهُ: «مِنْ غَيْرِ احْتِمَالٍ» : احْتِرَازٌ مِمَّا أَفَادَ بِنَفْسِهِ مَعَ احْتِمَالِ غَيْرِ مَا أَفَادَهُ، كَالظَّاهِرِ عَلَى مَا قَدْ ذُكِرَ فِيهِ، وَهَذَانِ التَّعْرِيفَانِ لِلنَّصِّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِي النَّصِّ ثَلَاثَةَ اصْطِلَاحَاتٍ:
أَحَدُهَا: مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى قَطْعًا، وَلَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ قَطْعًا، كَأَسْمَاءِ الْأَعْدَادِ نَحْوَ: أَحَدٍ، اثْنَيْنِ، ثَلَاثَةٍ.
وَالثَّانِي: مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى قَطْعًا، وَإِنِ احْتَمَلَ غَيْرَهُ، كَصِيَغِ الْجُمُوعِ فِي الْعُمُومِ، تَدُلُّ عَلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ قَطْعًا، مَعَ احْتِمَالِهَا الِاسْتِغْرَاقَ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَالثَّالِثُ: مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى كَيْفَ كَانَ.
وَمَأْخَذُ هَذِهِ الِاصْطِلَاحَاتِ: أَنَّ مَنْ لَاحَظَ مَعْنَى النَّصِّ لُغَةً حَمَلَ عَلَيْهِ الِاصْطِلَاحَ الْأَوَّلَ، لِأَنَّهُ بَلَغَ مُنْتَهَى الْبَيَانِ وَغَايَتَهُ، وَلِهَذَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي «الْعُدَّةِ» : النَّصُّ، قِيلَ: مَا رُفِعَ فِي بَيَانِهِ إِلَى أَقْصَى غَايَتِهِ، وَمِنْهُ مِنَصَّةُ الْعَرُوسِ، لِأَنَّهَا تُرْفَعُ عَلَى سَائِرِ النِّسَاءِ.
وَمَنْ لَاحَظَ أَصْلَ الظُّهُورِ وَالِارْتِفَاعِ، حَمَلَ عَلَيْهِ الِاصْطِلَاحَ الثَّالِثَ.
وَمَنْ تَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا، حَمَلَ عَلَيْهِ الِاصْطِلَاحَ الثَّانِيَ.
قُلْتُ: الْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِاللُّغَةِ، وَهُوَ مُرَادُ أَصْحَابِنَا بِقَوْلِهِمْ: نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، أَوْ هُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَدَ، وَالثَّالِثُ هُوَ الْغَالِبُ فِي اسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ فِي الِاسْتِدْلَالِ، حَيْثُ يَقُولُونَ: لَنَا النَّصُّ وَالْمَعْنَى، وَدَلَّ النَّصُّ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ.
قَوْلُهُ: «وَحُكْمُهُ» ، أَيْ: وَحُكْمُ النَّصِّ، أَيْ: قَضَاءُ الشَّرْعِ فِيهِ «أَنْ لَا يُتْرَكَ إِلَّا بِنَسْخٍ» ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّسْخَ رَافِعٌ لِحُكْمِ الْمَنْسُوخِ، نَصًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، أَمَّا مَعَ عَدَمِ النَّسْخِ وَنُصُوصِيَّةِ اللَّفْظِ، فَتَرْكُهُ يَكُونُ عِنَادًا وَمُرَاغَمَةً لِلشَّرْعِ، فَيَدْخُلُ تَارِكُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 134]، إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 136] ، وَأَشْبَاهِهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا سَوَاءً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إِلَّا أَنَّ بَيْنَهُمَا قَدْرًا مُشْتَرَكًا، وَهُوَ التَّرْكُ مُرَاغَمَةً وَاجْتِرَاءً عَلَى الشَّرْعِ.
قَوْلُهُ: «وَقَدْ يُطْلَقُ» ، يَعْنِي النَّصَّ، «عَلَى مَا تَطَرَّقَ إِلَيْهِ احْتِمَالٌ يُعَضِّدُهُ دَلِيلٌ» وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاحْتِمَالَ الْمَذْكُورَ مَعَ الدَّلِيلِ الْعَاضِدِ لَهُ صَارَ كَالظَّاهِرِ، وَالظَّاهِرُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ النَّصِّ، كَمَا يَأْتِي بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ سبحانه وتعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [الْمَائِدَةِ: 6] ، بِكَسْرِ اللَّامِ، هُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ فَرْضَ الرِّجْلَيْنِ الْمَسْحُ مَعَ احْتِمَالِهِ الْغَسْلَ، فَاحْتِمَالُهُ الْغَسْلَ مَعَ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَيْهِ يُسَمَّى نَصًّا، لِأَنَّهُ صَارَ مُسَاوِيًا لِلظَّاهِرِ فِي الْمَسْحِ، وَرَاجِحًا عَلَيْهِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، حَتَّى إِنَّهُ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقُولَ: ثَبَتَ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ بِالنَّصِّ.
وَقَوْلُهُ: «مَا تَطَرَّقَ إِلَيْهِ احْتِمَالٌ يُعَضِّدُهُ دَلِيلٌ» : احْتِرَازٌ مِمَّا تَطَرَّقَ إِلَيْهِ احْتِمَالٌ مُجَرَّدٌ، لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ نَصٌّ وَلَا ظَاهِرٌ، وَذَلِكَ كَاحْتِمَالِ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَسْحِ الرُّءُوسِ غَسْلُهَا، فِي قَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} ، إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ.
فَأَمَّا اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ غَسْلَ الرَّأْسِ هَلْ يُجْزِئُ عَنْ مَسْحِهِ أَمْ لَا؟ فَلَيْسَ بِنَاءً عَلَى الِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ، بَلْ عَلَى أَنَّ الرَّأْسَ اخْتُصَّ بِالْمَسْحِ تَعَبُّدًا، أَوْ تَخْفِيفًا لِمَشَقَّةِ غَسْلِهِ غَالِبًا، لِمُلَازَمَةِ الْحَالِ لَهُ عَادَةً.
قَوْلُهُ: «وَعَلَى الظَّاهِرِ» ، أَيْ: وَيُطْلَقُ النَّصُّ عَلَى الظَّاهِرِ أَيْضًا، «وَلَا مَانِعَ مِنْهُ» ، أَيْ: مِنْ إِطْلَاقِ لَفْظِ النَّصِّ عَلَيْهِ، «إِذِ الِاشْتِقَاقُ الْمَذْكُورُ يَجْمَعُهُمَا» ، يَعْنِي اشْتِقَاقَ النَّصِّ مِنْ مَعْنَى الِارْتِفَاعِ وَالظُّهُورِ يَجْمَعُ النَّصَّ وَالظَّاهِرَ، أَيْ: يَلْتَقِيَانِ فِيهِ عَلَى حَدٍّ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا مِنْهُ، فَالنَّصُّ مُرْتَفِعٌ ظَاهِرٌ فِي الدَّلَالَةِ، وَالظَّاهِرُ كَذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّ النَّصَّ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أَشَدُّ ظُهُورًا وَارْتِفَاعًا، فَبِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا مِنَ الِارْتِفَاعِ وَالظُّهُورِ، جَازَ إِطْلَاقُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، كَمَا جَازَ إِطْلَاقُ الْعِلْمِ عَلَى الظَّنِّ، لِمَا اشْتَرَكَا فِيهِ مِنَ الرُّجْحَانِ كَمَا سَبَقَ، وَهَذَا قَدْ سَبَقَ نَحْوُهُ عِنْدَ ذِكْرِ الِاصْطِلَاحَاتِ فِي النَّصِّ.