المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وكان ذلك العمل على يد‌ ‌ السكاكي الذي دخلت البلاغة به - علم البيان

[عبد العزيز عتيق]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌نشأة علم البيان وتطوّره

- ‌كتاب الموازنة:

- ‌كتاب الوساطة:

- ‌كتاب العمدة:

- ‌كتاب الصناعتين:

- ‌عبد القاهر الجرجاني:

- ‌الزمخشري:

- ‌ السكاكي

- ‌ابن مالك:

- ‌التنوخي:

- ‌ابن الأثير:

- ‌يحيى بن حمزة:

- ‌الخطيب القزويني

- ‌المبحث الأوّل فن التشبيه

- ‌حد التشبيه:

- ‌أركان التشبيه

- ‌طرفا التشبيه

- ‌وطرفا التشبيه: إما:

- ‌أجود التشبيه عند أبي هلال:

- ‌والوجه الثالث:

- ‌والوجه الرابع:

- ‌أقسام التشبيه عند المبرد:

- ‌أداة التشبيه

- ‌التشبيه باعتبار الأداة:

- ‌وجه الشبه

- ‌وجه الشبه من حيث الإفراد والتعدد:

- ‌التشبيه باعتبار وجهه:

- ‌1 - تشبيه التمثيل:

- ‌2 - ويكون وجه الشبه مفصلا ومجملا:

- ‌التشبيه المقلوب

- ‌التشبيه الضمني

- ‌أغراض التشبيه

- ‌غرائب التشبيه وبديعه

- ‌محاسن التشبيه

- ‌عيوب التشبيه

- ‌المبحث الثاني الحقيقة والمجاز

- ‌أقسام المجاز:

- ‌ المجاز العقلي:

- ‌المجاز المرسل

- ‌المبحث الثالث الاستعارة

- ‌تعريف الاستعارة

- ‌أقسام الاستعارة

- ‌1 - الاستعارة التصريحية والمكنية

- ‌إجراء الاستعارة

- ‌2 - الاستعارة الأصلية والتبعية

- ‌3 - الاستعارة باعتبار الملائم

- ‌4 - الاستعارة التمثيلية

- ‌مكان الاستعارة من البلاغة

- ‌المبحث الرّابع الكناية

- ‌أقسام الكناية

- ‌بين الكناية والتعريض

- ‌بلاغة الكناية

الفصل: وكان ذلك العمل على يد‌ ‌ السكاكي الذي دخلت البلاغة به

وكان ذلك العمل على يد‌

‌ السكاكي

الذي دخلت البلاغة به في طور الجمود، كما سنرى.

السكاكي:

هو سراج الدين أبو يعقوب يوسف بن محمد السكاكي المتوفى سنة 626 للهجرة، احترف صناعة المعادن حتى الثلاثين من عمره، ثمّ خطر له أن يخلص للعلم فتفرّغ له وأكبّ على دراسة الفلسفة والمنطق والاعتزال والفقه وأصوله، وعلوم اللغة والبلاغة حتى أتقنها.

وللسكاكي مؤلفات مختلفة، منها كتاب «مفتاح العلوم» الذي يعدّ أهم كتبه، وقد قسّمه ثلاثة أقسام رئيسية، خص الأول منها بعلم الصرف والاشتقاق بأنواعه، والثاني بعلم النحو، وخص القسم الثالث بعلم المعاني وعلم البيان وألحق بهما مبحثا عن البلاغة والفصاحة، وآخر عن المحسنات البديعية اللفظية منها والمعنوية.

وشهرة السكاكي العلمية ترجع في الواقع إلى هذا القسم من كتابه الذي أعطى فيه للمعاني والبيان والفصاحة والبلاغة والبديع الصيغة النهائية التي عكف عليها العلماء من بعده يدرسونها ويشرحونها مرارا وتكرارا. وما أعطاه لعلوم البلاغة ليس ابتكارا خالصا له، وإنّما هو تلخيص دقيق يجمع بين أفكاره الخاصة وأفكار البلاغيين من قبله.

وقد صاغ ذلك كله صياغة مضبوطة محكمة بقدرته المنطقية في التعليل والتجريد والتعريف والتقسيم والتفريع والتشعيب. وأهم الكتب التي اعتمد عليها في النهوض بهذا العمل كتاب «نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز» للفخر الرازي المتوفى سنة 606 للهجرة، وكتابا «دلائل

ص: 30

الإعجاز» و «أسرار البلاغة» لعبد القاهر الجرجاني، وكتاب «الكشاف» للزمخشري.

وقد سبقه الفخر الرازي إلى تلخيص كتابي عبد القاهر، ولكن تلخيص السكاكي أدق وأشمل. والمقارنة بين

التلخيص تظهر أنّ السكاكي كان أكثر ضبطا وتنظيما للمسائل، مع ترتيب المقدمات وإحكام القياس.

ومع ذلك فقد خلا تلخيصه من تحليلات عبد القاهر والزمخشري التي تبهر القارئ، وتحولت البلاغة في تلخيصه إلى علم طغت فيه القواعد والقوانين على روح البيان وومضاته التي تمتع النفس. وهو في سبيل استنباط القواعد والقوانين قد استخدم المنطق بأصوله وألفاظه وأسلوبه الجاف الذي لا يحوي أي جمال. ولا عجب في ذلك فقد كان همه أن يقنن البلاغة ويقعّدها كسائر العلوم الأخرى، وهذا أمر يستعان عليه بالمنطق.

وما يعنينا هنا هو كلام السكاكي عن علم البيان، وقد عرفه بقوله:

«إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة بالزيادة في وضوح الدلالة عليه» . وفي مقدمة تلخيصه لقضايا علم البيان تعرض للكلام عن الدلالات وكان في كلامه عنها متأثرا برأي الفخر الرازي فيها. وقد قسمها إلى الدلالة الوضعية للألفاظ، والدلالة العقلية أو الالتزامية، وعن الدلالة الأولى يقول إنّه لا يجوز إرجاع الفصاحة والبلاغة إلى الدلالة اللفظية، غير أنّه قد يلابسها ما يفيد الكلام جمالا وزينة.

أمّا الدلالة العقلية أو الالتزامية فهي التي تجري في الصور البيانية وهي تختلف عن الدلالة الوضعية.

ص: 31

وهذه الدلالة العقلية أو الالتزامية إمّا أن تكون من باب دلالة اللازم على الملزوم كدلالة كثرة الرماد على الكرم في الكناية، وإما من باب دلالة الملزوم على اللازم، أي دلالة المسبب على السبب كقوله تعالى:

وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً فالرزق لا ينزل من السماء ولكن الذي ينزل مطر ينشأ عنه النبات الذي منه طعامنا ورزقنا، فالرزق هو المسبب أو الملزوم الذي دلّ على السبب أو اللازم، وذلك على نحو ما هو معروف في المجاز المرسل.

ثمّ يخلص من هذه المقدمة التي يغلب عليها أسلوب المنطق إلى أن علم البيان يتناول التشبيه والمجاز والكناية.

ومباحث التشبيه عند السكاكي تتناول أربعة موضوعات هي:

طرفاه، ووجهه، والغرض منه، وأحواله في القرب والغرابة، والقبول والرفض.

فطرفا التشبيه إما أن يدركا بالحس كتشبيه الوجه بالقمر، وإما أن يدركا بالخيال كتشبيه شقائق النعمان (1) على أغصانها بأعلام ياقوت على رماح من زبرجد. فالتشبيه الخيالي هو المعدوم الذي فرض مجتمعا من أمور كل واحد منها يدرك بالحس، فإنّ الأعلام الياقوتية المنشورة على الرماح الزبرجدية مما لا يدرك بالحس، لأنّه لا وجود لها في عالم الواقع، ولكن المادة التي تركب منها التشبيه، أي الأعلام والياقوت والرماح والزبرجد كل منها محسوس بالبصر. وإما أن يدرك طرفا التشبيه بالوهم كما إذا قدرنا

(1) شقائق النعمان: نور وزهر أحمر، أضيف إلى النعمان بن المنذر آخر ملوك الحيرة، لأنّه خرج مرة إلى ظاهر الحيرة فرأى هذا النوع من الزهر، فقال: ما أحسنه! احموه، فكان أول من حماه فنسب إليه.

ص: 32

صورة وهمية للموت وشبهناها بالمخلب أو الناب، وإما أن يدركا بالعقل كتشبيه العلم بالحياة، وإما أن يدركا بالوجدان كاللذة والألم والشبع والجوع. وهذه تقسيمات للتشبيه واستحدثها السكاكي متأثرا بكلام الفلاسفة وعلماء الكلام في صور الإدراك.

وأقسام وجه الشبه عند السكاكي كثيرة:

فوجه الشبه عنده إمّا أن يكون واحدا أو غير واحد، وغير الواحد إما أن يكون في حكم الواحد لكونه هيئة مركبة أو لا يكون. والواحد إما أن يكون حسيا أو عقليا، ولا بد في الحسي من أن يكون طرفاه حسيين.

أما وجه الشبه العقلي فيجري في جميع صور التشبيه، فقد يكون طرفاه حسيين. كتشبيه الشجاع بالأسد في الجراءة، وقد يكون طرفاه عقليين كتشبيه الجهل بالموت في عدم النفع، وقد يكون أحدهما حسيا والآخر عقليا كتشبيه العلم بالنور في النفع والفائدة.

وهكذا يمضي السكاكي في تقسيم وجه الشبه أقساما أخرى قد نعرض لها عند الكلام عن التشبيه تفصيليا.

ثمّ يتحدّث السكاكي عن أغراض التشبيه، ويقسمها إلى ما يعود إلى المشبه أو إلى المشبه به. ويقسم الأول إلى بيان حال، وبيان مقدار حال، وبيان إمكان حال، وزيادة تقرير حال، وتزيين، وتقبيح واستطراف.

أما الأغراض التي تعود إلى المشبه به فمرجعها إلى إيهام كونه أتم من المشبه في وجه الشبه، أو بيان أنّه أهم عند مريد التشبيه.

ص: 33

ولا يفوته هنا أن يبدي رأيه في التشبيه التمثيلي مقررا أنّ وجه الشبه فيه ينبغي أن يكون مركبا، أي صورة منتزعة من متعدد وأن يكون وهميا اعتباريا، وهو في ذلك يخالف عبد القاهر الذي يشترط أن يكون وجه الشبه في التشبيه التمثيلي مركبا وأن يكون عقليا، والعقلي عنده يشمل الوهمي.

وعن أحوال التشبيه من حيث القرب والغرابة، والقبول والرفض، يستوحي السكاكي في ذلك رأي عبد القاهر، فيقول: إن إدراك الشيء مجملا أسهل من إدراكه مفصلا، وإنّ حضور ما يتردد على الحس أقرب من حضور ما لا يتردد عليه، وإنّ الشيء مع ما يناسبه أقرب حضورا منه مع ما لا يناسبه، وإنّ استحضار الأمر الواحد

أيسر من استحضار غير الواحد، وإنّ ميل النفس إلى الحسيات أتم من ميلها إلى العقليات، وإنّ النفس لما تعرف أقبل منها لما لا تعرف، وإنّ الجديد المستطرف عندها ألذ من المعاد المكرر.

وعلى ضوء هذه الأصول يقول: إنّ من أسباب قرب التشبيه أن يكون وجهه أمرا واحدا، أو يكون المشبه به قريبا في الصورة من المشبه، أو يكون حاضرا في الخيال بجهة من الجهات.

أمّا غرابته فمن أسبابها أن يكون وجه الشبه مركبا، أو يكون المشبه به بعيد الشبه عن المشبه، أو يكون وهميا أو مركبا عقليا. أمّا التشبيه المقبول فالأصل فيه أن يكون صحيحا، وألّا يكون مبتذلا.

وكذلك يعرض السكاكي لصور التشبيه البليغ، ويتابع عبد القاهر في إدخال صور التجريد المختلفة في التشبيه كقولك عن صديق أنست بحديثه «وجدت في حديثه نسمة عطرة» فقد جردت من حديث الصديق

ص: 34

نسمة متصفة بالعطر كأنّها غيره، مع أنّ حديث الصديق هو هي. وكقول الشاعر:

أعانق غصن البان من لين قدها

وأجني جنى الورد من وجناتها

فالشاعر هنا جرّد من قدّ الحبيبة غصن بان لين، ومن وجنتيها وردا.

فهو بدل أن يعبر بالتشبيه الصريح فيقول: قدّ الحبيبة كغصن البان لينا، ووجناتها كالورد، عبّر عنه بأسلوب التجريد الذي عدّه السكاكي صورة من صور التشبيه.

وأخيرا يختم السكاكي كلامه عن التشبيه ذاكرا أنّه قد يشبّه الضد بضده على سبيل التهكم، كتشبيه الجبان بالأسد، والبخيل بحاتم مثلا.

بعد ذلك ينتقل السكاكي إلى الحديث عن المجاز ويجره ذلك أولا إلى تعريف الحقيقة بأنّها: «الكلمة المستعملة فيما هي موضوعة له من غير تأويل في الوضع» واحترز بقوله: «من غير تأويل في الوضع» حتى لا تدخل الاستعارة.

ثمّ يخلص من ذلك إلى تعريف المجاز بأنّه: «الكلمة المستعملة في غير ما هي موضوعة له بالتحقيق استعمالا في الغير بالنسبة إلى نوع حقيقتها مع قرينة مانعة عن إرادة معناها في ذلك النوع» .

ويحترز بقيد «التحقيق» من خروج الاستعارة، وبقيد «استعمالا في الغير بالنسبة إلى نوع حقيقتها» من استعمال الكلمة لغة أو شرعا أو عرفا، وبقيد «مع قرينة مانعة عن إرادة معناها» من الكناية.

ويفرق بين المجاز والمشترك اللغوي، بأنّ المجاز يلاحظ فيه المعنى

ص: 35

الأصلي، أمّا المشترك فيدل على المعنيين معا، ويتخصص بالقرائن وهي دلالة وضعية.

ومن تعريف المجاز ينتقل إلى أقسامه، فيقسمه قسمين أساسيين:

مجازا لغويا في المفرد، ومجازا عقليا في الجملة ثمّ يفرّع هذين القسمين أقساما أخرى، منها المفيد الخالي عن المبالغة في التشبيه وهو المجاز المرسل، ومنها المفيد المتضمن للمبالغة في التشبيه، وهو الاستعارة، وهي أن تذكر أحد طرفي التشبيه وتريد به الطرف الآخر مدعيا دخول المشبه في جنس المشبه به دالا على ذلك بإثباتك للمشبه ما يخص المشبه به.

بعد ذلك يأخذ السكاكي في تقسيم الاستعارة إلى تصريحية وهي ما صرّح فيه بلفظ المشبه به، وإلى مكنية وهي ما ذكر فيها لفظ المشبه، ثمّ يقسمها إلى أصلية أو تبعية، وإلى مرشحة أو مجردة.

وبعد الكلام مفصلا عن كل نوع من أنواع الاستعارة، يعود إلى استيفاء بقية أنواع المجاز فيتكلم عن مجاز الحذف من مثل «وجاء ربك» أي أمر ربك، ومجاز الزيادة من مثل «ليس كمثله شيء» إذ زيدت الكاف في الآية، والمجاز العقلي، وهو إسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له لعلاقة مانعة من إرادة الإسناد الحقيقي، كقول المتنبي في وصف ملك الروم بعد هزيمة سيف الدولة له:

ويمشي به العكاز في الدير تائبا

وقد كان يأبى مشي أشقر أجردا

فالفعل «يمشي» هنا قد أسند إلى «العكاز» أي إلى غير فاعله، لأنّ العكاز لا يمشي وإنّما الذي يمشي هو صاحب العكاز، ولكن لما كان

ص: 36

العكاز سببا في المشي جاز إسناد الفعل إليه.

وأخيرا ينتقل السكاكي إلى الكناية فيعرّفها بأنّها: «ترك التصريح بذكر الشيء إلى ذكر ما يلزمه، لينتقل من المذكور إلى المتروك» . ويلاحظ أنّ المتروك قد يكون قريبا ظاهرا، وقد يكون بعيدا خفيا، ولهذا قال إنّ الكتابة تتفاوت من تعريض إلى تلويح، ورمز، وإيحاء وإشارة.

ثمّ يعرض إلى التفريق بين الكناية والمجاز من وجهين: أحدهما أنّ الكتابة لا تنافي إرادة الحقيقة بلفظها، فالخنساء عند ما ترثي أخاها صخرا «بأنّه كثير الرماد» كناية عن جوده وكرمه، فإنّ هذه الكناية لا تمنع من إرادة المعنى الحقيقي بأنّ أخاها صخرا كثير الرماد حقيقة ومن غير تأويل.

أمّا المجاز فيمنع من إرادة المعنى الحقيقي، فلا يجوز أن يكون المراد من قولك:«كلمت أسدا» الأسد الحقيقي. والوجه الثاني أنّ الكناية بنيت على الانتقال من اللازم إلى الملزوم على حين بني المجاز على الانتقال من الملزوم

إلى اللازم.

ويقسم السكاكي الكناية بحسب المراد منها إلى ثلاثة أقسام: كناية عن صفة، وكناية عن موصوف، وكناية عن نسبة.

تلك خلاصة لما أورده السكاكي في كتابه «مفتاح العلوم» عن مباحث علم البيان التي أكثر فيها من التقسيمات والتفريعات، وخرج بها من جو البلاغة الواضحة السمحاء إلى ميدان المنطق المعقد الجاف.

وعلى طريق تتبعنا لنشأة علم البيان وتطوره نلتقي بعد السكاكي

ص: 37