الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تلك نبذة من مقدمة كتاب «العمدة في محاسن الشعر وآدابه» توضح غرض ابن رشيق من وراء تصنيفه، والمنهاج الذي رسمه لنفسه في إخراجه، مع بيان مقدار ما له وما لغيره فيه.
وما دمنا نتحدث عن نشأة علم البيان والجهود التي أسهمت في تطويره من ملاحظات بيانية متناثرة هنا وهناك إلى علم بلاغي قائم بذاته، فإنّ موضع اهتمامنا من كتاب العمدة معلّق بالأبواب التي عرض فيها بشيء من التفصيل لفنون علم البيان، من مجاز واستعارة وتشبيه وكناية.
حقا إنّه جمع تحت كل باب من هذه الأبواب أقوال السابقين فيه وعرضها عرضا حسنا ييسرها للطالبين، وليس هذا الجهد في حد ذاته بقليل. ولكن من الحق أيضا أنّ له إضافات جديدة في هذه الأبواب تدل على غزارة علمه، ودقّة فهمه، وسلامة ذوقه الأدبي.
كتاب الصناعتين:
ومن كتب الدراسات النقدية التي قامت على أسس بلاغية، وإن كانت أكثر تخصصا من سابقتها كتاب «الصناعتين- الكتابة والشعر» لأبي هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري المتوفى سنة 395 للهجرة.
فأبو هلال في كتاب الصناعتين يدرس البلاغة دراسة دقيقة هي مزيج من علمه الخاص بها وعلم من سبقوه إليها، مع الإكثار من الأمثلة والشواهد.
وهو يعني بالصناعتين الكتابة والشعر، فالكتاب ينبئ من عنوانه عن موضوعه الذي يبحث بحثا مستفيضا في أصول هاتين الصناعتين وأدواتهما التي تتضافر على صنع الكاتب والشاعر.
والكتاب يشتمل على عشرة أبواب: باب في الإبانة عن موضوع
البلاغة وحدودها، وباب في تمييز جيد الكلام من رديئه، وباب في معرفة صنعة الكلام وترتيب الألفاظ، وباب في البيان عن حسن النظم وجودة الرصف، وباب في ذكر الإيجاز والإطناب، وباب في حسن الأخذ وحل المنظوم،
وباب في التشبيه، وباب في ذكر الاسجاع والازدواج، وباب في شرح البديع، وباب في ذكر مبادئ الكلام ومقاطعه. ويندرج تحت كل باب من هذه الأبواب فصول تتراوح من فصل إلى خمسة وثلاثين فصلا.
وفي الباب الأول الذي عقده أبو هلال للإبانة عن موضوع البلاغة وحدودها ينوّه بشأن البلاغة، ويقرر أنّ العلم بها ضروري لمعرفة إعجاز القرآن الكريم، ولتربية الذوق الأدبي، والتمييز بين جيّد الكلام ورديئه.
وأبو هلال لا يخفي تأثره بالجاحظ وإعجابه بكتابه البيان والتبيين، واقتباسه الكثير منه، ولكنه مع ذلك يشير إلى ما يأخذه على منهجه التأليفي بقوله:«إنّ الإبانة عن حدود البلاغة، وأقسام البيان والفصاحة مبثوثة في تضاعيفه، ومنتشرة في أثنائه، فهي ضالة بين الأمثلة لا توجد إلّا بالتأمل الطويل والتصفح الكثير، فرأيت أن أعمل كتابي هذا مشتملا على جميع ما يحتاج إليه في صنعة الكلام نثره ونظمه» (1).
فهذا المأخذ على منهاج الجاحظ التأليفي ورغبته في تلافيه وعلاجه كان أحد الأسباب التي دفعت أبا هلال على تأليف كتاب الصناعتين، أمّا الأسباب الأخرى فهي معرفته بقيمة علم صناعة الكلام، وشعوره بشدّة الحاجة إليه، وتخبط العلماء وتخليطهم فيما راموا منه، ثمّ قلّة الكتب المصنفة فيه، والتي كان أكبرها وأشهرها كتاب البيان والتبيين لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ.
(1) كتاب الصناعتين ص: 5.
وقد صرّح بأنّه لم يؤلف كتابه على طريقة المتكلمين، وإنّما ألّفه على طريقة صنّاع الكلام من الشعراء والكتاب.
والمتصفح لكتاب الصناعتين يرى أنّ المؤلف قد ألّم فيه تقريبا بكل مباحث علوم البلاغة الثلاثة: المعاني والبيان والبديع، ولكن مباحث كل علم لا تأتي في موضع معين من الكتاب، وإنّما تأتي في ثناياه وتضاعيفه على حسب مقتضيات المنهاج الذي رسمه أبو هلال لنفسه في تأليفه.
ولما كنا نعرض هنا بإيجاز لتاريخ البيان وتطوره حتى صار علما قائما بذاته، فإنّ ما يعنينا من كتاب الصناعتين هو معرفة ما ورد فيه من موضوعات علم البيان وطريقة المؤلف في معالجتها، وهذه الموضوعات هي التشبيه، والاستعارة، والكناية.
وقد عقد أبو هلال للتشبيه في كتابه بابا (1) من فصلين، تحدّث في أولهما عن حد التشبيه، ووجوه التشبيه المختلفة، وأدوات التشبيه، والطريقة المسلوكة في التشبيه، وإخراج ما لا يعرف بالبديهة إلى ما يعرف بها، وإخراج ما لا قوّة له إلى ما له قوة، وتشبيه ما يرى بالعيان بما ينال بالفكر، وغريب التشبيه وبديعه ومليحه،
وشرف التشبيه وموقعه من البلاغة.
وفي الفصل الثاني تحدّث عن قبح التشبيه وعيوبه، مثل خطأ التشبيه، والتشبيه الكريه، والتشبيه الرديء اللفظ، وبعيد التشبيه، والتشبيه المتنافر.
أمّا الاستعارة فعقد لها فصلا (2) تكلّم فيه عن: الاستعارة والمجاز،
(1) كتاب الصناعتين: ص: 238 - 259.
(2)
كتاب الصناعتين: ص 268 - 288.
والغرض من الاستعارة، والاستعارة المصيبة ووقعها، وفضل الاستعارة على الحقيقة، ولا بدّ لكل استعارة ومجاز من حقيقة، ولا بدّ من معنى مشترك بين المستعار والمستعار منه، والاستعارة أبلغ من الحقيقة، والاستعارة في كلام العرب والنبي والصحابة والأعراب، والاستعارة في أشعار المتقدمين، وفي كلام المحدثين.
وقد عدّ أبو هلال الكناية ضمن فنون البديع، وعقد لها فصلا عرّفها فيه وذكر نماذج من الجيد والمعيب منها، مع أنّها من مباحث علم البيان، وليس المهم إلى أي علوم البلاغة قد نسبها، وإنّما المهم أنّه أتى على ذكرها في كتابه.
وطريقته في معالجة هذه الموضوعات البيانية ليست طريقة عالم البلاغة المعنيّ بدقائقها وتفاصيلها، وإنما هي طريقة من يمزج البلاغة بالأدب والنقد، وإذا القارئ أمام مزيج ترتاح إليه نفسه، ويستدرجه إلى الاسترسال في تحصيله طلبا للمزيد من المتعة العقلية والأدبية.
…
وبعد فلعلنا أدركنا من ثنايا عرضنا التاريخي للبيان منذ نشأة البحث فيه حتى الآن كيف تطور على مرّ العصور، وكيف تضافرت جهود الباحثين فيه تدريجيا على كشف أصوله من تشبيه وحقيقة ومجاز واستعارة وكناية، وكيف أخذت معالم هذه الأصول تتضح وتتلاحق واحدة بعد الأخرى.
وقد ظلّ الأمر كذلك حتى ظهر عبد القاهر الجرجاني في القرن الخامس الهجري فاقتطف ثمار هذه الجهود واتّخذ منها مادة استعان بها في وضع نظرية علم البيان.