الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا [الْبَقَرَة: 243] أَمْرَ تَكْوِينٍ. فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ قَدْ ضَمِنَ لِرَسُولِهِ صَرْفَ الْمُشْرِكِينَ عَنْ أَنْ يَصُدُّوهُ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ وَذَلِكَ إِذْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ بِأَنْ أَمَرَهُ بِالْهِجْرَةِ وَيَسَّرَهَا لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ مَعَهُ.
وَالتَّقْيِيدُ بِالْبَعْدِيَّةِ فِي قَوْلِهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ لتعليل النَّهْي أَيَّامًا كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ، أَيْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَصُدُّوكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أَنْزَلَهَا إِلَيْكَ فَإِنَّهُ مَا أَنْزَلَهَا إِلَيْكَ إِلَّا لِلْأَخْذِ بِهَا وَدَوَامِ تِلَاوَتِهَا، فَلَوْ فُرِضَ أَنْ يَصُدُّوكَ عَنْهَا لَذَهَبَ إِنْزَالُهَا إِلَيْكَ بُطْلًا وَعَبَثًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ [الْبَقَرَة: 213] .
وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْأَمْرِ بِالدَّوَامِ عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ لَا إِلَى إِيجَادِ الدَّعْوَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ، أَيْ لَا يَصْرِفُكَ إِعْرَاضُ الْمُشْرِكِينَ عَنْ إِعَادَةِ دَعْوَتِهِمْ إِعْذَارًا لَهُمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ مُسْتَعْمَلًا فِي الْأَكْمَلِ مِنْ أَنْوَاعِهِ، أَيْ أَنَّكَ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ أَشَدُّ تَمَكُّنًا فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ مِمَّا كُنْتَ مِنْ قَبْلُ لِأَنَّ تَشْغِيبَ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِ كَانَ يُرَنِّقُ صَفَاءَ تَفَرُّغِهِ لِلدَّعْوَةِ.
وَجَمِيعُ هَذِهِ النَّوَاهِي وَالْأَوَامِرِ دَاخِلَةٌ فِي حَيِّزِ التَّفْرِيعِ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ فَلا تَكُونَنَّ
ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ.
أَمَّا قَوْلُهُ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَإِنْ حُمِلَتْ مِنَ فِيهِ عَلَى مَعْنَى التَّبْعِيضِ كَانَ النَّهْي مؤوّلا يُمَثِّلُ مَا أَوَّلُوا بِهِ النَّهْيَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ أَنَّهُ لِلتَّهْيِيجِ، أَوْ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الْمُسلمُونَ.
[88]
[سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 88]
وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَا إِلهَ إِلَاّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
هَذَا النَّهْيُ مُوَجَّهٌ إِلَى النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم فِي الظَّاهِرِ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ إِبْطَالُ الشِّرْكِ وَإِظْهَارُ ضَلَالِ أَهْلِهِ إِذْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِإِلَهِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا اتَّخَذُوا لَهُ شُرَكَاءَ وَشُفَعَاءَ، فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَأَنَّ انْفِرَادَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يَقْضِي
بِبُطْلَانِ الْإِشْرَاكِ فِي الِاعْتِقَادِ وَلَوْ أَضْعَفَ إِشْرَاكٍ، فَجُمْلَةُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ لِلنَّهْيِ الَّذِي فِي الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا.
وَجُمْلَةُ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ عِلَّةٌ ثَانِيَةٌ لِلنَّهْيِ لِأَنَّ هَلَاكَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي مِنْهَا الْأَصْنَامُ وَكُلُّ مَا عُبِدَ مَعَ اللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْهَا لِأَنَّ الْإِلَهِيَّةَ تَنَافِي الْهَلَاكَ وَهُوَ الْعَدَمُ.
وَالْوَجْهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الذَّاتِ. وَالْمَعْنَى: كُلُّ مَوْجُودٍ هَالِكٌ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى.
وَالْهَلَاكُ: الزَّوَالُ وَالِانْعِدَامُ.
وَجُمْلَةُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ تَذْيِيلٌ فَلِذَلِكَ كَانَتْ مَفْصُولَةً عَمَّا قَبْلَهَا. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ بِاللَّامِ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ، وَالْمَحْصُورُ فِيهِ هُوَ الْحُكْمُ الْأَتَمُّ، أَيِ الَّذِي لَا يَرُدُّهُ رَادٌّ.
وَالرُّجُوعُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى: آخِرِ الْكَوْنِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ، لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ الِانْصِرَافُ إِلَى مَكَانٍ قَدْ فَارَقَهُ فَاسْتُعْمِلَ فِي مَصِيرِ الْخَلْقِ وَهُوَ الْبَعْثُ بَعْدَ الْمَوْتِ شُبِّهَ بِرُجُوعِ صَاحِبِ الْمَنْزِلِ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ الِاسْتِقْرَارُ وَالْخُلُودُ فَهُوَ مُرَادٌ مِنْهُ طُولُ الْإِقَامَةِ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ بِ (إِلَى) لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ نَفَوُا الرُّجُوعَ مِنْ أَصْلِهِ وَلَمْ يَقُولُوا بِالشَّرِكَةِ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ التَّقْدِيمُ لِلتَّخْصِيصِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ تعدد هَذِه الْجُمْلَة إِثْبَاتُ أَنَّ اللَّهَ مُنْفَرِدٌ بِالْإِلَهِيَّةِ فِي ذَاتِهِ وَهُوَ مَدْلُولُ جُمْلَةِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ. وَذَلِكَ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى صِفَةِ الْقِدَمِ لِأَنَّهُ لَمَّا انْتَفَى جِنْسُ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ
غَيْرِهِ تَعَالَى تَعَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُوجِدْهُ غَيْرُهُ فَثَبَتَ لَهُ الْقِدَمُ الْأَزَلِيُّ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَاقٍ لَا يَعْتَرِيهِ الْعَدَمُ لِاسْتِحَالَةِ عَدَمِ الْقَدِيمِ، وَذَلِكَ مَدْلُولُ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ، وَأَنَّهُ تَعَالَى مُنْفَرِدٌ فِي أَفْعَالِهِ بِالتَّصَرُّفِ الْمُطْلَقِ الَّذِي لَا يَرُدُّهُ غَيْرُهُ فَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ إِثْبَاتَ الْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ. وَفِي كُلِّ هَذَا رَدٌّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ جَوَّزُوا شَرِكَتَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَأَشْرَكُوا مَعَهُ آلِهَتَهُمْ فِي التَّصَرُّفِ بِالشَّفَاعَةِ وَالْغَوْثِ.
ثُمَّ أَبْطَلَ إِنْكَارَهُمُ الْبَعْثَ بِقَوْلِهِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.