الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَوْلُهُ وَلَهُ الْحُكْمُ اللَّامُ فِيهِ أَيْضًا لِلْمِلْكِ. وَالتَّقْدِيمُ لِلِاخْتِصَاصِ أَيْضًا.
والْحُكْمُ: الْقَضَاءُ وَهُوَ تَعْيِينُ نَفْعٍ أَوْ ضُرٍّ لِلْغَيْرِ. وَحُذِفَ الْمُتَعَلِّقُ بِالْحُكْمِ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ عَلَيْهِ، أَيْ لَهُ الْحُكْمُ فِي الدَّارَيْنِ. وَالِاخْتِصَاصُ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الدُّنْيَا يَثْبُتُ لِغَيْرِ اللَّهِ عَلَى الْمَجَازِ، وَأَمَّا الْحُكْمُ فِي الْآخِرَة فمقصور عَلَى اللَّهِ. وَفِي هَذَا إِبْطَالٌ لِتَصَرُّفِ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ فِيمَا يَزْعُمُونَهُ مِنْ تَصَرُّفَاتِهَا وَإِبْطَالٌ لِشَفَاعَتِهَا الَّتِي يَزْعُمُونَهَا فِي قَوْلِهِمْ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: 18] أَيْ فِي الْآخِرَةِ إِنْ كَانَ مَا زَعَمْتُمْ مِنَ الْبَعْثِ.
وَأَمَّا جُمْلَةُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فَمَسُوقَةٌ مَسَاقَ التَّخْصِيصِ بَعْدَ التَّعْمِيمِ، فَبَعْدَ أَنْ أُثْبِتَ لِلَّهِ كُلُّ حَمْدٍ وَكُلُّ حُكْمٍ، أَيْ أَنَّكُمْ تَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ فَتُمَجِّدُونَهُ وَيُجْرِي عَلَيْكُمْ حُكْمَهُ. وَالْمَقْصُودُ بِهَذَا إِلْزَامُهُمْ بِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ وَلِلِاهْتِمَامِ بِالِانْتِهَاءِ إِلَيْهِ أَيْ إِلَى حكمه.
[71- 72]
[سُورَة الْقَصَص (28) : الْآيَات 71 إِلَى 72]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72)
انْتِقَالٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ بِصِفَاتِ ذَاتِهِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى ذَلِكَ بِبَدِيعِ مَصْنُوعَاتِهِ، وَفِي ضِمْنِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ إِدْمَاجُ الِامْتِنَانِ عَلَى النَّاسِ وَلِلتَّعْرِيضِ
بِكُفْرِ الْمُشْرِكِينَ جَلَائِلَ نِعَمِهِ.
وَمِنْ أَبْدَعَ الِاسْتِدْلَالِ أَنِ اخْتِيرَ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ هَذَا الصُّنْعُ الْعَجِيبُ الْمُتَكَرِّرُ كَلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ، وَالَّذِي يَسْتَوِي فِي إِدْرَاكِهِ كُلُّ مُمَيِّزٍ، وَالَّذِي هُوَ أَجْلَى مَظَاهِرِ التَّغَيُّرِ فِي هَذَا الْعَالَمِ فَهُوَ دَلِيلُ الْحُدُوثِ وَهُوَ مِمَّا يَدْخُلُ فِي التَّكَيُّفِ بِهِ جَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ فِي هَذَا الْعَالَمِ حَتَّى الْأَصْنَامَ فَهِيَ تُظْلِمُ وَتَسْوَدُّ أَجْسَامُهَا بِظَلَامِ اللَّيْلِ وَتُشْرِقُ وَتُضِيءُ بِضِيَاءِ النَّهَارِ، وَكَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِتَعَاقُبِ الضِّيَاءِ وَالظُّلْمَةِ عَلَى
النَّاسِ أَقْوَى وَأَوْضَحَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِتَكْوِينِ أَحَدِهِمَا لَوْ كَانَ دَائِمًا، لِأَنَّ قُدْرَةَ خَالِقِ الضِّدَّيْنِ وَجَاعِلِ أَحَدِهِمَا يَنْسَخُ الْآخَرَ كُلَّ يَوْمٍ أَظْهَرُ مِنْهَا لَوْ لَمْ يَخْلُقْ إِلَّا أَقْوَاهُمَا وَأَنْفَعَهُمَا، وَلِأَنَّ النِّعْمَةَ بِتَعَاقُبِهِمَا دَوْمًا أَشَدُّ مِنَ الْإِنْعَامِ بِأَفْضَلِهِمَا وَأَنْفَعِهِمَا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ دَائِما لَكَانَ مسؤوما وَلَحَصَلَتْ مِنْهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَفُقِدَتْ مَنَافِعُ ضِدِّهِ. فَالتَّنَقُّلُ فِي النِّعَمِ مَرْغُوبٌ فِيهِ وَلَوْ كَانَ تَنَقُّلًا إِلَى مَا هُوَ دُونَ. وَسِيقَ إِلَيْهِمْ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِأُسْلُوبِ تَلْقِينِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَهُ لَهُمُ اهْتِمَامًا بِهَذَا التَّذْكِيرِ لهَذَا الِاسْتِدْلَال ولاشتماله عَلَى ضِدَّيْنِ مُتَعَاقِبَيْنِ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ عُقُولُهُمْ قَاصِرَةً عَنْ إِدْرَاكِ دَلَالَةِ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ لَكَانَ فِي الضِّدِّ الْآخَرِ تَنْبِيهٌ لَهُمْ، وَلَوْ قَصَّرُوا عَنْ حِكْمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ فِي تَعَاقُبِهِمَا مَا يَكْفِي لِلِاسْتِدْلَالِ.
وَجِيءَ فِي الشَّرْطَيْنِ بِحَرْفِ إِنْ لِأَنَّ الشَّرْطَ مَفْرُوضٌ فَرْضًا مُخَالِفًا لِلْوَاقِعِ. وَعُلِمَ أَنَّهُ قَصَدَ الِاسْتِدْلَالَ بِعِبْرَةِ خَلْقِ النُّورِ، فَلِذَلِكَ فَرَضَ اسْتِمْرَارَ اللَّيْلِ، وَالْمَقْصُودُ مَا بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ.
وَالسَّرْمَدُ: الدَّائِمُ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : مِنَ السَّرْدِ وَهُوَ الْمُتَابَعَةُ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ: ثَلَاثَةٌ سَرْدٌ وَوَاحِدٌ فَرْدٌ. وَالْمِيمُ مَزِيدَةٌ وَوَزْنُهُ فَعْمَلَ، وَنَظِيرُهُ دُلَامِصٌ مِنَ الدِّلَاصِ اه. دُلَامِصٌ (بِضَمِّ الدَّالِّ وَكَسْرِ الْمِيمِ) مِنْ صِفَاتِ الدِّرْعِ وَأَصْلُهَا دِلَاصٌ (بِدَالٍ مَكْسُورَةٍ) أَيْ بَرَّاقَةٌ. وَنُسِبَ إِلَى صَاحِبِ «الْقَامُوسِ» وَبَعْضِ النُّحَاةِ أَنَّ مِيمَ سَرْمَدٍ أَصْلِيَّةً وَأَنَّ وَزْنَهُ فَعْلَلْ. وَالْمُرَادُ بِجَعْلِ اللَّيْلِ سَرْمَدًا أَنْ لَا يَكُونَ اللَّهُ خَلَقَ الشَّمْسَ وَيَكُونَ خَلَقَ الْأَرْضَ فَكَانَتِ الْأَرْضُ مُظْلِمَةً.
وَالرُّؤْيَةُ قَلْبِيَّةٌ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَرَأَيْتُمْ تَقْرِيرِيٌّ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ إِنْكَارِيٌّ وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِهَذَا الِانْتِفَاءِ وَأَنَّ خَالِقَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لَا غَيْرُهُ.
وَالْمُرَادُ بِالْغَايَةِ فِي قَوْلِهِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِحَاطَةُ أَزْمِنَةِ الدُّنْيَا وَلَيْسَ الْمُرَادُ انْتِهَاءُ
جَعْلِهِ سَرْمَدًا.
وَالْإِتْيَانُ بِالضِّيَاءِ وَبِاللَّيْلِ مُسْتَعَارٌ لِلْإِيجَادِ شُبِّهَ إِيجَادُ الشَّيْءِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ
مَوْجُودًا بِالْإِجَاءَةِ بِشَيْءٍ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ الْمُثُولُ وَالظُّهُورُ.
وَالضِّيَاءُ: النُّورُ. وَهُوَ فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ قَالَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [5] . وَعَبَّرَ بِالضِّيَاءِ دُونَ النَّهَارِ لِأَنَّ ظُلْمَةَ اللَّيْلِ قَدْ تَخِفُّ قَلِيلًا بِنُورِ الْقَمَرِ فَكَانَ ذِكْرُ الضِّيَاءِ إِيمَاءً إِلَى ذَلِكَ.
وَفِي تَعْدِيَةِ فِعْلِ يَأْتِيكُمْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ إِيجَادَ الضِّيَاءِ وَإِيجَادَ اللَّيْلِ نِعْمَةٌ عَلَى النَّاسِ. وَهَذَا إِدْمَاجٌ لِلِامْتِنَانِ فِي أَثْنَاءِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الِانْفِرَادِ بِالْإِلَهِيَّةِ. وَإِذْ قَدِ اسْتَمَرَّ الْمُشْرِكُونَ عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ بَعْدَ سُطُوعِ هَذَا الدَّلِيلِ وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَقْدِرُ عَلَى إِيجَادِ الضِّيَاءِ جُعِلُوا كَأَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي أَقَامَتِ الْحُجَّةَ الْوَاضِحَةَ عَلَى فَسَادِ مُعْتَقَدِهِمْ، فَفَرَّعَ عَلَى تِلْكَ الْحُجَّةِ الِاسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِيَّ عَنِ انْتِفَاءِ سَمَاعِهِمْ بِقَوْلِهِ أَفَلا تَسْمَعُونَ أَيْ أَفَلَا تَسْمَعُونَ الْكَلَامَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى التَّذْكِيرِ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ اللَّيْلِ وَالضِّيَاءِ وَمِنْهُ هَذِهِ الْآيَةُ. وَلَيْسَ قَوْلُهُ أَفَلا تَسْمَعُونَ تَذْيِيلًا.
وَكَرَّرَ الْأَمْرَ بِالْقَوْلِ فِي مَقَامِ التَّقْرِيرِ لِأَنَّ التَّقْرِيرَ يُنَاسِبُهُ التَّكْرِيرُ مِثْلَ مَقَامِ التَّوْبِيخِ وَمَقَامِ التَّهْوِيلِ.
وَعُكِسَ الِاسْتِدْلَالُ الثَّانِي بِفَرْضِ أَنْ يَكُونَ النَّهَارُ وَهُوَ انْتِشَارُ نُورِ الشَّمْسِ، سَرْمَدًا بِأَنْ خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ غَيْرَ كُرَوِيَّةِ الشَّكْلِ بِحَيْثُ يَكُونُ شُعَاعُ الشَّمْسِ مُنْتَشِرًا عَلَى جَمِيعِ سَطْحِ الْأَرْضِ دَوْمًا.
وَوَصْفُ اللَّيْلِ بِ تَسْكُنُونَ فِيهِ إِدْمَاجٌ لِلْمِنَّةِ فِي أَثْنَاءِ الِاسْتِدْلَالِ لِلتَّذْكِيرِ بِالنِّعْمَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى نِعَمٍ كَثِيرَةٍ وَتِلْكَ هِيَ نِعْمَةُ السُّكُونِ فِيهِ فَإِنَّهَا تَشْمَلُ لَذَّةَ الرَّاحَةِ، وَلَذَّةَ الْخَلَاصِ مِنَ الْحَرِّ، وَلَذَّةَ اسْتِعَادَةِ نَشَاطِ الْمَجْمُوعِ الْعَصَبِيِّ الَّذِي بِهِ التَّفْكِيرُ وَالْعَمَلُ، وَلَذَّةَ الْأَمْنِ مِنَ الْعَدُوِّ.
وَلَمْ يُوصَفِ الضِّيَاءُ بِشَيْءٍ لِكَثْرَةِ مَنَافِعِهِ وَاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا.
وَتَفَرَّعَ عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ أَيْضًا تَنْزِيلَهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يُبْصِرُونَ الْأَشْيَاءَ الدَّالَّةَ عَلَى عَظِيمِ صُنْعِ اللَّهِ وَتَفَرُّدِهِ بِصُنْعِهَا وَهِيَ مِنْهُمْ بِمَرْأَى الْأَعْيُنِ.