الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالأمثلة والشواهد التي تفصّلها وتوضحها، إدراكا منه بأنّ التعليم النافع إنما يكون بقرن الصور المفصلة بالصورة المجملة، إذ بالتفصيل تعرف المسائل، وبالإجمال تحفظ في العقل.
وبهذه الطريقة امتاز كتاباه على كتب البلاغة الأخرى التي اقتصرت على سرد القواعد بعبارات اصطلاحية تأباها بلاغة الأساليب العربية، والتي لا تذكر من الشواهد والأمثلة إلّا القليل النادر الذي أدلى به السابق إلى اللاحق.
الزمخشري:
ثمّ ظهر بعد عبد القاهر الجرجاني عالم آخر كان له أثر كبير في ميدان البلاغة العربية ونهضتها.
ذلك هو العالم المعتزلي جار الله محمود بن عمر الزمخشري المتوفى سنة 538 للهجرة، والذي ضرب بسهم وافر في علوم العربية والتفسير، وله فيها المؤلفات القيّمة التي تشهد بفطنته وسعة علمه.
ومن مؤلفاته التي وصلت إلينا «المفصل» في علم النحو، و «مقات الزمخشري» في التصوف، و «أساس البلاغة» وهو معجم لغوي يورد فيه المعاني اللغوية للكلمة، موضحا إياها في عبارات، ومردفا ذلك بمعانيها المجازية، ولكن أهم كتاب اشتهر به منذ عصره هو «الكشاف» الذي قدّم فيه صورة رائعة لتفسير القرآن، وأشاد به حتى أهل السنة على الرغم من اعتزال مؤلفه.
واهتمام المعتزلة بتفسير الإعجاز البلاغي للقرآن اهتمام قديم، فقد كتب فيه من رجالهم الجاحظ والرماني وعبد الجبار المعتزلي ثمّ الزمخشري الذي أقبل بشغف على الدراسات البلاغية ولا سيما كتابات عبد القاهر
الجرجاني في «دلائل الإعجاز» و «أسرار البلاغة» .
أجل لقد تتلمذ على عبد القاهر في هذين الكتابين وعمق في فهمهما واستيعابهما إلى الحد الذي جعله يؤمن بأنّ
المعرفة بالبلاغة وأساليبها لا تكشف فقط عن وجوه الإعجاز البلاغي في القرآن، بل تكشف أيضا عن خفايا معانيه وأسرارها.
وفي مقدمة «الكشاف» يقرر أنّ تفسير القرآن لا يكفي فيه أن يكون المفسر من أئمة الفقه، أو النحو، أو اللغة، أو علم الكلام، أو القصص والإخبار. وإنّما ينبغي فيمن يتصدى له أن يكون بارعا في علمين مختصين بالقرآن هما: علم المعاني، وعلم البيان، وهذان، في نظره، أهم عدّة لمن يريد أن يفسر القرآن، إذ بدونهما لا تستقيم له الدلالات، ولا تتضح له الإشارات، ولا لطائف ما في الذكر الحكيم من الجمال المعجز الذي عنت له وجوه العرب وخروا له ساجدين.
إذن فالتفسير عنده ليس قاصرا على معرفة معاني القرآن فحسب، وإنّما هو أيضا بيان لأسرار إعجازه، بل إنّ معرفة معانيه لا تتم إلّا لمن تمّت له آلة البلاغة، وعرف وجوه الأساليب وخصائصها المعنوية، وأدرك الأسباب المعينة على تمييز صور الكلام البيانية.
…
والذي يدرس بإمعان تفسير «الكشاف» يخرج منه بحقيقتين:
إحداهما أنّه استوعب كل ما كتبه عبد القاهر في «دلائل الإعجاز» و «أسرار البلاغة» قبل أن يشرع في تفسيره. والحقيقة الثانية أنّ «الكشاف» هو في الواقع خير تطبيق على كل ما اهتدى إليه عبد القاهر من قواعد المعاني والبيان، فقد اتّخذ الزمخشري من آي الذكر الحكيم أمثلة وشواهد يوضح
بها كل قواعد عبد القاهر البلاغية، سواء ما اتصل منها بعلم المعاني أو علم البيان.
ولم تقف جهود الزمخشري في البلاغة عند حد تطبيق آراء عبد القاهر في تفسيره تطبيقا مستقصيا، ولكنه وصل هذا التطبيق بكثير من آرائه التي تدل على تعمقه، وفطنته في تصوير الدلالة البلاغية، وإحاطته بخواص العبارات والأساليب.
ولو أنّه اكتفى بذلك لكان حسبه مساهمة في تطوير علمي المعاني والبيان، ولكنا نراه يضيف إلى مباحث هذين العلمين ما عنّ له من آراء، ويستكمل كثيرا من شعبها ودقائقها ومقاييسها.
ولما كان بحثنا هنا هو في المحل الأول عن علم البيان، فإنّ الجديد الذي أضافه الزمخشري إلى مباحثه كثير. وتتمثل إضافاته إليه في استكمال صور الكناية والاستعارة والمجاز المرسل والمجاز العقلي، وإحكام وضع قواعدها إحكاما دقيقا. وإذا كان عبد القاهر هو مؤسس علم المعاني وعلم البيان، وهو من استنبط من جزئيات كلا العلمين أكثر قواعده فإنّ الزمخشري هو الذي أكمل قواعدهما، وهي وإن جاءت مفرقة في تضاعيف تفسيره،
فإنّها دائما مقرونة بأمثلة من القرآن الكريم توضحها وتكشف عن دقائقها.
وهكذا بمنهاج عبد القاهر الذي أجملت أهم عناصره آنفا، وبطريقته التعليمية الواضحة، وكذلك بتطبيق الزمخشري لآراء عبد القاهر في تفسيره «الكشاف» وبالإضافات الجديدة التي استكمل بها قواعده- أقول بكل ذلك استطاع الرجلان أن يضعا ويكملا قواعد علم المعاني وعلم البيان، وكل ما هناك أنّه بقي من يستقصي هذه القواعد عندهما وينظمها في كتاب يجمع متفرقها ويضم منثورها.