الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإن كلّا سبب لندرة حضور المشبه به في الذهن، أو لقلة تكرره على الحس، كما مر من تشبيه الشمس بالمرآة في كف الأشل، فقد يقضي الرجل دهره ولا يتفق له أن يرى مرآة في يد الأشل. فالغرابة في هذا التشبيه من وجهين هما: كثرة التفصيل في وجه الشبه، وقلة التكرار أو الورود على الحس.
التشبيه المقلوب
التشبيه المقلوب هو جعل المشبه مشبها به بادعاء أن وجه الشبه فيه أقوى وأظهر.
وأبو الفتح عثمان بن جني في كتابه الخصائص (1) يسمي هذا النوع من التشبيه «غلبة الفروع على الأصول» ويقول: «هذا فصل من فصول العربية طريف، تجده في معاني العرب، كما تجده في معاني الأعراب. ولا تكاد تجد شيئا من ذلك إلا والغرض فيه المبالغة.
فمها جاء فيه ذلك للعرب قول ذي الرمة:
ورمل كأوراك العذارى قطعته
…
إذا ألبسته المظلمات الحنادس (2)
أفلا ترى ذا الرمة كيف جعل الأصل فرعا والفرع أصلا؟ وذلك أن العادة والعرف في نحو هذا أن تشبه أعجاز النساء بكثبان الأنقاء أي الرمال، ألا ترى إلى قوله:
(1) كتاب الخصائص لابن جنى ج 1 ص 300، مطبعة دار الكتب المصرية.
(2)
ألبسته: غطته، والحنادس: جمع حندس، والحندس: اشتداد الظلمة، وقد ذهب بها مذهب الوصف.
ليلى قضيب تحته كثيب
…
وفي القلاد رشأ ربيب (1)؟
ولله البحتري فما أعذب وأظرف وأدمث قوله:
أين الغزال المستعير من النقا
…
كفلا ومن نور الأقاحي مبسما؟
فقلب ذو الرمة العادة والعرف في هذا، فشبّه كثبان الأنقاء، أي الرمال بأعجاز النساء. وهذا كأنه يخرج مخرج المبالغة، أي قد ثبت هذا الموضع وهذا المعنى لأعجاز النساء، وصار كأنه الأصل فيه، حتى شبه به كثبان الأنقاء».
وقد عرض ابن الأثير في كتابه المثل السائر لهذا النوع من التشبيه، وسماه «الطرد والعكس» ، وذلك إذ يقول: «واعلم أن من التشبيه ضربا يسمى الطرد والعكس، وهو أن يجعل المشبه به مشبها، والمشبه مشبها به، وبعضهم يسميه غلبة الفروع على الأصول
…
ومما جاء منه قول البحتري:
في طلعة البدر شيء من محاسنها
…
وللقضيب نصيب من تثنيها
وقول عبد الله بن المعتز في تشبيه الهلال:
ولاح ضوء قمير كاد يفضحنا
…
مثل القلامة قد قدّت من الظّفر
ولما شاع ذلك في كلام العرب واتسع صار كأنه الأصل، وهو موضع من علم البيان حسن الموقع لطيف المأخذ. وهذا قد ذكره أبو الفتح ابن جني في كتاب الخصائص.
ولما نظرت أنا في ذلك وأنعمت نظري فيه تبين لي ما أذكره، وهو
(1) القلاد: واحدها قلادة، والرشأ: الظبي إذا تحرك وقوي ومشى مع أمه.
أنه قد تقرر في أصل الفائدة المستنتجة من التشبيه أن يشبّه الشيء بما يطلق عليه لفظة أفعل، أي يشبه بما هو أبين وأوضح، أو بما هو أحسن منه أو أقبح، وكذلك يشبه الأقل بالأكثر، والأدنى بالأعلى.
وهذا الموضع لا ينقض هذه القاعدة لأن الذي قدمنا ذكره مطرد في بابه وعليه مدار الاستعمال. وهذا غير مطرد وإنما يحسن في عكس المعنى المتعارف، وذاك أن تجعل المشبه به مشبها، والمشبه مشبها به. ولا يحسن في غير ذلك مما ليس بمتعارف؛ ألا ترى أن من العادة والعرف أن تشبه الأعجاز بالكثبان، فلما عكس ذو الرمة هذه القضية في شعره جاء حسنا لائقا، وكذلك فعل البحتري، فإن من العادة والعرف أن يشبه الوجه الحسن بالبدر، والقد الحسن بالقضيب، فلما عكس البحتري القضية في ذلك جاء أيضا حسنا لائقا.
ولو شبه ذو الرمة الكثبان بما هو أصغر منها غير الأعجاز لما حسن ذلك، وهكذا لو شبه البحتري طلعة البدر بغير طلعة الحسناء، والقضيب بغير قدّها لما حسن ذلك أيضا.
وهكذا القول في تشبيه عبد الله بن المعتز صورة الهلال بالقلامة؛ لأن من العادة أن تشبه القلامة بالهلال، فلما صار ذلك مشهورا متعارفا حسن عكس القضية فيه» (1).
…
ومن أمثلة التشبيه المقلوب قول ابن المعتز:
والصبح في طرّة ليل مسفر
…
كأنه غرّة مهر أشقر (2)
(1) كتاب المثل السائر ص 164.
(2)
طرة الشيء: طرفه، وليل مسفر: دخل في الإسفار وهو ظهور الفجر، والغرّة: بياض في-
فالمشبه هنا هو الصبح والمشبه به هو غرّة مهر أشقر، وهذا تشبيه مقلوب، لأن العادة في عرف الأدباء أن تشبّه غرّة المهر بالصبح، لأن وجه الشبه وهو البياض أقوى في الصبح منه في المهر. ولكن الشاعر عدل عن المألوف، وقلب التشبيه للمبالغة، بادّعاء أن وجه الشبه أقوى في غرّة المهر منه في الصبح.
ومنه قول محمد بن وهيب الحميري (1) في ذات التشبيه:
وبدا الصباح كأن غرّته
…
وجه الخليفة حين يمتدح
فالمشبّه هنا أيضا هو ضوء الصباح في أول تباشيره، والمشبه به هو وجه الخليفة عند سماعه المديح. فالتشبيه كما ترى مقلوب، والأصل فيه هو العكس، لأن المألوف أن يشبّه الشيء دائما بما هو أقوى وأوضح منه في وجه الشبه؛ ليكتسب منه قوة ووضوحا. ولكن الشاعر تفننا منه في التعبير عكس القضية وقلب التشبيه للمبالغة والإغراق بادّعاء أن الشبه أقوى في المشبّه.
ومنه قول البحتري مادحا:
كأن سناها بالعشيّ لصبحها
…
تبسّم عيسى حين يلفظ بالوعد
شبّه البحتري برق السحابة الذي ظلّ لّماعا طوال الليل بتبسم الممدوح حين يعد بالعطاء، ولا شك أن لمعان البرق أقوى من بريق الابتسام، فكان المألوف أن يشبّه الابتسام بالبرق على عادة الشعراء، ولكن البحتري قلب التشبيه تفننا في التعبير والتماسا للمبالغة بادّعاء أن وجه الشبه أقوى في المشبّه.
- جبهة الفرس، والمهر الأشقر: الأحمر الشعر.
(1)
شاعر شيعي عباسي انقطع لمدح المأمون.
ومنه قول شاعر آخر:
أحنّ لهم ودونهم فلاة
…
كأن فسيحها صدر الحليم
فالشاعر في هذا البيت شبّه فسيح الفلاة بصدر الحليم، فالتشبيه كما ترى مقلوب، إذ المعهود تشبيه صدر الحليم بالفلاة. ولكن الشاعر رغبة منه في المبالغة بادّعاء أن صدر الحليم أفسح من الصحراء عكس التشبيه.
…
وفيما يلي طائفة أخرى من أمثلة التشبيه المقلوب تترك للدّارس أمر التعرّف إلى المشبه والمشبه به في كلّ منها.
قال أبو نواس في وصف النرجس:
لدى نرجس غضّ القطاف كأنه
…
إذا ما منحناه العيون عيون
وقال البحتري في المدح:
لجرّ عليّ الغيث هدّاب مزنه
…
أواخرها فيه وأوّلها عندي
تعجّل عن ميقاته فكأنه
…
أبو صالح قد بت منه على وعد
وقال ابن المعتز يصف سحابة ويشبه البرق بالسيوف المنتضاة:
وسارية لا تملّ البكا
…
جرى دمعها في خدود الثرى
سرت تقدح الصبح في ليلها
…
ببرق كهندية تنتضى (1)
وقال البحتري في تشبيه حمرة الورد بحمرة خدي محبوبته، وتشبيه ميلان الغصن إذا هزّه النسيم بتثني قدّها:
(1) السارية: السحابة تمطر ليلا، والثرى: التراب الندي، والأرض، كهندية تنتضى: أي مثل سيوف هندية تسلّ من أغمادها.
في حمرة الورد شيء من تلهّبها
…
وللقضيب نصيب من تثنيها
وقال أيضا في وصف بركة المتوكل، وتشبيه البركة في تدفق مائها بيد المتوكل في العطاء:
كأنها حين لجّت في تدفقها
…
يد الخليفة لما سال واديها (1)
وقال في تشبيه الندى على شقائق النعمان بدموع الشوق على خدود الحسان:
شقائق يحملن الندى فكأنه
…
دموع التصابي في خدود الخرائد
…
والخلاصة أن الأصل في التشبيه أن يجري على السّنن المعروف عند العرب والذي يتمثل في أن يلتمس المشبه به مما هو معروف ومألوف في حياتهم حتى ولو كان المشبه أقوى وأعظم في الصفة التي يشترك فيها مع المشبه به. فالعرب مثلا قد اشتهر بينهم عمرو بن معدّ يكرب بالإقدام، وحاتم بالجود، وأحنف بن قيس بالحلم،
وإياس بالذكاء، وأصبح كل واحد من هؤلاء مثلا عاليا في الصفة التي اشتهر بها. فالأسلوب العربي يقضي على الشاعر أن يجعل كل واحد من هؤلاء الأعلام مشبّها به، سواء أوجد بعده من هو أعظم منه في الصفة وأقوى أم لم يوجد.
وقد سلك القرآن الكريم هذا السّنن فشبّه نور الله سبحانه وتعالى، وهو بلا شك أقوى الأنوار، بنور المصباح في مشكاة، لأنّ العرب جروا على عادة أن يجعلوا نور المصباح أكبر الأنوار وأعظم الأضواء.
كذلك اطّردت العادة في البلاغة على تشبيه الأدنى بالأعلى، فإذا جاء
(1) لجّ في الأمر: تمادى واستمر.