الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأمر على خلاف ذلك فهو التشبيه المعكوس أو المقلوب طلبا للمبالغة بادّعاء أن وجه الشبه في المشبه أقوى منه في المشبه به.
وقد شاع ذلك، كما يقول ابن الأثير، في كلام العرب واتّسع حتى صار كأنه الأصل في التشبيه. والواقع أن هذا الضرب من التشبيه حسن الموقع لطيف المأخذ، وهو مظهر من مظاهر الافتنان والإبداع في التعبير.
والشرط في استعمال التشبيه المقلوب ألّا يرد إلا فيما جرى عليه العرف والإلف لدى العرب، وذلك حتى تظهر فيه بوضوح صورة القلب والانعكاس.
على هذا الأساس يحسن التشبيه المقلوب ويقبل، أما إذا ورد في غير المعهود المألوف فإنه يكون معيبا لأن المبالغة فيه تصيبه بالغموض، وتؤدي إلى التداخل بين طرفيه، فلا يعرف أيّهما المشبّه، وأيّهما المشبه به.
ويقرب من هذا النوع ما أطلق عليه «تشبيه التفضيل» ، وهو أن يشبّه شيء بشيء لفظا أو تقديرا، ثم يعدل عن التشبيه لادّعاء أن المشبه أفضل من المشبه به. ومن ذلك قول الشاعر:
حسبت جماله بدرا منيرا
…
وأين البدر من ذاك الجمال؟
وقول شاعر آخر:
من قاس جدواك يوما
…
بالسحب أخطأ مدحك
السحّب تعطي وتبكي
…
وأنت تعطي وتضحك
التشبيه الضمني
التشبيه الضمني: تشبيه لا يوضع فيه المشبه والمشبه به في صورة من صور التشبيه المعروفة، بل يلمحان في
التركيب. وهذا الضرب من التشبيه
يؤتى به ليفيد أن الحكم الذي أسند إلى المشبه ممكن.
وبيان ذلك أن الكاتب أو الشاعر قد يلجأ عند التعبير عن بعض أفكاره إلى أسلوب يوحي بالتشبيه من غير أن يصرّح به في صورة من صوره المعروفة.
ومن بواعث ذلك التفنّن في أساليب التعبير، والنزوع إلى الابتكار والتجديد، وإقامة البرهان على الحكم المراد إسناده إلى المشبه، والرغبة في إخفاء معالم التشبيه، لأنه كلما خفي ودقّ كان أبلغ في النفس.
ولنأخذ مثالا لذلك، وهو قول أبي فراس الحمداني:
سيذكرني قومي إذا جدّ جدّهم
…
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
فهو هنا يريد أن يقول: إن قومه سيذكرونه عند اشتداد الخطوب والأهوال عليهم ويطلبونه فلا يجدونه، ولا عجب في ذلك لأن البدر يفتقد ويطلب عند اشتداد الظلام.
فهذا الكلام يوحي بأنه تضمن تشبيها غير مصرّح به؛ فالشاعر يشبّه ضمنا حاله وقد ذكره قومه وطلبوه فلم يجدوه عند ما ألّمت بهم الخطوب بحال البدر يطلب عند اشتداد الظلام. فهو لم يصرّح بهذا التشبيه وإنما أورده في جملة مستقلة وضمنه هذا المعنى في صورة برهان.
ولنأخذ مثالا آخر وهو قول البحتري:
ضحوك إلى الأبطال وهو يروعهم
…
وللسيف حدّ حين يسطو ورونق
فممدوح البحتري يلقى الشجعان بوجه ضاحك وهو يروعهم ويفزعهم في الوقت ذاته ببأسه وسطوته، وكذلك السيف له عند القتال والضرب رونق وفتك. وهذا كلام يشمّ منه رائحة التشبيه الضمني.
فالبحتري لم يأت بالتشبيه صريحا فيقول: إن حال الممدوح يضحك في غير مبالاة عند ملاقاة الشجعان ويفزعهم ببأسه وسطوته تشبه حال السيف عند الضرب له رونق وفتك، ولكنه أتى بذلك ضمنا، لباعث من البواعث السابقة.
ولنأخذ مثالا ثالثا وهو قول ابن الرومي:
قد يشيب الفتى وليس عجيبا
…
أن يرى النّور في القضيب الرطيب (1)
فابن الرومي يودّ أن يقول هنا: قد يعتري الفتى الشيب في ريعان شبابه، وليس ذلك بالأمر العجيب لأن الغصن الغضّ الندي قد يظهر فيه الزهر الأبيض قبل أوانه.
فالأسلوب الذي عبّر به ابن الرومي عن فكرته هنا يتضمن تشبيها لم يصرّح به، فإنه لم يقل مثلا: إن الفتى وقد شاب مبكرا كالغصن الغضّ الرطيب وقد أزهر قبل أوانه، ولكنه أتى بالتشبيه ضمنا، لإفادة أن الحكم الذي أسند للمشبّه أمر ممكن الوقوع.
ولنأخذ مثلا أخيرا وهو قول أبي تمام:
لا تنكري عطل الكريم من الغنى
…
السيل حرب للمكان العالي
يريد أبو تمام أن يقول لمن يخاطبها: لا تنكري خلوّ الرجل الكريم من الغني، فإن ذلك ليس غريبا، لأن قمم الجبال وهي أعلى الأماكن لا يستقر فيها ماء السيل.
فالكلام يوحي بتشبيه ضمني، ولو صرّح به لقال مثلا: إن الرجل الكريم المحروم الغنى يشبه قمة الجبل وقد خلت من ماء السيل. ولكن
(1) النور: الزهر الأبيض. والقضيب الرطيب: الغصن الغضّ الندي.
الشاعر لم يقل ذلك صراحة، وإنما أتى بجملة مستقلة وضمّنها هذا المعنى في صورة برهان على إمكان وقوع ما أسنده للمشبّه.
…
وفيما يلي طائفة من أمثلة التشبيه الضمنى:
1 -
قال المتنبي:
وما أنا منهم بالعيش فيهم
…
ولكن معدن الذهب الرغام (1)
المشبه حال الشاعر لا يعدّ نفسه من أهل دهره وإن عاش بينهم، والمشبه به حال الذهب يختلط بالتراب، مع أنه ليس من جنسه.
2 -
وقال أيضا:
ومن الخير بطء سيبك عني
…
أسرع السحب في المسير الجهام (2)
المشبه حال العطاء يتأخر وصوله ويكون ذلك دليلا على كثرته، والمشبّه به حال السحب تبطئ في السير ويكون ذلك دليلا على غزارة مائها.
3 -
وقال أبو العتاهية:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها؟
…
إن السفينة لا تجري على اليبس
المشبه حال من يرجو النجاة من عذاب الآخرة ولا يسلك مسالك النجاة، والمشبه به حال السفينة التي تحاول الجري على الأرض اليابسة.
4 -
وقال ابن الرومي:
(1) الرغام: التراب.
(2)
السيب: العطاء، والجهام: السحاب لا ماء فيه.