الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي مَعْنَى النَّفْيِ بِقَرِينَةِ الِاسْتِثْنَاءِ. وَوُرُودُ هَلْ لِمَعْنَى النَّفْيِ أَثْبَتَهُ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» اسْتِعْمَالًا تَاسِعًا قَالَ: «أَنْ يُرَادَ بِالِاسْتِفْهَامِ بِهَا النَّفْيُ وَلِذَلِكَ دَخَلَتْ عَلَى الْخَبَرِ بَعْدَهَا (إِلَّا) نَحْوُ هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ [الرَّحْمَن: 60] . وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ:
أَلَا هَلْ أَخُو عَيْشٍ لَذِيذٍ بِدَائِمِ وَقَالَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ: إِنَّ مِنْ مَعَانِي الْإِنْكَارِ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ فِيهِ الِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارُ وُقُوعِ الشَّيْءِ وَهُوَ مَعْنَى النَّفْيِ. وَهَذَا تَنْفَرِدُ بِهِ هَلْ دُونَ الْهَمْزَةِ. قَالَ الدَّمَامِينِيُّ فِي «الْحَوَاشِي الْهِنْدِيَّةِ» قَوْلُهُ: يُرَادُ بِالِاسْتِفْهَامِ بِ هَلْ النَّفْيُ يُشْعِرُ بِأَنَّ ثَمَّةَ اسْتِفْهَامًا لَكِنَّهُ مَجَازِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ» اه.
وَأَقُولُ: هَذَا اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيَدٍ:
وَهل أَنَا إِلَّا مِنْ رَبِيعَةَ أَوْ مُضَرْ وَقَوْلُ النَّابِغَةِ:
وَهَلْ عَلَيَّ بِأَنْ أَخْشَاكَ مِنْ عَارِ
حَيْثُ جَاءَ بِ (مِنْ) الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ لِقَصْدِ التَّنْصِيصِ عَلَى الْعُمُومِ وَشَوَاهِدُهُ كَثِيرَةٌ. وَلَعَلَّ أَصْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ عَنِ النَّفْيِ لِقَصْدِ التَّقْرِيرِ بِالنَّفْيِ.
وَالتَّقْدِيرُ: هَلْ لَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، فَلَمَّا اقْتَرَنَ بِهِ الِاسْتِثْنَاءُ غَالِبًا وَالْحَرْفُ الزَّائِدُ فِي النَّفْيِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ حَذَفُوا النَّافِيَ وَأَشْرَبُوا حَرْفَ الِاسْتِفْهَامِ مَعْنَى النَّفْيِ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ فَصَارَ مُفَادُ الْكَلَامِ نَفْيًا وَانْسَلَخَتْ (هَلْ) عَنِ الِاسْتِفْهَامِ فَصَارَتْ مُفِيدَةً النَّفْيَ.
وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ فِي الْأَعْرَاف [147] .
[91- 92]
[سُورَة النَّمْل (27) : الْآيَات 91 إِلَى 92]
إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92)
أَتَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ مُطَاعِنِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقُرْآنِ وَفِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ
أُصُولِ الْإِسْلَامِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَالْوَعِيدِ بِأَفَانِينَ مِنَ التَّصْرِيحِ وَالتَّضَمُّنِ وَالتَّعْرِيضِ بِأَحْوَالِ الْمُكَذِّبِينَ السَّالِفِينَ مُفَصَّلًا ذَلِكَ تَفْصِيلًا ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [النَّمْل: 1، 2] إِلَى هُنَا، فَلَمَّا كَانَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ إِلْحَافُهُمْ عَلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِمَا وَعَدَهُمْ أَوْ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُمْ أَجَلَ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [النَّمْل: 71] .
وَأَتَتْ عَلَى دَحْضِ مَطَاعِنِهِمْ وَتَعَلُّلَاتِهِمْ وَتَوَرُّكِهِمْ بِمُخْتَلِفِ الْأَدِلَّةِ قِيَاسًا وَتَمْثِيلًا، وَثَبَّتَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِضُرُوبٍ مِنَ التَّثْبِيتِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارا [النَّمْل:
7] وَقَوْلِهِ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [النَّمْل: 79] ، وَمَا صَاحَبَ ذَلِكَ مِنْ ذِكْرِ مَا لَقِيَهُ الرُّسُلُ السَّابِقُونَ. بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ اسْتُؤْنِفَ الْكَلَامُ اسْتِئْنَافًا يَكُونُ فَذْلَكَةَ الْحِسَابِ، وَخِتَامًا لِلسُّورَةِ وَفَصْلِ الْخِطَابِ، أَفْسَدَ بِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ازْدِهَاءَهُمْ بِمَا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ أَفْحَمُوا الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم بِمَا أَلْقَوْهُ عَلَيْهِ وَيَطِيرُ غُرَابُ غُرُورِهِمْ بِمَا نَظَمُوهُ مِنْ سَفْسَطَةٍ، وَجَاءُوا بِهِ مِنْ خَلْبَطَةٍ، وَيَزِيدُ الرَّسُولَ تَثْبِيتًا وَتَطْمِينًا بِأَنَّهُ أَرْضَى رَبَّهُ بِأَدَاءِ أَمَانَةِ التَّبْلِيغِ وَذَلِكَ بِأَنَّ أُمِرَ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام أَنْ يَقُولَ لَهُمْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها فَهَذَا تَلْقِينٌ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم. وَالْجُمْلَةُ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَرَّتَيْنِ وَهُوَ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ [النَّمْل: 92، 93] فَإِنَّ الْأَوَّلَ: مُفَرَّعٌ عَلَيْهِ فَهُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ.
وَالثَّانِي: مَعْطُوفٌ عَلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ.
وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِأَدَاةِ الْحَصْرِ لِإِفَادَةِ حَصْرٍ إِضَافِيٍّ بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مُحَاوَرَاتُهُمُ السَّابِقَةُ مِنْ طَلَبِ تَعْجِيبِ الْوَعِيدِ، وَمَا تَطَاوَلُوا بِهِ مِنْ إِنْكَارِ الْحَشْرِ.
وَالْمَعْنَى: مَا أُمِرْتُ بِشَيْءٍ مِمَّا تَبْتَغُونَ مِنْ تَعْيِينِ أَجَلِ الْوَعِيدِ وَلَا مِنِ اقْتِلَاعِ إِحَالَةِ الْبَعْثِ مِنْ نُفُوسِكُمْ وَلَا بِمَا سِوَى ذَلِكَ إِلَّا بِأَنْ أَثْبُتَ عَلَى عِبَادَةِ رَبٍّ وَاحِدٍ وَأَنْ أَكُونَ مُسْلِمًا وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ عَلَيْكُمْ، فَفِيهِ الْبَرَاهِينُ السَّاطِعَةُ وَالدَّلَالَاتُ الْقَاطِعَةُ فَمَنِ اهْتَدَى فَلَا يَمُنُّ عَلَيَّ اهْتِدَاءَهُ وَإِنَّمَا نَفَعَ بِهِ نَفْسَهُ وَمَنْ ضَلَّ فَمَا أَنَا بِقَادِرٍ عَلَى اهْتِدَائِهِ، وَلَكِنِّي مُنْذِرُهُ كَمَا أَنْذَرَتِ الرُّسُلُ أَقْوَامَهَا فَلَمْ يَمْلِكُوا لَهُمْ هَدْيًا حَتَّى أَهْلَكَ اللَّهُ الضَّالِّينَ. وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ [آل عمرَان: 20] .
وَقَدْ أُدْمِجَ فِي خِلَالِ هَذَا تَنْوِيهًا بِشَأْنِ مَكَّةَ وَتَعْرِيضًا بِهِمْ بِكُفْرِهِمْ بِالَّذِي أَسْكَنَهُمْ بِهَا وَحَرَّمَهَا فَانْتَفَعُوا بِتَحْرِيمِهَا، وَأَشْعَرَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ تِلْكَ الْبَلْدَةَ فَكَاشَفَهُمُ اللَّهُ بِمَا تُكِنُّهُ صُدُورُهُمْ مِنْ خَوَاطِرِ إِخْرَاجِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ مَكَّةَ وَذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ مَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ [النَّمْل: 74] .
فَلِهَذِهِ النُّكَتِ أَجْرَى عَلَى اللَّهِ صِلَةَ حَرَّمَ تِلْكَ الْبَلْدَةَ، دُونَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُولُ لِلْبَلْدَةِ فَلِذَا لَمْ يَقُلْ: الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ، لِمَا تَتَضَمَّنُهُ الصِّلَةُ مِنَ التَّذْكِيرِ بِالنِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ وَمِنَ التَّعْرِيضِ بِضَلَالِهِمْ إِذْ عَبَدُوا أَصْنَامًا لَا تَمْلِكُ مِنَ الْبَلْدَةِ شَيْئًا وَلَا أَكْسَبَتْهَا فَضْلًا وَمَزِيَّةً، وَهَذَا كَقَوْلِه لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
[قُرَيْش: 3] .
وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْبَلْدَةِ الَّتِي هُمْ بِهَا لِأَنَّهَا حَاضِرَةٌ لَدَيْهِمْ بِحُضُورِ مَا هُوَ بَادٍ مِنْهَا لِلْأَنْظَارِ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْبِقَاعِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَاشِيَةٌ قَالَ تَعَالَى وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً [هود: 60] وَقَالَ إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ [العنكبوت: 31] .
وَالْعُدُولُ عَنْ ذِكْرِ مَكَّةَ بِاسْمِهَا الْعَلَمِ إِلَى طَرِيقَةِ الْإِشَارَةِ لِمَا تَقْتَضِيهِ الْإِشَارَةُ مِنَ التَّعْظِيمِ.
وَتَبْيِينُ اسْمِ الْإِشَارَةِ بِالْبَلْدَةِ لِأَنَّ الْبَلْدَةَ بَهَاءِ التَّأْنِيثِ اسْمٌ لِطَائِفَةٍ مِنَ الْأَرْضِ مُعَيَّنَةٍ مَعْرُوفَةٍ مَحُوزَةٍ فَيَشْمَلُ مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا إِلَى نِهَايَةِ حُدُودِ الْحَرَمِ. وَمَعْنَى حَرَّمَها جَعَلَهَا حَرَامًا، وَالْحَرَامُ الْمَمْنُوعُ، وَالتَّحْرِيمُ الْمَنْعُ. وَيَعْلَمُ مُتَعَلِّقُ الْمَنْعِ بِسِيَاقِ مَا يُنَاسِبُ الشَّيْءَ الْمَمْنُوعَ. فَالْمُرَادُ مِنْ تَحْرِيمِ الْبَلْدَةِ تَحْرِيمُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا مَا يُضَادُّ صَلَاحَهَا وَصَلَاحَ مَا بِهَا
مِنْ سَاكِنٍ وَدَابَّةٍ وَشَجَرٍ. فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَنْعُ غَزْوِ أَهْلِهَا وَالِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِمْ وَظُلْمِهِمْ وَإِخَافَتِهِمْ وَمَنْعُ صَيْدِهَا وَقَطْعِ شَجَرِهَا عَلَى حُدُودٍ مَعْلُومَةٍ. وَهَذَا التَّحْرِيمُ مِمَّا أَوْحَى اللَّهُ بِهِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عليه السلام إِذْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَبْنِيَ بَيْتًا لِتَوْحِيدِهِ وَبِاسْتِجَابَتِهِ لِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً [الْبَقَرَة: 126] .
فَالتَّحْرِيمُ يَكُونُ كَمَالًا لِلْمُحَرَّمِ وَيَكُونُ نَقْصًا عَلَى اخْتِلَافِ اعْتِبَارِ سَبَبِ التَّحْرِيمِ وَصَفْتِهِ، فَتَحْرِيمُ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ مَزِيَّةٌ وَتَفْضِيلٌ، وَتَحْرِيمُ الْفَوَاحِشِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخَمْرِ تَحْقِيرٌ لَهَا، وَالْمُحَرَّمَاتُ لِلنَّسْلِ وَالرَّضَّاعِ وَالصِّهْرِ زِيَادَةٌ فِي الْحُرْمَةِ.
فَتَحْرِيمُ الْمَكَانِ: مَنْعُ مَا يَضُرُّ بِالْحَالِّ فِيهِ. وَتَحْرِيمُ الزَّمَانِ، كَتَحْرِيمِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ:
مَنْعُ مَا فِيهِ ضُرٌّ لِلْمَوْجُودِينَ فِيهِ.
وَتَعْقِيبُ هَذَا بِجُمْلَةِ وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ احْتِرَاسٌ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ مِنْ إِضَافَةِ رُبُوبِيَّتِهِ إِلَى الْبَلْدَةِ اقْتِصَارُ مُلْكِهِ عَلَيْهَا لِيُعْلَمَ أَنَّ تِلْكَ الْإِضَافَةَ لِتَشْرِيفِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ لَا لِتَعْرِيفِ الْمُضَافِ بِتَعْيِينِ مَظْهَرِ مُلْكِهِ.
وَتَكْرِيرُ (أُمِرْتُ) فِي قَوْلِهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ أَمْرٌ يَعْمَلُهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَهُوَ أَمْرُ إِلْهَامٍ إِذْ عَصَمَهُ اللَّهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ مِنْ قَبْلِ الرِّسَالَةِ. وَالْأَمْرُ الثَّانِي أَمْرٌ يَقْتَضِي الرِّسَالَةَ وَقَدْ شَمِلَ دَعْوَةَ الْخَلْقِ إِلَى التَّوْحِيدِ. وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ لَمْ يُكَرِّرْ (أُمِرْتُ) فِي قَوْله وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْإِسْلَامِ والتلاوة من شؤون الرِّسَالَةِ.
وَفِي قَوْلِهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَنْوِيهٌ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ إِذْ جَعَلَ الله رَسُوله من آحَادَهَا، وَذَلِكَ نُكْتَةٌ عَنِ الْعُدُولِ عَنْ أَنْ يَقُولَ: أَنْ أَكُونَ مُسْلِمًا.
وَالتِّلَاوَةُ: قِرَاءَةُ كَلَامٍ مُعَيَّنٍ عَلَى النَّاسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ [الْبَقَرَة: 121] ، وَقَوْلِهِ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [102] .
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ التِّلَاوَةِ لِظُهُورِهِ، أَي أَن أتلوا الْقُرْآنَ عَلَى النَّاسِ. وَفُرِّعَ عَلَى التِّلَاوَةِ مَا يَقْتَضِي انْقِسَامَ النَّاسِ إِلَى مُهْتَدٍ وَضَالٍّ، أَيْ مُنْتَفِعٍ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ وَغَيْرِ مُنْتَفِعٍ مُبَيِّنًا أَنَّ مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا كَانَ اهْتِدَاؤُهُ لِفَائِدَةِ نَفْسِهِ. وَهَذَا زِيَادَةٌ فِي تَحْرِيضِ السَّامِعِينَ عَلَى الِاهْتِدَاءِ بِهَدْيِ الْقُرْآنِ لِأَنَّ فِيهِ نَفْعَهُ كَمَا آذَنَتْ بِهِ اللَّامُ.
وَإِظْهَارُ فِعْلِ الْقَوْلِ هُنَا لِتَأْكِيدٍ أَنَّ حَظَّ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم مِنْ دَعْوَةِ الْمُعْرِضِينَ الضَّالِّينَ أَنْ يُبَلِّغَهُمُ الْإِنْذَارَ فَلَا يَطْمَعُوا أَنْ يَحْمِلَهُ إِعْرَاضُهُمْ عَلَى أَنْ يُلِحَّ عَلَيْهِمْ قَبُولَ دَعْوَتِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْمُنْذِرِينَ: الرُّسُلُ، أَيْ إِنَّمَا أَنَا وَاحِدٌ مِنَ الرُّسُلِ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَسُنَّتِي سُنَّةُ من أرسل من الرُّسُل قَبْلِي وَهِيَ التَّبْلِيغُ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النَّحْل: 35] .