الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرّابع الكناية
الكناية في اللغة مصدر كنيت بكذا عن كذا إذا تركت التصريح به.
والكناية في اصطلاح أهل البلاغة: لفظ أطلق وأريد به لازم معناه، مع جواز إرادة ذلك المعنى.
ومثال ذلك لفظ «طويل النجاد» المراد به طول القامة مع جواز أن يراد حقيقة طول النجاد أيضا. فالنجاد حمائل السيف، وطول النجاد يستلزم طول القامة، فإذا قيل: فلان طويل النجاد، فالمراد أنّه طويل القامة، فقد استعمل اللفظ في لازم معناه، مع جواز أن يراد بذلك الكلام الإخبار بأنّه طويل حمائل السيف وطويل القامة، أي يراد بطويل النجاد معناه الحقيقي واللازمي.
وإذا تتبعنا تاريخ «الكناية» بقصد التعرف على مفهومها لدى علماء العربية والبلاغيين على تعاقب الأجيال والعصور فإننا نجد أبا عبيدة معمر ابن المثنى «209 هـ» أول من عرض لها في كتابه «مجاز القرآن» .
فهو يمثل للكناية في كتابه هذا بأمثلة من نحو قوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ، وقوله: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ، وقوله: كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ ثمّ يعقب عليها بأنّ الله سبحانه كنّى بالضمير في الأول عن الأرض، وفي الثانية عن الشمس. وفي الثالثة عن الروح.
فهو يستعمل الكناية استعمال اللغويين والنحاة بمعنى «الضمير» ، ومعنى هذا أنّ الكناية عنده هي كل ما فهم من سياق الكلام من غير أن يذكر اسمه صريحا في العبارة.
ثمّ نلتقي بعد أبي عبيدة بالجاحظ «255 هـ» فقد وردت الكناية عنده بمعناها العام وهو التعبير عن المعنى تلميحا لا تصريحا وإفصاحا كلما اقتضى الحال ذلك.
يفهم ذلك من قوله: «رب كناية تربى على إفصاح» كما تفهم من إيراده لتعريف البلاغة عند بعض الهنود وذلك إذ يقول: «وقال بعض الهنود: جماع البلاغة البصر بالحجة والمعرفة بمواضع الفرصة. ومن البصر بالحجة والمعرفة بمواضع الفرصة أن تدع الإفصاح بها إلى الكناية، إذا كان الإفصاح أوعر طريقة» (1). من ذلك يتضح أنّ الكناية عنده تقابل الإفصاح والتصريح إذا اقتضى الحال ذلك.
وفي حديثه عن بلاغة الخطابة والخطب يسلك الكناية مع بعض الأساليب البلاغية التي يقتضيها الحال أحيانا من إطناب وإيجاز يأتي كالوحي والإشارة، وفي ذلك يقول في معرض الحديث عن تناسب الألفاظ مع الأغراض: «ولكل ضرب من الحديث ضرب من اللفظ، ولكل نوع من المعاني نوع من الأسماء: فالسخيف للسخيف، والخفيف للخفيف،
(1) كتاب البيان والتبيين ج 1 ص 88.
والجزل للجزل، والإفصاح في موضع الإفصاح، والكناية في موضع الكناية، والاسترسال في موضع الاسترسال» (1).
فالكناية عند الجاحظ كما نرى هنا معدودة من الأساليب البلاغية التي قد يتطلبها المعنى للتعبير عنه ولا يجوز إلّا فيها، وأنّ العدول عنها إلى صريح اللفظ في المواطن التي تتطلبها أمر مخل بالبلاغة.
والذي يتتبع الجاحظ فيما قاله عن الكناية وفيما أورده من أمثلة لها يرى أنّه استعملها استعمالا عاما يشمل جميع أضرب المجاز والتشبيه والاستعارة والتعريض دون أن يفرق بينها وبين هذه الأساليب.
ومن علماء العربية الذين جاءوا بعد الجاحظ وبحثوا في «الكناية» تلميذه محمد بن يزيد المبرد «285 هـ» ، فقد عرض لها في الجزء الثاني من كتابه «الكامل» ذاكرا أنّها تأتي على ثلاثة أوجه، فهي: إمّا للتعمية والتغطية، كقول النابغة الجعدي:
أكني بغير اسمها وقد علم الل
…
هـ خفيات كل مكتتم
وإما للرغبة عن اللفظ الخسيس المفحش إلى ما يدل على معناه من غيره: كقوله تعالى في قصة سيدنا عيسى وأمه عليهما السلام:
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ. كناية عما لا بدّ لآكل الطعام منه (2).
وأمّا للتفخيم والتعظيم والتبجيل كقولهم: «أبو فلان» صيانة لاسمه عن الابتذال، ومن هذا الوجه اشتقت الكنية.
(1) كتاب الحيوان ج 3 ص 39.
(2)
كتاب الكامل للمبرد ص 290 تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.
فالمبرد كما نرى لم يعرّف الكناية وإنما التفت إلى ما تؤديه بعض صورها من فائدة في صناعة الكلام، وكأنّه بذلك يوحي بأنّ هذا الاتجاه هو الأهم في دراسة الأساليب البلاغية، وأنّه ينبغي التركيز عليه أكثر من التركيز على القواعد.
وابن المعتز «296 هـ» قد عدّ الكناية والتعريض من محاسن البديع ومثل لهما من منظوم الكلام ومنثوره، ومن الأمثلة التي أوردها: «كان عروة بن الزبير إذا أسرع إليه إنسان بسوء لم يجبه، ويقول: إني لأتركك رفعا لنفسي عنك. ثمّ جرى بينه وبين علي بن عبد الله بن عباس كلام، فأسرع إليه عروة بسوء، فقال علي بن عبد الله: إني لأتركك لما تترك الناس له. فاشتد ذلك على عروة (1).
وقدامة بن جعفر «337 هـ» عرض لها في «باب المعاني الدال عليها الشعر» من كتابه نقد الشعر، وعدّها نوعا من أنواع ائتلاف اللفظ والمعنى، وأطلق عليها اسم «الإرداف» وعرفه بقوله: «الإرداف أن يريد الشاعر دلالة على معنى من المعاني فلا يأتي باللفظ الدال على ذلك المعنى بل بلفظ يدل على معنى هو ردفه وتابع له، فإذا دلّ على التابع أبان عن المتبوع بمنزلة قول الشاعر:
بعيدة مهوى القرط إمّا لنوفل
…
أبوها وإمّا عبد شمس وهاشم» (2)
ثمّ أورد بعض أمثلة أخرى عليها. والكناية أو الإرداف على رأي قدامة هو في «بعيدة مهوى القرط» وهذا كناية عن طول العنق، فمهوى
(1) كتاب البديع ص 64.
(2)
كتاب نقد الشعر لقدامة ص 113.
القرط هو المسافة من شحمة الأذن إلى الكتف، وإذا كانت هذه المسافة بعيدة لزم أن يكون العنق طويلا.
…
كذلك عرض للكناية أبو الحسين أحمد بن فارس «395 هـ» في كتابه «الصاحبي» ، وعقد لها بابا خاصا تكلم فيه أولا عن صورتين من صورها، إحداهما كناية التغطية، وذلك بأن يكنّى عن الشيء فيذكر بغير اسمه تحسينا للفظ أو إكراما للمذكور، والثانية كناية التبجيل نحو قولهم:«أبو فلان» صيانة لاسمه عن الابتذال، وأنّ الكنى مما كان للعرب خصوصا ثمّ تشبه غيرهم بهم في ذلك. ولا ريب أنّه في ذلك متأثر برأي المبرد السابق.
ثمّ تكلّم ثانيا عن الكناية بمفهومها عند النحاة فقال: «الاسم يكون ظاهرا مثل: زيد وعمرو، ويكون مكنيا، وبعض
النحويين يسميه «مضمرا» وذلك مثل: هو وهي وهما وهن.
وزعم بعض أهل العربية أنّ أوّل أحوال الاسم الكناية ثمّ يكون ظاهرا، قال: وذلك أنّ أول حال المتكلم أن يخبر عن نفسه أو مخاطبه فيقول: أنا وأنت، وهذان لا ظاهر لهما، وسائر الأسماء تظهر مرة ويكنى عنها مرة.
والكناية متصلة ومنفصلة ومستجنّة، فالمتصلة كالتاء في «حملت وقمت» ، والمنفصلة كقولنا: إياه أردت، والمستجنة قولنا «قام زيد» فإذا كنينا عنه فقلنا:«قام» فتستر الاسم في الفعل».
ثمّ يستطرد فيقول: «وربما كنّي عن الشيء لم يجر له ذكر، في مثل قوله جلّ ثناؤه: يُؤْفَكُ عَنْهُ أي يؤفك عن الدين أو عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أهل العلم وإنّما جاز هذا لأنّه قد جرى الذكر في القرآن. وقال حاتم:
أماويّ لا يغني الثراء عن الفتى
…
إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
ويقولون: إذا أغبر أفق وهبت شمالا. أضمر الريح ولم يجر لها ذكر» (1).
فابن فارس يشير بهذا إلى قول النحاة بأنّ ضمير الغائب إذا كان عائده غير لفظ فإن عائده هو «الغائب المعلوم» . فالضمير في «هبت شمالا» يعود على الغائب المعلوم وهو الريح، لأنّه معلوم أنّ التي تهب شمالا هي الريح. ولهذا فالضمير المستجن أو المستتر في «هبت» هو كناية عن ذلك الغائب المعلوم ومثل ذلك قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. فالهاء في «أنزلناه» كناية عن الغائب المعلوم وهو «القرآن الكريم» .
…
وأبو هلال العسكري يقرن الكناية بالتعريض كأنّما يعتبرهما أمرا واحدا، ثمّ يعرفهما بقوله:«الكناية والتعريض أن يكنّى عن الشيء ويعرّض به ولا يصرّح، على حسب ما عملوا بالتورية عن الشيء» ثمّ يورد أمثلة لهما، وكذلك للتعريض الجيد والكناية المعيبة.
ومن الأمثلة التي أوردها أبو هلال قوله: ومن مليح ما جاء في هذا الباب قول أبي العيناء وقيل له: ما تقول في ابني وهب؟ قال: «وما يستوي البحران هذان عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج» سليمان أفضل. قيل: وكيف؟ قال: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. (2)
…
(1) كتاب الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها ص 260 - 263.
(2)
كتاب الصناعتين ص 268.
وأبو علي الحسن بن رشيق القيرواني «456 هـ» عقد في كتابه «العمدة» فصلا خاصا بالإشارة أشاد في مستهله بفضلها وأثرها في الكلام قائلا: «والإشارة من غرائب الشعر وملحه، وهي بلاغة عجيبة تدل على بعد المرمى وفرط المقدرة، وليس يأتي بها إلّا الشاعر المبرز والحاذق الماهر، وهي في كل نوع من الكلام لمحة دالة، واختصار وتلويح يعرف مجملا، ومعناه بعيد من ظاهر لفظه» .
ثمّ يستطرد إلى بيان أنواعها والتمثيل لها فيعد منها: الإيماء والتفخيم والتلويح والتمثيل والرمز والتعريض والكناية. وفي كلامه عن الكناية نراه متأثرا برأي المبرد السابق في أنّها تأتي على ثلاثة أوجه هي: كناية التعظيم والتفخيم ممثلة في الكنية، وكناية الرغبة عن اللفظ الخسيس، وكناية التغطية والتعمية.
وعن هذا الوجه الأخير من الكناية يقول: إنّه هو التورية في أشعار العرب حيث يكنون عن الشجر بالناس كقول المسيّب بن علس:
دعا شجر الأرض داعيهمو
…
لينصره السّدر والأثاب
فكنى بالشجر عن الناس، وهم يقولون في الكلام المنثور: جاء فلان بالشوك والشجر، إذا جاء بجيش عظيم.
كذلك يكنون عن المرأة بالشجرة والنخلة والسرحة والبيضة والناقة والمهرة والشاة والنعجة أو ما شاكل ذلك.
ثمّ أورد على ذلك بعض أمثلة منها قول حميد بن ثور الهلالي عند ما حظر عمر على الشعراء ذكر المرأة:
تجرّم أهلوها لأن كنت مشعرا
…
جنونا بها يا طول هذا التجرّم
ومالي من ذنب إليهم علمته
…
سوى أنني قد قلت يا سرحة اسلمي
بلى فاسلمي ثمّ اسلمي ثمت اسلمي
…
ثلاث تحيات وإن لم تكلّمي
ومنها قول امرئ القيس:
وبيضة خدر لا يرام خباؤها
…
تمتعت من لهو بها غير معجّل
كناية بالبيضة عن المرأة.
وقول عنترة:
يا شاة ما قنص لمن حلّت له
…
حرمت عليّ وليتها لم تحرم
فبعثت جاريتي فقلت لها اذهبي
…
فتجسّسي أخبارها لي واعلمي
قالت رأيت من الأعادي غرّة
…
والشاة ممكنة لمن هو مرتم
فالشاة هنا كناية عن امرأة أبيه وكان يهواها ويتمنى لو لم يتزوجها أبوه حتى كان يحل له تزوجها.
ثمّ يقول وعلى هذا المتعارف في الكناية جاء قول الله عز وجل في إخباره عن خصم داود عليه السلام: إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ، كناية بالنعجة عن المرأة (1).
…
وممن عرضوا للكناية غير هؤلاء ونظروا إليها من زوايا وجوانب مختلفة عبد القاهر الجرجاني وأبو يعقوب يوسف السكاكي وضياء الدين ابن الأثير والخطيب القزويني ويحيى بن حمزة صاحب كتاب الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز.
وقد سبق أن أتينا في المبحث الأول من هذا الكتاب والخاص «بنشأة
(1) كتاب العمدة ج 1 ص 271 - 282.