الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أيا غائبا حاضرا في الفؤاد
…
سلام على الحاضر الغائب (1)
ثم يخلص عبد القاهر من كل ذلك إلى القول بأن الشاعر الصنّاع يبلغ بتصرفه في التشبيه إلى غايات الابتداع، فيقول:«وكفى دليلا على تصرفه باليد الصناع وإيفائه على غايات الابتداع أن يريك العدم وجودا والوجود عدما، والميت حيّا والحيّ ميتا، أعني جعلهم الرجل إذا بقي له ذكر جميل وثناء حسن بعد موته كأنه لم يمت، وجعل الذكر حياة له، كما قال: «ذكرة (2) الفتى عمره الثاني» ، وحكمهم على الخامل الساقط القدر الجاهل الدنيء بالموت
…
ولطيفة أخرى له وهي: جعل الموت نفسه حياة مستأنفة حتى يقال إنه بالموت استكمل الحياة في قولهم: «فلان عاش حين مات» يراد الرجل تحمله النفس الأبيّة والأنفة من العار أن يسخو بنفسه في الجود والبأس وقتال الأعداء، حتى يكون له يوم لا يزال يذكر، وحديث يعاد على مرّ الدهور ويشهر، كما قال ابن نباتة:
بأبي وأمي كل ذي
…
نفس تعاف الضيم مرة
يرضى بأن يردّ الردى
…
فيميتها ويعيش ذكره» (3)
…
عيوب التشبيه
لعلّ التشبيه من بين الأساليب البيانية أكثرها دلالة على قدرة البليغ وأصالته في فن القول. وذلك لأن التشبيه هو في الواقع ضرب من التصوير
(1) أسرار البلاغة ص 102 - 114.
(2)
الذكرة بضم الذال: الصّيت.
(3)
أسرار البلاغة ص 102 - 114.
لا تتأتى الإجادة أو الإبداع فيه إلا لمن توافرت له أدواته، من لفظ ومعنى وصياغة، ومن سموّ خيال ورهافة حسّ، ومن براعة في تشكيل صور التشبيه على نحو يبثّ فيها الحركة ويمنحها الجمال والتأثير.
ومن أجل ذلك يقال: إن التشبيه بين ألوان البلاغة ممعن في الترف، كثير الأناقة، شديد الحساسية، رقيق المزاج، وأيّ تهاون فيه يعيبه، ويخرجه من الحسن إلى القبح.
وهذا القبح أنواع كثيرة، منها ما يرجع إلى اللفظ أو المعنى أو الصياغة أو الخيال أو الأصول البلاغية التي يبنى
عليها التشبيه.
فمن الأصول البلاغية أن يشبّه الشيء بما هو أكبر وأقوى منه، فيشبه الحسن مثلا بالأحسن، والقبيح بالأقبح، والبينّ الواضح بما هو أبين وأوضح منه، وإلا كان التشبيه ناقصا.
وطبقا لذلك يقول ابن الأثير: «ومن ههنا غلط بعض الكتاب من أهل مصر في ذكر حصن من حصون الجبال مشبّها له فقال: هامة عليها من الغمامة عمامة، وأنملة (1) خضبها الأصيل فكان الهلال منها قلامة.
وهذا الكاتب حفظ شيئا وغابت عنه أشياء، فإنه أخطأ في تشبيه الحصن بالأنملة، أي مقدار للأنملة بالنسبة إلى تشبيه حصن على رأس جبل؟».
ثم يستطرد ابن الأثير: «فإن قيل إن هذا الكاتب تأسى فيما ذكره بكلام الله تعالى حيث قال: والقمر قدّرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم. فمثل الهلال بأصل عذق النخلة. والجواب أنه شبّه الهلال في
(1) الأنملة بتثليث الهمزة مع تثليث الميم: مفصل الإصبع الذي فيه الظفر، وقيل الأنامل:
رؤوس الأصابع، والقلامة: طرف الظفر المقلوم.
الآية بالعرجون القديم، وذلك في هيئة نحوله واستدارته لا في مقداره، فإن مقدار الهلال عظيم ولا نسبة للعرجون إليه، لكنه في مرأى النظر كالعرجون هيئة لا مقدارا. وأما هذا الكاتب فإن تشبيهه ليس على هذا النسق، لأنه شبّه صورة الحصن بأنملة في المقدار لا في الهيئة والشكل، وهذا غير حسن ولا مناسب.
ومن بلاغة التشبيه أن يثبت للمشبّه حكم من أحكام المشبّه به، فإذا لم يكن بهذه الصفة أو كان بين المشبه به بعد فإن ذلك مما يعيب التشبيه ويضع من قيمته البلاغية.
ومن أمثلة ذلك قول أبي تمام:
لا تسقني ماء الملام فإنني
…
صبّ قد استعذبت ماء بكائي
فالشاعر جعل للملام ماء، وذلك تشبيه بعيد، وسبب بعده أن الماء مستلذ والملام مستكره فحصل بينهما المخالفة والبعد من هذه الجهة.
ومنه قول المرّار:
وخال على خديك يبدو كأنّه
…
سنا البدر في دعجاء باد دجونها (1)
فالمتعارف عليه أنّ الخدود بيض والخال أسود، ولكنّ الشاعر رغم ذلك يشبه الخال بضوء البدر والخدين بالليلة
المظلمة. فالتشبيه هنا ليس بعيدا فحسب، بل هو مناقض للعادة، ومن أجل ذلك فهو تشبيه رديء.
ومن بعيد التشبيه أيضا قول الفرزدق:
(1) الدعجاء: السوداء، وهي هنا صفة لموصوف محذوف، والتقدير: ليلة دعجاء، ودجونها:
سوادها.
يمشون في حلق الحديد كما مشت
…
جرب الجمال بها الكحيل المشعل (1)
فالفرزدق شبّه الرجال في دروع الزرد بالجمال الجرب، وهذا من التشبيه البعيد؛ لأنّه إن أراد السواد فلا مقاربة بينهما في اللون لأنّ لون الحديد أبيض، ومن أجل ذلك سميت السيوف بالبيض. ومع كون هذا التشبيه بعيدا فإنّه تشبيه سخيف.
ومنه كذلك قول أعرابي:
وما زلت ترجو نيل سلمى وودها
…
وتبعد حتى ابيض منك المسائح
ملا حاجبيك الشيب حتى كأنّه
…
ظباء جرت منها سنيح وبارح (2)
فشبه شعرات بيضا في حاجبيه بظباء سوانح وبوارح تمر بين يديه يمينا وشمالا. فهذا كما ترى من بعيد التشبيه.
ومنه قول أبي نواس في الخمر:
وإذا ما الماء واقعها
…
أظهرت شكلا من الغزل
لؤلؤات ينحدرن بها
…
كانحدار الذرّ من جبل
فشبّه الجب في انحداره بنمل صغار ينحدر من جبل، وهذا من
(1) الكحيل: النفط أو القطران يطلى به الإبل، وأشعل إبله بالكحيل أو القطران طلاها به وكثره عليها.
(2)
ملا: ملأ، وسهلت الهمزة لضرورة الشعر، المسائح: جوانب الرأس أو الشعر، جمع مسيحة، والسنيح أو السانح من الظباء والطير خلاف البارح، وهو ما يمر بين يديك من جهة يسارك إلى يمينك، والعرب تتيمن به، لأنّه أمكن للرمي والصيد، والبارح من الظباء والطير: ما مر منها بين يديك من يمينك إلى يسارك، والعرب تتطير به، لأنّه لا يمكنك أن ترميه حتى تنحرف.
البعيد، كما يقول ابن الأثير، على غاية لا يحتاج فيها إلى بيان وإيضاح.
…
وقد يكون التشبيه مصيبا ولكنّ وقع المشبه به على النفس صورة كان أو صفة أو حالا قد يثير فيها حالا من البشاعة أو الاستنكار، وبهذا يفقد التشبيه روعته وسحره وتنتفي عنه صفة البلاغة، ويضحى تشبيها قبيحا معيبا. ومن أمثلة ذلك قول شاعر يصف روضا:
كأنّ شقائق النعمان فيه
…
ثياب قد روين من الدماء
فتشبيه شقائق النعمان بالثياب المرتوية بالدماء قد يكون هذا تشبيها مصيبا ولكن فيه بشاعة ذكر الدماء، ولو شبه الشقائق مثلا بالعصفر الأحمر اللون أو ما شاكله لكان أوقع في النفس وأقرب إلى الأنس.
وقول امرئ القيس:
وتعطو برخص غير شثن كأنّه
…
أساريع ظبي أو مساويك أسحل (1)
فامرؤ القيس يقول إنّ صاحبته تتناول الأشياء ببنان أو أصابع رخصة ليّنة ناعمة، ثمّ يشبه تلك الأنامل بدود الرمل أو المساويك المتخذة من شجر الأسحل. فقد يكون تشبيه البنان بهذا الضرب من الدود مصيبا من جهة اللين والبياض والطول والاستواء والدقة، ولكنه في الوقت ذاته يحضر إلى الذهن صورة الدود وفي ذلك ما فيه من نفور النفس واشمئزازها. ومن
(1) تعطو: تتناول، برخص: أراد به بنانا أو أصابع رخصة لينة، غير شثن: ليس بخشن، الأساريع: دود يكون في الرمل تشبه أنامل النساء به، الظبي: اسم رملة بعينها، والأسحل: شجر تتخذ من أغصانه الدقيقة المستوية مساويك كالأراك، وتشبه به الأصابع في الدقة والاستواء.
هنا يتطرق القبح إلى هذا التشبيه على إصابته. أمّا تشبيه البنان بمساويك الأسحل فجار مجرى غيره من تشبيهاتهم، لأنّهم يصفونها بالأقلام والعنم وما أشبه ذلك. والبنان قريب الشبه من أعواد المساويك في القدر والاستواء ونعومة الملمس.
وقول العرجي في دبيب الهوى:
يدب هواها في عظامي وحبها
…
كما دب في الملسوع سم العقارب
فتشبيه دبيب الهوى في العظام بدبيب سم العقارب في الملسوع غاية في البشاعة.
ومنه قول أبي محجن الثقفي في وصف قينة:
وترفع الصوت أحيانا وتخفضه
…
كما يطن ذباب الروضة الغرد
فقد شبّه القينة وهي ترفع صوتها أحيانا وتخفضه بالغناء بطنين الذباب الغرد في الروضة. فهذا التشبيه وإن كان مصيبا لعين الشبه فإنّه غير طيب في النفس ولا مستقر على القلب. فأي قينة تحب أن تشبه بالذباب، وأن يشبه غناؤها بطنين الذباب؟
ومع هذا فقد سرق أبو محجن هذا التشبيه ولم يحسن استخدامه فقلبه وأفسده. أجل لقد سرقه من قول عنترة العبسي يصف ذباب روضة:
وخلا الذباب بها فليس ببارح
…
غردا كفعل الشارب المترنم
وشتان بين تشبيه وتشبيه.
وأين قول أبي محجن من قول بشار في وصف قينة:
تصلى لها آذاننا وعيوننا
…
إذا ما التقينا والقلوب دواعي
إذا قلّدت أطرافها العود زلزلت
…
قلوبا دعاها للوساوس داعي
كأنّهم في جنة قد تلاحقت
…
محاسنها من روضة وبقاع
يروحون من تغريدها وحديثها
…
نشاوى وما تسقيهم بصواع (1)
وبعد فالجوانب التي تعيب التشبيه ويتطرق منها القبح إليه أكثر من أن تحصى أو تستقصى؛ فمنها ما أوردناه ومثلنا له، ومنها ما يتطرق إليه من جوانب أخرى كاللفظ أو المعنى أو رداءة الصياغة والنسج أو قلق القافية في الشعر، وما أشبه ذلك.
وكما ذكرت آنفا أنّ التشبيه من أكثر الأساليب البيانية دلالة على مقدرة البليغ ومدى أصالته في فن القول. فالبلغاء كانوا- وما زالوا- في كل زمان ومكان يتنافسون في اصطياده، ويلقون بشباك خيالهم في محيطه، ثمّ ينزعونها وإذا بعضها ملؤه اللآلئ والدرر! وإذا بعضها الآخر ملؤه الحصى والحجر!.
(1) الصواع بضم الصاد: المكيال.