الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صلابتها ورسوخها ورزانتها، ولو أشبه الشيء الشيء من جميع جهاته لكان هو هو» (1).
وما من شك في أن ابن رشيق كان ينظر أيضا إلى قول قدامة الآنف الذكر عند ما قال في كتابه العمدة ما معناه: إن المشبه لو ناسب المشبه به مناسبة كلية لكان إياه، كقولهم «فلان كالبحر» ، إنما يريدون كالبحر سماحة وعلما وليس يريدون ملوحة البحر وزعوقته (2).
ومما يجري مجرى الكلام السابق بالنسبة لطرفي التشبيه قول السكاكي: «لا يخفى عليك أن التشبيه مستدع طرفين مشبّها ومشبّها به، واشتراكا بينهما من وجه وافتراقا من آخر، مثل أن يشتركا في الحقيقة ويختلفا في الصفة أو بالعكس. فالأول كالإنسانين إذا اختلفا طولا وقصرا، والثاني كالطولين إذا اختلفا حقيقة: إنسانا وفرسا، وإلا فأنت خبير بأن ارتفاع الاختلاف من جميع الوجوه حتى التعيّن يأبى التعدد، فيبطل التشبيه، لأن تشبيه الشيء لا يكون إلا وصفا له بمشاركته المشبّه به في أمر، والشيء لا يتصف بنفسه. كما أن عدم الاشتراك بين الشيئين في وجه من الوجوه يمنعك محاولة التشبيه بينهما، لرجوعه إلى طلب الوصف حيث لا وصف» (3).
وطرفا التشبيه: إما:
1 -
حسيّان: والمراد بالحسيّ ما يدرك هو أو مادته بإحدى الحواس الخمس الظاهرة؛ ومعنى هذا أنهما قد يكونان من المبصرات، أو
(1) كتاب الصناعتين ص 239.
(2)
كتاب العمدة ج 1 ص 256.
(3)
كتاب مفتاح العلوم للسكاكي ص 177.
المسموعات، أو في المذوقات، أو المشمومات، أو الملموسات:
أ- فيكونان من المبصرات، أي مما يدرك بالبصر من الألوان والأشكال والمقادير والحركات وما يتصل بها، كقوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ فالجامع البياض والحمرة. وكقول الشاعر:
أنت نجم في رفعة وضياء
…
تجتليك العيون شرقا وغربا
فالمخاطب الممدوح هنا شبّه بالنجم في الرفعة والضياء.
ونحو تشبيه الخد بالورد في البياض المشرب بحمرة، وتشبيه الوجه الحسن بالشمس والقمر في الضياء والبهاء، والشعر بالليل في السواد.
ب- ويكونان من المسموعات، أي مما يدرك بالسمع من الأصوات الضعيفة والقوية والتي بين بين، نحو تشبيهك صوت بعض الأشياء بصوت غيره، كتشبيه صوت المرأة الجميل بصوت البلبل، وصوت الغاضب الهائج بنباح الكلاب، وكقول امرئ القيس:
يغط غطيط البكر شد خناقه
…
ليقتلني والمرء ليس بقتّال
فامرؤ القيس يصور هنا غضب رجل أظهرت امرأته ميلا نحو الشاعر، فيشبه غطيط أو صوت هذا الزوج المغيظ المحنق بغطيط البكر وهو الفتيّ من الإبل الذي يشد حبل في خناقه لترويضه وتذليله.
ج- ويكونان في المذوقات، أي مما يدرك بالذوق من المطعوم، كتشبيه بعض الفواكه الحلوة بالعسل والسكر، والريق بالشهد أو الخمر، وكقول الشاعر:
كأن المدام وصوب الغمام
…
وريح الخزامى وذوب العسل
يعل به برد أنيابها ..
…
إذا النجم وسط السماء اعتدل
د- ويكونان في المشمومات، أي مما يدرك بحاسة الشم من الروائح، وهذا نحو تشبيه رائحة بعض الرياحين برائحة الكافور والمسك، وتشبيه النّكهة بالعنبر، وتشبيه أنفاس الطفل بعطر الزهر، وتشبيه رائحة فم المرأة وأعطافها بعد النوم بالمسك.
هـ- ويكونان في الملموسات، أي في كل ما يدرك باللمس من الحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، والخشونة والملاسة، واللين والصلابة، والخفة والثقل وما يتصل بها؛ كتشبيه اللين الناعم بالخز، والجسم بالحرير، وكقول الشاعر:
لها بشر مثل الحرير ومنطق
…
رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر
2 -
أو عقليان: والمراد بالطرفين العقليين أنهما لا يدركان بالحس بل بالعقل، وذلك كتشبيه العلم بالحياة، والجهل بالموت، فقد شبه هنا معقول بمعقول، أي أن كلا منهما لا يدرك إلا بالعقل.
3 -
أو مختلفان: وذلك بأن يكون أحدهما عقليا والآخر حسيّا، كتشبيه المنيّة بالسبع، والمعقول هو المشبه، والمحسوس هو المشبه به، وكتشبيه العطر بالخلق الكريم، فالمشبه وهو العطر محسوس بالشم، والمشبه به وهو الخلق عقليّ.
والتشبيه الحسي الذي يدرك هو أو مادته بإحدى الحواس الخمس يدخل فيه أو يلحق به التشبيه «الخيالي» . والتشبيه الخيالي هو المركب من أمور كل واحد منها موجود يدرك بالحسّ، لكن هيئته التركيبية ليس لها وجود حقيقي في عالم الواقع، وإنما لها وجود متخيّل أو خيالي.
ولكن لأن أجزاء التشبيه الخيالي موجودة تدرك بالحس ألحق بالتشبيه
الحسي، لاشتراك الحس والخيال في أن المدرك بهما صورة لا معنى، وذلك كقول الشاعر:
وكأنّ محمرّ الشقي
…
ق إذا تصوّب أو تصعّد
أعلام ياقوت نشر
…
ن على رماح من زبرجد (1)
فالهيئة التركيبية التي قصد التشبيه بها هنا، وهي نشر أعلام مخلوقة من الياقوت على رماح مخلوقة من الزبرجد لم تشاهد قط لعدم وجودها في عالم الحس والواقع، ولكن العناصر التي تألفت منها هذه الصورة المتخيلة، من الأعلام والياقوت والرماح والزبرجد موجودة في عالم الواقع وتدرك بالحس.
ويدخل البلاغيون في التشبيه العقلي ما يسمونه بالتشبيه «الوهميّ» ، وهو ما ليس مدركا بإحدى الحواس الخمس الظاهرة، ولكنه لو وجد فأدرك، لكان مدركا بها، كما في قوله تعالى في شجرة الزقوم التي تخرج في أصل الجحيم:«طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ» ، وكقول امرئ القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي
…
ومسنونة زرق كأنياب أعوال؟
فالشياطين (2) والغول وأنيابها مما لا يدرك بإحدى الحواس الخمس الظاهرة، ولكنها لو وجدت فأدركت لكان إدراكها عن طريق حاسة البصر.
(1) الشقيق: ورد أحمر في وسطه سواد ينبت في الجبال، وتصوب: مال إلى أسفل، وتصعد:
مال إلى أعلى.
(2)
من عادة العرب أن يشبهوا كل قبيح الصورة بالشيطان لأن له صورة بشعة في توهمهم، وأن يشبهوا حسن الصورة بالملك بفتح اللام، لحسن صورته في توهمهم.