الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْإِنْجَاءُ آيَاتٍ وَلَمْ يُجْعَلْ آيَةً وَاحِدَةً لِأَنَّهُ آيَةٌ لِكُلِّ مَنْ شَهِدَهُ مِنْ قَوْمِهِ وَلِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ، وَكَرَامَةِ رَسُولِهِ، وَتَصْدِيقِ وَعْدِهِ، وَإِهَانَةِ عَدُّوِهِ، وَأَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ كُلَّهَا جَلِيلَهَا وَحَقِيرَهَا مُسَخَّرَةٌ لِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَجِيء بِلَفْظ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ إِيمَانَهُمْ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُمْ وَمِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] . فَذَلِكَ آيَاتٌ عَلَى عَظِيمِ عِنَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِرُسُلِهِ فَصَدَّقَ أَهْلُ الْإِيمَانِ فِي مُخْتَلِفِ الْعُصُورِ. فَفِي قَوْلِهِ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ لَمْ يُصَدِّقْ بِهَا قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ لِشِدَّةِ مُكَابَرَتِهِمْ وَكَوْنِ الْإِيمَانِ لَا يخالط عُقُولهمْ.
[25]
[سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 25]
وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25)
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَقَالَتُهُ هَذِهِ سَابِقَةً عَلَى إِلْقَائِهِ فِي النَّارِ وَأَنْ تَكُونَ بَعْدَ أَنْ أَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ. وَالْأَظْهَرُ مِنْ تَرْتِيبِ الْكَلَامِ أَنَّهَا كَانَتْ بَعْدَ أَنْ أَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ، أَرَادَ بِهِ إِعْلَانَ مُكَابَرَتِهِمُ الْحَقَّ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ بَعْدَ وُضُوحِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِمُعْجِزَةِ سَلَامَتِهِ مِنْ حَرْقِ النَّارِ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأَوْثَانِ قَرِيبًا.
وَمَحَطُّ الْقَصْرِ بِ إِنَّمَا هُوَ الْمَفْعُولُ لِأَجْلِهِ أَمَّا قَصْرُ الْمَعْبُودَاتِ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَلَى
كَوْنِهَا أَوْثَانًا فَقَدْ سَبَقَ فِي قَوْلِهِ إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً [العنكبوت: 17] أَيْ مَا اتَّخَذْتُمْ أَوْثَانًا إِلَّا لِأَجْلِ مَوَدَّةِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا. وَوَجْهُ الْحَصْرِ أَنَّهُ لَمْ تَبْقَ لَهُمْ شُبْهَةٌ فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ بَعْدَ مُشَاهَدَةِ دَلَالَةِ صِدْقِ الرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِإِبْطَالِهَا فَتَمَحَّضَ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ بَقَائِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ هُوَ مَوَدَّةَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا الدَّاعِيَةَ لِإِبَايَةِ الْمُخَالَفَةِ. وَالْمَوَدَّةُ: الْمَحَبَّةُ وَالْإِلْفُ. وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ بَيْنِكُمْ شَامِلًا لِلْأَوْثَانِ.
وَالْمَوَدَّةُ: الْمَحَبَّةُ. فَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ يُحِبُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَلَا يُخَالِفُهُ وَإِنْ لَاحَ لَهُ أَنَّهُ عَلَى ضَلَالٍ، وَيُحِبُّونَ الْأَوْثَانَ فَلَا يَتْرُكُونَ عِبَادَتَهَا وَإِنْ ظَهَرَتْ لِبَعْضِهِمْ دَلَالَةُ بُطْلَانِ إِلَهِيَّتِهَا قَالَ تَعَالَى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 165] .
قَالَ الْفَخْرُ: أَيْ مَوَدَّةً بَيْنَ الْأَوْثَانِ وَعَبَدَتِهَا فَإِنَّ مَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ اللَّذَّاتُ الْجِسْمِيَّةُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى اللَّذَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ كَالْمَجْنُونِ إِذَا احْتَاجَ إِلَى قَضَاءِ حَاجَةٍ مِنْ أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ أَوْ إِرَاقَةِ مَاءٍ وَهُوَ بَيْنَ مَجْمَعٍ مِنَ الْأَكَابِرِ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى اللَّذَّةِ الْعَقْلِيَّةِ مِنَ الْحَيَاءِ وَحُسْنِ السِّيرَةِ بَلْ يُحَصِّلُ مَا فِيهِ لَذَّةُ جِسْمِهِ. فَهُمْ كَانُوا قَلِيلِي الْعُقُولِ فَغَلَبَتْ عَلَيْهِمُ اللَّذَّاتُ الْجِسْمِيَّةُ فَلَمْ يَتَّسِعْ عَقْلُهُمْ لِمَعْبُودٍ غَيْرِ جُسْمَانِيٍّ وَرَأَوْا تِلْكَ الْأَصْنَامَ مُزَيَّنَةً بِأَلْوَانٍ وَجَوَاهِرَ فَأَحَبُّوهَا.
وَفِعْلُ اتَّخَذْتُمْ مُرَادٌ بِهِ الِاسْتِمْرَارُ وَالْبَقَاءُ عَلَى اتِّخَاذِهَا بَعْدَ وُضُوحِ حُجَّةِ بُطْلَانِ اسْتِحْقَاقِهَا الْعِبَادَةَ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَخَلَفٌ مَوَدَّةَ مَنْصُوبًا مُنَوَّنًا بِدُونِ إِضَافَةٍ، وبَيْنِكُمْ مَنْصُوبًا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ مَوَدَّةَ مَنْصُوبًا غَيْرَ مُنَوَّنٍ بَلْ مُضَافًا إِلَى بَيْنِكُمْ، وبَيْنِكُمْ مَجْرُورٌ أَوْ هُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَظْرُوفِ إِلَى الظَّرْفِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ مَرْفُوعًا مُضَافًا عَلَى أَنْ تَكُونَ (مَا) فِي إِنَّمَا مَوْصُولَةً وَحَقُّهَا أَنْ تُكْتَبُ مَفْصُولَةً، ومَوَدَّةَ خَبَرُ (إِنَّ) تَكُونُ كِتَابَةُ إِنَّمَا مُتَّصِلَةً مِنْ قَبِيلِ الرَّسْمِ غَيْرِ الْقِيَاسِيِّ فَيَكُونُ الْإِخْبَارُ عَنْهَا بِأَنَّهَا مَوَدَّةٌ إِخْبَارًا مَجَازِيًّا عَقْلِيًّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الِاتِّخَاذَ سَبَبٌ عَنِ الْمَوَدَّةِ. وَلِمَا فِي الْمَجَازِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ كَانَ فِيهِ تَأْكِيدٌ لِلْخَبَرِ بَعْدَ تَأْكِيدِهِ بِ (إِنَّ) فَيَقُومُ التَّأْكِيدَانِ مَقَامَ الْحَصْرِ إِذْ لَيْسَ الْحَصْرُ إِلَّا تَأْكِيدًا عَلَى تَأْكِيدٍ كَمَا قَالَ السَّكَّاكِيُّ، أَيْ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ إِعَادَةِ الْخَبَرِ حَيْثُ يُثْبِتُ ثُمَّ يُؤَكِّدُ بِنَفْيِ مَا عَدَاهُ.
وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ إِفَادَةِ الْحُكْمِ بَلْ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى الْخَطَأِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ عَقِبَهُ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً. وَنَظِيرُهُ جُمْلَةُ صِلَةِ الْمَوْصُولِ فِي
قَوْلِ عَبْدَةَ بْنِ الطَّبِيبِ (1) :
إِنَّ الَّذِينَ تَرَوْنَهُمْ إِخْوَانَكُمْ
…
يَشْفِي غَلِيلَ صُدُورِهِمْ أَنْ تُصْرَعُوا
(1) لطبيب لقب أبي عَبدة واسْمه يزِيد بن عَمْرو. وَتب فِي أَكثر النّسخ من كتب الْأَدَب مخطوطه ومطبوعها: الطَّبِيب بموحدتين بَينهمَا تحتية وَفِي قَلِيل من كتب الْأَدَب بتحتية بعد الطَّاء وَلم أَقف على من حقق ضَبطه بِوَجْه لَا التباس فِيهِ.