الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سُورَة العنكبوت (29) : الْآيَات 31 إِلَى 32]
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَاّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32)
لَمَّا أَدَاةٌ تَدُلُّ عَلَى التَّوْقِيتِ، وَالْأَصْلُ أَنَّهَا ظَرْفٌ مُلَازِمٌ الْإِضَافَةَ إِلَى جُمْلَةٍ.
وَمَدْلُولُهَا وُجُودٌ لِوُجُودٍ، أَيْ وُجُودُ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي تُضَافُ إِلَيْهَا عِنْدَ وُجُودِ الْجُمْلَةِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا فَهِيَ تَسْتَلْزِمُ جُمْلَتَيْنِ: أُولَاهُمَا فِعْلِيَّةٌ مَاضَوِيَّةٌ وَتُضَافُ إِلَيْهَا لَمَّا، وَالثَّانِيَةُ فِعْلِيَّةٌ أَوِ اسْمِيَّةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الظَّرْفُ مِنْ فِعْلٍ أَوِ اسْمٍ مُشْتَقٍّ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ الْوَاقِعَةِ بَعْدَ لَمَّا اسْمُ الْجَزَاءِ تَسَامُحًا.
وَلَمَّا كَانَتْ لَمَّا ظَرْفًا مُبْهَمًا تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الَّتِي تُضَافُ إِلَيْهَا لَمَّا مَعْلُومًا لِلسَّامِعِ، إِذِ التَّوْقِيتُ الْإِعْلَامُ بِمُقَارَنَةِ زَمَنٍ مَجْهُولٍ بِزَمَنٍ مَعْلُومٍ. فَوُجُودُ لَمَّا هُنَا يَقْتَضِي أَنَّ مَجِيءَ الْمَلَائِكَةِ بِالْبُشْرَى أَمْرٌ مَعْلُومٌ لِلسَّامِعِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرٌ
لِلْبُشْرَى، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ فِي الْبُشْرَى تَعْرِيفُ الْعَهْدِ لِاقْتِضَاءِ لَمَّا أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً، فَالْبُشْرَى هِيَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى آنِفًا وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوءة وَالْكتاب [العنكبوت: 27] كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
وَالْبُشْرَى: اسْمٌ لِلْبِشَارَةِ وَهِيَ الْإِخْبَارُ بِمَا فِيهِ مَسَرَّةٌ لِلْمُخْبَرِ- بِفَتْحِ الْبَاءِ- وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْبِشَارَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [119] .
وَمِنْ لُطْفِ اللَّهِ بِإِبْرَاهِيمَ أَنْ قَدَّمَ لَهُ الْبُشْرَى قَبْلَ إِعْلَامِهِ بِإِهْلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ لِعِلْمِهِ تَعَالَى بِحِلْمِ إِبْرَاهِيمَ. وَالْمَعْنَى: قَالُوا لإِبْرَاهِيم إِنَّا مهلكوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِلَخْ.
وَالْقَرْيَةُ هِيَ (سَدُومُ) قَرْيَةُ قَوْمِ لُوطٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ تَعْلِيلٌ لِلْإِهْلَاكِ وَقُصِدَ بِهِ اسْتِئْنَاسُ إِبْرَاهِيمَ لِقَبُولِ هَذَا الْخَبَرِ الْمُحْزِنِ، وَأَيْضًا لِأَنَّ الْعَدْلَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ الْعِقَابُ إِلَّا عَلَى ذَنْبٍ يَقْتَضِيهِ.
وَالظُّلْمُ: ظُلْمُهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِالْكُفْرِ وَالْفَوَاحِشِ، وَظُلْمُهُمُ النَّاسَ بِالْغَصْبِ عَلَى الْفَوَاحِشِ وَالتَّدَرُّبِ بِهَا.
وَقَوْلُهُ إِنَّ فِيها لُوطاً خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّذْكِيرِ بِسُنَّةِ اللَّهِ مَعَ رُسُلِهِ مِنَ الْإِنْجَاءِ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي يَحِلُّ بِأَقْوَامِهِمْ. فَهُوَ مِنَ التَّعْرِيضِ لِلْمَلَائِكَةِ بِتَخْصِيصِ لُوطٍ مِمَّنْ شَمِلَتْهُمُ الْقَرْيَةُ فِي حُكْمِ الْإِهْلَاكِ، وَلُوطٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ بِالْأَصَالَةِ إِلَّا أَنَّ كَوْنَهُ بَيْنَهُمْ يَقْتَضِي الْخَشْيَةَ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَشْمَلَهُ الْإِهْلَاكُ. وَلِهَذَا قَالَ إِنَّ فِيها لُوطاً بِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ وَلَمْ يَقِلْ: إِنَّ مِنْهَا.
وَجَوَابُ الْمَلَائِكَةِ إِبْرَاهِيمَ بِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا يُرِيدُونَ أَنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْهُ بِأَحْوَالِ مَنْ فِي الْقَرْيَةِ، فَهُوَ جَوَابٌ عَمَّا اقْتَضَاهُ تَعْرِيضُهُ بِالتَّذْكِيرِ بِإِنْجَاءِ لُوطٍ، أَيْ نَحْنُ أَعْلَمُ مِنْكَ بِاسْتِحْقَاقِ لُوطٍ النَّجَاةَ عِنْدَ اللَّهِ، وَاسْتِحْقَاقِ غَيْرِهِ الْعَذَابَ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يَسْبِقُونَ اللَّهَ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ وَكَانَ جَوَابُهُمْ مُطَمْئِنًا إِبْرَاهِيمَ. فَالْمُرَادُ مِنْ عِلْمِهِمْ بِمَنْ فِي الْقَرْيَةِ عِلْمُهُمْ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ أَهْلِهَا الْمُرَتَّبِ عَلَيْهَا اسْتِحْقَاقُ الْعَذَابِ، أَوِ الْكَرَامَةِ بِالنَّجَاةِ.
وَإِنَّمَا كَانَ الْمَلَائِكَةُ أَعْلَمَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ بِذَلِكَ لِأَنَّ عِلْمَهُمْ سَابِقٌ عَلَى عِلْمِهِ وَلِأَنَّهُ عِلْمُ يَقِينٍ مُلْقًى مِنْ وَحْيِ اللَّهِ فِيمَا سَخَّرَ لَهُ أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةَ إِذْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ لَمْ يُوحِ اللَّهُ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ فِي ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ عِلْمٌ تَفْصِيلِيٌّ لَا إِجْمَالِيٌّ، وَعُمُومِيٌّ لَا خُصُوصِيٌّ. فَلِأَجْلِ هَذَا الْأَخِيرِ أَجَابُوا بِ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها. وَلَمْ يَقُولُوا: نَحْنُ أَعْلَمُ بِلُوطٍ، وَكَوْنُهُمْ أَعْلَمَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ
فِي هَذَا الشَّأْنِ لَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ فِي غَيْرِهِ فَإِنَّ لِإِبْرَاهِيمَ عِلْمَ النُّبُوءَةِ وَالشَّرِيعَةِ وَسِيَاسَةِ الْأُمَّةِ، وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ وَلَا يَشْتَغِلُونَ بِغَيْرِ ذَلِكَ إِلَّا مَتَى سَخَّرَهُمُ اللَّهُ لِعَمَلٍ. وَبِالْأَوْلَى لَا يَقْتَضِي كَوْنُهُمْ أَعْلَمُ بِهَذَا مِنْهُ أَنْ يَكُونُوا أَفْضَلَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، فَإِنَّ قَوْلَ أَهْلِ الْحَقِّ إِنَّ الرُّسُلَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالْمَزِيَّةُ لَا تَقْتَضِي الْأَفْضَلِيَّةَ، وَلِكُلِّ فَرِيقٍ عِلْمٌ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَخَصَّهُ بِهِ كَمَا خَصَّ الْخَضِرَ بِمَا لَمْ يَعْلَمْهُ مُوسَى، وَخَصَّ مُوسَى بِمَا لَا يَعْلَمُهُ الْخَضِرُ، وَلِذَلِكَ عَتَبَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى لَمَّا سُئِلَ: هَلْ يُوجَدُ أَعْلَمُ مِنْكَ؟
فَقَالَ: لَا، لِأَنَّهُ كَانَ حَقُّ الْجَواب أَن يفكر فِي أَنْوَاعِ الْعِلْمِ.