المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ مبحث في العرشوالكرسي وإثبات صفة العلو - فتاوى ورسائل سماحة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - قسم العقيدة

[عبد الرزاق عفيفي]

فهرس الكتاب

- ‌ مباحث وفتاوى العقيدة

- ‌مسائل في علم التوحيد

- ‌المسألة الأولىإثبات أن العالم ممكن

- ‌ توحيد الربوبية

- ‌توحيد الأسماء والصفات

- ‌توحيد الإلهية

- ‌بيان كفر من آمن ببعض الرسل وكفر ببعض

- ‌قصة موسى عليه السلاموكيف أنها من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ منهج الرسل في الدعوة إلى الله

- ‌حصول الثقة واليقين في نفوس المكلفين بمصدر الشريعة وتبلغها

- ‌ مبحث في أن الجنة والنار مخلوقتانموجودتان الآن، وأنهما باقيتان لا تفنيان

- ‌ مبحث في العرشوالكرسي وإثبات صفة العلو

- ‌مما يجب اعتقاده أن الله اتخذ إبراهيم خليلا، وأنه كلم موسى تكليما

- ‌ رسالة فيالحكم بغير ما أنزل الله

- ‌ رسالة في الدفاععن السنة ورد شبهات المغرضين

- ‌الشبهة الأولىالاقتصار على القرآن وإنكار السنة

- ‌الشبهة الثانيةرد بعض الأحاديث لمخالفتها للعقل أولمعارضتها المستقر في بعض الأذهان

- ‌الرد على أهل المسلك الأولالقائلين برد السنة لمخالفتها العقل

- ‌الرد على أهل المسلك الثانيالقائلين برد السنة بتأويلها على ظاهرها

- ‌دندنة البعض بأن السنة لم تدون في عصر النبوة

- ‌استفسار وبيان

- ‌الجمع بين حديث الذبابوحديث أنتم أعلم بأمور دنياكم

- ‌حكم من رد السنة جملة وتفصيلا

- ‌ التعامل مع من يرد سنة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ وجوب تقديم نصوصالكتاب والسنة على العقل

- ‌ مبدأ وميثاقووجوب التزام عقيدة السلف

- ‌ مبحث في وجوب محبة أصحابرسول الله صلى الله عليه وسلم وموالاتهم والرد على الروافض والنواصب

- ‌ التعريف بأهل السنة والجماعةوتمييزهم عن الفرق الإسلامية

- ‌التعريف بأهل السنة والجماعة

- ‌ كبار الفرق الإسلامية

- ‌ الشيعة والفرق التي تشعبت منها

- ‌من فرق الشيعة الزيدية

- ‌من فرق الشيعة الإمامية

- ‌من فرق الشيعة الكيسانية

- ‌ فتاوى في العقيدة

- ‌التوسل المشروع والتوسل الممنوع

- ‌الكرامات

الفصل: ‌ مبحث في العرشوالكرسي وإثبات صفة العلو

6 -

‌ مبحث في العرش

والكرسي وإثبات صفة العلو

العرش والكرسي كلاهما حق، وللعرش حملة من الملائكة يحملونه فوقهم، قال الله تعالى:{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} وقال تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} وقد ميز الله العرش بنسبته إليه، وخصه باستوائه عليه، قال تعالى:{وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} وقال: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} وقال: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} ، وقال:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} وقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقال: في أكثر من آية {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} فدل ذلك على وجوده وامتيازه واستواء الله عليه، كما دلت الآية الثانية على وجود الكرسي.

واختلف في صفة العرش وموقعه من المخلوقات، فقيل: إن العرش مثل القبة فوق المخلوقات، واستدل لهذا بما رواه أبو داود وغيره في حديث الأطيط من قوله صلى الله عليه وسلم:«إن عرشه على سماواته» هكذا، وقال بأصابعه، مثل القبة.

ص: 249

أي: أشار بأصابعه إشارة تدل على أن العرش يشبه القبة، لكن هذا حديث ضعيف الإسناد، واستدل لذلك أيضا بما رواه البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة» ، لكن هذا لا يدل على أن العرش كالقبة فوق السماوات من جانب واحد، فإن السماوات محيطة بالأرض، ومع ذلك فهي كالقبة بالنسبة لكل جماعة على سطح الأرض من الجهة التي تليهم، وقيل: إن العرش فلك مستدير محيط بالعالم من كل جهة، وربما سماه أصحاب هذا القول الفلك الأطلسي أو الفلك التاسع، ورد هذا بأن للعرش قوائم، لما ورد في حديث بيان النبي صلى الله عليه وسلم فضل موسى عليه الصلاة والسلام من قوله صلى الله عليه وسلم:«فإن الناس يصعقون، فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور» فالظاهر أنه كسقف أقيم على قوائم، وأن الملائكة تحمله من هذا القوائم، وأيضا العرش في اللغة السرير الذي أعد للملك ليجلس عليه، ولا تفهم منه العرب إلا ذلك، وقد نزل القرآن بلغة العرب، وإذن ليس العرش فلكا مستديرا، بل هو كالقبة على العالم وسقف للمخلوقات، وقد استشهد لكونه سريرا بشعر أمية بن أبي الصلت:

مجدوا الله فهو للمجد أهل

ربنا في السماء أمسى كبيرا

بالبناء العالي الذي بهر النا

س وسوى فوق السماء سريرا

ص: 250

واستشهدوا لذلك أيضا بما ذكره ابن عبد البر وغيره من الأئمة، من أن عبد الله بن رواحة عرض لامرأته بشعر عن القراءة حينما اتهمته بجارته ليوهمها به أنه قرآن، وأنه ليس بجنب، قال:

شهدت بأن وعد الله حق

وأن النار مثوى الكافرينا

وأن العرش فوق الماء طاف

وفوق العرش رب العالمينا

وتحمله ملائكة شداد

ملائكة الإله مسومينا

لقول أبي ذر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهراني فلاة من الأرض» .

وتأول جماعة العرش فقالوا: إنه عبارة عن الملك، وهذا تحريف لكلام الله وإخراج له عن المعنى المتبادر منه بلا دليل، فإنه يبعد أن يقال في تفسير الآيات السابقة: ويحمل ملك ربك فوقهم يومئذ ثمانية، وأن يكون معنى {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} وكان ملكه على الماء، ويكون معنى أخذ موسى بقائمة من قوائم العرش أخذ بقائمة من قوائم الملك، فكان تفسير العرش بالملك باطلا.

أما الكرسي فقيل: إنه موضع القدمين، وأنه بين يدي العرش كالمرقاة إليه، فهو غير العرش، ولقول ابن عباس: الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر قدره إلا الله، وقيل: إن الكرسي هو العرش، ويرده ما تقدم عن ابن عباس، وفسر الكرسي بالعلم، ونسب هذا إلى ابن عباس، ولكن المحفوظ عنه

ص: 251

التفسير الأول.

هذا والسكوت عن الكلام في العرش وأنه كالقبة أو فلك مستدير محيط بالكائنات خير من الخوض في ذلك، وكذا ترك التعمق في كون العرش هو الكرسي أو خلافه خير من الجدل وكثرة الحديث فيه، فإن الخوض في ذلك والتعمق فيه من شره الفكر، واستشراف العقل إلى إدراك أمر غيبي لا يعلم إلا بالتوقف، فينبغي الوقوف عند النقل، ويجب أن يعلم أن استواء الله على العرش ليس لحاجته إليه، ولا لكون العرش حاملا له، فإن السماء فوق الأرض ومحيطة بها، ولم يلزم أن تكون السماء في قيامها وتماسكها محتاجة إلى الأرض، ولا أن تكون الأرض حاملة لها، فالله مستو على عرشه، وهو مستغن عنه وعما فيه من الكائنات، وهو فوق عباده حقيقة، محيط بهم إحاطة تليق بجلاله لا كإحاطة الفلك بما فيه من الكائنات، والجميع قائم بحوله وقوته ابتداء ودواما، محفوظ بعنايته ورعايته، جلت قدرته، وتعالت عظمته علوا كبيرا، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} وقال: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} .

وقال: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} وقال: {أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} وقال: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} .

وهذا هو مذهب السلف في صفة الاستواء، وعلو الله على عرشه حقيقة مع التفويض في الكيفية، فقد سئل مالك بن أنس رضي الله عنه: كيف استوى الله على العرش؟ فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، وذكر ذلك حسان بن ثابت في شعره، قال:

شهدت بإذن الله أن محمدا

رسول الذي فوق السماوات من عل

وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما

له عمل من ربه متقبل

يريد النبيين يحيى بن زكريا وأباه زكريا، وسأل مطيع البلخي أبا حنيفة عمن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض؟ فقال: قد كفر؛ لأن الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، وعرشه فوق سبع سماوات، قلت فإن قال:"إنه على العرش ولكن يقول لا أدري العرش في السماء أم في الأرض، قال: هو كافر، لأنه أنكر أنه في السماء، فمن أنكر أنه في السماء فقد كفر، وفي بعض الروايات عنه زيادة "لأن الله في أعلى عليين، وهو يدعى من أعلى لا من أسفل"، ومن أنكر هذا عن أبي حنيفة فهو ممن انتسب إلى مذهبه الفقهي مع مخالفته له في بعض مسائل الاعتقاد كالمعتزلة.

ص: 253

وقد شهدت العقول السليمة، والفطر المستقيمة على علو الله على خلقه وكونه فوق عباده، كما صرحت بذلك نصوص الكتاب والسنة المتنوعة والمحكمة.

فمن ذلك التصريح بالفوقية مقرونا تارة بحرف "من" المعنية لفوقيته تعالى بنفسه، ومجردا منها تارة أخرى، قال الله تعالى:{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} وقال: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} .

ومنها التصريح بالعروج إليه، قال تعالى:{تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون» .

ومنها التصريح بصعود العمل الصالح إليه، وبرفعه بعض المخلوقات إليه، قال تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} ، وقال:{بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} وقال: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ} وكذا عروج النبي محمد مع جبريل عليهما الصلاة والسلام إلى السماوات ليلة الإسراء والمعراج، وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنه تردد بين موسى وبين ربه تلك الليلة بشأن تخفيف الصلاة، فيصعد

ص: 254

إلى ربه ثم يعود إلى موسى عليه الصلاة والسلام عدة مرات.

ومنها التصريح بالعلو المطلق الدال على إثبات جميع مراتب العلو، علو النفس والقدر والشرف، قال تعالى: في آية الكرسي {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} .

وقال: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} .

وقال: {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} منها التصريح في كثير من الآيات بنزول القرآن منه - وتنزيله إلى الأرض يقتضي أنه فوق عباده. وقال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} ، وقال:{تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وقال: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} ومنها التصريح باختصاص بعض المخلوقات بأنها عنده، وأن بعضها أقرب إليه من بعض، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} وقال: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} ففرق سبحانه بين من له عموما وبين من عنده من ملائكة وعبيده خصوصا، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم «أن الله كتب كتابا فهو عنده فوق العرش، كتب فيه رحمتي سبقت غضبي» .

ص: 255

ومنها التصريح بأنه تعالى في السماء. قال تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} .

وبيان ذلك أن "في" بمعنى على، وتقدير المعنى: أأمنتم من على السماء، أو "في" على حقيقتها والسماء معناها العلو، وتقدير المعنى: أأمنتم من في العلو، ولا يجوز في معنى هذا النص إلا هذان الوجهان.

ومنها التصريح بأنه مستو علي العرش خاصة مع التعدية بعلى وذكر "ثم" في الأكثر، وهي دالة على الترتيب والمهلة، فلا يأتي مع ذلك تأويل استوائه على العرش بالقدرة، أو الاستيلاء عليه.

ومنها التصريح بمشروعية رفع الأيدي إلى السماء في الدعاء، فقد رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه إلى السماء وهو يدعو في الاستسقاء وغيره، وثبت عنه أنه قال:«إن الله يستحي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفرا» .

ومنها إشارته صلى الله عليه وسلم إشارة حسية إلى جهة "السماء" وهو يخطب الناس في حجة الوداع، يوم الأضحى بينما قال في خطبته:«سوف تسألون عني، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت» فرفع إصبعه الكريمة إلى السماء، مشيرا إلى أن الله فوقها وفوق كل شيء، ومنها «سؤاله الجارية بلفظ»

ص: 256

«صريح في ذلك حيث قال لها: أين الله؟ وشهادته لها بالإيمان حينما أجابته بأن الله في السماء وشهدت له بالرسالة، فقال لسيدها: أعتقها فإنها مؤمنة» فهذا السؤال والإقرار والحكم بإيمان الجارية منه صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الخلق بربه، وأنصحهم لأمته، وأفصحهم بيانا عن المعنى الصحيح بلفظ لا يوهم باطلا بوجه من الوجود دليل على أن الله فوق السماء، وأنه فوق كل شيء بنفسه، والأدلة المتعلقة بعلو الله على خلقه كثيرة متنوعة، يؤيد بعضها بعضا، فمن رام أن يتأولها فقد رام باطلا ومن سلك طريق التأويل لهذه النصوص فقد فتح على نفسه باب شر لا يمكنه إغلاقه، فإنه يسلط على نفسه بذلك مسلك الباطنية الذين يتأولون نصوص الصلاة والزكاة والصيام وسائر فرائض الإسلام، وبهذا يعود الشرع كله مؤولا.

ومع هذا فقد تأول كثير من المتأخرين الفوقية في قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} بأنه تعالى خير من عباده، وأنه خير من العرش وأفضل منه، وهو كما ترى تأويل بعيد تنفر منه العقول الرشيدة، وتأباه الفطر السليمة، فإنه لا تمجيد لله في ذلك ولا تعظيم له بل هو تأويل سمج مرذول، فإنه يشبه قول القائل: الجبل أثقل من الحصى، ورسول الله أفضل من اليهود، والجوهرة فوق قشر البصل أو قشر السمك ونحو ذلك مما التفاوت فيه عظيم، ولا شك أن التفاوت بين الله وبين عباده أعظم، ولو أن هذا المتأول أثبت الفوقية مطلقا، فوقية الذات، وفوقية القهر والغلبة، وفوقية القدر والمنزلة لكان ذلك صوابا، لاتفاقه مع نصوص الكتاب والسنة مع عدم المحذور أما أن يحصر تأويله في نوع منها بلا دليل فذلك باطل.

ص: 257

وقد يعبر بالخيرية بين الله وبين بعض خلقه إذا اقتضى المقام ذلك، كمقام الاحتجاج على من أشرك مع الله غيره، ودعوته إلى التوحيد، قال تعالى:{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ} وقال حكاية لمقالة يوسف عليه السلام لصاحبيه في السجن، ودعوته إياهما إلى التوحيد:{يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} .

وقد دلت الأدلة العقلية على ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، من أن الله بائن من خلقه وأنه فوق عباده بنفسه، وبيان أن وجود الله إما أن يكون ذهنيا فقط، وإما أن يكون في خارج الأذهان فالأول ممنوع بإجماع، وإذا تعين أن يكون وجوده خارج الأذهان، فإما أن يكون عين العالم أو صفة قائمة بالعالم، وإما أن يكون قائما بنفسه بائنا من خلقه وكل من الأول والثاني ممنوع، فتعين أن يكون الله موجودا قائما بائنا من خلقه.

الاستدلال بالفطرة على أن الله فوق عباده:

وإذا ثبت ذلك كان سبحانه فوق عباده، مستويا على عرشه؛ لأن السفول صفة ذم لا تتضمن مدحا ولا ثناء فلا يليق بالله، والعلو صفة مدح وثناء وكمال لا نقص فيه ولا يستلزم نقصا، ولا يوجب محذورا، ولا يخالف كتابا ولا سنة ولا إجماعا، بل النصوص وإجماع السلف تثبت ذلك وتقتضيه، فوجب اعتقاده وإنكار التأويل وصرف النصوص عن ظواهرها، لكونه عين الباطل الذي لا تأتي به الشريعة ولا يراه عقل سليم، فإذا قيل: إن أكثر العقلاء يتأولون نصوص الاستواء والعلو والفوقية بالاستيلاء والقهر والغلبة، وبعلو القدر والمنزلة، وبالخيرية وكمال الفضل، فكان تأويلهم مقتضى العقل، إذا يبعد أن يرمي

ص: 258

جمهور العلماء بالجهل والسفاهة، وتحريف النصوص الصحيحة عن مواضعها، ولا يكون لهم وجه يعتمدون عليه فيما ذهبوا إليه، قيل: ليس الأمر كذلك، فإن الذين يصرحون بأن خالق العالم شيء موجود خارج الأذهان لكنه ليس فوق العالم، وأنه ليس مباينا للعالم ولا داخلا فيه طائفة من النظار، وأول من ابتدع ذلك في الإسلام الجعد بن درهم، وتبعه في التحريف والتعطيل الجهم بن صفوان، فقام هو وأتباعه بنشر هذه البدعة بين الناس، وهم مسبقون بإجماع الصحابة والتابعين وأئمة التفسير والفقه والحديث على إجراء النصوص كما جاءت، وإمرارها على ظواهرها إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل، عملا بقوله تعالى:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ، وقوله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .

وقد شهدت بذلك الفطر السليمة أيضا، فإن الخلق جمعيا يرفعون أكفهم إلى السماء عند الدعاء بمقتضى فطرهم وبدافع قوي من طباعهم التي لم يداخلها إلحاد، ولم ينحرف بها عن جادة الحق تمويه ولا تلبيس، ويقصدون جهة العلو بقلوب كلها خشوع وضراعة إلى الله راجين أن يتقبل أعمالهم، ويستجيب دعاءهم، ويسبغ عليهم نعمه، ويعمهم بفضله وإحسانه.

وقد ذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مجلس الأستاذ أبي المعالي الجويني المعروف بإمام الحرمين، وهو يتكلم في نفي صفة العلو، ويقول: كان الله ولا عرش، وهو الآن على ما كان، فقال الشيخ أبو جعفر: أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنه ما قال عارف قط يا الله إلا وجد في قلبه ضرورة طلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة،

ص: 259

فكيف ندفع هذه الضرورة عن أنفسنا؟ قال: فلطم أبو المعالي على رأسه ونزل، وأظنه قال: وبكى، وقال: حيرني الهمداني حيرني، وكأن الشيخ أبا جعفر أراد أن هذا أمر فطري، فطر الله عليه عباده من غير أن يتلقوه عن المرسلين، يجدون في قلوبهم طلبا ضروريا يدفعهم للتوجه إلى الله وطلبه في العلو.

فإن قيل: إن رفع الأيدي إلى السماء، وتوجه القلوب إلى جهة العلو، إنما كان من أجل أن السماء قبلة الدعاء، كما أن الكعبة قبلة الصلاة، لا لأن الله في السماء فوق عباده، ثم هو منقوض بشرع السجود، ووضع الجبهة على الأرض مع أن الله ليس في جهة الأرض، أجيب:

أولا: يمنع أن تكون السماء قبلة الدعاء، فإن كون الشيء قبلة لا يعرف إلا من طريق الشرع، ولم يثبت في جعل السماء قبلة للدعاء كتاب ولا سنة، ولا قال به أحد من سلف الأمة وهم لا يخفى على جميعهم مثل هذا الأمر.

ثانيا: ثبت أن الكعبة قبلة الدعاء كما أنها قبلة الصلاة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستقبل الكعبة في دعائه في مواطن كثيرة، فمن ادعى أن للدعاء قبلة سوى

ص: 260

الكعبة أو ادعى أن السماء قبلته كما أن الكعبة قبلة له فقد ابتدع في الدين وخالف جماعة المسلمين.

ثالثا: أن القبلة ما يستقبله بوجهه، كما يستقبل الكعبة في الصلاة والدعاء والذكر والذبح ودفن الميت ونحو ذلك مما يطلب فيه استقبال القبلة، ولذا سميت القبلة وجهة لاستقبالها بالوجه، فلو كانت السماء قبلة الدعاء لكان المشروع أن يوجه الداعي وجهه إليها، لكنه لم يشرع بل نهى عنه، وإنما شرع رفع اليدين إلى السماء حين الدعاء لا يسمى استقبالا لها شرعا ولا لغة، ولا حقيقة ولا مجازا.

رابعا: أن الأمر باستقبال القبلة مما يقبل النسخ والتحويل، كالأمر باستقبال بيت المقدس في الصلاة نسخ بالأمر باستقبال الكعبة، ورفع الأيدي إلى السماء في الدعاء والتوجيه بالقلب إلى جهة العلو أمر فطري مركوز في طبائع الناس لم يتغير في جاهلية ولا إسلام، يضطر إليه الداعي عند الشدة والكرب مسلما كان أم كافرا.

خامسا: أن من استقبل الكعبة لا يقع في قلبه أن الله هناك جهة الكعبة، بخلاف الداعي فإنه يرفع يديه إلى ربه وخالقه وولي نعمته، يرجو أن تنزل عليه الرحمات من عنده، وأجيب عن نقضهم الاستدلال بالفطرة على أن الله فوق خلقه بما ذكروه من السجود ووضع الجبهة على الأرض بأنه باطل، فإن واضع الجبهة على الأرض في السجود إنما قصده الخضوع لله، وإعلان كمال ذل العبودية من الساجد لربه ومالك أمره، لا لأنه يعتقد أنه تحته فيهوى إليه ساجدا، فإن هذا لا يخطر ببال، بل ينزه ربه عن ذلك، ولهذا شرع له أن يقول في سجوده سبحان ربي الأعلى، تعالى الله عن الظنون الكاذبة علوا كبيرا.

ص: 261