الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"
ومعظم النار من مستصغر الشرر
":
أخذت الأمور تتطور سريعاً حتى استنفدت " دعوة قاسم أمين " - في وقت وجيز - كل أغراضها وسارت الحال على سنة التدرج المعروفة واندفع الناس إلى ما وراء السفور في سرعة غير منتظرة فقد بدأت الفتنة العظمى بان خلعت المرأة النقاب وخلعت معه ما هو أغلى منه وأثمن ألا وهو ثوب الحياء الذي طالما صان وجهها أن يكون معروضاً ومبذولاً لكل من شاء أن يراه من أجنبي أو فاسق أو كافر ثم استبدلت المرأة المعطف الأسود بالحبرة (290) وما هي إلا فترة من الزمن حتى امتدت يد التحرر إلى الخمار الذي كان لا يزال يستر شعر الرأس وبدا - لأول مرة - شعر المسلمة مكشوفاً لا شيء عليه يستره عن أعين الناس من أجانب وأقارب وبذلك شل جسم الحياء في المرأة ولم يعد قادراً على منعها من أن تحدث وتجالس أو تصافح وتضاحك من شاءت من الرجال عامة وأصدقاء وأقارب الزوج خاصة وإن بعدوا أو سفلوا.
وتأتي بعد ذلك الخطوة الأكثر جرأة إذ تعمد المرأة إلى ملاءتها أو عباءتها أو معطفها فتلفها كالثوب الخرق وترمي بها بعيداً عن ساحة الحياة وتخرج المرأة المسلمة لأول مرة في تاريخ إسلامها في درع سابغ مزين بالألوان المزخرفة تحته غلالة لطيفة وما فوقه شيء
…
ثم إذا بالمقص يتحيف هذه الثياب في الذيول والأكمام وفي الجيوب (291) ولم يزل يجور عليها فضيقها على صاحبتها حتى أصبحت كبعض جلدها ثم أنها تجاوزت ذلك كله إلى الظهور على شواطئ البحر في المصايف بما لا يكاد يستر شيئاً ولم تعد
(290) الحبرة: بفتحتين - إزار كانت المرأة تلتحف به إذا برزت للطريق وقد كان يتخذ من قماش أسود ويتكون
من قطعتين تدور إحداهما حول الخصر وتنسدل إلى أن تغطي الساقين وتنزل الأخرى من فوق الرأس فتغطي
الصدر والكتفين وتنتهي إلى ما دون الخصر وقد اختفى هذا الزي الآن.
(291)
الجيب: فتحة إدخال الرأس.
عصمة النساء في أيدي أزواجهن ولكنها أصبحت في أيدي صانعي الأزياء في باريس وغيرها من اليهود ومشيعي الفجور.
وقطعت المرأة مراحل التعليم المختلفة واقتحمت الجامعة مخالطة للرجال في الطرقات والمواصلات والمدرجات مزاحمة فيما يلائمها وفيما لا يلائمها من ثقافات وصناعات وشاركت في وظائف الحكومة ثم لم تقف مطالبها عند حد في الجري وراء ما سماه أنصارها " حقوق المرأة " أو " مساواتها بالرجل " وكأنما كان عبثاً خلق الله سبحانه وتعالى الذكر والأنثى وأقام كل منهما فيما أراد بحكمته جل وعلا، وامتلأت المصانع والمتاجر بالعاملات والبائعات وحطم النساء الحواجز التي كانت تقوم بينهن وبين الرجال في المسارح وفي الترام وفي كل مكان فاختفت المقاعد التي جرت العادة بتخصيصها للسيدات بعد أن أصبحن لا يستحيين من مشاركة الرجال.
تتابعت هذه التطورات في سرعة مذهلة ولم تدع فرصة للمعارضة وأعان على اندفاعها جو الثورة التي تلت الحرب وما كان يوحي به من جرأة ومن تمرد على كل قديم وقد ظهرت طلائع ذلك في مظاهرة النساء المشهورة في مارس سنة 1919 التي طافت بشوراع القاهرة هاتفة بالحرية في طريقها إلى دار المعتمد البريطاني لتقدم إليه احتجاجا مكتوباً على تعسف سلطات الاحتلال وقد كان عدد المتظاهرات يربو على الثلاثمائة
وعلى رأسهن " صفية زغلول " و " هدى شعراوي "(292) وهذه المظاهرة هي التي قال فيها " حافظ إبراهيم " يصف تعرض الجيش البريطاني لها متهكماً (293) :
(292) ومن النساء اللاتي اشتركن في تلك المظاهرة كزعيمات (حرم حنا مسيحة، حرم د. نجيب اسكندر، حرم
اسكندر مسيحة، الآنسة جولييت صليب، رفائيل بغدادي، حرم ويصا واصف، الآنسة ماري ميرهم، حرم
صليب منقريوس، حرم ميخائيل لبيب) ، وحرم قاسم أمين.
(293)
ديوان حافظ إبراهيم (2 / 87) .
خرج الغواني يحتججن ورحت أرقب جمعهنه
فإذا بهن تخذن من سود الثياب شعارهنه
وظللن مثل كواكب يسطعن في وسط الدجنه
وأخذن يجتزن الطريق ودار سعد قصدهنه
يمشين في كنف الوقار وقد أبن شعورهنه
وإذا بجيش مقبل والخيل مطلقة الأعنه
وإذا الجنود سيوفها قد صوبت لنحورهنه
وإذا المدافع والبنادق والصوارم والأسنه
والخيل والفرسان قد ضربت نطاقاً حولهنه
والورد والريحان في ذاك النهار سلاحهنه
فتطاحن الجيشان ساعات تشيب لها الأجنه
فتضعضع النسوان والنسوان ليس لهن مُنَّه (*)
ثم أنهزمن مشتتات الشمل نحو قصورهنه
فليهنأ الجيش الفخور بنصره وبكسرهنه
فكأنما الأ لمان قد لبسوا البراقع بينهنه
وأتوا (بهندنبرج)(294) مختفياً بمصر يقودهنه
فلذاك خافوا بأسهن وأشفقوا من كيدهنه
وتجرأت المرأة منذ ذلك الوقت على المشاركة في القضايا الوطنية (295)
وفي مختلف
(*) منة: أي قوة.
(294)
هو رئيس الجمهورية الألمانية وقائد جيشها، انظر الموسوعة العربية الميسرة ص (1905) .
(295)
من ذلك ما حدث يوم الجمعة 12 ديسمبر من نفس العام حيث (سبقت حفنة من سيدات مصر جمع الهيئات
الوطنية إلى الاحتجاج - ضد لجنة ملنر - على شكل مؤتمر وطني في دار الكنيسة المرقسية بالقاهرة) اهـ
عن (المرأة المصرية) لدرية شفيق ص (126) .
الميادين الاجتماعية فتألفت لجنة مركزية للسيدات الوفديات شاركت مشاركة فعالة في حركة المقاطعة الاقتصادية سنة (1922) وتزعمت " صفية زغلول " حرم
زعيم الثورة الأول وكريمة مصطفى فهمي باشا هذه الحركة الأولى التي طفرت بالمرأة إلى وضع لم يحلم به " قاسم أمين " أن تبلغه في مثل هذه المدة الوجيزة وبهذه السهولة
وغفلت عين المعارضين من المحافظين عن هذه الخطوات الجريئة التي أضفى عليها جو الثورة لون من النبل حفظها من أن تهاجم أو تمس.
ثم تنبه المعارضون فإذا المراة ماضية قدماً في استئناف الطريق التي وضعت قدمها على أوله باشتراكها في ثورة (1919) فأخذت تؤسس الجماعات وتقيم الحفلات وتعقد الندوات والمحاضرات وتزعمت هذه الحركة النسوية " هدى شعراوي " وتجرأت هذه المتزعمة على ما لم تتجرأ عليه امرأة مسلمة من قبل فسافرت إلى باريس وإلى أمريكا لدراسة شئون المرأة وأخذت تلقي بالتصريحات والأحاديث لمندوبي الصحف وجزع المحافظون لما صحب هذه الحركة من ميل إلى التبرج ومن نزوع إلى التحرر والانطلاق وأنكروا ما رأوا من تغير حال المراة ومن جرأتها على التقاليد وتمردها على
سلطة الأب والزوج وراحوا يتابعون في ذهول تطور الزي وتقلص الثوب فوق جسدها في سرعة تجاوزت كل ما يتخيلون من حدود.
يقول عبد المطلب ناعياً على النساء تقصير الثياب والتبرج (296) :
ما في بنات النيل من أرب لذي غرض نبيل
أصبحن عاباً في الزمان وسوأة في شر جيل
ما هذه الحبرات تهفو في الخمائل والحقول
(296) {ديوان عبد المطلب (ص 184 - 188) وليت شعري ماذا كان عساه قائلاً لو رأى أزياء المرأة اليوم فقد
يبدو أن أشد أنصار الحشمة تطرفاً لا يكاد يطمع في أن يعيد المرأة إلى مثل هذا الزي الذي يشكو منه الشاعر}
من تعليق الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله (الاتجاهات الوطنية 2/240) .
نكر العفاف ذيولها ومن الخنى قصر الذيول
إن ينتسبن إلى الحجاب فإنه نسب الدخيل
يختلن أبناء الهوى بالدل والنظر الختول
من كل خائنة الحليل تهيم في طلب الخليل
ما لأبنة الخدر المصون وربة المجد الأثيل
أودى شفيف نقابها بكرامة الأم البتول (297)
وعلى رنين حجولها أسفاً على الذيل الطويل
فإذا مشت النقاب محاسن الوجه الجميل
ولقد ينم عبيرها فتحسه من نحو ميل
ترتاد خائنة العيون بلحظ فاتنة قتول
يا هل درى (ذاك) الغيور بما جرى!؟ ويح الجهول (298)
أهي التي فرض الحجاب لصونها شرع الرسول؟
جعل الحجاب معاذها من ذلك الداء الوبيل
يا منزل القرآن نوراً للبصائر والعقول!
عميت بصائر أهل وادي النيل عن وضح السبيل
ذهلوا عن الأعراض لو يدرون عاقبة الذهول!
كان تيار السفور والتبرج جارفاً لم تستطع صيحات المحافظين أن تقف في وجهه بل لم تستطع أن تقلل من حدته أو تخفف من سرعته ولكن ذلك لم يكن ليثنيهم عن التنبيه والتحذير على كل حال
…
(297) الشاعر هنا لا يشكو من نزع النقاب ولكنه يشكو من رقته التي تشف عما تحته؟! .
(298)
لعله يُعَّرِض بـ " قاسم أمين ".