الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سُورَة الْقَصَص (28) : الْآيَات 62 إِلَى 63]
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ مَا كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63)
تَخَلُّصٌ مِنْ إِثْبَاتِ بِعْثَةِ الرُّسُلِ وَبِعْثَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إِلَى إِبْطَالِ الشُّرَكَاءِ لِلَّهِ، فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً [الْقَصَص: 61] مُفِيدَةٌ سَبَبَ كَوْنِهِمْ مِنَ الْمُحْضَرِينَ، أَيْ لِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُمْ فَإِذَا هُمْ لَا يَجِدُونَهُمْ يَوْمَ يُحْضَرُونَ لِلْعَذَابِ، فَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ مَبْدَأَ الْجُمْلَةِ قَوْلَهُ يُنادِيهِمْ فَيَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [الْقَصَص: 61] أَيْ يُحْضَرُونَ ويُنادِيهِمْ فَيَقُولُ: أَيْنَ شُرَكائِيَ إِلَخْ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ مَبْدَأَ الْجُمْلَةِ قَوْلَهُ يَوْمَ يُنادِيهِمْ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ عَطْفَ مُفْرَدَاتٍ فَيَكُونَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ عَطْفًا عَلَى يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [الْقَصَص: 61] فَيَكُونَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ عَيْنَ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَأْتِيَ بَدَلًا مِنْ يَوْمَ الْقِيامَةِ لَكِنَّهُ عَدَلَ عَنِ الْإِبْدَالِ إِلَى الْعَطْفِ لِاخْتِلَافِ حَالِ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِاخْتِلَافِ الْعُنْوَانِ، فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ يَوْمٍ مُغَايِرٍ زِيَادَةً فِي تَهْوِيلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ بِتَقْدِيرِ: اذْكُرْ، أَوْ بِتَقْدِيرِ فِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَعْنَى النِّدَاءِ. وَاسْتِفْهَامُ التَّوْبِيخِ مِنْ حُصُول أَمر فضيع، تَقْدِيرُهُ: يَوْمَ يُنَادِيهِمْ يَكُونُ مَا لَا يُوصَفُ مِنَ الرُّعْبِ.
وَضَمِيرُ يُنادِيهِمْ الْمَرْفُوعُ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَضَمِيرُ الْجَمْعِ الْمَنْصُوبُ عَائِدٌ إِلَى الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا [الْقَصَص: 57] فَالْمُنَادَوْنَ جَمِيعُ الْمُشْرِكِينَ كَمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ.
وَالِاسْتِفْهَامُ بِكَلِمَةِ أَيْنَ ظَاهِرُهُ اسْتِفْهَامٌ عَنِ الْمَكَانِ الَّذِي يُوجَدُ فِيهِ الشُّرَكَاءُ وَلَكِنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنِ انْتِفَاءِ وُجُودِ الشُّرَكَاءِ الْمَزْعُومِينَ يَوْمَئِذٍ، فَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِانْتِفَاءِ.
وَمَفْعُولَا تَزْعُمُونَ مَحْذُوفَانِ دَلَّ عَلَيْهِمَا شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَيْ تَزْعُمُونَهُمْ شُرَكَائِيَ، وَهَذَا الْحَذْفُ اخْتِصَارٌ وَهُوَ جَائِزٌ فِي مَفْعُولَيْ (ظَنَّ) .
وَجُرِّدَتْ جُمْلَةُ قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ عَنْ حَرْفِ الْعَطْفِ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ فِي مَوْقِعِ الْمُحَاوَرَةِ فَهِيَ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ.
وَالَّذِينَ تَصَدَّوْا لِلْجَوَابِ هُمْ بَعْضُ الْمُنَادَيْنَ بِ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ عَلِمُوا أَنَّهُمُ الْأَحْرِيَاءُ بِالْجَوَابِ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَيِمَّةُ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مِثْلُ أَبِي جَهْلٍ وَأُمِّيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَسَدَنَةِ أَصْنَامِهِمْ كَسَادِنِ الْعُزَّى. وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهُمْ بِ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ وَلَمْ يُعَبِّرْ عَنْهُمْ بِ (قَالُوا) .
وَمَعْنَى حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَقَّ بِمَعْنَى تَحَقَّقَ وَثَبَتَ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلًا مَعْهُودًا وَهُوَ مَا عُهِدَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَوْله تَعَالَى وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي (1) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السَّجْدَة: 13] وَقَوْلِهِ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ [الزمر: 19 فَالَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ هُمُ الَّذِينَ حَلَّ الْإِبَّانُ الَّذِي يَحِقُّ عَلَيْهِمْ فِيهِ هَذَا الْقَوْلُ. وَالْمَعْنَى:
أَنَّ اللَّهَ أَلْجَأَهُمْ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُمْ أَضَلُّوا الضَّالِّينَ وَأَغْوَوْهُمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَقَّ بِمَعْنَى وَجَبَ وَتَعَيَّنَ، أَيْ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْجَوَابُ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ مُوَجَّهٌ إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُدٌّ مِنْ
إِجَابَةِ ذَلِكَ السُّؤَالِ. وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْقَوْلِ جِنْسَ الْقَوْلِ، أَيِ الْكَلَامُ الَّذِي يُقَالُ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ وَهُوَ الْجَوَابُ عَنِ الِاسْتِفْهَامِ بِقَوْلِهِ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ فَالَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ هُمْ أَيِمَّةُ الْكُفْرِ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا
…
إِلَخْ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْقَوْلُ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قالَ، أَيْ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوا، أَيِ الَّذِينَ كَانُوا أَحْرَى بِأَنْ يُجِيبُوا لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ تَبِعَةَ الْمَسْئُولِ عَنْهُ وَاقِعَةٌ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ لَمَّا وُجِّهَ التَّوْبِيخُ إِلَى جُمْلَتِهِمْ تَعَيَّنَ أَنْ يَتَصَدَّى لِلْجَوَابِ الْفَرِيقُ الَّذِينَ ثَبَّتُوا الْعَامَّةَ عَلَى الشِّرْكِ وأضلوا الدهماء.
وابتدأوا جَوَابَهُمْ بِتَوْجِيهِ النِّدَاءِ إِلَى اللَّهِ بِعُنْوَانِ أَنَّهُ رَبُّهُمْ، نِدَاءً أُرِيدَ مِنْهُ الِاسْتِعْطَافُ بِأَنَّهُ الَّذِي خَلَقَهُمُ اعْتِرَافًا مِنْهُمْ بِالْعُبُودِيَّةِ وَتَمْهِيدًا لِلتَّنَصُّلِ مِنْ أَنْ يَكُونُوا هُمُ الْمُخْتَرِعِينَ لِدِينِ الشِّرْكِ فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا تَلَقَّوْهُ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنْ سَلَفِهِمْ، وَالْإِشَارَةُ
(1) فِي المطبوعة: «حقّت كلمة رَبك لأملان
…
» . [.....]
بِ هؤُلاءِ إِلَى بَقِيَّةِ الْمُنَادَيْنَ مَعَهُمْ قَصْدًا لِأَنْ يَتَمَيَّزُوا عَمَّنْ سِوَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمَوْقِفِ وَذَلِكَ بِإِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ لِيَزْدَادُوا رُعْبًا، وَأَنْ يَكُونَ لَهُمْ مَطْمَعٌ فِي التَّخْلِيصِ. والَّذِينَ أَغْوَيْنا خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَهُوَ اعْتِرَافٌ بِأَنَّهُمْ أَغْوَوْهُمْ.
وَجُمْلَةُ أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِجُمْلَةِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا لِأَنَّ اعْتِرَافَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَغْوَوْهُمْ يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ مُتَعَجِّبٍ كَيْفَ يَعْتَرِفُونَ بِمِثْلِ هَذَا الْجُرْمِ فَأَرَادُوا بَيَانَ الْبَاعِثِ لَهُمْ عَلَى إِغْوَاءِ إِخْوَانِهِمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ بَثُّوا فِي عَامَّةِ أَتْبَاعِهِمُ الْغَوَايَةَ الْمُسْتَقِرَّةَ فِي نُفُوسِهِمْ وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ الِاعْتِرَافَ يُخَفِّفُ عَنْهُمْ مِنَ الْعَذَابِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِمْ تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ مَا كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ.
وَإِنَّمَا لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى جُمْلَةِ أَغْوَيْناهُمْ بِأَنْ يُقَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا، لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِذِكْرِ هَذَا الْإِغْوَاءِ بِتَأْكِيدِهِ اللَّفْظِيِّ، وَبِإِجْمَالِهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَتَفْصِيلِهِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، فَلَيْسَتْ إِعَادَةُ فِعْلِ أَغْوَيْنا لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ. قَالَ ابْنُ جِنِّي فِي كِتَابِ «التَّنْبِيهِ» عَلَى إِعْرَابِ الْحَمَاسَةِ عِنْدَ قَوْلِ الْأَحْوَصِ:
فَإِذَا تَزُولُ تَزُولُ عَنْ مُتَخَمِّطٍ
…
تَخْشَى بَوَادِرَهُ عَلَى الْأَقْرَانِ
إِنَّمَا جَازَ أَنْ يَقُولَ: فَإِذَا تَزُولُ تَزُولُ، لَمَّا اتَّصَلَ بِالْفِعْلِ الثَّانِي مِنْ حَرْفِ الْجَرِّ الْمُفَادِ مِنْهُ الْفَائِدَةُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا وَلَوْ قَالَ:
هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ لَمْ يُفِدِ الْقَوْلُ شَيْئًا، لِأَنَّهُ كَقَوْلِكَ: الَّذِي ضَرَبْتُهُ ضَرْبَتُهُ، وَالَّتِي أَكْرَمْتُهَا أَكْرَمْتُهَا، وَلَكِنْ لَمَّا اتَّصَلَ بِ أَغْوَيْناهُمْ الثَّانِيَةِ قَوْلُهُ كَما غَوَيْنا أَفَادَ الْكَلَامُ كَقَوْلِكَ: الَّذِي ضَرَبْتُهُ ضَرْبَتُهُ لِأَنَّهُ جَاهِلٌ. وَقَدْ كَانَ أَبُو عَلِيٍّ امْتَنَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِمَّا اخْتَرْنَاهُ غَيْرَ أَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا عِنْدِي عَلَى مَا عَرَّفْتُكَ» اه. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ كَلَامِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [7] ، وَقَوْلِهِ وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [130] ، وَقَوْلِهِ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [72] ، فَإِنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ تُطَابِقُ بَيْتَ الْأَحْوَصِ لِاشْتِمَالِهِنَّ عَلَى (إِذَا) .
وكَما غَوَيْنا صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ، أَيْ إِغْوَاءً يُوقِعُ فِي نُفُوسِهِمْ غَيًّا مِثْلَ الْغَيِّ الَّذِي فِي قُلُوبِنَا. وَوَجْهُ الشَّبَهِ فِي أَنَّهُمْ تَلَقَّوُا الْغَوَايَةَ مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَفَادَ التَّشْبِيهُ أَنَّ الْمُجِيبِينَ أَغْوَاهُمْ مُغْوُونَ قَبْلَهُمْ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ هَذَا الْجَوَابَ يَدْفَعُ التَّبِعَةَ عَنْهُمْ وَيَتَوَهَّمُونَ أَنَّ
السَّيْرَ عَلَى قَدَمِ الْغَاوِينَ يُبَرِّرُ الْغَوَايَةَ، وَهَذَا كَمَا حَكَى عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [96، 99] : قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ فِعْلِ أَغْوَيْنا الْأَوَّلِ وَهُوَ الْعَائِدُ مِنَ الصِّلَةِ إِلَى الْمَوْصُولِ لِكَثْرَةِ حَذْفِ أَمْثَالِهِ مِنْ كُلِّ عَائِدٍ صِلَةٍ هُوَ ضَمِيرُ نَصْبٍ مُتَّصِلٌ وَنَاصُبُهُ فِعْلٌ أَوْ وَصْفٌ شَبِيهٌ بِالْفِعْلِ، لِأَنَّ اسْمَ الْمَوْصُولِ مُغْنٍ عَنْ ذِكْرِهِ وَدَالٌّ عَلَيْهِ فَكَانَ حَذْفُ الْعَائِدِ اخْتِصَارًا. وَذَكَرَ مَفْعُولَ فِعْلِ أَغْوَيْناهُمْ الثَّانِي اهْتِمَامًا بِذِكْرِهِ لِعَدَمِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ.
وَجُمْلَةُ تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ اسْتِئْنَافٌ. وَالتَّبَرُّؤُ: تَفَعُّلٌ مِنَ الْبَرَاءَةِ وَهِيَ انْتِفَاءُ مَا يَصِمُ، فَالتَّبَرُّؤُ: مُعَالَجَةُ إِثْبَاتِ الْبَرَاءَةِ وَتَحْقِيقُهَا. وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى مَنْ يُحَاوِلُ إِثْبَاتَ الْبَرَاءَةِ لِأَجْلِهِ بِحَرْفِ (إِلَى) الدَّالِّ عَلَى الِانْتِهَاءِ الْمَجَازِيِّ يُقَالُ: إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ مِنْ كَذَا، أَيْ أُوَجِّهُ بَرَاءَتِي إِلَى اللَّهِ، كَمَا يَتَعَدَّى إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي يَصِمُ بِحِرَفِ (مِنِ) الِاتِّصَالِيَّةِ الَّتِي هِيَ لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ قَالَ تَعَالَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا [الْأَحْزَاب: 69] . وَقَدْ تَدْخُلُ (مِنْ) عَلَى اسْمِ ذَاتٍ بِاعْتِبَارِ مُضَافٍ مُقَدَّرٍ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ [الْأَنْفَال: 48] أَيْ مِنْ كُفْرِكُمْ.
وَالتَّقْدِيرُ: من أَعمالكُم وشؤونكم إِمَّا مِنْ أَعْمَالٍ خَاصَّةٍ يَدُلُّ عَلَيْهَا الْمَقَامُ أَوْ مِنْ عِدَّةِ أَعْمَالٍ.
فَالْمَعْنَى هُنَا تَحَقُّقُ التَّبَرُّؤِ لَدَيْكَ وَالْمُتَبَرَّأُ مِنْهُ هُوَ مَضْمُونُ جُمْلَةِ مَا كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ فَهِيَ بَيَانٌ لِإِجْمَالِ التَّبَرُّؤِ.
وَالْمَقْصُود: أَنهم يتبرؤون مِنْ أَنْ يَكُونُوا هُمُ الْمَزْعُومَ أَنَّهُمْ شُرَكَاءُ وَإِنَّمَا قُصَارَى
أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ مُضِلُّونَ وَكَانَ هَذَا الْمَقْصِدُ إِلْجَاءً مِنَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ لِيُعْلِنُوا تَنَصُّلَهُمْ مِنِ ادِّعَاءِ أَنَّهُمْ شُرَكَاء على رُؤُوس الْمَلَإِ، أَوْ حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا يُشَاهِدُونَ مِنْ فَظَاعَةِ عَذَابِ كُلِّ مَنِ ادَّعَى الْمُشْرِكُونَ لَهُ الْإِلَهِيَّةَ بَاطِلًا لَمَّا سَمِعُوا قَوْلَهُ تَعَالَى إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاء: 98] . هَذَا مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْمَعَانِي.
وَتَقْدِيمُ إِيَّانا عَلَى يَعْبُدُونَ دُونَ أَنْ يُقَالَ يَعْبُدُونَنَا لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا التَّبَرُّؤِ مَعَ الرِّعَايَةِ على الفاصلة.