الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَتَوْهُ بِصِيغَةِ فِعْلِ الْمَاضِي فَهُوَ كَقَوْلِه فَفَزِعَ.
[88]
[سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 88]
وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88)
الَّذِي قَالَهُ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْآيَةَ حَكَتْ حَادِثًا يَحْصُلُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَجَعَلُوا قَوْلَهُ وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً عَطْفًا عَلَى يُنْفَخُ فِي الصُّورِ [النَّمْل: 87] أَيْ وَيَوْمَ تَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً إِلَخْ.. وَجَعَلُوا الرُّؤْيَةَ بَصَرِيَّةً، وَمَرَّ السَّحَابِ تَشْبِيهًا لِتَنَقُّلِهَا بِمَرِّ السَّحَابِ فِي السُّرْعَةِ، وَجَعَلُوا اخْتِيَارَ التَّشْبِيهِ بِمُرُورِ السَّحَابِ مَقْصُودًا مِنْهُ إِدْمَاجُ تَشْبِيهِ حَالِ الْجِبَالِ حِينَ ذَلِكَ الْمُرُورِ بِحَالِ السَّحَابِ فِي تَخَلْخُلِ الْأَجْزَاءِ وَانْتِفَاشِهَا فَيَكُونُ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة: 5] ، وَجَعَلُوا الْخَطَابَ فِي قَوْلِهِ تَرَى لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِيَعُمَّ كُلَّ مَنْ يَرَى، وَجَعَلُوا مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ [الْكَهْف: 47] . فَلَمَّا أَشْكَلَ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ تَكُونُ قَبْلَ يَوْمِ الْحَشْرِ لِأَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا ذِكْرُ دَكِّ الْجِبَالِ وَنَسْفِهَا تُشِيرُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي انْتِهَاءِ الدُّنْيَا عِنْدَ الْقَارِعَةِ وَهِيَ النَّفْخَةُ الْأُولَى أَوْ قُبَيْلَهَا، فَأَجَابُوا بِأَنَّهَا تَنْدَكُّ حِينَئِذٍ ثُمَّ تُسَيَّرُ يَوْمَ الْحَشْرِ لِقَوْلِهِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً إِلَى أَنْ قَالَ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ [طه: 105- 108] لِأَنَّ الدَّاعِيَ هُوَ إِسْرَافِيلُ (وَفِيهِ أَنَّ لِلِاتِّبَاعِ أَحْوَالًا كَثِيرَةً، وَلِلدَّاعِي مَعَانِيَ أَيْضًا) .
وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: هَذَا مِمَّا يَكُونُ عِنْدَ النَّفْخَةِ الْأُولَى وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا نَسْفُ الْجِبَالِ وَدَكُّهَا وَبَسُّهَا. وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا عَطْفَ وَتَرَى الْجِبالَ عَلَى يُنْفَخُ فِي الصُّورِ [النَّمْل: 87] حَتَّى يَتَسَلَّطَ عَلَيْهِ عَمَلُ لَفْظِ (يَوْمَ) بَلْ يَجْعَلُوهُ مِنْ عَطْفِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَالْوَاوُ لَا تَقْتَضِي تَرْتِيبَ الْمَعْطُوفِ بِهَا مَعَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَهُوَ عَطْفُ عِبْرَةٍ عَلَى عِبْرَةٍ وَإِنْ كَانَتِ الْمَذْكُورَةُ أُولَى حَاصِلَةً ثَانِيًا.
وَجَعَلَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ قَوْلَهُ صُنْعَ اللَّهِ إِلَخْ مُرَادًا بِهِ تَهْوِيلُ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ النَّفْخَ فِي الصُّورِ وَتَسْيِيرَ الْجِبَالِ مِنْ عَجِيبِ قُدْرَتِهِ، فَكَأَنَّهُمْ تَأَوَّلُوا الصُّنْعَ بِمَعْنَى مُطْلَقِ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِ مَا فِي مَادَّة صنع مِنْ مَعْنَى التَّرْكِيبِ وَالْإِيجَادِ، فَإِنَّ الْإِتْقَانَ إِجَادَةٌ، وَالْهَدْمَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِتْقَانٍ.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قِيلَ هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ، أَيْ وَلَيْسَ بِخَبَرٍ. وَفِيمَا ضُرِبَ فِيهِ الْمَثَلُ ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهمَا: أَنَّهُ مَثَلٌ لِلدُّنْيَا يَظُنُّ النَّاظِرُ إِلَيْهَا أَنَّهَا ثَابِتَةٌ كَالْجِبَالِ وَهِيَ آخِذَةٌ بِحَظِّهَا مِنَ الزَّوَالِ كَالسَّحَابِ، قَالَهُ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيُّ.
الثَّانِي: أَنَّهُ مَثَلٌ لِلْإِيمَانِ تَحْسَبُهُ ثَابِتًا فِي الْقَلْبِ، وَعَمَلُهُ صَاعِدٌ إِلَى السَّمَاءِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَثَلٌ لِلنَّفْسِ عِنْدَ خُرُوجِ الرُّوحِ، وَالرُّوحُ تَسِيرُ إِلَى الْعَرْشِ.
وَكَأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِالتَّمْثِيلِ التَّشْبِيهَ وَالِاسْتِعَارَةَ.
وَلَا يَخْفَى عَلَى النَّاقِدِ الْبَصِيرِ بُعْدُ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْجِبالَ مُشَبَّهًا بِهَا فَهَذِهِ الْحَالَةُ غَيْرُ ثَابِتَةٍ لَهَا حَتَّى تَكُونَ هِيَ وَجْهُ الشَّبَهِ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْجِبالَ مُسْتَعَارًا لِشَيْءٍ وَكَانَ مَرُّ السَّحَابِ كَذَلِكَ كَانَ الْمُسْتَعَارُ لَهُ غَيْرَ مُصَرَّحٍ بِهِ وَلَا ضِمْنِيًّا.
وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ شِفَاءٌ لِبَيَانِ اخْتِصَاصِ هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ الرَّائِيَ يَحْسَبُ الْجِبَالَ جَامِدَةً، وَلَا بَيَانِ وَجْهِ تَشْبِيهِ سَيْرِهَا بِسَيْرِ السَّحَابِ، وَلَا تَوْجِيه التذليل بِقَوْلِهِ تَعَالَى صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ فَلِذَلِكَ كَانَ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَضْعٌ دَقِيقٌ، وَمَعْنًى بِالتَّأَمُّلِ خَلِيقٌ، فَوَضْعُهَا أَنَّهَا وَقَعَتْ مَوْقِعَ الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ بَيْنَ الْمُجْمَلِ وَبَيَانِهِ مِنْ قَوْلِهِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ [النَّمْل: 87- 89] بِأَنْ يَكُونَ مِنْ تُخَلِّلِ دَلِيلٍ عَلَى دَقِيقِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَثْنَاءِ الْإِنْذَارِ وَالْوَعِيدِ إِدْمَاجًا وَجَمْعًا بَيْنَ اسْتِدْعَاءٍ لِلنَّظَرِ، وَبَيْنَ الزَّوَاجِرِ وَالنُّذُرِ، كَمَا صُنِعَ فِي جُمْلَةِ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ [النَّمْل: 86] الْآيَةَ.
أَوْ هِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ [النَّمْل: 86] الْآيَةَ، وَجُمْلَةُ وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ [النَّمْل: 87] مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُمَا لِمُنَاسَبَةِ مَا فِي الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى تَمْثِيلِ الْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَكِنَّ هَذَا اسْتِدْعَاءٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ لِتَتَوَجَّهَ أَنْظَارُهُمْ إِلَى مَا فِي هَذَا الْكَوْنِ مِنْ دَقَائِقِ الْحِكْمَةِ وَبَدِيعِ الصَّنْعَةِ. وَهَذَا مِنَ الْعِلْمِ
الَّذِي أُودِعَ فِي الْقُرْآنِ لِيَكُونَ مُعْجِزَةً مِنَ الْجَانِبِ الْعِلْمِيِّ يُدْرِكُهَا
أَهْلُ الْعِلْمِ، كَمَا كَانَ مُعْجِزَةً لِلْبُلَغَاءِ مِنْ جَانِبِهِ النَّظْمِيِّ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ.
فَإِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّ الشَّمْسَ تَدُورُ حَوْلَ الْأَرْضِ فَيَنْشَأُ مِنْ دَوَرَانِهَا نِظَامُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَيَحْسُبُونَ الْأَرْضَ سَاكِنَةً. وَاهْتَدَى بَعْضُ عُلَمَاء اليونان إِلَى أَنَّ الْأَرْضَ هِيَ الَّتِي تَدُورُ حَوْلَ الشَّمْسِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دَوْرَةً تَتَكَوَّنُ مِنْهَا ظُلْمَةُ نصف الكرة الأرضي تَقْرِيبًا وَضِيَاءُ النِّصْفِ الْآخَرِ وَذَلِكَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ نَظَرِيَّةً مَرْمُوقَةً بِالنَّقْدِ وَإِنَّمَا كَانَ الدَّالُّ عَلَيْهَا قَاعِدَةَ أَنَّ الْجِرْمَ الْأَصْغَرَ أَوْلَى بِالتَّحَرُّكِ حَوْلَ الْجِرْمِ الْأَكْبَرِ الْمُرْتَبِطِ بِسَيْرِهِ وَهِيَ عِلَّةٌ إِقْنَاعِيَّةٌ لِأَنَّ الْحَرَكَةَ مُخْتَلِفَةُ الْمَدَارَاتِ فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُتَحَرِّكُ الْأَصْغَرُ حَوْلَ الْأَكْبَرِ فِي رَأْيِ الْعَيْنِ وَضَبْطِ الْحِسَابِ وَمَا تَحَقَّقَتْ هَذِهِ النَّظَرِيَّةُ إِلَّا فِي الْقَرْنِ السَّابِعَ عَشَرَ بِوَاسِطَةِ الرِّيَاضِيِّ (غَالِيلِي) الْإِيطَالِيِّ.
وَالْقُرْآنُ يُدْمِجُ فِي ضِمْنِ دَلَائِلِهِ الْجَمَّةِ وَعَقِبَ دَلِيلِ تَكْوِينِ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ دَلِيلًا رَمَزَ إِلَيْهِ رَمْزًا، فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْمُفَسِّرُونَ أَوْ تَسْمَعْ لَهُمْ رِكْزًا.
وَإِنَّمَا نَاطَ دَلَالَةَ تَحَرُّكِ الْأَرْضِ بِتَحَرُّكِ الْجِبَالِ مِنْهَا لِأَنَّ الْجِبَالَ هِيَ الْأَجْزَاءُ النَّاتِئَةُ مِنَ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ فَظُهُورُ تَحَرُّكِ ظِلَالِهَا مُتَنَاقِصَةً قَبْلَ الزَّوَالِ إِلَى مُنْتَهَى نَقْصِهَا، ثُمَّ آخِذَةً فِي الزِّيَادَةِ بَعْدَ الزَّوَالِ. وَمُشَاهَدَةُ تَحَرُّكِ تِلْكَ الظِّلَالِ تَحَرُّكًا يُحَاكِي دَبِيبَ النَّمْلِ أَشَدُّ وُضُوحًا لِلرَّاصِدِ، وَكَذَلِكَ ظُهُورُ تَحَرُّكِ قِمَمِهَا أَمَامَ قُرْصِ الشَّمْسِ فِي الصَّباح وَالْمَاء أَظْهَرُ مَعَ كَوْنِ الشَّمْسِ ثَابِتَةً فِي مَقَرِّهَا بِحَسَبِ أرصاد البروج والأنواء.
وَلِهَذَا الِاعْتِبَارِ غُيِّرَ أُسْلُوبُ الِاسْتِدْلَالِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ [النَّمْل: 86] فَجُعِلَ هُنَا بِطَرِيقِ الْخِطَابِ وَتَرَى الْجِبالَ. وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم تَعْلِيمًا لَهُ لِمَعْنًى يُدْرِكُ هُوَ كُنْهَهُ وَلِذَلِكَ خُصَّ الْخِطَابُ بِهِ وَلَمْ يُعَمَّمْ كَمَا عُمِّمَ قَوْلُهُ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ [النَّمْل: 86] فِي هَذَا الْخطاب، وادخارا لِعُلَمَاءِ أُمَّتِهِ الَّذِينَ يَأْتُونَ فِي وَقْتِ ظُهُورِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الدَّقِيقَةِ. فَالنَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى هَذَا السِّرِّ الْعَجِيبِ فِي نِظَامِ الْأَرْضِ كَمَا أَطْلَعَ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام عَلَى كَيْفِيَّةِ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، اخْتَصَّ اللَّهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِعِلْمِ ذَلِكَ فِي وَقْتِهِ وَائْتَمَنَهُ عَلَى عِلْمِهِ بِهَذَا السِّرِّ الْعَجِيبِ فِي قُرْآنِهِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِتَبْلِيغِهِ إِذْ لَا يَتَعَلَّقُ بِعِلْمِهِ للنَّاس مصلحَة حنيئذ
حَتَّى إِذَا كَشَفَ الْعِلْمُ عَنْهُ مِنْ نِقَابِهِ وَجَدَ أَهْلُ الْقُرْآنِ ذَلِكَ حَقًّا فِي كِتَابِهِ فَاسْتَلُّوا سَيْفَ الْحُجَّةِ بِهِ وَكَانَ فِي قِرَابِهِ.
وَهَذَا التَّأْوِيلُ لِلْآيَةِ هُوَ الَّذِي يساعد قَوْلُهُ وَتَرَى الْجِبالَ الْمُقْتَضِيَ أَنَّ الرَّائِيَ يَرَاهَا
فِي هَيْئَةِ السَّاكِنَةِ، وَقَوْلَهُ تَحْسَبُها جامِدَةً إِذْ هَذَا التَّأْوِيلُ بِمَعْنَى الْجَامِدَةِ هُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ حَالَةَ الْجِبَالِ إِذْ لَا تَكُونُ الْجِبَالُ ذَائِبَةً.
وَقَوْلُهُ وَهِيَ تَمُرُّ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى السَّيْرِ مَرَّ السَّحابِ أَيْ مَرًّا وَاضِحًا لَكِنَّهُ لَا يَبِينُ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ. وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ الْمُقْتَضِي أَنَّهُ اعْتِبَارٌ بِحَالَةِ نِظَامِهَا الْمَأْلُوفِ لَا بِحَالَةِ انْخِرَامِ النِّظَامِ لِأَنَّ خَرْمَ النِّظَامِ لَا يُنَاسِبُ وَصْفَهُ بِالصُّنْعِ الْمُتْقَنِ وَلَكِنَّهُ يُوصَفُ بِالْأَمْرِ الْعَظِيمِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ الَّتِي لَا تَدْخُلُ تَحْتَ التَّصَوُّرِ.
ومَرَّ السَّحابِ مَصْدَرٌ مُبَيِّنٌ لِنَوْعِ مُرُورِ الْجِبَالِ، أَيْ مُرُورًا تَنْتَقِلُ بِهِ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ مَعَ أَنَّ الرَّائِيَ يَخَالُهَا ثَابِتَةً فِي مَكَانِهَا كَمَا يَخَالُ نَاظِرُ السَّحَابِ الَّذِي يَعُمُّ الْأُفُقَ أَنَّهُ مُسْتَقِرٌّ وَهُوَ يَنْتَقِلُ مِنْ صوب إِلَى صَوْبٍ وَيُمْطِرُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ فَلَا يَشْعُرُ بِهِ النَّاظِرُ إِلَّا وَقَدْ غَابَ عَنْهُ. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ الْمَرَّ غَيْرُ السَّيْرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً [الْكَهْف: 47] فَإِنَّ ذَلِكَ فِي وَقْتِ اخْتِلَالِ نِظَامِ الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ.
وَانْتَصَبَ قَوْلُهُ صُنْعَ اللَّهِ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ مُؤَكِّدًا لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ بِتَقْدِيرِ: صَنَعَ اللَّهُ ذَلِكَ صُنْعًا. وَهَذَا تَمْجِيدٌ لِهَذَا النِّظَامِ الْعَجِيبِ إِذْ تَتَحَرَّكُ الْأَجْسَامُ الْعَظِيمَةُ مَسَافَاتٍ شَاسِعَةً وَالنَّاسُ يَحْسَبُونَهَا قَارَّةً ثَابِتَةً وَهِيَ تَتَحَرَّكُ بِهِمْ وَلَا يَشْعُرُونَ.
وَالْجَامِدَةُ: السَّاكِنَةُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَفِي «الْكَشَّافِ» : الْجَامِدَةُ مِنْ جَمَدَ فِي مَكَانِهِ إِذَا لَمْ يَبْرَحْ، يَعْنِي أَنَّهُ جُمُودٌ مَجَازِيٌّ، كَثُرَ اسْتِعْمَالُ هَذَا الْمَجَازِ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ وَالصُّنْعُ. قَالَ الرَّاغِبُ: إِجَادَةُ الْفِعْلِ فَكُلُّ صُنْعٍ فِعْلٌ وَلَيْسَ كُلُّ فِعْلٍ صُنْعًا قَالَ تَعَالَى وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ [هود: 38] وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ [الْأَنْبِيَاء: 80] يُقَالُ لِلْحَاذِقِ الْمُجِيدِ:
صَنَعٌ، وَلِلْحَاذِقَةِ الْمُجِيدَةِ: صَنَاعٌ. اه. وَقَصَّرَ فِي تَفْسِيرِ الصُّنْعِ الْجَوْهَرِيُّ وَصَاحِبُ «اللِّسَانِ»