الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر من اسمه عبد الرحيم وما بعده
276 -
عبد الرحيم بن أبي القاسم عبد الكريم بن هوازن أبو نصر القشيريّ النيسابوريّ الشافعي. (1)
قال عبد الغافر: هو إمام الأئمة، وحبر الأمة، وبحر العلوم. رباه والده واعتنى به حتى برع في النظم والنثر واستوفى الحظ الأوفر من علم التفسير والأصول، ثم لازم إمام الحرمين حتى أحكم عليه المذهب والخلاف والأصول.
وسمع الحديث من أبيه، وأبي عثمان الصابوني، وابن النّقور، وأبي القاسم الزّنجاني، وجماعة، وحدّث بالكثير.
روى عنه سبطه أبو سعد عبد الله بن عمر الصفار، وأبو الفتوح الطائي، وبالإجازة ابن عساكر، وابن السمعاني.
وصنف «التيسير في التفسير» .
قال الرافعيّ آخر باب النذر، في «تفسير أبي نصر القشيريّ» أن القفال قال: من التزم بالنذر أن لا يكلّم الآدميين. يحتمل أن يقال: يلزمه، لأنه ممّا يتقرّب به، ويحتمل أن يقال: لا، لما فيه من التضييق والتشديد، وليس ذلك من شرعنا، كما لو نذر الوقوف في الشمس.
(1) له ترجمة في: البداية والنهاية لابن كثير 12/ 187، تبين كذب المفتري لابن عساكر 308، طبقات الشافعية: للسبكي 7/ 159، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 30 أ، طبقات المفسرين للأدنةوي 38 ب، طبقات ابن هداية الله 73، العبر 4/ 33، فوات الوفيات لابن شاكر 1/ 559، مرآة الجنان 3/ 210، المنتظم 9/ 220. هذا وقد ترجم ابن خلكان لعبد الرحيم القشيري أثناء ترجمة أبيه عبد الكريم، في وفيات الأعيان لابن خلكان 2/ 377.
قال ابن السبكي: وقد رأيت ذلك في «تفسير أبي نصر» المذكور. ذكره في تفسير سورة مريم (1).
ومن العجائب أنه اعتقل لسانه في آخر عمره عن الكلام إلّا عن الذّكر، فكان يتكلم بآي القرآن.
مات في يوم الجمعة الثامن والعشرين من جمادى الآخرة سنة أربع عشرة وخمسمائة وهو في عشر الثمانين.
ومن شعره:
ليالي وصال [قد (2)] مضين كأنها
…
لآلي عقود في نحور الكواعب (3)
وأيام هجر أعقبتها كأنّها
…
بياض مشيب في سواد الذوائب
وله أيضا (4):
تقبيل خدّك أشتهي
…
أمل إليه أنتهي
لو نلت ذلك لم أبل
…
بالرّوح مني أن تهي
دنياي لذّة ساعة
…
وعلى الحقيقة أنت هي
وله (5):
شيئان من يعذلني فيهما
…
فهو على التّحقيق منّي بري
حبّ أبي بكر إمام التّقى
…
ثم اعتقادي مذهب الأشعري
(1) قال أبو نصر القشيري: وعلى هذا يكون نذر الصمت يعني في قوله تعالى «إني نذرت للرحمن صوما» في تلك الشريعة لا في شريعتنا (طبقات الشافعية للسبكي 7/ 166).
(2)
عن طبقات الشافعية للسبكي.
(3)
طبقات الشافعية للسبكي.
(4)
الأبيات الثلاثة في فوات الوفيات. وفيها: تقبيل ثغرك
…
(5)
طبقات الشافعية للسبكي.
277 -
عبد الرزاق بن رزق الله بن أبي بكر بن خلف بن أبي الهيجاء الرّسعنيّ الحنبليّ (1).
الإمام الفقيه، الحافظ المفسّر، عز الدين، أبو محمد، ولد برأس عين الخابور سنة تسع وثمانين وخمسمائة.
وسمع الحديث ببلده من أبي المجد القزويني، وغيره، وببغداد من عبد العزيز بن منينا، والداهري، وعمر بن كرم، وغيرهم.
وبدمشق من أبي اليمن الكندي، وابن الحرستاني، والخضر بن كامل، والشيخ موفق الدين، وأبي الفتوح بن الجلاجلي، وغيرهم.
وبحلب من الافتخار الهاشمي، وببلدان أخر. وعني بالحديث وطلب، وقرأ بنفسه.
وذكره الذهبي في «طبقات الحفاظ» .
وتفقه على الشيخ موفق الدّين، وحفظ كتاب «المقنع» في الفقه، وصحب الشيخ العماد، وطائفة من أهل العلم والدين والصّلاح.
وقرأ العربية والأدب، وتفنن في العلوم. وولي مشيخة دار الحديث بالموصل. وكانت له حرمة وافرة عند بدر الدين صاحب الموصل، وغيره من ملوك الجزيرة.
وصنّف «تفسيرا» حسنا في أربع مجلدات ضخمة سمّاه «رموز الكنوز» وفيه فوائد حسنة ويروى فيه الأحاديث بأسانيده. وصنف كتاب «مصرع الحسين» رضي الله عنه، ألزمه بتصنيفه صاحب الموصل. فكتب فيه ما صحّ من القتل دون غيره. وكان لما قدم بغداد فأنعم عليه المستنصر، صنف هذا
(1) له ترجمة في: تذكرة الحفاظ للذهبي 4/ 1452، الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب 2/ 274، طبقات المفسرين للسيوطي 19، العبر للذهبي 5/ 264.
التفسير ببلده، وأرسله إليه، وهو في ثمان مجلدات، وقف بالمدرسة البشيرية ببغداد.
وكان إماما فقيها محدّثا، أديبا شاعرا، ديّنا صالحا فاضلا في فنون العلم والأدب، ذا فصاحة وحسن عبارة، وله في تفسيره مناقشات مع الزمخشري وغيره في العربية وغيرها.
وكان متمسّكا بالسنة والآثار، ويصدع بالسنة عند المخالفين من الرافضة وغيرهم.
وله نظم حسن. ومن نظمه: «القصيدة النونية» المشهورة في الفرق بين الضاد والظاء. وصنّف في الفقه والعروض وغير ذلك، وحدّث. وسمع منه جماعة. وقدم دمشق رسولا. فقرأ عليه أبو حامد بن الصابوني جزءا.
وروى عنه ابنه أبو عبد الله محمد بن عبد الرزاق، والدمياطي الحافظ في «معجمه» ، وغير واحد. وبالإجازة: أبو المعالي الأبرقوهي، وأبو الحسن بن البندنيجي الصوفي، وزينب بنت الكمال.
روى عنه العلامة أبو الفتح بن دقيق العيد وأخوه وأبوه.
وأنشد ابن دقيق العيد له (1):
وكنت أظن في مصر بحارا
…
إذا ما جئتها أجد الورودا
فما ألفيتها إلا سرابا
…
فحينئذ تيممت الصّعيدا
توفي بسنجار في رجب، وقيل في السابع والعشرين من ذي الحجة سنة ستين وستمائة. وذكر الذهبي وغيره: أنه توفي ليلة الجمعة ثاني عشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة.
(1) الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب.
ذكره ابن رجب، ثم شيخنا الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي في «طبقات المفسّرين» مختصرا.
278 -
عبد الرزاق بن همّام بن نافع الحافظ أبو بكر الحميريّ مولاهم الصّنعانيّ (1).
صاحب التصانيف «كالتفسير» المشهور، الذي رواه عنه محمد بن حماد الطّهرانيّ.
روى عبد الرزاق عن عبيد الله بن عمر قليلا، وعن ابن جريج، وثور ابن يزيد، ومعمر، والأوزاعيّ، والثوريّ، وخلق كثير.
رحل في تجارة إلى الشام ولقي الكبار.
وعنه أحمد، وإسحاق، وابن معين، والذهلي، وأحمد بن صالح، والرمادي، وإسحاق الدّبريّ (2)، وأمم سواهم. وكان يقول جالست معمرا سبع سنين.
قال أحمد: كان عبد الرزاق يحفظ حديث معمر. وثّقه غير واحد، وحديثه مخرّج في الصّحاح وله ما ينفرد به، ونقموا عليه التشيع، وما كان يغلو فيه، بل يحبّ عليا رضي الله عنه ويبغض من قاتله، وقد قال سلمة بن شبيب: سمعت عبد الرزاق يقول: والله ما انشرح صدري قط أن أفضّل
(1) له ترجمة في: البداية والنهاية لابن كثير 10/ 265، تذكرة الحفاظ للذهبي 1/ 364، الرسالة المستطرفة للكتاني 40، الفهرست لابن النديم 228، ميزان الاعتدال للذهبي 2/ 609، النجوم الزاهرة 2/ 202.
(2)
الدبري: بفتح الدال المهملة والباء وبعدها راء، هذه النسبة الى دبر وهي من قرى صنعاء اليمن (اللباب لابن الأثير 1/ 409).
عليّا على أبي بكر وعمر. وكان رحمه الله من أوعية العلم، ولكنه ما هو في حفظ وكيع وابن مهدي.
قال ابن سعد: مات في نصف شوال سنة إحدى عشرة ومائتين وعاش خمسا وثمانين سنة، وترجمته تحتمل أوسع من هذا، أخرج له الجماعة، رحمه الله.
279 -
عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن علي ابن تيمية الحرانيّ الحنبليّ (1).
الفقيه، الإمام المقرئ المحدّث المفسر، الأصولي النحوي، مجد الدين أبو البركات، شيخ الإسلام وفقيه الوقت، وأحد الأعلام، ابن أخي الشيخ فخر الدين بن أبي القاسم، وجد شيخ الإسلام تقي الدين.
ولد سنة تسعين وخمسمائة- تقريبا- بحران، وحفظ بها القرآن.
وسمع من عمه الخطيب فخر الدين، والحافظ عبد القادر الرهاويّ، وحنبل الرصافي. ثم ارتحل إلى بغداد سنة ثلاث وستمائة مع ابن عمه سيف الدين عبد الغني، فسمع بها من عبد الله بن سكينة، وابن الأخضر الحافظ، وابن طبرزد، وضياء بن الخريف، ويوسف بن مبارك الخفاف، وعبد العزيز ابن منينا، وأحمد بن الحسن العاقولي، وعبد المولى بن أبي تمام وغيرهم.
وأقام ببغداد ست سنين يشتغل في الفقه والخلاف والعربية وغير ذلك.
ثم رحل إلى بغداد سنة بضع عشرة، فازداد بها من العلوم.
(1) له ترجمة في البداية والنهاية لابن كثير 13/ 185، الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب 2/ 249، الرسالة المستطرفة للكتاني 180، السلوك للمقريزي ج أق 2 ص 395، طبقات القراء لابن الجزري 1/ 385، فوات الوفيات لابن شاكر 1/ 570.
قرأ ببغداد القراءات بكتاب «المبهج» لسبط الخياط على عبد الواحد ابن سلطان. وتفقه بها على أبي بكر بن غنيمة الحلاوي، والفخر إسماعيل، وأتقن العربية والحساب والجبر والمقابلة والفرائض على أبي البقاء العكبريّ، حتى قرأ عليه كتاب «الفخري» في الجبر والمقابلة. وبرع في هذه العلوم وغيرها.
قال الحافظ الذهبي: حدثني شيخنا أبو العباس بن تيمية شيخ الإسلام حفيد الشيخ مجد الدين هذا، أن جده ربّي يتيما، وأنه سافر مع ابن عمه إلى العراق ليخدمه ويشتعل معه وهو ابن ثلاث عشرة سنة، فكان يبيت عنده، فيسمعه يكرر عليّ مسائل الخلاف [فيحفظ المسألة، فقال الفخر إسماعيل: أيش حفظ هذا التنين- يعني الصغير- فبدر (1)] وقال: حفظت يا سيدي الدرس، وعرضه في الحال، فبهت الفخر، وقال لابن عمه: هذا يجيء منه شيء، وحرّضه على الاشتغال، قال: فشيخه في الخلاف: الفخر إسماعيل، وعرض عليه مصنّفه «جنة الناظر» وكتب له عليه سنة ست وستمائة: عرض عليّ الفقيه الإمام العالم أوحد الفضلاء، أو نحو هذه العبارة وأخرى نحوها وهو ابن ستة عشر عاما.
قال الذهبي: قال لي شيخنا أبو العبّاس: كان الشيخ جمال الدين بن مالك يقول: ألين للشيخ المجد الفقه كما ألين لداود الحديد.
قال: وبلغنا أن الشيخ المجد لما حج من بغداد في آخر عمره، واجتمع به الصاحب العلامة، محيي الدين بن الجوزي، فانبهر له، وقال: هذا الرجل ما عندنا ببغداد مثله، فلما رجع من الحج التمسوا منه أن يقيم ببغداد، فامتنع، واعتل بالأهل والوطن.
(1) ما بين القوسين عن ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب.
قال: وكان حجه سنة إحدى وخمسين.
وفيها حج الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، ولم يتفق اجتماعهما.
قال: وكان الشيخ مجد الدين بن حمدان مصنف «الرعاية» يقول:
كنت أطالع على درس الشيخ المجد، وما أبقى ممكنا، فإذا حضرت الدرس يأتي الشيخ بأشياء كثيرة لا أعرفها.
وقال الحافظ الشريف عز الدين: حدث بالحجاز، والشام، والعراق، وبلده حرّان، وصنف ودرس، وكان من أعيان العلماء، وأكابر الفضلاء ببلده، وبيته. مشهور بالعلم والدين والحديث.
وقال الذهبي: كان الشيخ مجد الدين معدوم النظير في زمانه، رأسا في الفقه وأصوله، بارعا في الحديث ومعانيه، له اليد الطولى في معرفة القرآن والتفسير، صنف التصانيف، واشتهر وبعد صيته، وكان فريد زمانه في معرفة المذهب، مفرط الذكاء متين الديانة، كبير الشأن.
ذكر تصانيفه:
«أطراف أحاديث التفسير» رتبها على السور معزوة، «أرجوزة» في علم القراءات، «الأحكام الكبرى» في عدة مجلدات، «المنتقى من أحاديث الأحكام» وهو الكتاب المشهور، انتقاه من الأحكام الكبرى، ويقال: إن القاضي بهاء الدين شداد هو الذي طلب منه ذلك بحلب، «المحرر» في الفقه، «منتهى الغاية في شرح الهداية» بيض منه أربع مجلدات كبار إلى آخر الحج، والباقي لم يبيضه، «مسودة» في أصول الفقه مجلد، وزاد فيها ولده، ثم حفيده أبو العباس، «مسودة» في العربية على نمط المسودة في الأصول.
قرأ عليه القراءات جماعة، وأخذ الفقه عنه ولده شهاب الدين عبد الحليم، وابن تميم صاحب «المختصر» وغيرهما، وسمع منه خلق.
وروى عنه ابنه شهاب الدين، والحافظ عبد المؤمن الدّمياطيّ، والأمين ابن شقير الحرانيّ، وأبو العباس بن الظاهري الحافظ، ومحمد بن أحمد القزاز، وأحمد الدّشتيّ، ومحمد بن زناطر. والعفيف إسحاق الآمديّ، والشيخ نور الدين عبد الرحمن بن عمر البصريّ مدرس المستنصرية، وأبو عبد الله بن الدواليبيّ.
وأجاز لتقي الدين سليمان بن حمزة الحاكم، ولزينب بنت الكمال، وأحمد ابن علي الجزريّ، وهما خاتمة من روى عنه.
وتوفي يوم عيد الفطر بعد صلاة الجمعة منه سنة اثنتين وخمسين وستمائة بحرّان، ودفن بظاهرها.
280 -
عبد السلام بن عبد الرحمن بن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن أبو الحكم اللخميّ الأفريقي، ثم الإشبيليّ الصوفي المعروف بابن برّجان (1).
روى عن محمد بن أحمد بن منظور، روى عنه عبد الحق الإشبيلي، ومحمد بن خليل القيسي، وأبو القاسم القنطريّ، وآخرون.
قال ابن الأبار: كان من أهل المعرفة بالقراءات والحديث. والتحقق بعلم الكلام والتصوف، مع الزهد والعبادة.
وله تأليف منها «تفسير القرآن» و «شرح الأسماء الحسنى» مات سنة ست وثلاثين وخمسمائة، عابوا عليه الإمعان في علم الحرف حتى استعمله في تفسير القرآن، وقصيدة ابن الزكيّ التي مدح بها السلطان صلاح الدين في ذلك مشهورة.
(1) له ترجمة في: ذيل تذكرة الحفاظ للسيوطي 73، طبقات المفسرين للأدنةوي 41 أ، طبقات المفسرين للسيوطي 20، العبر للذهبي 4/ 100، فوات الوفيات لابن شاكر 1/ 569، لسان الميزان 4/ 13، مرآة الجنان لليافعي 3/ 267، مفتاح السعادة لطاش كبرى زادة 2/ 111، النجوم الزاهرة لابن تغري بردي 5/ 270.
له مجلس مناظرة، وأوردوا عليه المسائل التي أنكروها فأجاب، وخرجها مخارج محتملة، فلم يرضوا منه بذلك؛ لكونهم لم يفهموا مقاصده، وقرروا عند السلطان أنه مبتدع، فاتفق [أنه مرض (1)] بعد أيام قليلة، ومات في المحرم.
واتفق أن علي بن يوسف مات بعده في رجب على مزبلة بغير صلاة ولا دفن، بحسب ما قرره معه من طعن عليه من المتفقهة، فاتفق أن بعض أهل الفضل لما بلغته وفاته، أرسل عبدا أسود نادى جهارا، أحضروا جنازة فلان، فامتلأت الرحاب بالناس، فغسلوه وصلوا عليه ودفنوه.
281 -
عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب أبو هاشم بن أبي علي الجبّائي (2).
من رءوس المعتزلة هو وأبوه، وسيأتي.
له تصانيف و «تفسير» مات في شعبان سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة ببغداد.
قال ابن درستويه: اجتمعت مع أبي هاشم، فألقى عليّ ثمانين مسألة من غريب النحو ما كنت أحفظ لها جوابا، وكان موته هو وابن دريد في يوم واحد، فقيل: مات علم الكلام واللغة معا.
وقال ابن عبد الملك في «ذيل الصلة» لابن بشكوال: سعى عليه سعاية باطلة عند علي بن يوسف بن تاشفين، فأحضره إلى مراكش، فلما وصل إليها قال: لا أعيش إلا قليلا، ولا يعيش الذي أحضرني بعدى إلا قليلا، فعقد
(1) تكملة عن لسان الميزان.
(2)
له ترجمة في: البداية والنهاية لابن كثير 11/ 176، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 11/ 55، العبر للذهبي 2/ 187، الفهرست لابن النديم 174، لسان الميزان للذهبي 4/ 16، المنتظم لابن الجوزي 6/ 261، النجوم الزاهرة لابن تغري بردي 3/ 242.
282 -
عبد السلام بن محمد بن يوسف بن بندار أبو يوسف القزويني (1).
شيخ المعتزلة، ونزيل بغداد.
قال السمعاني: كان أحد المعمرين والفضلاء المقدمين، جمع «التفسير الكبير» الذي لم ير في التفاسير أكبر منه ولا أجمع للفوائد، لولا أنه مزجه بكلام المعتزلة، وبث فيه معتقده، وهو في ثلاثمائة مجلد، منها سبع مجلدات في الفاتحة.
أقام بمصر سنين، ثم رحل إلى بغداد، وكان داعية إلى الاعتزال، ويقول لم يبق من ينصر هذا المذهب غيره.
وقال ابن النجار: كان طويل اللسان ولم يكن محقّقا إلا في التفسير، فإنه لهج في التفاسير حتى جمع كتابا بلغ خمسمائة مجلّد، حشا فيه العجائب، حتى رأيت منه مجلدا في آية واحدة وهي قوله تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ (2) الآية.
أخذ العلم عن القاضي عبد الجبّار، وغيره. وسمع الحديث من أبي نعيم الأصبهانيّ، وأبي طاهر بن سلمة، وغيرهما.
روى عنه أبو غالب بن البناء، وأبو بكر قاضي المارستان، وأبو البركات الأنماطي، وآخرون. مات في رابع عشر ذي العقدة سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة، عن ست وتسعين سنة، لأنّ مولده في شعبان سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة.
(1) له ترجمة في: البداية والنهاية لابن كثير 12/ 150، تاريخ قزوين 358، تذكرة الحفاظ 4/ 1208، الجواهر المضيئة 1/ 315، طبقات الشافعية للسبكي 5/ 121، طبقات المفسرين للسيوطي 19، العبر 3/ 321، لسان الميزان لابن حجر العسقلاني 4/ 11، النجوم الزاهرة لابن تغري بردي 5/ 156.
(2)
سورة البقرة 102.
قال الرافعيّ في «تاريخ قزوين» : رأيت بخط القاضي عبد الملك بن المعافى قال أنشدني القاضي أبو يوسف القزوينيّ:
أموج إذا وليت أم كفك يرى
…
قضيب لجين في الغلائل أم قدّ (1)
أحقّان من عاج بصدرك ركّبا
…
لطيفان أم هذان ثديان يا هند
أليل دجا أم شعرك الفاحم الجعد
…
أصبح بدا أم وجهك الطالع السّعد
أنرجسة هاتيك أم تيك مقلة
…
أتفاحة ذاك المضرّج أم خدّ
أهذا الذي في فيك درّ منضّد
…
أبيني لنا أم لؤلؤ ضمه العقد
283 -
عبد الصمد بن حامد بن أبي البركات بن عبد الصمد بن بدل ابن نهشل النهشليّ (2).
أبو محمد نظام الدين التبريزيّ الشافعيّ، الفقيه العلّامة النحوي، المقرئ المفسّر، المفتي القاضي، صدر القراء، وأوحد البلغاء.
أخذ القراءات والعربيّة والتفسير والفقه عن غير واحد من فضلاء بلاده، منهم العلامة فخر الدين الجار برديّ، والطيبيّ، والإمام شمس الدين القزويني، والشيخ شمس الدين الخفاف، وغيرهم.
ولد في جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبعمائة بمدينة تبريز، وحج وزار على طريق الشام في سنة اثنتين وستين وسبعمائة، ثم توجه إلى بلاده، وكان قد ولي في آخر وقت قضاء القضاة بتبريز، وله يد طولى في علم الفلك مع الدين والأمانة.
ذكره ابن الجزري في «طبقات القراء» ولم يؤرّخ وفاته.
(1) تاريخ قزوين للرافعي.
(2)
له ترجمة في: طبقات القراء لابن الجزري 1/ 388.
284 -
عبد الصمد بن عبد الرحمن بن أبي رجاء الإمام أبو محمد البلويّ الأندلسي الوادي آشي المقرئ (1).
ولد سنة نيف وثلاثين وخمسمائة.
قال ابن الأبار: روى عن أبيه الأستاذ أبي القاسم، وأبي العباس الجزولي، وأبي بكر بن رزق، وأبي الحسن بن كوثر، وأبي القاسم بن حبيش، وأبي عبد الله بن حميد.
وأخذ القراءات عن جماعة، وأجاز له أبو طاهر السلفيّ، وجماعة. وكان راوية مكثرا، وواعظا مذكرا، يتحقق بالقراءات والتفاسير، ويشارك في الحديث، والعربيّة، اعتمد في ذلك على أبيه، وأبي العباس الجزولي.
أقرأ الناس ببلده، وتصدر وحدّث، وقال أبو حيّان: روى عن أبيه القراءات تلاوة، وسمع منه عدة كتب، ومات أبوه وله نحو من عشر سنين، ومع ذلك روى الناس عنه، ووثقوه، سألت أبا علي بن أبي الأحوص عنه فوثقه.
روى عنه الحافظ أبو عبد الله محمد بن سعيد الطراز، وأبو جعفر أحمد بن سعد بن بشير، وأبو جعفر أحمد بن عبد الرحمن بن عروس الغساني. قال الأبار: توفي في رجب سنة تسع عشرة وستمائة.
قال أبوه: قرأت بالروايات بمكة على عبد الله بن العرجاء، صاحب ابن نفيس.
285 -
عبد العزيز بن أحمد بن سعيد بن عبد الله (2).
(1) له ترجمة في: طبقات القراء لابن الجزري 1/ 389، طبقات القراء للذهبي 2/ 486، طبقات المفسرين للسيوطي 20.
(2)
له ترجمة في: ايضاح المكنون للبغدادي 1/ 60، حسن المحاضرة للسيوطي 1/ 421، طبقات الشافعية للسبكي 8/ 199، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 61 ب، طبقات الشعراني 1/ 202، كشف الظنون لحاجي خليفة 1/ 195، هدية العارفين للبغدادي 1/ 580، 581.
أبو محمد الشيخ عز الدين الدّميريّ المعروف بالدّيرينيّ المصريّ الشافعيّ الفقيه العالم الأديب الصوفيّ الرفاعيّ.
أخذ عن الشيخ عز الدين وغيره ممن عاصره، ثم صحب أبا الفتح بن أبي الغنائم الرّسعنيّ وتخرج به، وتكلم في الطريق وغلب عليه الميل إلى التصوف، وكان مقره بالريف ينتقل من موضع إلى موضع، والناس يقصدونه للتبرك به.
قال السبكي: الشيخ الزاهد، القدوة، ذو الأحوال المذكورة، والكرامات المشهورة، والمصنفات الكثيرة، والنظم الشائع، وكان يعرف الكلام على مذهب الأشعريّ.
قال: وقد ذكره شيخنا أبو حيّان وقال: كان متقشّفا، مخشوشنا، من أهل العلم، يتبرّك به الناس.
قال السبكي: وهذا من أبي حيان كثير، لولا أن هذا الشيخ ذو قدم راسخ بالتقوى لما شهد له أبو حيّان بهذه الشهادة؛ فإنه كان قليل التّزكية للمتصلّحين. توفي في رجب سنة أربع وتسعين وستمائة قاله صاحب «نجم المهتدي ورجم المعتدي» .
وقال السبكي في «الطبقات الكبرى» : توفي في السنة المذكورة، قال:
ومولده سنة اثنتي عشرة أو ثلاث عشرة.
قال في «الوسطى» توفي في حدود التسعين.
وقال الإسنوي: سنة سبع وتسعين.
وقال ابن حبيب: توفي في سنة تسع وثمانين، والصواب الأوّل.
والدّيرينيّ: نسبة إلى ديرين، بدال مهملة مكسورة بعدها ياء مثناة من تحت ساكنة ثم راء مثناة من تحت أيضا ثم نون، بلدة بالديار المصرية من أعمال الغربية.
ومن تصانيفه: «تفسير» سماه «المصباح المنير في علم التفسير» في مجلدين، ونظم «أرجوزة» في التفسير سماها «التيسير في علم التفسير» تزيد على ثلاثة آلاف ومائتي بيت، وكتاب «طهارة القلوب في ذكر علام الغيوب» في التصوف وهو كتاب حسن، وكتاب «أنوار المعارف وأسرار العوارف» في التصوف أيضا، و «تفسير أسماء الله الحسنى» و «الوسائل والرسائل» في التوحيد و «نظم السّيرة النبويّة» ونظم «الوجيز» فيما يزيد على خمسة آلاف بيت ونظم «التنبيه» وشرع في «نظم الوسيط» وله نظم كثير فمنه:
اقتصد في كلّ حال
…
واجتنب شحّا وغرما (1)
لا تكن حلوا فتؤكل
…
لا ولا مرّا فترمى
286 -
عبد العزيز بن جعفر بن أحمد بن يزداد (2) بن معروف الحنبليّ أبو بكر المعروف بغلام الخلّال (3).
حدّث عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة، وموسى بن هارون، ومحمد بن الفضل الوصيفي، وأبي خليفة الفضل بن الحباب (4) البصريّ، وجعفر الفريابي، وإبراهيم بن الهيثم القطيعيّ، ومحمد بن محمد الباغنديّ، والقاسم
(1) طبقات الشافعية للسبكي.
(2)
كذا في تاريخ بغداد، والمنتظم، وطبقات الحنابلة، وطبقات الشيرازي. وفي الأصل:«ابن داود» .
(3)
له ترجمة في: البداية والنهاية لابن كثير 11/ 278، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 10/ 459، طبقات الحنابلة 2/ 119، طبقات الشيرازي 146، العبر 2/ 330، المنتظم 7/ 71، النجوم الزاهرة لابن تغري بردي 4/ 105.
(4)
كذا في تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، والمنتظم، وطبقات الحنابلة، وميزان الاعتدال.
وفي الأصل: «ابن الحارث» .
ابن زكرياء المطرّز، والحسين بن عبد الله الخرقيّ (1)، وأبي القاسم البغويّ، وعبد الله بن أحمد، وأبي بكر بن أبي داود، في آخرين.
روى عنه أحمد بن عثمان بن الجنيد الخطبيّ، وبشر بن عبد الله الفاتنيّ، وأبو عبد الله بن بطة، وأبو الحسن التميميّ، وأبو حفص البرمكيّ، وأبو حفص العكبريّ، وأبو عبد الله بن حامد.
وكان أحد أهل الفهم، موثوقا به في العلم، متسع الرواية، مشهورا بالديانة، موصوفا بالأمانة، مذكورا بالعبادة.
وله المصنّفات في العلوم المختلفات: «الشافي» ، و «المقنع» ، و «تفسير القرآن» و «الخلاف مع الشافعي» ، و «كتاب القولين» ، و «زاد المسافر» ، و «التنبيه» وغير ذلك.
سأله رافضي عن قوله عز وجل: (2) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ [من هو (3)] فقال له: أبو بكر الصّديق. فردّ عليه، وقال: بل هو علي.
فهمّ به أصحابه، فقال لهم: دعوه ثم قال له اقرأ ما بعدها لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ. ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ. لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا (4) وهذا يقتضي أن يكون هذا المصدّق ممن له إساءات سبقت. وعلى قولك أيها السائل: لم يكن لعلي إساءات. فقطعه.
وهذا استنباط حسن لا يعقله إلا العلماء. فدل ذلك على علمه وحلمه وحسن خلقه. فإنه لم يقابل الرافضي على جناية، وعدل إلى العلم.
(1) في الأصل «الحرفي» ، والصواب في: تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، وطبقات الحنابلة لابن أبي يعلى.
والخرقي: بكسر الخاء المعجمة وفتح الراء وفي آخرها القاف، هذه النسبة الى بيع الخرق والثياب (اللباب لابن الأثير 1/ 356).
(2)
سورة الزمر: 33.
(3)
تكملة عن: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى.
(4)
سورة الزمر: 34، 35.
وله اختيارات في المذهب مشهورة، منها: أن الصلاة في الثوب المغصوب باطلة.
واختار أن المرأة إذا وقفت إلى جانب الرجل بطلت صلاة من يليها من الرجال. واختار أن الكفر ملل واختياراته كثيرة. وتوفي في شوال لعشر بقين منه، في سنة ثلاث وستين وثلاثمائة. وتوفي يوم الجمعة بعد الصلاة.
وفي رواية أخرى قال أبو بكر عبد العزيز في علته: أنا عندكم إلى يوم الجمعة. وذلك في شوال سنة ثلاث وستين وثلاثمائة. فقيل له: يعافيك الله- أو كلاما هذا معناه- فقال: سمعت أبا بكر الخلال يقول: سمعت أبا بكر المروزيّ يقول: عاش أحمد بن حنبل ثمانيا وسبعين سنة. ومات يوم الجمعة ودفن بعد الصلاة. وعاش أبو بكر المروزيّ ثمانيا وسبعين سنة، ومات يوم الجمعة. ودفن بعد الصلاة. وأنا عندكم إلى يوم الجمعة ولي ثمان وسبعون سنة. فلما كان يوم الجمعة مات ودفن بعد الصلاة. وهذه كرامة حسنة له. فإنه حدّث بيوم موته، وكان يوم موته يوما عظيما لكثرة الجمع.
وهاجر من داره لما ظهر سب السلف إلى غيرها. وهذا يدل على قوة دينه وصحة عقيدته رحمة الله عليه.
لخصت هذه الترجمة، من «طبقات الحنابلة» لأبي يعلى بن الفراء.
287 -
عبد العزيز بن عبد الجليل النمراوي الشيخ عزّ الدين الشافعي (1).
ولد بناحية نمرا من أعمال الغربية، وقدم القاهرة، واشتغل في العلم بها حتى برع، وصار عالما نظّارا، وتصدى للاشتغال وأفتى، ودرس الفقه بالمدرسة
(1) له ترجمة في: البداية والنهاية لابن كثير 14/ 60، حسن المحاضرة للسيوطي 1/ 422، الدرر الكامنة لابن حجر 2/ 481، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 66 ب.
النابلسية، ودرس التفسير بالقبة المنصورية، وناظر بحضرة الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد فرجحه على ابن المرحل. مات يوم الأربعاء تاسع ذي القعدة سنة [عشر](1) وسبعمائة.
288 -
عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن بن محمد ابن المهذّب عز الدين أبو محمد السلمي (2).
الشافعي، الملقب بسلطان العلماء وشيخ الإسلام، أصله مغربيّ، ومولده بدمشق، في سنة سبع- أو ثمان- وسبعين وخمسمائة، وسمع حضورا على أبي الحسين أحمد بن الموازيني، والخشوعي، وسمع عبد اللطيف بن إسماعيل الصوفي، والقاسم بن عساكر، وابن طبرزد، وحنبل المكبر، وعبد الصمد بن محمد الحرستاني وجماعة. وخرج له الحافظ شرف الدين أبو محمد الدّمياطي أربعين حديثا عوالي.
روى عنه تلامذته، الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، وهو الذي لقّبه سلطان العلماء، وعلاء الدين أبو الحسن علي الباجي، وتاج الدين الفركاح، والحافظ أبو بكر محمد بن يوسف بن مسدي، وأبو العباس أحمد الدّشناوي، وأبو محمد هبة الله القفطي، وشرف الدين الدّمياطي، وأبو الحسين اليونينيّ، وخلائق من أهل مصر والشام وغيرهم.
وتفقه على الإمام فخر الدين عبد الرحمن بن عساكر، وقرأ الأصول على
(1) تكملة عن: الدرر الكامنة لابن حجر.
(2)
له ترجمة في: البداية والنهاية لابن كثير 13/ 335، تاريخ علماء بغداد للسلامي 104، حسن المحاضرة للسيوطي 1/ 314، ذيل الروضتين لأبي شامة 216، ذيل مرآة الزمان 1/ 505، طبقات الشافعية للسبكي 8/ 209، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 51 أ، طبقات ابن هداية الله 85، العبر 5/ 260، فوات الوفيات 1/ 594، المختصر لأبي الفداء 3/ 251، مرآة الجنان لليافعي 4/ 153، مفتاح السعادة لطاش كبرى زاده 2/ 353، النجوم الزاهرة لابن تغري بردي 7/ 208.
السيف الآمديّ، وغيره.
ومهر في العربية، ودرس وأفتى وصنف، وبرع في المذهب وبلغ رتبة الاجتهاد، وقصده الطلبة من [البلاد] وتخرج به أئمة، وصار رأس الشافعية في وقته، ولم يلحقه أحد في حالته.
وكان عاقلا ناسكا، ورعا زاهدا متقشفا، أمّارا بالمعروف نهاء عن المنكر، لا يخاف في الله لومة لائم، ولي خطابة الجامع الأموي بدمشق من قبل الملك الصالح إسماعيل بعد
الدولعي، وأزال كثيرا من البدع التي كان الخطباء يفعلونها؛ من دق المنبر بالسّيف وغير ذلك، وأبطل صلاتي الرّغائب ونصف شعبان، ومنع منهما. فلما أعطى الصالح الفرنج صفدو الشّقيف، أنكر الناس ذلك عليه، وتنكروا له، فعرّض به الشيخ عزّ الدين في الخطبة يوم الجمعة، ونال منه وترك الدّعاء له، فعزله الصالح وحبسه ثم أفرج عنه فسار إلى القاهرة، ومرّ في طريقه إليها على الكرك، وذلك في حدود سنة تسع وثلاثين وستمائة، فسأله الناصر داود هو والشيخ أبو عمرو بن الحاجب الإقامة بها فامتنع، وقال: هذه بلدة تصغر عن نشر علمي، ومضى إلى القاهرة فأكرمه السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب، وبالغ في تعظيمه وتلقاه واحترمه، فاتّفق وفاة قاضي القضاة شرف الدين أبي المكارم محمد بن عبد الله بن الحسن بن عين الدولة، في تاسع عشر ذي القعدة سنة تسع وثلاثين وستمائة، فولي السلطان الملك الصالح بدر الدين أبا المحاسن يوسف ابن الحسن بن علي السنجاري قضاء القاهرة والوجه البحري، وولي الشيخ عز الدين قضاء مدينة مصر والوجه القبلي، وأضاف إليه خطابة جامع عمرو بن العاص، عوضا عن الشيخ مجد الدين أبي الحسن علي الإخميمي بعد عزله، فلم يتغير عن طريقته، من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، واطراح التكلف، وترك الاحتفال بالملبس، حتى إنه كان يحضر الموكب السّلطانيّ وعلى رأسه قبع لبّاد.
وحكى أنه ركب يوما بغلة، وعليه قميص وهو معتم على طرطورلباد، فتعرض له فقير يسأله شيئا، فقطع نصف العمامة من على رأسه ودفعها إليه وسار، فقصده آخر فدفع إليه النصف الآخر.
وطلع يوم العيد إلى القلعة والعساكر مصطفين بين يدي السلطان والأمراء تقبّل الأرض له، فنادى في ذلك الموكب العظيم: يا أيوب، ما حجّتك عند [الله] (1) إذا قال لك: ألم أولك ملك مصر ثم تبيح الخمور؟ فقال السلطان:
هل جرى هذا؟ فقال نعم، الحانة الفلانيّة يباع فيها الخمر وغيره من المنكرات، وبها أنواع من سوء، وأنت تتقلّب في نعمة هذه المملكة، وذلك بأعلى صوته، والعساكر واقفون، فقال: يا سيدي، هذا شيء لم أعمله، وهو من زمان أبي فقال: أنت من الذين يقولون يوم القيامة إذا سئلوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ (2) فرسم السلطان بإبطال ما يعمل في تلك الحانة.
فلما انصرف الشيخ من المجلس قال له تلميذه الباجيّ: يا سيّدي كيف تجرأت على السلطان وفاجأته بهذا الجواب؟ فقال: يا بنيّ رأيته في تلك العظمة فأردت أن أهينه، لئلا تكبر نفسه. فقال له يا سيدي أما خفت منه؟ قال والله با بنيّ استحضرت هيبة الله تعالى في قلبي، فصار [السلطان (3)] قدّامي كالقطّ.
وبالغ في القيام بالأمر بالمعروف وشدّد في ذلك، حتى شجر بينه وبين الأمراء كلام في هذا المعنى، فقال لهم: أنتم الآن أرقاء لا ينفذ لكم تصرف، وقد عزمت على بيعكم، فشق ذلك عليهم، واستشاطوا غضبا، وهمّوا بالإيقاع به، وقال بعضهم: كيف ينادي علينا ويبيعنا ونحن ملوك
(1) تكملة عن: طبقات الشافعية للسبكي.
(2)
الآية 23 من سورة الزخرف.
(3)
تكملة عن طبقات الشافعية للسبكي.
الأرض؟ والله لأضربنّه، وشهر سيفه وركب في جمع من خدمه حتى أتى بيت الشيخ وسيفه مشهور بيده، وطرق الباب، فخرج عبد اللطيف بن الشيخ، فلمّا رآه على تلك الحالة رجع إلى أبيه وأخبره بما رأى، فخرج غير مكترث وقد اشتد جزع الولد، فقال له: يا بني أبوك أقلّ من أن يقتل في سبيل الله، فعند ما عاينه الأمير هابه وسقط السّيف من يده وبكى، ثم نزل عن فرسه، وأخذ يقبّل يد الشيخ ويسأله الدعاء ويستغفر مما كان منه، ثم قال: يا سيّدي، خبّر نا إيش تعمل؟ قال: أنادي عليكم وأبيعكم قال:
فثمننا في أي شيء تصرفه؟ قال: في مصالح المسلمين. قال: من يقبضه؟
قال: أنا، وانصرف، فلم يزل إلى أن نادى عليهم واحدا بعد واحد وبالغ في إشهارهم في النداء وحمل ثمنهم لبيت المال.
فاتفق أن بعض غلمان الوزير معين الدين عثمان ابن الشيخ، بني بنيانا على سطح مسجد بمصر، وعمل فيه طبل خانات، فأنكر ذلك الشيخ عز الدين ومضى بجماعته وهدم البناء، وعلم أن الوزير والسلطان يغضبان لذلك، فأشهد عليه بإسقاط عدالته [وحكم بفسق (1)] الوزير، وعزل نفسه عن القضاء، فعظم ذلك على السّلطان، وقيل له: اعزله عن الخطابة وإلا شنع عليك على المنبر كما فعل بدمشق، فعزله، فأقام في بيته من المدرسة الصالحية يشغل الناس، وولي قضاء مصر بعده أبو منصور موهوب بن عمر الجزري، أحد نواب الشيخ عز الدين في ثالث عشري ذي القعدة سنة أربعين وستمائة، وأعيد المجد الإخميمي إلى الخطابة، فاتفق أن الملك الصالح بعث رسولا إلى الخليفة ببغداد، فأدّي رسالته، فقيل له: أسمعت هذه الرسالة من السلطان؟ قال: لا، ولكن حمّلنيها ابن شيخ الشيوخ أستاداره.
فقال الخليفة: إن المذكور أسقطه ابن عبد السلام، فنحن لا نقبل روايته.
(1) تكملة عن: مرآة الجنان لليافعي.
فرجع حتى شافهه الملك الصالح، ثم عاد بها إلى بغداد حتى أدّاها. فلما بنى الصالح المدارس الصالحية بالقاهرة، فوّض إلى الشيخ عز الدين تدريس الشافعية، واستمر على
ما هو عليه إلى أن مات يوم الأحد العاشر من جمادى الأولى سنة ستين وستمائة، ودفن بالقرافة، وشهد جنازته خلائق لا تحصى.
وكان مع شدته حسن المحاضرة بالنوادر والأشعار، ولبس خرقة التصوّف من الشهاب السهرورديّ، وأخذ عنه، وكان يقرأ عليه «رسالة القشيريّ» وله يد في التصوف، وكان يحضر السماع ويرقص ويتواجد.
وكان كل أحد يضرب به المثل في الزهد والعلم، فيقال بمصر: ما أنت إلا من العوام ولو كنت ابن عبد السّلام.
ولما حضر بيعة السلطان الملك الظاهر بيبرس البندقداري، قال له: يا ركن الدين أنا أعرفك مملوك البندقداري، وما أعلم هل عتقك أم لا، وانصرف ولم يبايعه أحد، حتى جاء من شهد له بالخروج عن رق البندقداري إلى السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب وعتقه.
ولما مرض أرسل إليه السلطان، وقال: عيّن مناصبك لمن تريد من أولادك، فقال: ما فيهم من يصلح، وهذه المدرسة- يعني الصالحية- تصلح للقاضي تاج الدين يعني ابن بنت الأعز، ففوضت إليه بعده، وكان على غاية من صفاء الذهن وفرط الذكاء.
حكى عنه الوجيه أبو محمد عبد الوهّاب بن السديد حسين بن عبد الوهاب البهنسيّ: أنه قال: مضت لي ثلاثون سنة، لا أنام كل ليلة إلا بعد أن أمرّ أبواب الشريعة علي خاطري.
وروي عنه أنه كان يقول: ما احتجت في علم من العلوم إلى أن أكمله على الشيخ الذي أقرأ عليه، وما توسطته على شيخ من المشايخ الذين كنت أقرأ عليهم، إلا وقال لي الشيخ: قد استغنيت عني فاشتغل مع نفسك، ولم أقنع بذلك، بل لا أبرح حتى أكمل الكتاب الذي أقروه في ذلك العلم.
وقال ابن دقيق العيد: ابن عبد السّلام أحد سلاطين العلماء، وعن أبي عمرو بن الحاجب أنه قال: ابن عبد السّلام أفقه من الغزالي.
وله مصنفات كثيرة منها: كتاب «تفسير القرآن» في مجلد كبير، رتبه على المعاني مختصرا، وكتاب «مختصر مسلم» وأقرأه، وكتاب «المجاز» ، وكتاب «قواعد الإسلام» نسختان، كبرى وصغرى، وكتاب «مناسك الحج» وكتاب «الغاية في اختصار النهاية» وكتاب في «الإيمان ووجوهه» وفرق ما بينه وبين الإسلام، وكتاب «بداية السّول في تفضيل الرسول» وكتاب «في الصوم وفضله» وكتاب «الفتاوى المجموعة» وكتاب «مقاصد الصلاة» وكتاب «الملحة» في تصحيح العقيدة، وكتاب «الردّ على المبتدعة والحشوية» وكتاب «الأمالي» وكتاب «الفتاوى الموصليّة» وكتاب «شجرة المعارف» وكتاب «بيان أحوال الناس يوم القيامة» وكتاب «الدلائل المتعلقة بالملائكة والنبيين عليهم السلام» و «مختصر رعاية المحاسبي» و «الإمام في أدلة الأحكام» ، و «فوائد البلوى والمحن» و «الجمع بين الحاوي والنهاية» مجموع يشتمل على فنون من الفوائد، وغير ذلك.
وخرج يوما إلى الدرس وعليه قبع لباد وهو لابس فروة مقلوبة، فلما جلس على السجادة، تبسم بعض من حضر وهو يراه فلم يعبأ به، وقال:
قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (1) فهابه كل من حضر، وكان مع
(1) سورة الأنعام 91.
هذه المهابة حسن البشر في ملقاه، ويكتب خطا حسنا قويا، وفيه يقول أبو الحسين الجزار من أبيات:
سار عبد العزيز في الحكم سيرا
…
لم يسره سوى ابن عبد العزيز (1)
عمّنا حكمه بعدل بسيط
…
شامل للورى ولفظ وجيز
ولما استقر مقامه بمصر امتنع الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذريّ من الفتيا وقال: كنّا نفتي قبل حضور الشيخ عز الدين، وأما بعد حضوره فمنصب الفتيا متعيّن فيه.
ويحكى أن الشيخ عز الدين في أول أمره كان فقيرا معدما، ولم يشتغل بالعلم إلا على كبر. وذلك أنه كان يبيت في الكلاسة بدمشق، فاحتلم ذات ليلة وكان البرد شديدا فاغتسل في البركة، ونام فاحتلم ثانيا، فعاد فاغتسل، فأغمى عليه من شدة برد الماء، فسمع نداء، با ابن عبد السلام، أتريد العلم أم العمل؟ فقال: أريد العلم، لأنه يهدي إلى العمل، وأصبح فأخذ كتاب «التنبيه» في الفقه فحفظه في مدّة يسيرة، وأقبل على العلم، حتى صار إلى ما صار.
وكان بين الشيخ عبد الله البلتاجيّ وبين الشيخ عزّ الدّين صداقة، وكان يهدي له في كلّ عام هدية، فأرسل إليه مرّة هدية، ومن جملتها جبن في وعاء، فعند ما وصل الرسول بالهدية إلى باب القاهرة انكسر وعاء الجبن وتبدد ما فيه، فبينما هو نائم إذ أتاه ذمّيّ وباعه جبنا بدله وأتى به، فلما بعث بالهدية إلى الشيخ قبلها ورد الجبن، وقال للرسول: يا ولدي ليش تفعل هذا؟ إن التي حلبت لبن الجبن كانت يدها متنجّسة بالخنزير، سلّم على أخي.
(1) طبقات الشافعية للسبكي.
ووقع بدمشق غلاء كبير حتى صارت البساتين تباع بالثمن القليل، فأعطته زوجته مصاغا لها وقالت: اشتر لنا به بستانا نصيف فيه، فأخذ المصاغ وباعه وتصدّق بثمنه، فقالت له: جزاك الله خيرا.
وأفتى مرّة بفتيا، ثم ظهر له أنه أخطأ، فنادى في مصر والقاهرة على نفسه: من أفتى له فلان بكذا فلا يعمل به فإنه خطأ.
ولما قدم الشيخ أبو العباس المرسيّ إلى القاهرة، أتى الشيخ عزّ الدين [فقال له الشيخ عز الدين (1)] تكلم على هذا الفصل، فأخذ الشيخ أبو العباس يتكلم، والشيخ عز الدين يزحف في الحلفة، ويقول: اسمعوا هذا الكلام الذي هو حديث عهد بربّه.
ولما عزم السلطان الملك المظفر قطز على المسير من مصر لمحاربة التتار وقد دهموا البلاد، جمع العساكر فضاقت يده عن نفقاتهم، واستشار الشيخ عزّ الدين، فقال له: أخرجوا وأنا أضمن لكم على الله النّصر، فقال السلطان:
إن المال في خزانتي قليل، وأنا أريد أن أقترض من أموال التّجّار. فقال له:
إذا أحضرت ما عندك وعند حريمك، وأحضر الأمراء ما عندهم من الحليّ الحرام اتخاذه، وضربته سكّة ونقدا، وفرّقته في الجيش ولم يقم بكفايتهم، ذلك الوقت اطلب القرض، وأمّا قبل ذلك فلا، فأحضر السلطان والعسكر كلّهم ما عندهم من ذلك بحضرة الشيخ، وكانت له عندهم عظمة، وله في أنفسهم مهابة بحيث لا يستطيعون مخالفته، فامتثلوا ما قاله، وكان لقطز النصرة المعروفة على التتار بعين جالوت.
ومن عظمته في النفوس أن الملك بيبرس لم يبايع واحدا من الخليفة المستنصر والخليفة الحاكم العباسيين إلا بعد أن تقدّمه الشيخ عزّ الدين
(1) تكملة عن: طبقات الشافعية للسبكي.
للمبايعة، ثم يبايع السّلطان بعده، ثم يبايع القضاة، ولما مرّت جنازته من تحت القلعة ورأى الملك الظاهر كثرة الخلائق، قال لبعض خواصّه: اليوم استقرّ أمري في الملك؛ لأن هذا الرجل لو كان يقول للناس: أخرجوا عليه، لانتزعوا الملك منّي.
وشهد رحمه الله واقعة الفرنج لما أخذوا دمياط ووصلوا في مراكبهم إلى المنصورة، واستظهروا على المسلمين، فقويت الرّيح على مراكب المسلمين واشتد الأمر، فنادى الشيخ بأعلى صوته وأشار إلى الريح بيده: يا ريح خذيهم مرارا، فعادت الريح على مراكب الفرنج فكسرتها، وكان الفتح، وغرق أكثر الفرنج وصرخ من بين المسلمين صارح: الحمد لله الذي أرانا من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم رجلا سخّر له الرّيح.
وكان الملك الأشرف موسى بن العادل، لما أخذ دمشق وبها يومئذ الشيخ عز الدين، وشيء به إليه أنه يخالفه في المعتقد، وكان الشيخ رحمه الله رأسا في مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعريّ، وكان الأشرف على خلاف الأشعريّ، فدسّ أعداؤه عليه فتوى في مسألة الكلام فكتب عليها العقيدة المشهورة، وهي طويلة تشتمل على طريقة أبي الحسن الأشعريّ، ووضع فيها من الحنابلة وغض منهم، فلما وقف عليها الأشرف اشتد غضبه ووقع في حق الشيخ بعظيمة، وكان عنده جمع من الفقهاء فلم يستطيعوا أن يردوا قوله سوى [بعض الأعيان (1)] فإنه قال: السلطان أولى بالعفو والصّفح، فكثرت القالة، وقام الشيخ جمال الدين أبو عمرو بن الحاجب في حق الشيخ عز الدّين، ومضى إلى القضاة والعلماء الذين حضروا مجلس الأشرف وعتبهم على سكوتهم، وما زال بهم حتى كتبوا خطوطهم على فتوى بصورة الحال وافقوا
(1) بياض في الأصل، أكملته عن: طبقات الشافعية للسبكي.
فيها ابن عبد السلام، وطلب ابن عبد السلام أن يعقد الأشرف مجلسا بحضرة الشافعية والحنابلة والمالكية والحنفية، فكتب الأشرف بخطه: وصل إليّ ما التمسه الفقيه ابن عبد السلام، أصلحه الله، من عقد مجلس وجمع المفتين والفقهاء، وقد وقفنا على خطّه وما أفتى به، وعلمنا من عقيدته ما أغنى عن الاجتماع به، ونحن فنتّبع ما عليه الخلفاء الراشدون الذين قال صلى الله عليه وسلم في حقّهم:(عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين من بعدي) وعقائد الأئمة الأربعة فيها كفاية لكلّ مسلم يغلب هواه ويتبع الحق ويتخلص من البدع، إلا إن كنت تدّعي الاجتهاد، فعليك أن تثبت، ليكون الجواب على قدر الدّعوى، لتكون صاحب مذهب خامس، وأمّا ما ذكرته عن الذي جرى في أيام والدي تغمّده الله برحمته، فذلك الحال أنا أعلم به منك، وما كان لك سبب إلّا فتح باب السلامة لا لأمر ديني.
وجرم جرّه سفهاء قوم
…
فحلّ بغير جانبه العذاب (1) ومع هذا فقد ورد في الحديث:
(الفتنة نائمة لعن الله مثيرها) ومن تعرّض لإثارتها قاتلناه بما يخلّصنا من الله تعالى، وما يعضد كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلما قرأها الشيخ عز الدين بن عبد السلام كتب جوابها بعد البسملة: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (2) أما بعد حمد الله الذي جلّت قدرته، وعظمت كلمته، وعمّت رحمته، وسبغت نعمته (3)، فإن الله قال لأحبّ خلقه إليه وأكرمهم لديه: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (4) وقد أنزل الله
(1) طبقات الشافعية للسبكي.
(2)
سورة الحجر 92، 93.
(3)
في الأصل: «ووسعت رحمته» ، والمثبت في: طبقات الشافعية للسبكي.
(4)
سورة الأنعام 116.
كتبه وأرسل رسله لنصائح خلقه، فالسّعيد من قبل نصائحه وحفظ وصاياه، وكان فيما أوصى به خلقه أن قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ، فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (1).
فهو سبحانه أولى من قبلت نصيحته، وحفظت وصيّته.
وأما طلب المجلس وجمع العلماء، فما حملني عليه إلّا النصح للسلطان وعامّة المسلمين، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدّين، فقال:
(الدين النصيحة) قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: (لله ولكتابه ولرسوله وأئمّة المسلمين وعامّتهم) فالنصح لله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ولكتابه بالعمل بمواجبه، ولرسوله باتباع سنّته، وللأئمة بإرشادهم إلى أحكامه والوقوف عند أوامره ونواهيه، ولعامّة المسلمين بدلالتهم على ما يقرّبهم إليه ويزلفهم لديه، وقد أدّيت ما عليّ في ذلك.
والفتيا التي وقعت في هذه القضية يوافق عليها علماء المسلمين، من الشافعيّة والمالكيّة والحنفيّة والفضلاء من الحنبلية، وما يخالف في ذلك إلّا رعاع لا يعبأ الله بهم وهو الحق الذي لا يجوز دفعه، والصواب الذي لا يمكن رفعه، ولو حضر العلماء مجلس السلطان لعلم صحّة ما أقول، والسلطان أقدر على تحقيق ذلك، وقد كتب الجماعة خطوطهم على ما قلته، وإنما سكت من سكت في أوّل الأمر لما رأوا من غضب السّلطان [ولولا ما شاهدوه من غضب السلطان (2)] لما أفتوا أولا إلا بما رجعوا إليه آخرا، ومع ذلك فنكتب ما ذكرته في الفتيا، وما ذكره الغير، وتبعث به إلى بلاد الإسلام، ليكتب فيها كلّ من يحب الرجوع إليه ويعتمد في الفتيا عليه، ونحن نحضر كتب العلماء المعتبرين، ليقف عليها السلطان.
(1) سورة الحجرات، الآية السادسة.
(2)
تكملة عن: طبقات الشافعية للسبكي، وبها يتم المعنى.
وبلغني أنهم ألقوا إلى سمع السلطان أنّ الأشعريّ يستهين بالمصحف، ولا خلاف بين الأشعريّة وجميع علماء المسلمين أن تعظيم المصحف واجب، وعندنا أنّ من استهان بالمصحف أو بشيء منه فقد كفر، وانفسخ نكاحه، وصار ماله فيئا للمسلمين، ويضرب عنقه. ولا يغسّل ولا يكفّن ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، بل يترك بالقاع طعمة للسباع.
ومذهبنا أن كلام الله تعالى قديم أزليّ قائم بذاته، لا يشبه كلام الآدميين، كما لا يشبه ذاته ذات الخلق، ولا يتصوّر في شيء من صفاته أن تفارق ذاته، إذ لو فارقته لصار ناقصا، تعالى الله عما يقول الظالمون علوّا كبيرا، وهو مع ذلك مكتوب في المصاحف، محفوظ في الصّدور، مقروء بالألسنة، وصفة الله القديمة ليست بمداد للكاتبين، ولا ألفاظ اللّافظين، ومن اعتقد ذلك فقد فارق الدّين، وخرج عن عقائد المسلمين، بل لا يعتقد ذلك إلا جاهل غبي وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (1).
وليس ردّ البدع وإبطالها من باب إثارة الفتن، فإنّ الله سبحانه أمر العلماء بذلك، وأمرهم ببيان ما علموه، ومن امتثل أمر الله، ونصر دين الله، لا يجوز أن يقال: لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما ما ذكر من أمر الاجتهاد، والمذهب الخامس، فأصول الدين ليس فيها مذاهب، فإنّ الأصل واحد، والخلاف في الفروع، ومثل هذا الكلام فلا أعتمد فيه قول من لا يجوز أن يعتمد قوله، والله أعلم بمن يعرف دينه ويقف عند حدوده، وبعد ذلك فإنا نعلم أنا من جملة حزب الله، وأنصار دينه وجنده، وكلّ جنديّ لا يخاطر بنفسه فليس بجنديّ.
وأما ما ذكر من أمر باب السلامة، فنحن تكلمنا فيه بما ظهر لنا، من
(1) الآية الأخيرة من سورة الأنبياء.
أن السلطان الملك العادل تغمده الله برحمته، إنما فعل ذلك إعزازا للدّين، ونصرة للحقّ، ونحن نحكم بالظاهر، والله يتولّى السرائر، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
فلما وقف الأشرف على جوابه اشتد غضبه وبعث إليه بالغرس خليل أستاداره، فبلغه غضب السلطان مما وقف من مخاطبته بما لا يعهده من مخاطبة الناس للملوك، مع ما ذكره من مخالفة اعتقاده، وأنه شرط أنه لا يفتي، ولا يجتمع بأحد، ويلزم بيته، فأظهر البشر لذلك، وخلع على الغرس سجادة كان يصلي عليها، فبقي على هذا ثلاثة أيام.
واجتمع الجمال الحصيريّ شيخ الحنفية بالسلطان، وحدثه في أمر ابن عبد السلام فأوقفه على ورقته، فقال: هذا اعتقاد المسلمين، ومن خالف وذهب إلى إثبات الحرف والصوت فهو حمار، وما زال به حتى بعث إلى الشيخ يحايله وتقدم إلى الفريقين بالإمساك عن الكلام في مسألة الكلام وأن لا يفتي فيها أحد بشيء.
فلما قدم السلطان الملك الكامل من القاهرة إلى دمشق، وكان على رأي الأشعري، أكرم ابن عبد السلام وطلب منه أن يكتب له ما جرى في هذه القضية بطوله، فأمر ولده عبد اللطيف بذلك فكتبه وأعجب به الكامل، وعتب أخاه الأشرف على منعه ابن عبد السلام من الكلام في مسألة الكلام، وعنفه على ميله للحنابلة، فأخذ الأشرف في طلب مصنّفات الشيخ وقرئ عليه منها كتاب «الملحة في اعتقاد الحق» وكتاب «مقاصد الصلاة» وكرر قراءته في يوم واحد ثلاث مرّات، فلما بلغ ذلك ابن عبد السلام قال: لو
قرئت «مقاصد الصلاة» على بعض مشايخ الزّوايا أو على متزهّد أو مريد أو متصوف مرّة واحدة، في مجلس، لما أعادها فيه مرّة أخرى، فاشتهر كتاب «مقاصد الصلاة» بدمشق وكتب منه عدة نسخ، فلما
مات الأشرف وقدم الكامل إلى دمشق بعد موته، ولي الشيخ تدريس الزاوية الغزّالية بجامع بني أمية، وعزم على ولايته قضاء دمشق، وإرساله في الرسالة إلى بغداد، فمات دون إمضاء ذلك بدمشق، فلما ملك الصالح أيوب بالكرك، ولي الشيخ خطابة الجامع الأموي، فاتفق خروج الصالح أيوب من الكرك، وأخذ ملك مصر من أخيه العادل، فحافد الصالح إسماعيل واعتضد عليه بالفرنج، وسلم إليهم صفد والشقيف، لينصروه على الصالح أيوب فدخل الفرنج دمشق واشتروا الأسلحة لقتال الصالح أيوب، فأنكر الناس ذلك، واستفتوا الشيخ فأفتاهم بتحريم بيع السلاح للفرنج، وجدد دعاءه على المنبر، وكان يدعو به قبل نزوله والناس يؤمنون، وهو: اللهم أبرم لهذه الأمة إبرام رشد تعز فيه أولياءك، وتذلّ فيه أعداءك، ويعمل فيهم بطاعتك، وينهى فيه عن معصيتك. فنقل للصالح عنه ما غيره عليه، فاعتقله ثم أفرج عنه، فأقام مدة ثم خرج من دمشق فلقيه الناصر داود في الفور، وأخذه وأقام عنده بنابلس مدّة، ثم سار إلى القدس حتى جاء الصالح إسماعيل بالفرنج لقتال المصريين، ومرّ بالقدس فقبض على الشيخ واعتقله في خيمة إلى جانبه، فلما انهزم نجا الشيخ وسار إلى القاهرة فأكرمه الصالح أيّوب، وولاه خطابة جامع عمرو وقضاء مصر، وفوّض إليه عمارة المساجد المهجورة، فجرت في ولايته عجائب وغرائب، وعزل نفسه عن الحكم ثم ردّه السلطان فباشر مدة ثم عزل نفسه.
وحكي أن رجلا قال له: رأيتك في النوم تنشد:
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة
…
ورجل رمى فيها الزّمان فشلت
فقال: أعيش ثلاثا وثمانين سنة، فإن هذا الشّعر لكثيّر عزّة، ولا نسبة بيني وبينه غير السّنّ، أنا سنّيّ وهو شيعيّ، وأنا لست بقصير وهو قصير،
ولست بشاعر وهو شاعر، وأنا سلمي وهو ليس بسلميّ، لكنه عاش هذا القدر، فكان كذلك.
وأنشد طلبته يوما، وقال لهم: أجيزوه.
لو كان فيهم من عراه غرام
…
ما عنّفوني في هواه ولاموا (1)
ولا يعرف له نظم غيره، فأجازه شمس الدين عمر بن عبد العزيز بن الفضل الأسوانيّ قاضي أسوان، فقال:
لكنّهم شهدوا لذاذة حسنه
…
وعلمتها ولذا سهرت وناموا (2)
وذكر عدة أبيات وأنشدها كلّها في المجلس، فقال له الشيخ: أنت إذا فقيه وشاعر.
289 -
عبد العزيز بن علي الشّهرزوريّ (3).
يكني أبا عبد الله. قدم الأندلس سنة ست وعشرين وأربعمائة.
وكان شيخا جليلا أخذ من كل علم بأوفر نصيب، وكانت علوم القرآن وتعبير الرؤيا أغلب عليه.
روى عن أبي زيد المروزيّ، وأبي إسحاق القرطبيّ، وأبي بكر الأبهريّ، وأبي بكر بن الباقلاني، وأبي تمام صاحب الأصول، وأبي بكر الأدفويّ، وأبي أحمد السّاريّ، والحسن بن رشيق، والدارقطنيّ.
ودخل دانية، وركب البحر منصرفا منها، فقتلته الروم في البحر سنة سبع وعشرين وأربعمائة، وقد قارب المائة سنة.
(1) طبقات الشافعية للسبكي.
(2)
المصدر السابق، وفيه:«لكنهم جهلوا» .
(3)
له ترجمة في: الصلة لابن بشكوال 1/ 357.
ذكره ابن بشكوال في «الصلة» .
290 -
عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم بن الواثق بالله هارون بن إسحاق المعتصم بالله بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن عبد الله المنصور ابن محمد بن علي بن عبد الله بن العبّاس أبو علي الهاشمي البغداديّ (1).
شيخ مقرئ مشهور، أخذ القراءة عرضا [عن أبي أيوب الضبي، بقراءة حمزة، روى عنه القراءة عرضا (2)] علي بن عمر الحمامي، وإبراهيم بن أحمد الطبري، وأبو الحسن بن العلاف. توفي ببغداد، قيل: سنة خمسين وثلاثمائة.
له من الكتب «التفسير» «السنن» «قراءة حمزة» ، «رسالته إلى ثعلب» ، يسأله عن أيّ البلاغتين أبلغ.
291 -
عبد الغني بن سعيد الثقفي (3).
صاحب «التفسير» حدّث عنه بكر بن سهل الدّمياطيّ وغيره، ضعفه ابن يونس انتهى.
وذكره ابن حبّان في الثقات، وقال: مصريّ، يروي عن موسى بن عبد الرحمن الصّنعانيّ عن هشام بن عروة.
قلت: ابن يونس أعلم به، وقد ذكر في «تاريخه» أنه توفي رجب سنة تسع وعشرين ومائتين.
هذه الترجمة من «لسان الميزان» لشيخ شيوخنا الحافظ ابن حجر.
(1) له ترجمة في: طبقات القراء لابن الجزري 1/ 395، الفهرست لابن النديم 39.
(2)
تكملة عن: طبقات القراء لابن الجزري.
(3)
له ترجمة في: لسان الميزان لابن حجر العسقلاني 4/ 45.
292 -
عبد الغني بن القاسم بن الحسن أبو محمد المصريّ المقرئ الشافعيّ الحجّار المدنيّ (1).
اختصر «تفسير» سليم الرازي اختصارا حسنا، وقال أخبرنا به أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن ثابت المقرئ، أخبرنا الفقيه أبو الفتح سلطان ابن إبراهيم المقدسيّ، عن سليم بن أيوب.
سمع منه عبد الله بن الشبلي. مات في ليلة السابع من شوال سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة.
293 -
عبد الغني بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن تيميّة الحراني (2).
خطيب حران، وابن خطيبها، سيف الدين أبو محمد، ابن الشيخ فخر الدين أبي عبد الله.
ولد في ثاني صفر سنة إحدى وثمانين وخمسمائة بحران.
وسمع بها من والده، وعبد القادر الرهاويّ، وعبد الوهاب بن أبي حبّة (3).
وحماد الحراني، وغيرهم. وأخذ العلم بها عن والده.
ورحل إلى بغداد سنة ثلاث وستمائة، فسمع بها من عبد الوهاب بن سكينة وضياء بن الخريف، وعمر بن طبرزد، وعبد العزيز بن منينا، وعبد الواحد بن سلطان، ويحيى بن الحسين الأوانيّ (4)، وأبي الفرج محمد بن
(1) ورد له ترجمة في: طبقات المفسرين للسيوطي 20.
(2)
له ترجمة في: الذيل على طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى 2/ 222.
(3)
بالباء الموحدة، وهو عبد الوهاب بن هبة الله بن أبي حبة العطار، كان يسكن حران على رأس الستمائة (تبصير المنتبه لابن حجر 1/ 405).
(4)
الأواني: بفتح الألف والواو المخففة وفي آخرها النون، نسبة الى أوانا، وهي قرية على عشرة فراسخ من بغداد (اللباب لابن الأثير 1/ 74).
هبة الله الوكيل، وعبد الرّازق بن عبد القادر الحافظ، وسعيد بن محمد بن عطاف، وأحمد بن الحسن العاقوليّ، وغيرهم.
وطلب وقرأ بنفسه، وأخذ الفقه عن الفخر إسماعيل غلام بن المنى وغيره. ورجع إلى حران، وقام مقام أبيه في وظائفه بعد وفاته، وكان يخطب ويعظ ويدرس، ويلقي التفسير في الجامع على الكرسي.
قال ابن حمدان: الشيخ الإمام العالم الفاضل، سيف الدين، قام مقام والده في التدريس والفتوى، والوعظ والخطابة: وكان خطيبا فصيحا، رئيسا ثابتا، رزين العقل.
وله تصنيف «الزوائد على تفسير الوالد» ، و «إهداء القرب إلى ساكن الترب» .
قال: ولم أسمع منه ولا قرأت عليه شيئا. وسمعت بقراءته على والده كثيرا.
وقال المنذري: لقيته بحران وغيرها، وعلقت عنه بنهر الجوز بالقرب من شاطئ الفرات شيئا. وأجاز للقاضي أبي الفضل سليمان بن حمزة المقدسيّ.
وتوفي في سابع عشر المحرم سنة تسع وثلاثين وستمائة بحرّان.
ذكره ابن رجب.
294 -
عبد القاهر بن طاهر بن محمد التّميميّ الإمام الكبير الأستاذ أبو منصور البغداديّ الشافعي (1).
(1) له ترجمة في: انباه الرواة للقفطي 2/ 185، البداية والنهاية لابن كثير 12/ 44، تبيين كذب المفتري لابن عساكر 253، طبقات الشافعية للسبكي 5/ 136، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 20 ب، طبقات ابن هداية الله 47، فوات الوفيات لابن شاكر 1/ 613، مرآة الجنان لليافعي 3/ 52، مفتاح السعادة لطاش كبرى زاده 2/ 325، وفيات الأعيان لابن خلكان 2/ 372.
إمام عظيم القدر، جليل المحلّ، كثير العلم، بحر لا يساجل في الفقه وأصوله والفرائض والحساب، وعلم الكلام.
اشتهر اسمه، وبعد صيته، وحمل عنه العلم أكثر أهل خراسان.
سمع أبا عمرو بن نجيد، وأبا عمرو محمد بن جعفر بن مطر، وأبا بكر الإسماعيليّ، وأبا أحمد (1) بن عديّ، وغيرهم.
روى عنه البيهقي، والقشيريّ، وعبد الغافر بن محمد بن شيرويه، وغيرهم.
وكان يدرّس في سبعة عشر فنّا، وله حشمة وافرة ومال جزيل.
قال شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني: كان من أئمة الأصول وصدور الإسلام بإجماع أهل الفضل والتحصيل، بديع الترتيب، غريب التأليف والتهذيب، تراه الجلّة صدرا مقدّما، وتدعوه الأئمة إماما مفخّما، ومن خراب نيسابور اضطرار مثله إلى مفارقتها.
قال ابن السبكي: فارق نيسابور بسبب فتنة وقعت بها من التركمان.
وقال عبد الغافر الفارسيّ: هو الأستاذ الإمام الكامل ذو الفنون، الفقيه الأصوليّ، الأديب الشاعر النحوي، الماهر في علم الحساب، العارف بالعروض، ورد نيسابور مع أبيه أبي عبد الله طاهر، وكان ذا مال وثروة ومروءة، وأنفقه على أهل العلم والحديث حتى افتقر، صنف في العلوم، وأربى على أقرانه في الفنون، ودرّس في سبعة عشر نوعا من العلوم، وكان قد درس على الأستاذ أبي إسحاق، وأقعده بعده للإملاء، وأملى سنين، واختلف إليه الأئمة وقرءوا عليه، مثل ناصر العمري المروزيّ، وأبي القاسم القشيريّ، وغيرهما.
(1) في الأصل «وأبا بكر» وأثبت الصواب من طبقات الشافعية للسبكي، وتبيين كذب المفتري لابن عساكر.
قال وخرج من نيسابور في أيام التركمانيّة وفتنتهم، إلى أسفراين، فمات بها.
وقال الإمام فخر الدين الرازيّ في كتاب «الرّياض المونقة» : كان- يعني أبا منصور- يسير في الرد على المخالفين سير الآجال في الآمال، وكان العالم (1) في الحساب والمقدّرات، والكلام والفقه والفرائض وأصول الفقه، ولو لم يكن له إلا كتاب «التكملة في الحساب» لكفاه.
وقال أبو علي الحسن بن نصر المرنديّ الفقيه: حدثني أبو عبد الله محمد بن عبد الله الفقيه، قال: لما حصل أبو منصور بأسفراين ابتهج الناس بمقدمه إلى الحدّ الذي لا يوصف، فلم يبق بها إلا يسيرا حتى مات، واتفق أهل العلم على دفنه إلى جانب الأستاذ أبي إسحاق، فقبراهما متجاوران تجاور تلاصق، كأنهما نجمان جمعهما مطلع، وكوكبان ضمهما برج مرتفع. مات سنة تسع وعشرين وأربعمائة.
ومن شعره (2).
يا من عدى ثم اعتدى ثم اقترف
…
ثم انتهى ثم ارعوى ثم اعترف
أبشر بقول الله في آياته
…
إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف (3)
من شعره (4):
لا تعترض فيما قضى
…
واشكر لعلّك ترتضى
اصبر على مرّ القضا
…
إن كنت تعبد من قضى
(1) في طبقات الشافعية للسبكي: «وكان علامة العالم في الحساب» .
(2)
البيتان في طبقات الشافعية للسبكي 5/ 139.
(3)
أنظر الآية 38 من سورة الأنفال.
(4)
طبقات الشافعية للسبكي.
ومنه:
يا فاتحا لي كلّ همّ مرتج
…
إني لعفو منك عنّي مرتجي (1)
فامنن عليّ بما يفيد سعادتي
…
فسعادتي طوعا متى تأمر تجيومنه (2):
طلبت من الحبيب زكاة حسن
…
على صغر من القدّ البهيّ (3)
فقال وهل على مثلي زكاة
…
على قولي العراقيّ الكميّ
فقلت الشافعيّ لنا إمام
…
وقد فرض الزكاة على الصبيّ
وله (4):
يا سائلي عن قصّتي
…
دعني أمت في غصّتي
المال في أيدي الورى
…
واليأس منه حصتي
ومن تصانيفه: كتاب «التفسير» وكتاب «فضائح المعتزلة» وكتاب «الفرق بين الفرق» وكتاب «التحصيل» في أصول الفقه، وكتاب «تفضيل الفقير الصابر على الغني الشاكر» وكتاب «فضائح الكرّاميّة» وكتاب «تأويل متشابه الأخبار» وكتاب «الملل والنحل» مختصر وليس في هذا النوع مثله، وكتاب «بلوغ المدى عن أصول الهدى» وكتاب «إبطال القول بالتولد» وكتاب «العماد في مواريث العباد» ليس في الفرائض والحساب له نظير، وكتاب «التكملة» في الحساب، وهو الذي أثنى عليه الإمام فخر الدين في كتاب «الرياض المونقة» وكتاب «شرح مفتاح ابن القصاص» وهو الذي نقل عنه الرافعيّ في آخر باب «الرجعة» وغيره،
(1) البيتان في طبقات الشافعية للسبكي، وروايته هناك: يا فاتحا لي كل باب مرتج.
(2)
الأبيات في فوات الوفيات لابن شاكر 1/ 614.
(3)
في الفوات: «من العمر البهي» .
(4)
البيتان في فوات الوفيات 1/ 615.
وكتاب «نقض ما عمله أبو عبد الله الجرجاني في ترجيح مذهب أبي حنيفة» وكتاب «أحكام الوطء التام» وهو المعروف بالتقاء الختانين في أربعة أجزاء.
قال ابن الصّلاح: ورأيت له كتابا في معنى لفظتي «التصوّف والصّوفيّ» جمع فيه من أقوال الصوفية زهاء ألف قول، مرتبة على حروف المعجم.
وجميع تصانيفه بالغة في الحسن أقصى الغايات.
295 -
عبد القاهر بن عبد الرحمن الشيخ أبو بكر الجرجاني (1).
[النحويّ، أخذ (2)] النحو بجرجان عن أبي الحسين محمد بن الحسن الفارسي ابن أخت الشيخ أبي علي الفارسي، وصار الإمام المشهور، المقصود من جميع الجهات، مع الدّين المتين والورع والسكون.
قال السّلفي. كان ورعا قانعا، دخل عليه لصّ وهو في الصلاة، فأخذ جميع ما وجد، وعبد القاهر ينظر ولم يقطع صلاته.
قال: وسمعت أبا محمد الأبيوردي يقول: ما مقلت عيني لغويا مثله.
وأما في النحو فعبد القاهر.
(1) له ترجمة في: انباه الرواة للقفطي 2/ 188، طبقات الشافعية للسبكي 5/ 149، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 25 ب، طبقات النحاة لابن قاضي شهبة 2/ 94، العبر 3/ 277، فوات الوفيات لابن شاكر 1/ 612، مرآة الجنان لليافعي 3/ 101، مفتاح السعادة لطاش كبرى زاده 1/ 177، النجوم الزاهرة لابن تغري بردي 5/ 108، نزهة الألباء لأبي البركات 363.
(2)
تكملة عن: طبقات الشافعية للسبكي.
ومن مصنّفاته كتاب «المغني في شرح الإيضاح» في نحو ثلاثين مجلدا، و «المقصد في شرح الإيضاح» أيضا، ثلاث مجلدات وكتاب «إعجاز القرآن» الكبير، وكتاب «إعجاز القرآن» الصغير، و «العوامل المائة» و «المفتاح» ، و «شرح الفاتحة» ، و «العمدة» في التصريف، و «الجمل» المختصر المشهور، و «التلخيص» في شرح هذا الجمل.
ومن شعره:
كبر على العلم يا خليلي
…
ومل إلى الجهل ميل هائم
وعش حمارا تعش سعيدا
…
فالسعد في طالع البهائم
مات سنة إحدى- وقيل أربع- وسبعين وأربعمائة.
296 -
عبد الكبير بن محمد بن عيسى بن محمد بن بقي أبو محمد الغافقي المرسي (1).
نزيل إشبيلية.
قال ابن الأبار: كان فقيها، حافظا، مشاركا في الحديث، متقدما في الفتيا.
صنف «تفسيرا» جمع فيه بين «تفسير» ابن عطية، و «تفسير» الزمخشري، و «مختصرا» في الحديث.
روى عن أبيه، وأبي عبد الله بن سعادة، وأجاز له أبو الحسن بن هذيل،
(1) له ترجمة في: صلة الصلة لابن الزبير 44، طبقات المفسرين للسيوطي 20.
وحدث. وأخذ عنه الناس، وولي قضاء رندة (1).
ولد سنة ست وثلاثين وخمسمائة، ومات في صفر سنة سبع عشرة وستمائة، رحمه الله وإيانا.
297 -
عبد الكريم بن الحسن بن المحسن بن سوار الأستاذ أبو علي المصري التككي (2) المقرئ (3).
قرأ بالروايات على أبي الحسن علي بن محمد بن حميد الواعظ، مصنف «الروضة» وسمع أبا الحسن الحبال، وأبا الحسن الخلعي.
كان عارفا بالقراءات، والتفسير ووجوهه، والإعراب والعربية وغوامضها، وكانت له حلقة إقراء بمصر، روى عنه السلفي. مات في ربيع الآخر سنة خمس وعشرين وخمسمائة، وله ثمان وستون سنة.
298 -
عبد الكريم بن عبد الصمد بن محمد بن علي بن محمد أبو معشر الطبري المقرئ القطان (4).
مقرئ أهل مكة، ومصنف «التلخيص» وكتاب «سوق العروس» في القراءات المشهورة والغريبة، وله كتاب «الدرر» في التفسير، وكتاب
(1) رندة: يضم أوله وسكون ثانيه، معقل حصين بالأندلس، وهي مدينة قديمة على نهر جار (معجم البلدان لياقوت 2/ 825).
(2)
له ترجمة في حسن المحاضرة للسيوطي 1/ 495، طبقات القراء لابن الجزري 1/ 400، طبقات القراء للذهبي 1/ 389، طبقات المفسرين للأدنةوي 39 ب، طبقات المفسرين للسيوطي 21.
(3)
التككي: بكسر التاء ثالث الحروف وفتح الكاف وفي آخرها كاف أخرى. منسوب الى التكك جمع تكة (اللباب لابن الأثير 1/ 179.
(4)
له ترجمة في: طبقات الشافعية للسبكي 5/ 152، طبقات القراء لابن الجزري 1/ 401، طبقات القراء للذهبي 1/ 351، العبر للذهبي 3/ 290، لسان الميزان لابن حجر العسقلاني 4/ 49، مرآة الجنان لليافعي 3/ 123، ميزان الاعتدال للذهبي 2/ 644.
«الرشاد في شرح القراءات الشاذة» وكتاب «عيون المسائل» وكتاب «طبقات القراء» وكتاب «العدد» وكتاب «المصاحف» و «كتاب في اللغة» وأشياء غير ذلك، وقد روى «تفسير الثّعلبي» عن المصنّف، و «مسند الإمام أحمد» و «تفسير النقاش» عن شيخه الزّيدي بحران.
[وقرأ على (1)] أبي عبد الله الكارزينيّ، وابن نفيس، وإسماعيل بن راشد الحداد، والحسين بن محمد الأصبهاني، وخلق، أسند عنهم في تواليفه.
وسمع الحديث من أبي عبد الله بن نظيف، وأبي النعمان تراب بن عبد الله، وأبي عبد الله بن يوسف بتنيس، وأبي الطيب الطّبري.
قرأ عليه أبو علي بن العرجاء وجماعة وله كتاب «سوق العروس» فيه ألف وخمسمائة طريق.
وحدث عنه أبو بكر محمد بن [عبد (2)] الباقي، وإبراهيم بن أحمد الصيمريّ، وأبو نصر أحمد بن عمر الغازي، ومحمد بن مسبح (3) الفضي، وأبو القاسم خلف بن النحاس، والحسن بن عمر الطّبريّ وهو ابن العرجاء.
وممّن قرأ عليه الحسن بن خلف بن بليمة، ومحمد بن إبراهيم بن نعم الخلف، ومنصور بن الخير، وآخرون. توفي سنة ثمان وسبعين وأربعمائة بمكة.
أورده الذهبي في «طبقات القراء» .
(1) تكملة عن: طبقات القراء للذهبي.
(2)
تكملة عن: لسان الميزان للعسقلاني، وطبقات القراء للذهبي.
(3)
في الأصل: «مسيخ» ، والمثبت في: طبقات القراء لابن الجزري، وطبقات القراء للذهبي.
299 -
عبد الكريم بن علي بن عمر الأنصاري (1).
المصريّ. الأندلسيّ الأصل، الإمام علم الدين، المعروف بالعراقيّ الشافعيّ، ولد بمصر سنة ثلاث وعشرين وستمائة.
كان إماما فاضلا في فنون كثيرة، خصوصا التفسير، وكان أبوه من الأندلس، فقدم مصر، فولد ولده هذا بها، وقيل له العراقيّ نسبة إلى جده لأمه، وهو العراقي شارح «المهذب» .
أخذ الفقه عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وغيره، والحديث عن المنذري قراءة وسماعا، والأصلين عن التّلمسانيّ، والخسروشاهيّ (2)، ومهر وبرع في فنون العلم، وتصدر بجامع مصر، ودرس المشهد الحسيني، ودرس الفقه بالقبة المنصورية وغيرها.
وصنّف كتبا منها: في التفسير «الإنصاف في مسائل الخلاف بين الزمخشري وابن المنير» ونبّه على مواضع الاعتزال في «الكشاف» وصنف «مختصرا في أصول الفقه» وأملى في تفسير القرآن.
قال الإسنوي: كان عالما فاضلا في فنون كثيرة، خصوصا التفسير، وفيه دعابة كثيرة مأثورة، قال: وشرح «التنبيه» شرحا متوسطا، رأيت منه جزءا من أوائل الكتاب وجزءا من آخره، وقد لا يكون أكمله.
(1) له ترجمة في: حسن المحاضرة للسيوطي 1/ 421، الدرر الكامنة لابن حجر 3/ 13، طبقات الشافعية للاسنوي 197، طبقات الشافعية للسبكي 6/ 129 (ط. الحسينية)، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 66 ب.
(2)
الخسروشاهي: بضم الخاء وسكون السين المهملة وفتح الراء وسكون الواو وفتح الشين المعجمة وبعدها ألف وفي آخرها هاء، هذه النسبة الى خسروشاه، وهي قرية من قرى مرو (اللباب لابن الأثير 1/ 371).
وأقرأ الناس مدة طويلة حتى صاروا أئمة، وكتب بخطه كثيرا حتى كتب «حاوي الماوردي» مرات وأضر في آخر عمره.
وقال ابن كثير في «طبقاته» نقلا عن بعضهم: إنه له مصنفات في التفسير والأصول، مات في يوم الثلاثاء سابع صفر سنة أربع وسبعمائة، ودفن بالقرافة الصغرى.
ومن شعره فيما رواه عنه أبو حيان، قال نظمت في النوم في قاضي القضاة ابن رزين وكان معزولا:
يا سالكا سبل السعادة منهجا
…
يا موضح الخطب البهيم إذا دجا
يا ابن الذين رست قواعد مجدهم
…
وثنا ثناهم عاطرا فتأرجا
لا تيأسن من عود ما فارقته
…
بعد السّرار يرى الهلال تبلجا
وابشر ومرّح ناظرا فلقد ترى
…
عما قليل في العدا متفرجا
وترى وليك ضاحكا مستبشرا
…
قد نال من تدميرهم ما يرتجي
300 -
عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم بن الفضل الإمام أبو القاسم إمام الدين الرافعي القزوينيّ الشافعي (1).
صاحب «الشرح الكبير» . قال أبو عبد الله محمد بن محمد الأسفراينيّ:
كان أوحد عصره في العلوم الدينية، أصولا وفروعا، ومجتهد زمانه في المذهب، وفريد وقته في التفسير، كان له مجلس بقزوين للتفسير ولتسميع الحديث.
(1) له ترجمة في: تاريخ الاسلام للذهبي (وفيات 623)، تاريخ ابن الوردي 2/ 148، تهذيب الأسماء واللغات للنووي 2/ 264، 265، سير أعلام النبلاء للذهبي ج 13 ق 2 ص 183، طبقات الشافعية للاسنوي 108، طبقات الشافعية للسبكي 8/ 281، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة ورقة 46 أ، طبقات ابن هداية الله 83، 84، العبر 5/ 94، فوات الوفيات لابن شاكر 2/ 7، 8، مرآة الجنان لليافعي 4/ 56، مفتاح السعادة لطاش كبرى زاده 2/ 114، 115، 354، 355، النجوم الزاهرة لابن تغري بردي 6/ 266.
صنف شرحا «لمسند الشافعي» وشرحا «للوجيز» وآخر أوجز منه، وكان زاهدا ورعا متواضعا، سمع الكثير.
وقال النوويّ: إنه كان من الصالحين المتمكّنين، وكانت له كرامات كثيرة ظاهرة.
وقال الإسنوي: كان إماما في الفقه، والتفسير، والحديث، والأصول، وغيرها. طاهر اللسان في تصنيفه، كثير الأدب، شديد الاحتراز في المنقولات، فلا يطلق نقلا عن أحد غالبا إلا إذا رآه في كلامه، فإن لم يقف عليه فيه عبّر بقوله: وعن فلان كذا، شديد الاحتراز أيضا في مراتب الترجيح.
قال الذهبي: ويظهر عليه اعتناء قوي بالحديث وفنونه في شرح «المسند» . وقيل: إنه لم يجد زيتا للمطالعة في قرية بات بها فتألم، فأضاء له عرق كرمة فجلس يطالع ويكتب عليه.
وله شعر حسن ذكر منه في «أماليه» :
أقيما على باب الرحيم أقيما
…
ولا تنيا في ذكره فتهيما
هو الربّ من يقرع على الصّدق بابه
…
يجده رءوفا بالعباد رحيما
وله أيضا:
الملك لله الّذي عنت الوجو
…
هـ له وذلّت عنده الأرباب
متفرد بالملك والسّلطان قد
…
خسر الذين تجاذبوه وخابوا (1)
دعهم وزعم الملك يوم غرورهم
…
فسيعلمون غدا من الكذّاب
(1) في الأصل: «يجادلوه وخابوا» ، والمثبت في: طبقات الشافعية للسبكي، ومفتاح السعادة لطاش كبرى زاده.
وله:
تنبّه فحقّ أن يطول بحسرة
…
تلهّف من يستغرق العمر نومه
وقد نمت في عصر الشّبيبة غافلا
…
فهبّ نصيح الشّيب قد جاء يومه
توفي أواخر سنة ثلاث- أو أوائل سنة أربع- وعشرين وستمائة بقزوين قاله ابن الصلاح.
وقال ابن خلكان. في ذي القعدة سنة ثلاث وعمره نحو ست وستين سنة.
ومن تصانيفه: «العزيز في شرح الوجيز» و «الشرح الصغير» و «المحرّر» و «شرح المسند» وهو مجلدان ضخمان، و «التذنيب» مجلد لطيف، يتعلق بالوجيز كالدقائق على
«المنهاج» ، و «الأمالي في مجلد» و «أخطار الحجاز» و «الأمالي الشارحة على مفردات الفاتحة» وهو ثلاثون مجلسا، أملاها أحاديث بأسانيد عن أشياخه على سورة الفاتحة، وتكلم عليها.
والرافعيّ منسوب إلى رافعان: بلدة من بلاد قزوين. قاله النووي.
قال الإسنويّ: وسمعت قاضي القضاة جلال الدين القزوينيّ يقول: إن رافعان بالعجمي مثل الرافعيّ بالعربي، فإن الألف والنون في آخر الاسم عند العجم كياء النسبة في آخره عند العرب، فرافعان نسبة إلى رافع، ثم إنه ليس بنواحي قزوين بلدة يقال لها رافعان ولا رافع. بل هو منسوب إلى جد له يقال له رافع.
قال الإسنويّ: وحكى بعض الفضلاء عن شيخه قال: سألت القاضي مظفر الدين قاضي قزوين، إلى ماذا نسبة الرافعي؟ فقال: كتب بخطه وهو عندي في كتاب «التدوين في أخبار قزوين» أنه منسوب إلى رافع بن
خديج رضي الله عنه. وحكى ابن كثير قولا: أنه منسوب إلى أبي رافع، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
301 -
عبد الكريم بن محمود بن مودود بن محمود بن بلدجي الموصليّ (1).
أبو الفضل. الفقيه الإمام الحنفيّ المفسر.
مولده سنة اثنتين وثلاثين وستمائة بالموصل، ودرّس بالمشهد بعد محمود، فقيه عالم بالتفسير. ذكره القرشي هكذا ولم يؤرخ وفاته.
302 -
عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة بن محمد النّيسابوريّ الأستاذ أبو القاسم القشيريّ الملقّب زين الإسلام (2).
شيخ المشايخ وأستاذ الجماعة ومقدّم الطائفة، الجامع بين أشتات العلوم.
ولد في ربيع الأول سنة ست وسبعين وثلاثمائة.
وسمع الحديث من أبي الحسين الخفّاف، وأبي نعيم الأسفراينيّ. وأبي بكر بن عبدوس المزكّيّ، وأبي نعيم أحمد بن محمد المهرجانيّ، وعلي بن أحمد
(1) له ترجمة في: الجواهر المضيئة لعبد القادر بن محمد القرشي 1/ 327 الطبقات السنية للغزي 292 أ، طبقات المفسرين للأدنةوي 52 ب.
(2)
له ترجمة في انباه الرواة للقفطي 2/ 193، الأنساب للسمعاني 453 ب، البداية والنهاية لابن كثير 12/ 107، تاريخ بغداد 11/ 83، تبيين كذب المفتري 271، الرسالة المستطرفة 166، روضات الجنات 444، طبقات الشافعية للسبكي 5/ 153، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 26 أ، طبقات المفسرين للسيوطي 21، العبر للذهبي 3/ 259، اللباب لابن الأثير 2/ 264، المختصر في أخبار البشر 2/ 199، مفتاح السعادة لطاش كبرى زاده 2/ 107، المنتظم لابن الجوزي 8/ 80، النجوم الزاهرة لابن تغري بردي 5/ 91، وفيات الأعيان لابن خلكان 2/ 375.
الأهوازيّ، وأبي عبد الرحمن السّلميّ، وابن باكويه الشّيرازيّ، والحاكم، وابن فورك (1)، والحسين بن بشران، وغيرهم.
روى عنه ابنه عبد المنعم، وابن ابنه أبو الأسعد هبة الرحمن، وأبو عبد الله الفراويّ، وزاهر الشحّاميّ، وعبد الوهّاب بن شاه الشاذياخيّ (2) ووجيه الشحّاميّ، وعبد الجبار الخواريّ (3)، وخلق.
وروى عنه من القدماء أبو بكر الخطيب، وغيره.
واخذ الفقه عن أبي بكر محمد بن بكر الطوسي، وعلم الكلام عن الأستاذ أبي بكر بن فورك.
واختلف يسيرا إلى الشيخ أبي إسحاق (4).
وأخذ التصوف عن أستاذه أبي عليّ الدقاق.
وكان فقيها بارعا أصوليا، محقّقا متكلّما، سنيا محدّثا حافظا، مفسّرا، متفنّنا، نحويا لغويا، أديبا كاتبا شاعرا، مليح الخطّ جدا، شجاعا بطلا، له في الفروسية واستعمال السلاح الآثار الجميلة.
(1) في الأصل: «والحاكم بن فورك» ، وصوابه في طبقات الشافعية للسبكي.
(2)
الشاذياخي: بفتح الشين وسكون الألف والذال المعجمة وفتح الياء وسكون الألف وفي آخرها خاء معجمة، نسبة الى موضعين: أحدهما على باب نيسابور مثل قرية متصلة بالبلد بها دار السلطان
…
ينسب اليها أبو بكر شاه بن أحمد بن عبد الله الشاذياخي الصوفي من أهل الدين، مشهور بخدمة أبي القاسم القشيري (اللباب لابن الأثير 2/ 3).
(3)
في الأصل: «الخوارزمي» ، الصواب في: طبقات الشافعية للسبكي، العبر.
وهو: عبد الجبار بن محمد بن أبو محمد الخواري الشافعي المفتي، امام نيسابور سمع القشيري وجماعة. توفي في شعبان سنة 535 هـ (العبر للذهبي 4/ 99).
والخوارزمي: بضم الخاء وفتح الواو. نسبة الى خوار بلدة بالري (اللباب لابن الأثير 1/ 391).
(4)
الأسفرايني. كما في التبيين 273.
أجمع أهل عصره على أنه سيد زمانه، وقدوة وقته، وبركة المسلمين في ذلك العصر.
قال الخطيب: حدّث ببغداد، وكتبنا عنه، وكان ثقة، وكان يعظ، وكان حسن الموعظة، مليح الإشارة، وكان يعرف الأصول على مذهب الأشعريّ، والفروع على مذهب الشافعي.
وقال عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي فيه: الإمام مطلقا، الفقيه المتكلم الأصولي، المفسّر الأديب النحوي، الكاتب الشاعر، لسان عصره وسيّد وقته وسر الله بين خلقه، شيخ المشايخ وأستاذ الجماعة، ومقدّم الطائفة، ومقصود سالكي الطريقة، وبندار الحقيقة، وعين السادة، وحقيقة الملاحة، لم ير مثل نفسه، ولا رأى الراءون مثله، في كماله وبراعته، جمع بين علم الشريعة والحقيقة، وشرح أحسن الشرح أصول الطريقة.
أصله من ناحية إستوا، من العرب الذين وردوا خراسان، وسكنوا لنواحي، فهو قشيري الأب سلمي الأم (1)، وخاله أبو عقيل السلمي، من وجوه دهاقين ناحية إستوا.
توفي أبوه وهو طفل، فوقع إلى أبي القاسم الأليماني، فقرأ الأدب والعربية عليه، بسبب اتصاله بهم، وقرأ على غيره، وحضر البلد، واتفق حضوره مجلس الأستاذ الشهيد أبي علي الحسن بن علي الدقاق، فاستحسن كلامه، وسلك طريق الإرادة، فقبله الأستاذ، وأشار عليه بتعلم العلم، فخرج إلى درس الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن بكر الطوسي. وشرع في الفقه حتى فرغ من التعليق، ثم اختلف بإشارته إلى الاستاذ الإمام أبي بكر بن فورك، وكان
(1) في الأصل: «فهو قشيري الأم سلمي الأب» ، والمثبت في المنتظم، وطبقات الشافعية للسبكي.
المقدّم في الأصول، حتى حصلها وبرع فيها، وصار من أوجه تلامذته، وأشدّهم تحقيقا وضبطا، وقرأ عليه أصول الفقه، وفرغ منه، ثم بعد وفاة الأستاذ أبي بكر اختلف إلى الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني، وقعد يسمع جميع دروسه، وأتى عليه أيام، فقال له الأستاذ: هذا العلم لا يحصل بالسماع. وما توهم فيه ضبط ما يسمع، فأعاد عنده ما سمعه منه، وقرره أحسن تقرير من غير إخلال بشيء، فتعجب منه وعرف محله فأكرمه، وقال:
ما كنت أدري انك بلغت هذا المحل، فلست تحتاج إلى درسي، يكفيك أن تطالع مصنفاتي وتنظر في طريقي، وأن أشكل عليك شيء طالعتني به، ففعل ذلك، وجمع بين طريقته وطريقة ابن فورك.
ثم نظر بعد ذلك في كتب القاضي أبي بكر بن الطيّب، وهو مع ذلك يحضر مجلس الأستاذ أبي علي إلى أن اختاره لكريمته، فزوجها منه.
وبعد وفاة الأستاذ عاشر أبا عبد الرحمن السلمي، إلى أن صار أستاذ خراسان وأخذ في التصنيف فصنف «التفسير الكبير» قبل العشر وأربعمائة، ورتب المجالس وخرج إلى الحج في رفقة، فيها أبو محمد الجويني، والشيخ أحمد البيهقي، وجماعة من المشاهير، فسمع معهم الحديث ببغداد، والحجاز من مشايخ عصره.
وكان في علم الفروسية واستعمال السلاح وما يتعلق به من أفراد العصر، وله في ذلك الفن دقائق وعلوم انفرد بها.
وأما المجالس في التذكير والقعود فيما بين المريدين وأسئلتهم عن الوقائع وخوصه في الأجوبة، وجريان الأحوال العجيبة، فكلها منه وإليه.
أجمع أهل عصره على أنه عديم النظير فيها، غير مشارك في أساليب الكلام على المسائل؛ وتطييب القلوب؛ والإشارات اللطيفة المستنبطة من
الآيات والأخبار من كلام المشايخ؛ والرموز الدقيقة؛ وتصانيفه فيها المشهورة؛ إلى غير ذلك من نظم الأشعار اللطيفة على لسان الطريقة.
ولقد عقد لنفسه مجلس الإملاء في الحديث سنة سبع وثلاثين وأربعمائة، وكان يملي إلى سنة خمس وستين، يذنّب أماليه بأبياته، وربما كان يتكلم على الحديث بإشاراته ولطائفة.
وله في الكتابة طريقة أنيقة رشيقة تفوق على النظم.
وقد أخذ طريق التصوف عن الأستاذ أبي عليّ الدقّاق، وأخذها أبو عليّ عن أبي القاسم النّصر أباذيّ، والنصرآباذيّ عن الشّبليّ، والشّبليّ عن الجنيد، والجنيد عن السّريّ السقطيّ، والسّريّ عن معروف الكرخيّ، ومعروف عن داود الطائيّ، وداود لقي التابعين. هكذا كان يذكر إسناد طريقته.
ومن جملة أحواله ما خصّ به من المحنة في الدّين والاعتقاد وظهور التعصب بين الفريقين، في عشر سنة أربعين إلى خمس وخمسين وأربعمائة، وميل بعض الولاة [إلى](1) الأهواء، وسعي بعض الرؤساء والقضاة إليه بالتخليط، حتى أدى ذلك إلى رفع المجالس، وتفرق شمل الأصحاب، وكان هو المقصود من بينهم حسدا، حتى اضطرته الحال إلى مفارقة الأوطان، وامتد في أثناء ذلك إلى بغداد وورد على أمير المؤمنين القائم بأمر الله، ولقي فيها قبولا، وعقد له المجلس في منازله المختصة [به](2) وكان ذلك بمحضر ومرأى منه، ووقع كلامه في مجلسه الموقع، وخرج الأمر بإعزازه وإكرامه، وعاد إلى نيسابور، وكان يختلف منها إلى طوس بأهله وبعض أولاده، حتى طلع صبح
(1) تكملة عن: طبقات الشافعية للسبكي.
(2)
تكملة عن: المصدر السابق.
النوبة المباركة، دولة السلطان ألب أرسلان في سنة خمس وخمسين وأربعمائة، فبقي عشر سنين في آخر عمره مرفها محترما، مطاعا معظما، وأكثر صفوه في آخر أيامه التي شاهدناه فيها أخيرا إلى أن تقرأ عليه كتبه وتصانيفه، والأحاديث المسموعة له، وما يؤول إلى نصرة المذهب.
بلغ المنتمون إليه آلافا فأملوا بذكره وتصانيفه أطرافا.
قال ابن السمعانيّ: سمعت أبا بشر مصعب بن عبد الرزاق بن مصعب المصعبيّ (1) بمرو، ويقول: حضر الأستاذ أبو القاسم مجلس بعض الأئمة الكبار، وكان قاضيا بمرو، وأظنه قال: القاضي علي الدهقان، وقت قدومه علينا، فلما دخل الأستاذ قام القاضي على رأس السرير، وأخذ مخدة كان يستند عليها على السرير، وقال لبعض من كان قاعدا على درجة المنبر:
احملها إلى الأستاذ الإمام ليقعد عليها. ثم قال: أيها الناس إني حججت سنة من السنين، وكان قد اتفق أن حج تلك السنة هذا الإمام الكبير، وأشار إلى الأستاذ، وكان يقال لتلك السنة سنة القضاة، وكان حج تلك السنة أربعمائة نفس من قضاة المسلمين وأئمتهم من أقطار البلدان وأقاصي الأرض، فأرادوا أن يتكلم واحد منهم في حرم الله سبحانه وتعالى فاتفق الكلّ على الأستاذ أبي القاسم، فتكلم هو باتفاق منهم.
وبلغنا أنه مرض للأستاذ أبي القاسم ولد مرضا شديدا، بحيث أيس منه، فشق ذلك على الأستاذ، فرأى الحق سبحانه وتعالى في المنام، فشكى إليه، فقال له الحق سبحانه وتعالى: أجمع آيات الشفاء واقرأها عليه، أو اكتبها في إناء واجعله فيه مشروبا واسقه إيّاه، ففعل ذلك، فعوفي الولد.
(1) في الأصل: «المصيصي» ، والمثبت في: طبقات الشافعية للسبكي.
وآيات الشفاء في القرآن ست:
وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (1).
شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ (2).
فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ (3).
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (4).
وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (5).
قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ (6).
ورأيت كثيرا من المشايخ يكتبون هذه الآيات للمريض، ويسقاها في الإناء طلبا للعافية.
ومن تصانيف الأستاذ «التفسير الكبير» وهو من أجود التفاسير، وأوضحها. و «الرسالة» المشهورة المباركة التي قيل فيها: ما تكون في بيت وينكب و «التحبير في التذكير» ، و «آداب الصوفية» و «لطائف الإشارات» ، وكتاب «الجواهر» ، و «عيون الأجوبة في فنون الأسئلة» وكتاب «المناجاة» وكتاب «نكت أولي النهى» وكتاب «شجو القلوب» الكبير وكتاب «شجو القلوب» الصغير وكتاب «أحكام السّماع» وكتاب «الأربعين في الحديث» وغير ذلك.
وخلّف من البنين ستة عبادلة، كلّهم من السيّدة الجليلة فاطمة بنت الأستاذ أبي علي الدّقاق.
(1) سورة التوبة 14.
(2)
سورة يونس 57.
(3)
سورة النحل 69.
(4)
سورة الاسراء 82.
(5)
سورة الشعراء 80.
(6)
سورة فصلت 44.
ولما مرض لم تفته ولا ركعة قائما، بل كان يصلّي عن قيام إلى أن توفي رحمه الله في صبيحة يوم الأحد، السادس عشر من شهر ربيع الآخر، سنة خمس وستين وأربعمائة، ودفن في المدرسة إلى جانب أستاذه أبي عليّ الدّقاق.
قال أبو تراب المراغيّ: رأيته في النوم، فقال: أنا في أطيب عيش وأكمل راحة.
وقال غيره: كانت له فرس يركبها، فلما مات امتنعت عن العلف، ولم تطعم شيئا، ولم تمكّن راكبا من ركوبها، ومكثت أياما قلائل على هذا بعده، إلى أن ماتت.
ومن شعره:
يا من تقاصر شكري عن أياديه
…
وكلّ كل لسان عن معاليه (1)
وجوده لم يزل فردا بلا شبه
…
علا عن الوقت ماضيه وآتيه
لا دهر يخلقه لا قهر يلحقه
…
لا كشف يظهره لا ستر يخفيه
لا عدّ يجمعه لا ضدّ يمنعه
…
لا حد يقطعه لا قطر يحويه
لا كون يحصره لا عون ينصره
…
وليس في الوهم معلوم يضاهيه
جلاله أزليّ لا زوال له
…
وملكه دائم لا شيء يفنيه
وقال:
وإذا سقيت من المحبّة مصّة
…
ألقيت من فرط الخمار خماري
كم تبت قصدا ثم لاح عذاره
…
فخلعت من ذاك العذار عذاري
وقال:
أيها الباحث عن دين الهدى
…
طالبا حجّة ما يعتقده
إن ما تطلبه مجتهدا
…
غير دين الشافعي لا تجده
(1) طبقات الشافعية للسبكي.
وقال:
لا تدع خدمة الأكابر واعلم
…
أن في خدمة الصّغار صغارا (1)
وابغ من في يمينه لك يمن
…
وترى في اليسار منه اليسارا
وقال:
جنّباني المجون يا صاحبيّا
…
واتلوا سورة الصلاح عليّا (2)
قد أجبنا لزاجر العقل طوعا
…
وتركنا حديث سلمى وميّا
ومنحنا لموجب الشّرع نشرا
…
وشرعنا لموجب اللهو طيّا
ووجدنا إلى القناعة بابا
…
فوضعنا على المطالع كيّا
كنت في حرّ وحشتي لاختياري
…
فتعوّضت بالرّضى منه فيا
إنّ من يهتدي لقطع هواه
…
فهو في العزّ حاز أوج الثّريّا
والذين ارتووا بكأس مناهم
…
فعلى الصّدّ سوف يلقون غيّا
303 -
عبد اللطيف بن أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن عبد الرحمن الحسنيّ الفاسي المكيّ الشافعيّ (3).
أبو الثناء نجم الدين أخو الحافظ تقي الدين، عني بالفقه والأصلين، والتفسير والعربية، والمعاني والبيان، والمنطق، وغير ذلك.
ولازم العلامة عز الدين بن جماعة في هذه الفنون، وتفقه بالسراج بن الملقن، والبرهان الأبناسيّ، والجلال البلقيني، والوليّ العراقي، والنور البكريّ المعروف بابن فتيلة.
وأخذ الأصول ودرس بالحرم الشريف، وأفتى، وسمع من ابن أبي المجد
(1) في طبقات الشافعية للسبكي: «عشرة الصغار» .
(2)
في طبقات الشافعية للسبكي: «سورة الصلاة» .
(3)
له ترجمة في: الضوء اللامع للسحاوي 4/ 322.
الدمشقيّ. والبرهان الشاميّ، وابن الشيخة، وابن صديق، ومريم بنت الأذرعيّ.
ودخل تونس من بلاد المغرب. وحدث بها، وعاد إلى القاهرة واستوطنها إلى أن توفي بها في يوم الخميس سادس جمادى الأولى، سنة ثلاث وأربعين وثمانمائة شهيدا بالطاعون.
304 -
عبد الملك بن حبيب بن سليمان بن هارون بن جلهمة بن عباس بن مرداس السّلميّ أبو مروان الأندلسي (1).
من الطبقة الأولى، الذين انتهى إليهم فقه مالك ممن لم يره، من أهل الأندلس.
روى بالأندلس عن صعصعة بن سلام، والغازي بن قيس، وزياد بن عبد الرحمن، ورحل سنة ثمان ومائتين، فسمع ابن الماجشون، ومطرّفا، وإبراهيم بن المنذر الحزاميّ، وعبد الله بن نافع الزبيري، وابن أبي أويس، وعبد الله بن عبد الحكم، وعبد الله بن المبارك، وأصبغ بن الفرج، وأسد بن موسى، وجماعة سواهم.
وانصرف إلى الأندلس سنة ست عشرة وقد جمع علما عظيما، فنزل بلده إلبيرة وقد انتشر سموّه في العلم والرواية، فنقله الأمير عبد الرحمن بن الحكم إلى قرطبة، ورتبه في طبقة المفتين فيها، فأقام مع يحيى بن يحيى زعيمها في المشاورة والمناظرة، وكان الذي بينهما سيئا جدا، ومات يحيى قبله، فانفرد
(1) ورد له ترجمة في: انباه الرواة للقفطي 2/ 206، بغية الملتمس للضبي 364، تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي 269، تذكرة الحفاظ للذهبي 2/ 537، ترتيب المدارك للقاضي عياض 3/ 30، تهذيب التهذيب لابن حجر 6/ 390، جذوة المقتبس للحميدي 263، الديباج المذهب لابن فرحون 154، طبقات النحاة لابن قاضي شهبة 2/ 100، العبر 1/ 427، لسان الميزان 4/ 59، مرآة الجنان لليافعي 2/ 122، ميزان الاعتدال للذهبي 2/ 652، النجوم الزاهرة 2/ 293، نفح الطيب للمقري 2/ 5.
عبد الملك بعده بالرئاسة، سمع منه ابناه محمد، وعبيد الله، وبقيّ بن مخلد، وابن وضّاح، والمغاميّ في جماعة وكان المغامي آخرهم موتا.
كان عبد الملك حافظا للفقه على مذهب مالك نبيلا فيه، غير أنه لم يكن له علم بالحديث ولا معرفة صحيحه من سقيمه.
وقال ابن مزين وابن لبابة: عبد الملك عالم الأندلس.
وسئل ابن الماجشون عن أعلم الرجلين: القروي التنوخيّ؛ أم الأندلسي السلميّ؟ فقال: السلمي مقدمه علينا أعلم من التنوخي منصرفه عنا. ثم قال للسائل: أفهمت؟
قال أحمد بن عبد البر كان جمّاعا للعلم، كثير الكتب، طويل اللسان، فقيه البدن، نحويا عروضيا شاعرا، نسابة إخباريا، وكان أكثر من يختلف إليه الملوك وأبناؤهم وأهل الأدب، وكان لا يلي إلا معالي الأمور.
وكان ذابّا عن مذهب مالك، وقال بعضهم رأيته يخرج من الجامع وخلفه نحو ثلاثمائة نفر طالب حديث وفرائض وإعراب وفقه، وقد رتب الدول عنده كل يوم ثلاثين دولة، لا يقرأ فيها عليه شيء إلا تواليفه، و «موطأ» مالك. وكان صوّاما قواما.
وقال المغامي: لو رأيت ما كان على باب ابن حبيب لازدريت غيره، ولما نعي إلى سحنون استرجع، وقال: مات عالم الأندلس، بل والله عالم الدنيا.
وذكره ابن الفرضي في طبقات الأدباء فجعله صدرا فيهم، وقال: كان قد جمع إلى إمامته في الفقه التنجيح في الأدب والتفنن في ضروب العلم، وكان فقيها مفتيا، نحويّا لغويّا، نسّابة إخباريا، عروضيا فائقا، شاعرا محسنا مترسلا حاذقا مؤلفا متقنا، وذكر بعض المشايخ. أنه لما دنا من مصر، في
رحلته أصاب جماعة من أهلها بارزين لتلقي الرفقة على عادتهم. فكلما أطل عليهم رجل له هيئة ومنظر، رجحوا الظن به، وقضوا بفراستهم عليه، حتى رأوه، وكان ذا منظر جميل، فقال قوم: هذا فقيه. وقال آخرون: بل شاعر.
وقال آخرون. طبيب. فلما كثر اختلافهم تقدموا نحوه، وأخبروه باختلافهم فيه، وسألوه عما هو؟ فقال لهم كلكم قد أصاب، وجميع ما قدرتم أحسنه والخبرة تكشف الحيرة والامتحان يجلى عن الإنسان، فلما حط رحله ولقي الناس شاع خبره، فقصد إليه كل ذي علم يسأله عن فنه، وهو يجيبه جواب متحقق، فعجبوا من ثقوب علمه، وأخذوا عنه، وعطلوا [حلق (1)] علمائهم، وأثنى عليه ابن المواز بالعلم والفقه.
وقال العتبي: وذكر «الواضحة» رحم الله عبد الملك، ما أعلم أحدا ألف على مذهب أهل المدينة تأليفه ولا لطالب أنفع من كتبه ولا أحسن من اختياره.
وألف كتبا كثيرة حسانا في الفقه، والتواريخ، والآداب، منها الكتب المسماة «بالواضحة» في السنن والفقه لم ير مثلها، وكتاب «إعراب القرآن» وكتاب «الحسبة في الأمراض» و «كتاب الفرائض» و «كتاب السخاء واصطناع المعروف» و «كتاب كراهية الغناء» و «كتاب النسب» و «كتاب النجوم» و «كتاب الجامع» وهو كتاب فيه مناسك النبي صلى الله عليه وسلم و «كتاب الرغائب» و «كتاب الورع في المال وغيره» ستة أجزاء، وكتاب «العمل بالجوارح» ، وكتاب «فضائل الصحابة» وكتاب «غريب الحديث» وكتاب «تفسير الموطأ» وكتاب «حروب الإسلام» وكتاب «المسجدين» وكتاب «سيرة الإمام في الملحدين» وكتاب «طبقات الفقهاء والتابعين» وكتاب «مصابيح الهدى» .
(1) عن: ترتيب المدارك للقاضي عياض، والديباج المذهب لابن فرحون.
قال بعضهم: قسم ابن الفرضي هذه الكتب وهذه الأسماء وهي يجمعها كتاب واحد، لأن ابن حبيب إنما ألف كتابه عشرة أجزاء، الأول «تفسير الموطأ حاشى الجامع» الثاني «شرح الجامع» الثالث والرابع والخامس في حديث النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، وكتاب «مصابيح الهدى» جزء منها ذكر فيه من الصحابة والتابعين. والعاشر «طبقات الفقهاء» وليس فيها أكثر من الأول، وتحامل في هذا الشرح على أبي عبيد، والأصمعي، وانتحل كثيرا من كلام أبي عبيد، وكثيرا ما يقول فيه: أخطأ شارح العراقيين. وأخذ عليه فيه تصحيف قبيح، وهو أضعف كتبه.
قال بعضهم: قلت لعبد الملك: كم كتبك التي ألفت؟ قال: ألف وخمسون كتابا.
وقال عبد الأعلى بن معلي: هل رأيت كتبا تحبب عبادة الله إلى خلقه، وتعرفهم به، ككتب عبد الملك بن حبيب، يريد كتبه في الرغائب والرهائب، ومنها كتب المواعظ سبعة، وكتب الفضائل سبعة، «فضائل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه» و «فضائل عمر بن عبد العزيز» و «فضائل مالك بن أنس» وكتاب «أخبار قريش وأنسابها» خمسة عشر كتابا و «كتاب السلطان» و «سيرة الإمام» ثمانية كتب، وكتاب «الباه والنساء» ثمانية كتب، وغير ذلك من كتب سماعه في الحديث والفقه، وتواليفه في الطبّ و «تفسيره» في القرآن ستون كتابا، و «كتاب القارئ» و «الناسخ والمنسوخ» ، و «رغائب القرآن» و «كتاب الدهور والقدماء والمغازي والحدثان» خمسة وتسعون كتابا، وكتاب «مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم» اثنان وعشرون كتابا.
وكان له قارورة قد أذاب فيها اللبان والعسل، يشرب منها كل غداة على الريق للحفظ.
توفي في ذي الحجة، سنة ثمان وثلاثين، وقيل تسع وثلاثين ومائتين، وقبره [بقرطبة (1)] بمقبرة أم مسلمة في قبلة مسجد الضيافة، وصلى عليه القاضي أحمد بن زياد، وقال: صلى عليه ابنه، رحمه الله تعالى.
305 -
عبد الملك بن سراج بن عبد الله بن محمد سراج (2).
مولى بني أمية، من أهل قرطبة، يكنى: أبا مروان. إمام اللغة بالأندلس غير مدافع.
روى عن أبيه، والقاضي يونس بن عبد الله، وعن أبي القاسم إبراهيم بن محمد بن زكريا الإفليلي، وأبي سهل الحراني، وأبي محمد مكّي بن أبي طالب المقرئ، وأبي عمرو السّفاقسيّ، وأبي مروان بن حيّان وغيرهم.
قال أبو علي: هو أكثر من لقيته علما بضروب الأدب، ومعاني القرآن، والحديث، وقرأ عليه أبو علي كثيرا من كتب اللغة، والغريب، والأدب وقيد ذلك كله عنه، وكانت الرحلة في وقته إليه، ومدار أصحاب الآداب واللغات عليه، وكان وقور المجلس لا يجسر أحد على الكلام به لمهابته وعلو مكانته.
قال لنا القاضي أبو عبد الله بن الحاج رحمه الله: كان شيخنا أبو مروان بن سراج يقول: حدثنا، وأخبرنا، واحد. ويحتج بقول الله تعالى: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (3) فجعل الحديث والخبر واحدا.
وذكره شيخنا أبو الحسن بن مغيث فقال: كان واسع المعرفة، حافل الرّواية، بحر علم، عالما بالتفاسير، ومعاني الحديث. أحفظ الناس للسان
(1) تكملة عن: ترتيب المدارك لقاضي عياض.
(2)
ورد له ترجمة في: انباه الرواة للقفطي 2/ 207، بغية الملتمس للضبي 367، الديباج المذهب لابن فرحون 157، الصلة لابن بشكوال 1/ 346.
(3)
سورة الزلزلة 4.
العرب، وأصدقهم فيما يحمله، وأقومهم بالعربيّة والأشعار، والأخبار، والأنساب، والأيام. عنده يسقط حفظ الحفاظ، ودونه يكون علم العلماء، فاق الناس في وقته، وكان حسنة من حسنات الزمان، وبقيّة من الأشراف الأعيان.
مولده لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، سنة أربعمائة، وتوفّي رحمه الله ليلة عرفة، ودفن يوم عرفة سنة تسع وثمانين وأربعمائة، ودفن بالربض، رحمه الله وإيّانا.
ذكره ابن بشكوال في «الصلة» .
306 -
عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الروميّ الأموي (1).
مولاهم. المكيّ، الإمام المجتهد الحافظ، فقيه الحرم. أبو اليد، ويقال:
أبو خالد، صاحب التصانيف «التفسير» وغيره، روى تفسيره عنه: حجاج ابن محمد المصّيصيّ (2) الحافظ، سمعه منه في الإملاء.
حدّث عن أبيه، ومجاهد يسيرا، وعطاء بن أبي رباح فأكثر، وميمون بن مهران، وعمرو بن شعيب، ونافع، والزهريّ، وخلق كثير.
ولد سنة نيف وسبعين، وأدرك صغار الصحابة لكن لم يحفظ عنهم.
روى عنه: السفيانان، ومسلم بن خالد، وابن عليّة، وحجاج بن محمد، وأبو عاصم، وروح، ووكيع، وعبد الرزاق، وأمم سواهم.
(1) له ترجمة في: تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 10/ 400، تذكرة الحفاظ للذهبي 1/ 169، تهذيب التهذيب لابن حجر 6/ 402، الرسالة المستطرفة للكتاني 34، العبر للذهبي 1/ 213، ميزان الاعتدال للذهبي 2/ 659، وفيات الأعيان لابن خلكان 2/ 338.
(2)
بكسر الميم والصاد المشددة وسكون الياء وفي آخرها صاد مهملة ثانية، نسبة الى مصيصة على ساحل البحر (اللباب لابن الأثير 3/ 147).
قال أحمد بن حنبل. كان من أوعية العلم، وهو وابن عروبة أوّل من صنّف الكتب [بالحجاز (1)].
وقال عبد الرزاق: ما رأيت أحدا أحسن صلاة من ابن جريج، كنت إذا رأيته علمت أنه يخشى الله، ويقال إن عطاء قيل له: من نسأل بعدك؟
قال: هذا الفتى إن عاش، يعني ابن جريج.
وقال يحيى القطّان: كان ابن جريج يرى المتعة تزوّج ستين امرأة.
وقال ابن المديني: لم يكن في الأرض أعلم بعطاء [من](2) ابن جريج، وقال: لم يسمع من الزهري، إنما أعطاني جزءا كتبته وأجازه لي، وقيل: سمع من مجاهد حرفين في القراءات.
وقال عبد الوهّاب بن همام: قال ابن جريج: لزمت عطاء ثمانية عشر عاما.
قال الواقدي: مات ابن جريج في أول ذي الحجة سنة خمسين ومائة.
وقال خالد بن نزار الأيليّ: خرجت بكتب ابن جريج، سنة خمسين ومائة لأوافيه، فوجدته قد مات.
وقال مؤمل بن إسماعيل: مات قبل الموسم سنة خمسين ومائة، وفيها أرّخه جماعة، ووهم ابن المديني حيث يقول: سنة تسع وأربعين، وكان ابن جريج قد قدم في آخر أيامه البصرة وحدّث بها.
له كتاب «السنن» يحتوي على مثل ما تحتوي عليه كتب السنن، مثل الطهارة والصلاة والزكاة، وغير ذلك.
(1) تكملة عن: العبر للذهبي.
(2)
تكملة عن: تذكرة الحفاظ.
307 -
عبد الملك بن علي.
قال الصّفدي: كان مؤدبا بهراة، قرأ عليه أكثر فضلائها.
وصنّف: «المحيط في اللغة» ، «المنتخب من تفسير الرّمانيّ» ، «الصفات والأدوات التي يبتدئ بها الأحداث» . مات سنة تسع وثمانين وأربعمائة.
308 -
عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع (1).
ابن مظهر (2) - بضم الميم وسكون الظاء المعجمة وكسر الهاء- بن رباح بن عمرو بن عبد شمس بن أعيا بن سعد بن قيس عيلان بن مضر الباهلي أبو سعيد الأصمعيّ البصريّ اللغويّ.
أحد أئمة اللغة والغريب والأخبار والملح والنوادر، روى عن أبي عمرو ابن العلاء، وقرّة بن خالد، ونافع بن أبي نعيم، وشعبة، وحماد بن سلمة وخلق.
قال عمر بن شبّة: سمعته يقول: حفظت ستة عشر ألف أرجوزة.
وقال الشافعي: ما عبّر أحد عن العرب بمثل عبارة الأصمعيّ.
(1) له ترجمة في: انباه الرواة للقفطي 2/ 197، الأنساب للسمعاني الورقة 51، تاريخ أصبهان 2/ 13، تهذيب الأسماء واللغات للنووي 2/ 273، تهذيب التهذيب لابن حجر 6/ 415، جمهرة الأنساب 245، خلاصة تذهيب الكمال للخزرجي 207، روضات الجنات 458، طبقات القراء لابن الجزري 1/ 470، طبقات النحاة لابن قاضي شهبة 1/ 101، العبر للذهبي 1/ 370، الفهرست لابن النديم 55، اللباب 1/ 56، مرآة الجنان لليافعي 2/ 64، المعارف 543، ميزان الاعتدال 2/ 662، النجوم الزاهرة لابن تغري بردي 2/ 190، نزهة الألباء 112، وفيات الاعيان لابن خلكان 2/ 344.
(2)
كذا في الأصل بهذا الضبط المنصوص عليه، وفي بغية الوعاة للسيوطي وانباه الرواة:«ابن مظهر» وضبطه أيضا ابن خلكان وصاحب القاموس بضم الميم وفتح الظاء وتشديد الهاء المكسورة.
قال ابن معين: ولم يكن ممّن يكذب، وكان من أعلم الناس في فنه.
وقال أبو داود: صدوق، وكان يتقي أن يفسّر الحديث، كما يتقي أن يفسّر القرآن.
وكان بخيلا ويجمع أخبار البخلاء.
وتناظر هو وسيبويه، فقال يونس: الحقّ مع سيبويه، وهذا يغلبه بلسانه.
وكان من أهل السنة، ولا يفتي إلا فيما أجمع عليه علماء اللّغة، ويقف عما ينفردون عنه، ولا يجيز إلا أفصح اللغات.
وعنه أنه قال: حضرت أنا وأبو عبيدة عند الفضل بن الربيع، فقال لي:
كم كتابك في الخيل؟ فقلت: مجلد واحد، فسأل أبا عبيدة عن كتابه فقال: خمسون مجلدا، فقال له: قم إلى هذا الفرس، وأمسك عضوا عضوا منه وسمّه، فقال: لست بيطارا، وإنما هذا شيء أخذته عن العرب، فقال: قم يا أصمعيّ وافعل ذلك، فقمت وأمسكت ناصيته، وجعلت أذكر عضوا عضوا، وأضع يدي عليه، وأنشد ما قالته العرب إلى أن بلغت حافره، فقال:
خذه، فأخذت الفرس وكنت إذا أردت أن أغيظه ركبته وأتيته.
صنّف: «غريب القرآن» «خلق الإنسان» «الأجناس» «الأنواء» «الهمز» «المقصور والممدود» «الصفات» «خلق الفرس» «الإبل» «الخيل» «الشاء» «الميسر والقداح» «الأمثال»
«فعل وأفعل» «الاشتقاق» «ما اتفق لفظه واختلف معناه» وغير ذلك.
ولم تبيضّ لحيته إلا لما بلغ ستين سنة.
روى له أبو داود والترمذيّ. ومات سنة ست عشرة- وقيل خمس عشرة- ومائتين، عن ثمان وثمانين سنة.
ومن شعره في جعفر البرمكيّ:
إذا قيل: من للنّدى والعلا
…
من الناس؟ قيل الفتى جعفر
وما إن مدحت فتى قبله
…
ولكن بني جعفر جوهر
309 -
عبد المحمود بن أحمد بن علي أبو محمد الفقيه الشافعي (1).
من أهل واسط، يعرف بابن جندي.
ولد بقرية تعرف بالحدّاديّة، وحفظ القرآن الكريم بها، وتفقه بواسط على أبي جعفر هبة الله بن يحيى بن البوقيّ، وسمع منه الحديث ومن غيره.
ونظر في العربية والنحو، وله معرفة حسنة بذلك وبالتفسير، وسمع بالبصرة من أبي جعفر المبارك بن محمد المواقيتي، وبالكوفة من أبي العباس أحمد بن يحيى بن ناقة، وبمكة شرفها الله تعالى من أبي محمد المبارك بن علي الطباخ.
ودرس الفقه بواسط، وذكر التفسير وأفتى، وقدم بغداد وجالس العلماء بها، وكتب عن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي شيئا من كتبه، وعاد إلى بلده عالما عاملا ناسكا حسن الطريقة.
توفي بواسط في ليلة الاثنين ثالث عشر شهر ربيع الأول سنة ست وثمانين وخمسمائة، ودفن بمقبرة مسجد زنبور، وقد بلغ الستين أو أناف عليها.
ذكره ابن الدبيثي في «الذيل» .
310 -
عبد المنعم بن محمد بن عبد الرحيم بن محمد بن الفرج بن خلف الأنصاريّ الخزرجيّ (2).
(1) له ترجمة في: التكملة لوفيات النقلة 1/ 232، طبقات النحاة لابن قاضي شهبة 2/ 99.
(2)
له ترجمة في: الديباج المذهب 218.
من أهل غرناطة. يعرف بابن الفرس، ويكنى أبا عبد الله. ولد آخر سنة أربع وعشرين وخمسمائة.
وسمع جده أبا القاسم، وأباه أبا عبد الله، وتفقه به في الحديث، وكتب أصول الفقه والدين.
وسمع أبا محمد بن أيوب، وأبا الوليد بن الدبّاغ، وأبا الحسن بن هذيل. وأخذ عنه القراءات- وغيرهم.
وأجاز له طائفة كثيرة من أعيانهم، منهم أبو الحسن بن مغيث، وأبو القاسم بن بقي، وأبو الحسن بن شريح، وأبو بكر بن العربي، وأبو الحجاج القضاعي وأبو محمد الرشاطيّ.
ومن أهل المشرق أبو المظفر الشيبانيّ، وأبو سعيد الحلبيّ، وأبو عبد الله المازريّ (1).
وكان محققا للعلوم على تفاريعها، وأخذ في كل فنّ منها، وتقدّم في حفظ الفقه، والبصر بالمسائل. مع المشاركة في صناعة الحديث والعكوف عليها، وتميز في أبناء عصره بالقيام على الرأي والشفوف عليه.
سمعت أبا الربيع بن سالم يقول: سمعت أبا بكر بن أعبد- وناهيك به من شاهد في هذا الباب- يقول غير مرّة: ما أعلم بالأندلس أعلم بمذهب مالك من عبد المنعم بن الفرس بعد أبي عبد الله بن زرقون.
وبيته عريق في العلم والنباهة، له ولأبيه وجده رواية ودراية وجلالة، كان كلّ واحد منهم فقيها مشاورا عالما متفنّنا، وألف «كتابا في أحكام القرآن» جليل الفائدة، من أحسن ما وضع في ذلك، وله في الأبنية مجموع حسن.
(1) نسبة الى مازر: مدينة بصقلية، منها: أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التميمي المازري، أحد الأئمة، مات سنة 536 هـ (تبصير المنتبه لابن حجر 4/ 1336).
حدث عنه جلة من شيوخنا وأكابر أصحابنا وغيرهم، وذكره أبو عبد الله التجيبيّ في مشيخته، وقال: لقيته بمرسية في سنة ست وستين وخمسمائة وقت رحلتي إلى أبيه، ورأيت من حفظه وذكائه وتفننه في العلوم ما عجبت منه، وكان يحضر معنا التدريس والإلقاء عند أبيه، فإذا تكلم أنصت الحاضرون لجودة ما ينصّه، ولإتقانه واستيفائه بجميع ما يجب أن يذكر في الوقت، وكان نحيف الجسم كثير المعرفة، وفي مثله يقول بعضهم:
إذا كان الفتى ضخم المعالي
…
فليس يضره الجسم النحيل (1)
تراه من الذكاء نحيف جسم
…
عليه من توقده دليل
وكان شاعرا، وأنشدني من شعره كثيرا، واضطرب في روايته قبل موته بقليل، لاختلال أصابه من علة خدر، وطاولته فترك الأخذ عنه، إلى أن توفي وهو على تلك الحال عند صلاة العصر يوم الأحد الرابع من جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وخمسمائة.
وقال أبو الربيع بن سالم الكلاعيّ في برنامجه: «كتاب أحكام القرآن» - لشيخنا القاضي أبي محمد عبد المنعم بن محمد بن عبد الرحيم- كتاب حسن مفيد، جمعه رحمه الله في ريعان الشبيبتين من طلبه وسنه، فللنشاط اللازم عن ذلك أثر في حسن ترتيبه وتهذيبه، قرأت عليه صدرا من أوله، وناولني جميعه في أصله، وأخبرني أنه فرغ من تأليفه بمرسية، سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة.
(1) الديباج المذهب لابن فرحون.
ومن نظمه غ
ما بالنا متّهما ودنّا
…
ونحن في ودّكم نقتتل
كأنّكم مثل فقيه رأى
…
أن يترك الظاهر للمحتمل
311 -
عبد الواحد أبو محمد بن شرف الدين بن المنير المالكيّ (1).
هو ابن أخي القاضي ناصر الدين أحمد بن محمد بن المنير المتقدم ذكره.
كان هذا الرجل شيخ ثغر الإسكندرية، يلقب بعز القضاة. وكان فقيها فاضلا وعمّر وانتفع الناس به، أخذ الفقه عن عمّيه ناصر الدين، وزين الدين، وجمع «تفسيرا» حسنا في عشرة مجلدات، ويقرأ المواعيد على الناس، وله «ديوان مديح» في النبي صلى الله عليه وسلم.
وأنشد عز القضاة لنفسه:
ألا فاسألوا [في](2)
الفضل من كان بارعا
…
وفي العلم أفنى عمره باشتغاله
عن المرء يوصي قاصدا وجه ربه
…
لزيد بما سمّاه من ثلث ماله
فإن يكن الموصى له متموّلا
…
دفعنا له الموصى به بكماله
وإن يك ذا قلّ وفقر وفاقة
…
حرمناه ذاك المال فأرث لحاله
أيحرم ذو فقير ويعطاه ذو غنى
…
لعمرك ما رزق الفتى باحتياله
فلا تعتمد إلا على الله وحده
…
ولا تستند إلّا لعزّ جلاله
توفي سنة ست وثلاثين وسبعمائة، ومولده سنة إحدى وخمسين وستمائة.
(1) له ترجمة في: البداية والنهاية لابن كثير 14/ 163، حسن المحاضرة للسيوطي 1/ 459، الدرر الكامنة لابن حجر 3/ 36، الديباج المذهب لابن فرحون 177.
(2)
عن الديباج المذهب.
312 -
عبد الواحد بن محمد بن علي بن أبي السّداد الشهير [بالبائع (1)] المالقيّ المالكيّ (2).
كان فقيها نحويّا أصوليا حسن التعليم، نافعا منجبا، منقطع القرين، في الدين المتين، والصلاح والتواضع، وحسن الخلق.
سمع من أبي عمر عبد الرحمن بن حوط الله، وغيره من المشايخ.
وله تواليف في القراءات والفقه، و «شرح التيسير» وله شعر، توفي تمام خمسة وسبعمائة.
ذكره والذي قبله ابن فرحون.
313 -
عبد الواحد بن محمد بن علي بن أحمد الشيرازيّ ثم المقدسي ثم الدمشقيّ الفقيه الزاهد أبو الفرج الأنصاري السعديّ العباديّ الخزرجيّ (3).
شيخ الشام في وقته، تفقه ببغداد على القاضي أبي يعلى مدة، وقدم الشام فسكن بيت المقدس، ونشر مذهب الإمام أحمد فيما حوله، ثم أقام بدمشق فنشر المذهب، وتخرج به الأصحاب، وسمع بها من أبي الحسن السمسار، وأبي عثمان الصابوني، ووعظ، واشتهر أمره، وحصل له القبول التام.
وكان إماما عارفا بالفقه والأصول، شديدا في السنّة، زاهدا عارفا، عابدا متألها، ذا أحوال وكرامات.
(1) له ترجمة في: الديباج المذهب لابن فرحون 178، طبقات القراء لابن الجزري 1/ 477.
(2)
له ترجمة في: الأنس الجليل لمحيي الدين الحنبلي 1/ 297، تذكرة الحفاظ للذهبي 3/ 1199، الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب 1/ 68، طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى 2/ 248، العبر للذهبي 3/ 312.
(3)
في الأصل: «شيخ الشافعية في وقته» ، والمثبت في ذيل الحنابلة، والأنس الجليل.
يقال إنه اجتمع مع الخضر دفعتين (1)، وكان يتكلم في عدة أوقات على الخاطر.
قال أبو الحسين في «الطبقات» : وبلغني أن بعض السلاطين من المخالفين كان أبو الفرج يدعو عليه. ويقول: كم أرميه، ولا تقع الرمية به، فلما كان في تلك الليلة هلك ذلك المخالف فيها، قال أبو الفرج لبعض أصحابه: قد أصبت فلانا، وقد هلك، فأرخت [تلك الليلة. فلما كان بعد بضعة عشر يوما، ورد الخبر بوفاة ذلك الرجل في تلك (2)] الليلة التي أخبر أبو الفرج بهلاكه فيها.
وكان أبو الفرج ناصرا لاعتقادنا، متجردا لنشره، مبطلا لتأويل أخبار الصفات.
قال ابن رجب: وقرأت بخط الناصح عبد الرحمن بن نجم بن عبد الوهاب ابن الشيخ أبي الفرج قال: حدّثنا الشريف الجواني النسّابة عن أبيه قال: تكلم الشيخ أبو الفرج في مجلس وعظه، فصاح رجل متواجد، فمات في المجلس، وكان يوما مشهودا، فقال المخالفون في المذهب: كيف نعمل إن لم يمت في مجلسنا أحد، وإلا كان وهنا؟ فعمدوا إلى رجل غريب، ودفعوا له عشرة دنانير فقالوا: احضر مجلسنا، فإذا طاب المجلس فصح صيحة عظيمة، ثم لا تتكلم حتى نحملك ونقول: مات! ونجعلك في بيت، فاذهب في الليل، وسافر عن البلد. ففعل، وصاح صيحة عظيمة، فقالوا: مات! فجاء رجل من الحنابلة، وزاحم حتى حصل تحته، وعصر على خصاه فصاح الرجل.
فقالوا: عاش! عاش! وأخذ الناس في الضحك، وقالوا: المحال ينكشف.
وللشيخ أبي الفرج تصانيف عدّة في الفقه والأصول.
(1) حياة الخضر عليه السلام، وخرافة اختلقتها الصوفية، وقد بين ابن تيمية وغيره من الأئمة ما في ذلك من الأباطيل.
(2)
تكملة عن: ذيل الحنابلة لابن رجب.
منها: «المبهج» و «الإيضاح» و «التبصرة في أصول الدين» و «مختصر في الحدود» و «مختصر في أصول الفقه» ، و «مسائل الامتحان» .
قال ابن رجب: وقرأت بخط الناصح عبد الرحمن بن نجم بن عبد الوهاب ابن الشيخ قال: سمعت والدي يقول: للشيخ أبي الفرج «كتاب الجواهر» وهو ثلاثون مجلدة يعني في التفسير. قال: وكانت بنت الشيخ تحفظه.
قال أبو يعلى بن القلانسي في «تاريخه» في حق الشيخ أبي الفرج:
كان وافر العلم، متين الدين، حسن الوعظ، محمود السمت.
توفي في يوم الأحد ثامن عشري ذي الحجة، سنة ست وثمانين وأربعمائة بدمشق، ودفن بمقبرة الباب الصغير، وقبره مشهور ويزار.
314 -
عبد الوهاب بن عبد الواحد بن محمد بن علي الشيرازي ثم الدمشقي المعروف بابن الحنبلي (1).
الفقيه الواعظ المفسّر شيخ الإسلام أبو القاسم، كذا كناه ابن القلانسي في «تاريخه» وكناه المنذري: أبا البركات ابن شيخ الإسلام أبي الفرج الزاهد، شيخ الحنابلة بالشام في وقته.
توفي والده وهو صغير فاشتغل بنفسه، وتفقه وبرع، وناظر وأفتى، ودرس الفقه والتفسير ووعظ، واشتغل عليه خلق كثير.
وكان فقيها بارعا، وواعظا فصيحا، وصدرا معظما، ذا حرمة وحشمة وسؤدد ورئاسة، ووجاهة وجلالة، وهيبة.
وكان له بجامع [دمشق (2)] مجلس يعقده للوعظ.
(1) له ترجمة في: الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب 1/ 198.
(2)
عن ذيل الحنابلة.
قال السمعاني: سمعت أبا الحجاج يوسف بن محمد بن مقلد التنوخي الدمشقي- مذاكرة- يقول: سمعت الشيخ الإمام عبد الوهاب بن أبي الفرج الحنبلي الدمشقي بدمشق، ينشد على الكرسي في جامعها وقد طاب وقته:
سيّدي علل الفؤاد العليلا
…
وأحيني قبل أن تراني قتيلا (1)
إن تكن عازما على قبض روحي
…
فترفّق بها قليلا قليلا
قال ناصح الدّين عبد الرحمن بن نجم: كان وجيه الدين مسعود بن شجاع شيخ الحنفية بدمشق يذكر شرف الإسلام ويقول: كان يذكر مجلدة من التفسير في المجلس
الواحد ويثنى عليه.
من تصانيفه: «المنتخب في الفقه» في مجلدين، و «المفردات» ، و «البرهان في أصول الدين» و «رسالة في الرد على الأشعرية» .
وحدّث عن أبيه ببغداد ودمشق، وسمع منه ببغداد أبو بكر بن كامل، وناظر مع الفقهاء ببغداد في المسائل الخلافيات.
قال ابن النجار: وبنى بدمشق مدرسة داخل باب الفراديس، وهي المعروفة بالحنبلية.
توفي رحمه الله ليلة الأحد سابع عشر صفر سنة ست وثلاثين وخمسمائة، ودفن عند والده بمقابر الشهداء من مقابر الباب الصغير.
وذكره أبو المعالي بن القلانسي في «تاريخه» فقال كان على الطريقة المرضية؛ والخلال الرضية، ووفور العلم وحسن الوعظ، وقوة الدين، والتنزه عما يقدح في أفعال غيره من المتفقهين.
315 -
عبد الوهاب بن عطاء العجليّ الخفاف (2).
(1) الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب.
(2)
له ترجمة في: تذكرة الحفاظ للذهبي 1/ 339، خلاصة تذهيب الكمال للخزرجي 210، العبر للذهبي 1/ 346، الفهرست لابن النديم 288.
نزيل بغداد ويكنى أبا نصر. سمع من سعيد بن أبي عروبة، وحميد، والتيميّ.
وعنه أحمد، وإسحاق الكوسج، والحارث بن أبي أسامة.
قال أحمد: كان عالما بسعيد. صدوق ربما أخطأ، ووثقه ابن معين. مات ببغداد سنة أربع ويقال ست ومائتين، روى له مسلم والأربعة.
صنّف «التفسير» و «التاريخ» و «الناسخ والمنسوخ» و «السنن في الفقه» .
316 -
عبد الوهاب بن محمد بن عبد الوهاب بن محمد الفارسي أبو محمد الفاميّ الشيرازي (1).
من أهل شيراز.
قدم بغداد والحسين الطبريّ يدرّس بالنّظامية، فتقرّر أن يدرّس كل واحد منهما يوما مناوبة.
وحدّث عن أبي بكر أحمد بن الحسين بن الليث الحافظ، ومحمد بن أحمد ابن عبدك الحبّال، وجماعة.
روى عنه عبد الوهاب الأنماطيّ، وأبو الفضل بن ناصر، وغيرهما، وكان من أفقه أهل زمانه وأفضلهم.
وله كتاب «الآحاد» وقيل: إنه صنّف تأليفا، وإنه ألف «تفسيرا» ضمّنه مائة ألف بيت من الشواهد، وكان يملي الحديث، إلا أنه ربما صحف التصحيف الشنيع فردّ عليه فلم يرجع، وربما أسقط من الإسناد،
(1) له ترجمة في: البداية والنهاية لابن كثير 12/ 168، طبقات الشافعية للسبكي 7/ 205، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة ورقة 29 ب، لسان الميزان لابن حجر العسقلاني 4/ 90، المنتظم لابن الجوزي 9/ 152.
وحاصل أمره أنه ذو وهم بالغ في الكثرة، ولكل فنّ رجال يعرفونه، وهو لم يكن محدّثا، ولكنه كان لا يرى تنقيص نفسه فيدخل في الإملاء وقد كان غنيا عن ذلك.
ومن مصنّفاته كتاب «تاريخ الفقهاء» .
قال فيه ابن السمعانيّ: [الفقهاء (1)] الشافعية، وكان له يد في المذهب، ونقل أن أبا زكريا يحيى بن أبي عمرو بن منده قال في «تاريخ أصبهان»: أبو محمد الفامي أحفظ من رأيناه لمذهب الشافعيّ. مات بشيراز في السابع والعشرين من شهر رمضان سنة خمسمائة.
317 -
عبد الوهاب بن يوسف بن إبراهيم بن بيرم بن بهرام بن بختيار ابن السلار (2).
الشيخ أمين الدين أبو محمد، إمام مقرئ، محقق، كامل عارف صالح.
ولد سنة ثمان وتسعين وستمائة، وتلا بالسبع على الشيخ مجير الدين محمد ابن عبد العزيز البياني وغيره، ولي المشيخة الكبرى بدمشق بعد وفاة ابن اللبان، وانتهت إليه مشيخة الإقراء بالشام، وكان إماما خيّرا ديّنا منقطع القرين، جامعا لفنون من العلم كالنحو والفقه والتفسير.
أخذ القراءة عنه جماعة كثيرون منهم ابن الجزري. توفي ليلة الأربعاء ثامن عشر شعبان سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة، ودفن يوم الأربعاء بمقابر الصوفية جوار شيخ الإسلام ابن تيمية.
(1) عن طبقات الشافعية للسبكي.
(2)
له ترجمة في: انباه الغمر لابن حجر 1/ 225، الدرر الكامنة لابن حجر 3/ 45، طبقات القراء لابن الجزري 1/ 482.
ذكره ابن الجزري في «طبقات القراء» .
318 -
عبد بغير إضافة بن أحمد بن محمّد بن عبد الله بن غفير الإمام العلّامة الحافظ أبو ذرّ الهرويّ الأنصاريّ المالكيّ (1).
شيخ الحرم. سمع أبا الفضل بن خيرون، وبشر بن محمد المزني، وعدة بهراة. وأبا محمد بن حمّويه، وزاهر بن أحمد السرخي، وأبا إسحاق المستمليّ ببلخ، وأبا الهيثم الكشميهنيّ بمرو، وأبا بكر هلال بن محمد بن محمد، وشيبان بن محمد الضّبعيّ بالبصرة، وأبا الفضل الزهري، وأبا الحسن الدارقطنيّ، وأبا عمر بن حيويه ببغداد، وعبد الوهاب بن الحسين الكلابيّ بدمشق، وأبا مسلم الكاتب بمصر، وجاور بمكة.
روى عنه ولده عيسى، وعلي بن محمد بن أبي الهول، وموسى بن عيسى الصقلي، وعبد الله بن الحسن التنيسي، وأبو صالح النيسابوريّ المؤذن، وعلي ابن بكار الصوري، وأحمد بن محمد القزوينيّ، وأبو الطاهر إسماعيل بن سعيد النحوي، وأبو الحسين بن المهتدي بالله، وأبو الوليد الباجي، وعبد الله ابن سعيد النحوي، وعبد الخالق بن هارون السهمي، وأبو بكر أحمد بن علي الطريثيثي، وأبو شاكر أحمد بن علي العثماني، وخلائق. وبالإجازة أبو بكر الخطيب، وأبو عمر بن عبد البر» وأحمد بن عبد القادر اليوسفي، وأبو عبد الله أحمد بن محمد بن غلبون الخولاني. ولد أبو ذر سنة خمس وخمسين وثلاثمائة تقريبا.
قال الخطيب: قدم أبو ذر بغداد وأنا غائب، فحدّث بها وحج وجاور، ثم تزوج في العرب، وسكن السّروات، فكان يحج كل عام ويحدّث ويرجع، وكان ثقة ضابطا دينا.
(1) أنظر ترجمته في: تبيين كذب المفتري لابن عساكر 255، تذكرة الحفاظ للذهبي 3/ 1103، الرسالة المستطرفة للكتاني 23، العبر للذهبي 3/ 180، النجوم الزاهرة لابن تغري بردي 5/ 36، نفح الطيب للمقري 2/ 70.
وقال أبو علي بن سكّرة: توفي في عقب شوال سنة أربع وثلاثين وأربعمائة.
وقال الخطيب: في ذي القعدة.
قال أبو الوليد الباجي في كتاب «فرق الفقهاء» عند ذكر أبي بكر الباقلانيّ: لقد أخبرني أبو ذرّ وكان يميل إلى مذهبه فسألته: من أين لك هذا؟ قال كنت ماشيا مع الدارقطني، فلقينا القاضي أبا بكر، فالتزمه الدارقطني وقبّل وجهه وعينيه، فلما افترقنا قلت: من هذا؟ قال: هذا إمام المسلمين، والذابّ عن الدين، القاضي أبو بكر بن الطيّب. فمن ذلك الوقت تكررت إليه.
قال الحسن بن بقي المالقيّ: حدثني شيخ قال لأبي ذر: أنت هرويّ، فمن أين تمذهبت بمذهب مالك ورأي الأشعريّ؟ قال: قدمت بغداد، فذكر نحوا ممّا تقدم وقال: فاقتديت بمذهبه.
وقال عبد الغافر في «تاريخ نيسابور» : كان أبو ذرّ زاهدا ورعا، عالما، سخيا لا يدخر شيئا. وصار من كتاب مشيخة الحرم مشارا إليه في التصوف.
قال حاتم بن محمد: كان أبو ذر مالكيّا خيّرا فاضلا متقللا من الدنيا، بصيرا بالحديث وعلله وتمييز الرجال.
وله تواليف منها: كتابه الكبير في «المسند الصحيح المجرّد على البخاري ومسلم» وله أيضا «مستدرك» لطيف في مجلد على الصحيحين، يدل على حفظه و «كتاب الجامع» و «كتاب السنة والصفات» و «كتاب الدعوات» وكتاب «فضائل القرآن» وكتاب «فضائل العيدين» وكتاب
«دلائل النبوة» و «كتاب شهادة الزور» وكتاب «فضائل مالك بن أنس» و «مسانيد الموطآت» وكتاب «فضل يوم عاشوراء» وكتاب «كرامات الأولياء» و «كتاب الرؤيا» و «كتاب المنامات» و «كتاب المناسك» و «كتاب الربا واليمين الفاجرة» و «كتاب بيعة العقبة» وما روي في بسم الله الرحمن الرحيم، و «كتاب على شيوخه» اشتمل على نحو ألف ومائة اسم و «كتاب آخر في من لقيه ولم يأخذ عنه» وسكن الحرم إلى أن مات، نفعنا الله به.
319 -
عبد بن حميد بن نصر (1).
الإمام الحافظ أبو محمد الكسّي بالكسر وتشديد المهملة، وينطق بها الناس بالفتح والمعجمة، وهو خطأ، أبو محمد مصنف «المسند» و «التفسير» وغير ذلك، قيل: اسمه عبد الحميد، وبذلك جزم ابن حبّان وغير واحد.
رحل على رأس المائتين في شبيبته، فسمع يزيد بن هارون، ومحمد بن بشر العبديّ، وعلي بن عاصم، وابن أبي فديك، وحسين بن علي الجعفيّ، وأبا أسامة، وعبد الرزاق، وطبقتهم.
وحدث عنه مسلم، والترمذيّ، وإبراهيم بن خزيم (2) الشّاشي، وابن حبّان وخلق، وعلق له البخاري في دلائل النبوّة في «صحيحه» ، فسماه عبد الحميد، وكان من الأئمة الثقات. مات سنة تسع وأربعين ومائتين.
(1) انظر ترجمته في: تذكرة الحفاظ للذهبي 2/ 534، الرسالة المستطرفة للكتاني 66، العبر للذهبي 1/ 454، النجوم الزاهرة لابن تغري بردي 2/ 330.
(2)
في الأصل: «ابن خريم» ، والصواب في: تبصير المنتبه 2/ 258.