الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أشعارهم» ومعنى هذا أن أقصى ما وصل إليه الشعراء هو تشبيه خمسة أشياء بخمسة أشياء في بيت واحد، وأن هذا النوع نادر في الشعر العربي.
وهكذا نرى أن بعض الشعراء قد أكثروا من التشبيهات في البيت الواحد ولكن الولع بهذا اللون من التشبيه ومحاولة إظهار البراعة والافتنان فيه من شأنه أن يؤدي إلى التكلّف الذي يذهب برونق التشبيه ونضارته وتأثيره كما يبدو على بعض هذه التشبيهات.
محاسن التشبيه
من بلاغة التشبيه أن يشبّه الشيء بما هو أكبر منه وأعظم، لأن التشبيه لا يعمد إليه إلا لضرب من المبالغة، فإما أن
يكون مدحا أو ذمّا أو بيانا وإيضاحا، ولا يخرج عن هذه المعاني الثلاثة.
وإذا كان الأمر كذلك فلا بدّ فيه من تقدير لفظة «أفعل» ، فإن لم تقدّر فيه لفظة «أفعل» فليس بتشبيه بليغ. ألا ترى أنّا نقول في التشبيه المضمر الأداة «زيد أسد» فقد شبّهنا زيدا بأسد الذي هو أشجع منه، فإن لم يكن المشبّه به في هذا المقام أشجع من زيد الذي هو المشبّه كان التشبيه ناقصا إذ لا مبالغة.
ومن التشبيه المظهر للأداة قوله تعالى: وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ، وهذا تشبيه كبير بما هو أكبر لأن السفن البحرية وإن كانت كبيرة فإن الجبال أكبر منها.
وكذلك إذا شبّه شيء حسن بشيء حسن، فإنه إذا لم يشبه بما هو أحسن منه فليس بوارد على طريق البلاغة، وإن شبّه قبيح بقبيح فينبغي أن يكون المشبّه به أقبح.
وإن قصد البيان والإيضاح فينبغي أن يكون المشبه به أبين وأوضح.
ومن ذلك يرى أن تقدير لفظة «أفعل» لا بدّ منه فيما يقصد به بلاغة التشبيه وإلا كان التشبيه ناقصا.
وقد عرفنا مما سبق أن تشبيه الشيئين أحدهما بالآخر لا يخلو من أن يكون تشبيه معنى بمعنى، أو تشبيه صورة بصورة، أو تشبيه معنى بصورة، أو تشبيه صورة بمعنى. وأبلغ هذه الأنواع تشبيه معنى بصورة، كقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ ووجه بلاغة هذا النوع تأتي من تمثيله للمعاني الموهومة بالصور المشاهدة.
ومن محاسن التشبيه المضمر الأداة قوله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً فشبّه الليل باللباس، لأن الليل من شأنه أن يستر الناس بعضهم عن بعض لمن أراد هربا من عدو أو ثباتا لعدو أو إخفاء ما لا يجب الاطّلاع عليه من أمره. وهذا من التشبيهات التي لم يأت بها إلا القرآن الكريم، فإن تشبيه الليل بلباس مما اختصّ به القرآن دون غيره من الكلام المنثور والمنظوم.
ومن هذا الأسلوب قوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فشبّه تبرّؤ الليل من النهار بانسلاخ الجلد عن الجسم المسلوخ، وذلك أنه لما كانت هوادي الصبح وأوائله عند طلوعه ملتحمة بأعجاز الليل أجرى عليهما اسم السلخ، وكان ذلك أولى من أن يقال:«يخرج» لأن السلخ أدلّ على الالتحام من الإخراج.
ومن محاسن التشبيه المضمر في الأمثال «الليل جنة الهارب» ، ومنه في الشعر قول المتنبي:
وإذا اهتزّ للندى كان بحرا
…
وإذا اهتز للوغى كان نصلا
وإذا الأرض أظلمت كان شمسا
…
وإذا الأرض أمحلت كان وبلا
فهنا أربعة تشبيهات، كلّ واحد منها تشبيه صورة بصورة وحسن في معناه.
ومن تشبيه المركب بالمركب مع إضمار الأداة، ما رواه معاذ بن جبل عن الرسول عند ما قال له:«أمسك عليك هذا» وأشار إلى لسانه، فقال معاذ:«أو نحن مؤاخذون بما نتكلم» ؟ فقال له الرسول: «ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكبّ الناس على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم؟» . فقوله: حصائد ألسنتهم، من تشبيه المركب بالمركب، فإنه شبّه الألسنة وما تمضي فيه من الأحاديث التي يؤاخذ بها بالمناجل التي تحصد النبات من الأرض. وهذا تشبيه بليغ عجيب لم يسمع إلا من النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنه قول أبي تمام:
معشر أصبحوا حصون المعالي
…
ودروع الأحساب والأعراض
فقوله «حصون المعالي» من التشبيه المركب، لأنه شبّه المعشر الممدوح في منعهم المعالي وحمايتها من أن ينالها أحد سواهم بالحصون في منعها من بها وحمايته.
وكذلك الشأن في تشبيههم بدروع الأحساب والأعراض.
ومن تشبيه المركب بالمركب مع إظهار الأداة قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة (1) طعمها طيب وريحها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب ولا طعم له،
(1) الأترجة بضم الهمزة وسكون التاء وضم الراء وتشديد الجيم: ثمرة ذهبية اللون طيبة الرائحة والطعم.
ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة لا ريح لها وطعمها مرّ».
فالرسول قد شبّه المؤمن القارئ وهو متّصف بصفتين هما الإيمان والقراءة بالأترجة وهي ذات وصفين هما الطعم والريح، وشبّه المؤمن غير القارئ، وهو متّصف بصفتين هما الإيمان وعدم القراءة بالتمرة، وهي ذات وصفين هما الطعم وعدم الريح، ووصف المنافق القارئ، وهو متّصف بصفتين هما النفاق والقراءة بالريحانة وهي ذات وصفين هما الريح وعدم الطعم، ووصف المنافق غير القارئ، وهو متّصف بصفتين هما النفاق وعدم القراءة بالحنظلة، وهي ذات وصفين هما عدم الريح ومرارة الطعم.
ومما ورد من هذا النوع شعرا قول البحتري:
خلق منهمو تردّد فيهم
…
وليته عصابة عن عصابة
كالحسام الجراز يبقى على الده
…
ر، ويفنى في كل حين قرابه (1)
وقول ابن الرومي:
أدرك ثقاتك أنهم وقعوا
…
في نرجس معه ابنة العنب
فهمو بحال لو بصرت بها
…
سبّحت من عجب ومن عجب
ريحانهم ذهب على درر
…
وشرابهم درّ على ذهب (2)
ويقارن ابن الأثير بين هذا التشبيه وسابقه مقررا أن تشبيه البحتري أصنع، وذلك أن تشبيه ابن الرومي صدر عن صورة مشاهدة، على حين
(1) الحسام الجراز: السيف الماضي النافذ المستأصل، وقراب السيف: غمده.
(2)
أدرك ثقاتك: ألحق بمن تثق بهم فهم بين ريحان وراح، والعجب بضم فسكون: الزهو، والعجب بفتح العين والجيم: إنكار الشيء لأنه خلاف المألوف.
استنبط البحتري تشبيهه استنباطا من خاطره.
ثم يوضّح ابن الأثير رأيه بقوله: «وإذا شئت أن تفرّق بين صناعة التشبيه فانظر إلى ما أشرت إليه ههنا، فإن كان أحد التشبيهين عن صورة مشاهدة والآخر عن صورة غير مشاهدة، فاعلم أن الذي هو عن صورة غير مشاهدة أصنع. ولعمري أن التشبيهين كليهما لا بدّ فيهما من صورة تحكى، لكن أحدهما شوهدت الصورة فيه فحكيت والآخر استنبطت له صورة لم تشاهد في تلك الحال وإنما الفكر استنبطها.
ألا ترى أن ابن الرومي نظر إلى النرجس وإلى الخمر فشبّه، وأما البحتري فإنه مدح قوما بأن خلق السماح باق فيهم ينتقل عن الأول إلى الآخر، ثم استنبط لذلك تشبيها فأدّاه فكره إلى السيف وقرابه الذي يفنى في كل حين وهو باق لا يفنى بفنائه. ومن أجل ذلك كان البحتري أصنع في تشبيهه» (1).
والأصل في حسن التشبيه أن يشبه الغائب الخفي غير المعتاد بالظاهر المعتاد، وهذا يؤدي إلى إيضاح المعنى وبيان المراد، وذلك كقول الرسول:
«كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» ففي هذا الحديث إرشاد إلى خفة الحال وعدم الارتباط والتعلّق الشديد
بالدنيا؛ فإن الغريب لا ارتباط له في بلاد الغربة، وابن السبيل لا وجود له في مكان إلا بمقدار العبور وقطع المسافة. فهذا المعنى أظهره التشبيه نهاية الظهور.
ويؤكد أبو هلال العسكري هذا الأصل من أصول التشبيه الحسن بقوله: «والتشبيه يزيد المعنى وضوحا ويكسبه تأكيدا، ولهذا أطبق جميع المتكلمين من العرب والعجم عليه، ولم يستغن أحد منهم عنه. وقد جاء
(1) كتاب المثل السائر ص 159 - 160.
عن القدماء وأهل الجاهلية من كل جيل ما يستدل به على شرفه وفضله وموقعه من البلاغة بكل لسان. فمن ذلك ما قاله صاحب كليلة ودمنة:
الدنيا كالماء الملح كلما ازددت منه شربا ازددت عطشا. وقال: لا يخفى فضل ذو العلم وإن أخفاه كالمسك يخبا ويستر، ثم لا يمنع ذلك رائحته أن تفوح. وقال: الأدب يذهب عن العاقل السكر ويزيد الأحمق سكرا، كالنهار يزيد البصير بصرا ويزيد الخفاش سوء بصر» (1).
ومن مقاصد التشبيه إفادة المبالغة، ولهذا قلّما خلا تشبيه مصيب عن هذا القصد. ولكن ينبغي ألّا يؤدي الإغراق في المبالغة إلى البعد بين المشبه والمشبه به أو إلى عدم الملاءمة بينهما، وإلّا ارتدّ التشبيه قبيحا.
ويعبّر عبد القاهر الجرجاني عن مدى أثر التشبيه في التعبير عن المعاني المختلفة بقوله (2): «فإن كان- التشبيه- مدحا كان أبهى وأفخم وأنبل في النفوس وأعظم، وأهزّ للعطف وأسرع للإلف، وأجلب للفرح وأغلب على الممتدح
…
، وأسير على الألسن وأذكر، وأولى بأن تعلقه القلوب وأجدر.
وإن كان ذمّا كان مسه أوجع وميسمه (3) ألذع، ووقعه أشدّ وحدّه أحدّ. وإن كان حجاجا كان برهانه أنور، وسلطانه أقهر، وبيانه أبهر. وإن كان افتخارا كان شأوه (4) أبعد، وشرفه أجدّ ولسانه ألدّ. وإن كان اعتذارا
(1) كتاب الصناعتين ص 243 - 244.
(2)
أسرار البلاغة ص 93 - 96.
(3)
الميسم بكسر الميم: الآلة التي يكوى بها ويعلم.
(4)
الشأو: الأمد والغاية، وشرفه أجد: أعظم، والألد: الشديد الخصومة.
كان إلى القبول أقرب، وللقلوب أخلب، وللسخائم (1) أسلّ، ولغرب (2) الغضب أفلّ. وإن كان وعظا كان أشفى للصدر، وأدعى للفكر، وأبلغ في التنبيه والزجر
…
وهكذا الحكم إذا استقصيت فنون القول وضروبه
…
».
ويرجع عبد القاهر تأثير التشبيه في النفس إلى علل وأسباب. فأول ذلك وأظهره أن أنس النفوس موقوف على أن تخرجها من خفيّ إلى جليّ، وتأتيها بصريح بعد مكني، وأن تردّها في الشيء تعلمها إياه إلى شيء آخر هي بشأنه أعلم، وثقتها به في المعرفة أحكم، نحو أن تنقلها عن العقل إلى الإحساس، وعمّا يعلم بالفكر إلى ما يعلم بالاضطرار والطبع، لأن العلم المستفاد من طرق الحواس
…
يفضّل المستفاد من جهة النظر والفكر
…
، كما قالوا:«ليس الخبر كالمعاينة ولا الظن كاليقين» ، فالانتقال في الشيء عن الصفة والخبر إلى العيان ورؤية البصر ليس له سبب سوى زوال الشك والريب.
فالمشاهدة لها أثرها في تحريك النفس وتمكين المعنى من القلب، ولولا أن الأمر كذلك لما كان هناك معنى لنحو قول أبي تمام:
وطول مقام المرء في الحي مخلق
…
لدياجتيه فاغترب تتجدد
فإني رأيت الشمس زيدت محبة
…
إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد
وذلك أن هذا التجدّد لا معنى له إن كانت الرؤية لا تفيد أنسا من
(1) السخائم: الضغائن، وسل السخائم: نزعها واستخراجها.
(2)
غرب السيف: حدّه، وفل السيف: ثلمه، والمعنى أن الاعتذار يضعف من حدّة الغضب الذي يكون له وقع السيف على النفس.
حيث هي رؤية، وكان الإنس لنفيها الشك والرّيب، أو لوقوع العلم بأمر زائد لم يعلم من قبل.
ولو أن رجلا أراد أن يضرب لك مثلا في تنافي الشيئين فقال: هذا وذاك هل يجتمعان؟ وأشار إلى ماء ونار حاضرين، وجدت لتمثيله من التأثير ما لا تجده إذا أخبرك بالقول فقال: هل يجتمع الماء والنار؟
وسبب آخر من أسباب بلاغة التشبيه وتأثيره في النفس عند عبد القاهر هو التماس شبه للشيء في غير جنسه وشكله، لأن التشبيه لا يكون له موقع من السامعين ولا يهزّ ولا يحرّك حتى يكون الشبه مقررا بين شيئين مختلفين في الجنس، كتشبيه العين بالنرجس وتشبيه الثريا بما شبّهت به من عنقود الكرم المنوّر.
«وذلك أن موضع الاستحسان، ومكان الاستظراف، والمثير للدفين من الارتياح، والمتألف للنافر من المسرّة، والمؤلف لأطراف البهجة، أنك ترى بها- التشبيهات- الشيئين مثلين متباينين، ومؤتلفين مختلفين، وترى الصورة الواحدة في السماء والأرض، وفي خلقة الإنسان وخلال الروض
…
».
«ومبنى الطباع وموضوع الجبلة على أن الشيء إذا ظهر من مكان لم يعهد ظهوره منه، وخرج من موضع ليس بمعدن له كانت صبابة النفوس به أكثر، وكان الشغف منها أكثر وأجدر. فسواء في إثارة التعجب، وإخراجك إلى روعة المستغرب وجودك الشيء في مكان ليس من أمكنته،
ووجود شيء لم يوجد ولم يعرف من أصله في ذاته وصفته
…
».
فالتشبيه عنده «يعمل عمل السحر في تأليف المتباينين حتى يختصر بعد ما بن المشرق والمغرب، ويجمع ما بين المشئم والمعرق (1). وهو يريك للمعاني الممثلة بالأوهام شبها في الأشخاص الماثلة والأشباح القائمة، وينطق لك الأخرى، ويعطيك البيان من الأعجم، ويريك الحياة في الجماد ويريك التئام عين الأضداد، فيأتيك بالحياة والموت مجموعين، والماء والنار مجتمعين. كما يقال في الممدوح هو حياة لأوليائه، موت لأعدائه، ويجعل الشيء من جهة ماء ومن أخرى نار، كقول الشاعر:
أنا نار في مرتقى نظر الحا
…
سد ماء جار مع الإخوان
وكما يجعل الشيء حلوا مرّا، وصابا عسلا، وقبيحا حسنا، وأسود أبيض في حال كقول الشاعر:
له منظر في العين أبيض ناصع
…
ولكنه في القلب أسود أسفع (2)
ويجعل الشيء قريبا بعيدا معا، كقول البحتري:
دان على أيدي العفاة وشاسع
…
عن كل ندّ في الندى وضريب
كالبدر أفرط في العلو وضوؤه
…
للعصبة السارين جدّ قريب
ويجعله حاضرا غائبا، كقول الشاعر:
(1) المشئم: من أتى من الشام، والمعرق: من أتى من العراق.
(2)
الأسفع: الأسود المشرب بحمرة، والاسم السفعة بضم السين.