الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[47]
[سُورَة الْقَصَص (28) : آيَة 47]
وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
هَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الْقَصَص:
46] ، لِأَنَّ الْإِنْذَارَ يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ.
ولَوْلا الْأُولَى حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ، أَيِ انْتِفَاءُ جَوَابِهَا لِأَجْلِ وُجُودِ شَرْطِهَا وَهُوَ حَرْفٌ يَلْزَمُ الِابْتِدَاءَ فَالْوَاقِعُ بَعْدَهُ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ عَنِ الْمُبْتَدَإِ الْوَاقِعِ بَعْدَ لَوْلا وَاجِبُ الْحَذْفِ وَهُوَ مُقَدَّرٌ بِكَوْنٍ عَامٍّ. وَالْمُبْتَدَأُ هُنَا هُوَ الْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ أَنْ وَفِعْلِ تُصِيبَهُمْ وَالتَّقْدِيرُ: لَوْلَا إِصَابَتُهُمْ بِمُصِيبَةٍ، وَقَدْ عُقِبَ الْفِعْلُ الْمَسْبُوكُ بِمَصْدَرٍ بِفِعْلٍ آخَرَ وَهُوَ فَيَقُولُوا، فَوَجَبَ أَنْ يَدْخُلَ هَذَا الْفِعْلُ الْمَعْطُوفُ فِي الِانْسِبَاكِ بِمَصْدَرٍ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ. فَهَذَا الْمَعْطُوفُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى [الْبَقَرَة: 282] فَالْمَقْصُودُ هُوَ «أَنْ تُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى» .
وَإِنَّمَا حِيكَ نَظْمُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ وَلَمْ يَقُلْ: وَلَوْلَا أَنْ يَقُولُوا رَبَّنَا إِلَخْ حِينَ تُصِيبُهُمْ مُصِيبَةٌ إِلَى آخِرِهِ، لِنُكْتَةِ الِاهْتِمَامِ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ إِصَابَةِ الْمُصِيبَةِ فَوُضِعَتْ فِي مَوْضِعِ الْمُبْتَدَإِ دُونَ مَوْضِعِ الظَّرْفِ لِتُسَاوِيَ الْمُبْتَدَأَ الْمَقْصُودَ مِنْ جُمْلَةِ شَرْطِ لَوْلا فَيُصْبِحَ هُوَ
وَظَرْفُهُ عُمْدَتَيْنِ فِي الْكَلَامِ، فَالتَّقْدِيرُ هُنَا: وَلَوْلَا إِصَابَتُهُمْ بِمُصِيبَةٍ يَعْقُبُهَا قَوْلُهُمْ رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَخْ لَمَا عَبَأْنَا بِإِرْسَالِكَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ عِنَادٍ وتصميم على الْكفْر.
فَجَوَابُ لَوْلا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِلَى قَوْلِهِ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ [الْقَصَص: 44- 46] ، أَيْ وَلَكِنَّا أَعْذَرْنَا إِلَيْهِمْ بِإِرْسَالِكَ لِنَقْطَعَ مَعْذِرَتَهُمْ. وَجَوَابُ لَوْلا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ، أَيْ لَوْلَا الرَّحْمَةُ بِهِمْ بِتَذْكِيرِهِمْ وَإِنْذَارِهِمْ لَكَانُوا مُسْتَحِقِّينَ حُلُولَ الْمُصِيبَةِ بِهِمْ.
ولَوْلا الثَّانِيَةُ حَرْفُ تحضيض، أَي هلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا قَبْلَ أَنْ تَأْخُذَنَا بِعَذَابٍ فَتُصْلِحَ أَحْوَالَنَا وَأَنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِنَا. وَانْتَصَبَ فَنَتَّبِعَ (بِأَنْ) مُضْمَرَةٍ وُجُوبًا فِي جَوَابِ التَّحْضِيضِ.
وَضَمِيرُ تُصِيبَهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ مِنْ قَبْلُ. وَالْمُرَادُ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ مَا سَلَفَ مِنَ الشِّرْكِ.
وَالْمُصِيبَةُ: مَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ، أَيْ يَحِلُّ بِهِ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَغَلَبَ اخْتِصَاصُهَا بِمَا يَحِلُّ بِالْمَرْءِ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَالْأَذَى.
وَالْبَاءُ فِي بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ عُقُوبَةٌ كَانَ سَبَبُهَا مَا سَبَقَ عَلَى أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ. وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا عَذَابُ الدُّنْيَا بِالِاسْتِئْصَالِ وَنَحْوِهِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [62] . وَهِي مَا يجترجونه مِنَ الْأَعْمَالِ الْفَاحِشَةِ.
وَ (مَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) مَا اعْتَقَدُوهُ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَمَا عَمِلُوهُ مِنْ آثَارِ الشِّرْكِ.
وَالْأَيْدِي مُسْتَعَارٌ لِلْعُقُولِ الْمُكْتَسِبَةِ لِعَقَائِدِ الْكُفْرِ. فَشُبِّهَ الِاعْتِقَادُ الْقَلْبِيُّ بِفِعْلِ الْيَدِ تَشْبِيهَ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَسْتَحِقُّونَ الْعِقَابَ بِالْمَصَائِبِ فِي الدُّنْيَا وَلَوْ لَمْ يَأْتِهِمْ رَسُولٌ لِأَنَّ أَدِلَّةَ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ مُسْتَقِرَّةٌ فِي الْفِطْرَةِ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ أَدْرَكَتْهُمْ فَلَمْ يُصِبْهُمْ بِالْمَصَائِبِ حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا.
وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى أُصُولِ الْأَشْعَرِيِّ وَمَا بَيَّنَهُ أَصْحَابُ طَرِيقَتِهِ مِثْلُ الْقُشَيْرِيِّ وَأَبِي بَكْرِ ابْن الْعَرَبِيِّ: أَنَّ ذَنْبَ الْإِشْرَاكِ لَا عُذْرَ فِيهِ لِصَاحِبِهِ لِأَنَّ تَوْحِيدَ الله قد دعِي إِلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ مِنْ عَهْدِ آدَمَ بِحَيْثُ لَا يُعْذَرُ بِجَهْلِهِ عَاقِلٌ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَضَعَهُ فِي الْفِطْرَةِ إِذْ أَخَذَ عَهْدَهُ
بِهِ عَلَى ذُرِّيَّةِ آدَمَ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذرياتهم وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى كَمَا بَيَّنَاهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [172] .
وَلَكِنَّ اللَّهَ يَرْأَفُ بِعِبَادِهِ إِذَا طَالَتِ السُّنُونَ وَانْقَرَضَتِ الْقُرُونُ وَصَارَ النَّاسُ مَظِنَّةَ الْغَفْلَةِ فَيَتَعَهَّدُهُمْ بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ لِلتَّذْكِيرِ بِمَا فِي الْفِطْرَةِ وَلِيُشَرِّعُوا لَهُمْ مَا بِهِ صَلَاحُ الْأُمَّةِ.
فَالْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ انْقَرَضُوا قَبْلَ الْبِعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ مُؤَاخَذُونَ بِشِرْكِهِمْ وَمُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَعَاقَبَهُمْ عَلَيْهِ بِالدُّنْيَا بِالِاسْتِئْصَالِ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَمْهَلَهُمْ،