الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الَّذِي قَبْلَهَا عَلَى طَرِيقَةِ التَّكْرِيرِ تَعْدِيدًا لِلْإِنْكَارِ وَتَمْهِيدًا لِلتَّوْبِيخِ بِقَوْلِهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ.
وَأُوثِرَ هُنَا نَفْيُ صِفَةِ الْعِلْمِ عَنْ أَكْثَرِ الْمُشْرِكِينَ لِقِلَّةِ مَنْ يَنْظُرُ فِي دَقَائِقِ هَذِهِ الْمَصْنُوعَاتِ وَخَصَائِصِهَا مِنْهُمْ فَإِنَّ اعْتِيَادَ مُشَاهَدَتِهَا مَنْ أَوَّلِ نَشْأَةِ النَّاظِرِ يُذْهِلُهُ عَمَّا فِيهَا مِنْ دَلَائِلِ بَدِيعِ الصُّنْعِ. فَأَكْثَرُ الْمُشْرِكِينَ يَجْهَلُ ذَلِكَ وَلَا يَهْتَدِي بِمَا فِيهِ، أَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَقَدْ نَبَّهَهُمُ الْقُرْآنُ إِلَى ذَلِك فهم يقرأون آيَاتِهِ الْمُتَكَرِّرِ فِيهَا الِاسْتِدْلَالُ وَالنَّظَرُ.
وَهَذِهِ الدَّلَائِلُ لَا تَخْلُو عَنْ نِعْمَةٍ مِنْ وَرَائِهَا كَمَا عَلِمْتَهُ آنِفًا وَلَكِنَّهَا سِيقَتْ هُنَا لِإِرَادَةِ الِاسْتِدْلَالِ لَا للامتنان.
[62]
[سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 62]
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (62)
ارْتَقَى الِاسْتِدْلَالُ مِنَ التَّذْكِيرِ بِالتَّصَرُّفِ الرَّبَّانِيِّ فِي ذَوَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ إِلَى التَّذْكِيرِ بِتَصَرُّفِهِ فِي أَحْوَالِ النَّاسِ الَّتِي لَا يَخْلُو عَنْهَا أَحَدٌ فِي بعض شؤون الْحَيَاةِ وَذَلِكَ حَالُ الِاضْطِرَارِ إِلَى تَحْصِيلِ الْخَيْرِ، وَحَالُ انْتِيَابِ السُّوءِ، وَحَالُ التَّصَرُّفِ فِي الْأَرْضِ وَمَنَافِعِهَا.
فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ الْأَنْوَاعِ لِأَحْوَالِ الْبَشَرِ. وَهِيَ: حَالَةُ الِاحْتِيَاجِ، وَحَالَةُ الْبُؤْسِ، وَحَالَةُ الِانْتِفَاعِ.
فَالْأُولَى: هِيَ الْمُضَمَّنَةُ فِي قَوْلِهِ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ فَالْمُضْطَرُّ هُوَ ذُو الضَّرُورَةِ أَيِ الْحَالَةِ الْمُحْوِجَةِ إِلَى الْأَشْيَاءِ الْعَسِرَةِ الْحُصُولِ، وَهَذِهِ مَرْتَبَةُ الْحَاجِيَّاتِ فَالْمَرْءُ
مُحْتَاجٌ إِلَى أُمُورٍ كَثِيرَةٍ بِهَا قِوَامُ أَوَدِهِ لَيْسَتْ مُتَّصِلَةً بِذَاتِهِ مِثْلَ الْأَقْوَاتِ وَالنِّكَاحِ وَالْمَلَابِسِ اللَّازِمَةِ فالمرء يتطلبها بِوُجُوه مِنَ الْمُعَاوَضَاتِ، وَقَدْ يَتَعَسَّرُ بَعْضُهَا وَهِيَ تَتَعَسَّرُ بِقَدْرِ وَفْرَةِ مَنَافِعِهَا وَعِزَّةِ حُصُولِهَا فَيَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُعْطِيَهَا.
وَالِاضْطِرَارُ: افْتِعَالٌ مِنَ الضَّرُورَةِ لَا مِنَ الضُّرِّ. وَتَقْدِيرُهُ: أَنَّهُ نَالَتْهُ الضَّرُورَةُ فَطَاوَعَهَا. وَلَيْسَ لَهُ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ وَإِنَّمَا يُقَالُ: اضْطَرَّهُ كَذَا إِلَى كَذَا.
وَاللَّامُ فِي الْمُضْطَرَّ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ الْمُسَمَّى بِلَامِ الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، أَيْ يُجِيبُ فَرْدًا مَعْهُودًا فِي الذِّهْنِ بِحَالَةِ الِاضْطِرَارِ.
وَالْإِجَابَةُ: إِعْطَاءُ الْأَمْرِ الْمَسْئُولِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَا لِتَحْصِيلِ مَا اضْطُرَّ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يُجِيبُهُ إِلَّا اللَّهُ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِهِ يُجِيبُ بَعْضًا وَيُؤَخِّرُ بَعْضًا.
وَحَالَةُ الْبُؤْسِ: هِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ وَيَكْشِفُ السُّوءَ.
وَالْكَشْفُ: أَصْلُهُ رَفْعُ الْغِشَاءِ، فَشُبِّهَ السُّوءُ الَّذِي يَعْتَرِي الْمَضْرُورَ بِغِشَاءٍ يَحُولُ دُونَ الْمَرْءِ وَدُونَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الْخَلَاصِ تَشْبِيهَ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ.
وَرُمِزَ إِلَى الْمُشَبَّهِ بِهِ بِالْكَشْفِ الَّذِي هُوَ مِنْ رَوَادِفِ الْغِشَاءِ. وَهُوَ أَيْضًا مُسْتَعَارٌ لِلْإِزَالَةِ بِقَرِينَةِ تَعْدِيَتِهِ إِلَى السُّوءِ. وَالْمَعْنَى: مَنْ يُزِيلُ السُّوءَ. وَهَذِهِ مَرْتَبَةُ الضَّرُورِيِّ فَإِنَّ مُعْظَمَهَا أَوْ جَمِيعَهَا حِفْظٌ مِنْ تَطَرُّقِ السُّوءِ إِلَى مُهِمِّ أَحْوَالِ النَّاسِ مِثْلِ الْكُلِّيَّاتِ وَهِيَ: حِفْظُ الدِّينِ، وَالنَّفْسِ، وَالْعقل، وَالنّسب، وَالْمَال، وَالْعِرْضِ.
وَالْمَعْنَى: إِنَّ اللَّهَ يَكْشِفُ السُّوءَ عَنِ الْمَسُوءِ إِذَا دَعَاهُ أَيْضًا فَحُذِفَ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ لِدَلَالَةِ مَا ذُكِرَ مَعَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا، أَيْ يَكْشِفُ السُّوءَ عَنِ الْمُسْتَاءِ إِذَا دَعَاهُ.
وَظَاهِرُ التَّقْيِيدِ بِالظَّرْفِ يَقْتَضِي ضَمَانَ الْإِجَابَةِ. وَالْوَاقِعُ أَنَّ الْإِجَابَةَ مَنُوطَةٌ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِحَسْبِ مَا يَقْتَضِيهِ حَالُ الدَّاعِي وَمَا يَقْتَضِيهِ مُعَارِضُهُ مِنْ أُصُولٍ أُخْرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ.
وَحَالَةُ الِانْتِفَاعِ: هِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَيْ يَجْعَلُكُمْ تَعْمُرُونَ الْأَرْضَ وَتَجْتَنُونَ مَنَافِعَهَا، فَضَمَّنَ الْخُلَفَاءَ مَعْنَى الْمَالِكِينَ فَأُضِيفَ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى تَقْدِيرِ: مَالِكِينَ لَهَا، وَالْمِلْكُ يَسْتَلْزِمُ الِانْتِفَاعَ بِمَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْهَا. وَأَفَادَ خُلَفَاءَ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ
مَعْنَى الْوِرَاثَةِ لِمَنْ سَبَقَ، فَكُلُّ حَيٍّ هُوَ خَلَفٌ عَنْ سَلَفِهِ. وَالْأُمَّةُ خَلَفٌ عَنْ أُمَّةٍ كَانَتْ قَبْلَهَا جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً لِقَوْلِ نُوحٍ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها
[هود: 61] . وَهَذِهِ مَرْتَبَةُ التَّحْسِينِيِّ.
وَقَدْ جَمَعَتِ الْآيَةُ الْإِشَارَةَ إِلَى مَرَاتِبِ الْمُنَاسِبِ وَهُوَ مَا يَجْلِبُ نَفْعًا أَوْ يَدْفَعُ ضَرَرًا وَهُوَ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.
وَلِمَا اقْتَضَتْهُ الْخِلَافَةُ مِنْ تُجَدِّدِ الْأَبْنَاءِ عَقِبَ الْآبَاءِ وَالْأَجْيَالِ بَعْدَ الْأَجْيَالِ، وَمَا