الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التعريف بأهل السنة والجماعة
[ب]
كان الناس أمة واحدة على الحق بما أودع الله فيهم من فطرة الإسلام وبما عهد إليهم من الهدى والبيان، فلما طال عليهم الأمد قست قلوبهم فاجتالتهم الشياطين عن الصراط المستقيم، وسلكت بهم بنيات الطريق فتمزقت وحدتهم، واختلفت كلمتهم، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وكان الله عزيزا حكيما، قال -تعالى-:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} .
وقال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} .
وقال صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصراه، أو يمجسانه» . الحديث. وقد أمر الله تعالى - في كتبه، وعلى ألسنة رسله بوحدة الكلمة، والاعتصام بشرعه، وحذر من الفرقة والاختلاف، وبين عاقبة ذلك بما ذكر من أحوال الأمم الماضية، وما حاق بها من الدمار، وأصابها من الهلاك، وحثهم على البلاغ والبيان، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، نصرة للحق، وإزالة للشبهة، وإحباطا لكيد دعاة السوء، واستهوائهم النفوس الضعيفة، قال الله -تعالى-:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} .
وقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} . وقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} .
وعن العرباض بن سارية قال: «وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: أوصيكم بالسمع والطاعة، فإنه من يعش منكم بعدي، فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث.
ومع ذلك دب الخلاف بين الناس، فما من أمة من الأمم إلا وقد اختلفت بهم الأهواء حتى وضع كل لنفسه أصولا عليها يبني مذهبه، وإليها يرجع في خصومته، فتناقضت مذاهبهم، وصار كل واحد حربا على أخيه، وشغل بذلك عن كتاب الله، وهدي رسوله عليه الصلاة والسلام، إلا أنه -سبحانه- جرت سنته، واقتضت حكمته، أن يقيض للحق في كل عصر جماعة تقوم عليه، وتهدي الناس إليه، إنجازا للوعد بحفظ دينه، وإقامة للحجة وإسقاطا للمعاذير، قال -تعالى-:{وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} ، وقال:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وقال صلى الله عليه وسلم: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة» .
وفي رواية: «قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي» .
وفي رواية قال: «هي الجماعة» رواه أبو داود، والترمذي وابن ماجه وغيرهم وفي الحديث: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق
…
» .
وقد تبين من ذلك أن الفرقة الناجية هم أهل السنة والجماعة، وأن شعارها كتاب الله، وهدي رسوله عليه الصلاة والسلام، وكان عليه سلف الأمة الذين يؤمنون بمحكم النصوص ويعملون بها، ويردون إليه ما تشابه منها، وأما الفرق الضالة، فشعارها مفارقة الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، واتباع الأهواء، وشرع ما لم يأذن به الله من البدع والآراء الزائفة بناء على أصول وضعوها يوالون عليها ويعادون، فمن وافقهم عليها أثنوا عليه وقربوه، وكان في زعمهم من أهل السنة والجماعة، ومن خالفهم تبرءوا منه ونبذوه، وناصبوه العداوة والبغضاء وربما رموه بالكفر، والخروج من ملة الإسلام لمخالفته لأصولهم الفاسدة.
هذا وليس في نصوص الكتاب والسنة ما يعتمد عليه في تعيين الفرق، ولا بيان ما يرجع إليه في تمييز بعضها من بعض، وإن كان فيها التحذير من فرق الضلال، وذكر عددهم، وبيان شعارها إجمالا، ولسنا مكلفين بتعيينها، وتحديدها، ولا نحن في ضرورة إلى ذلك في عقيدة، أو عبادة، أو معاملة، أو دعوة إلى الحق، بل يكفينا في جميع شئوننا أن يتميز لدينا الحق من الباطل بالحجة والبرهان، وبالحق يعرف رجاله والدعاة إليه فلا يعيب الشريعة إن خلت من ذلك، ولا ينقص قدر العلماء أن يضربوا صفحا عن استقصاء الفرق الضالة حتى يبلغوا بها ما ذكر في الحديث من العدد، ومع ذلك، فقد حمل بعض العلماء حب الاستطلاع، والولع، والبحث أن يصنفوا في تعيين الفرق، ويذكروا لكل
فرقة ما به تتميز عن الأخرى إشباعا للرغبة، واستجابة لداعي الفكر، وحاولوا أن يبلغوا بما جمعوا وقسموا وأصلوا وفصلوا ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث من غير أن يتجاوزوه أو يقفوا دونه.
ومن أجل أن المسألة اجتهادية، ولا خبر فيها عن المعصوم تباينت مناهجهم في التصنيف، واختلفت مذاهبهم في التعيين، فمنهم من أخذ في عد الفرق من غير أن يبني على أساس، أو يستند إلى قانون يضبط ما ذكر من عدد الفرق، ومذاهبها، ومنهم من أصل أصولا يتفرع عنها ما سواها، ووضع قواعد تضمنت المسائل التي وقع فيها النزاع، وذكر كبار الفرق التي ينشعب عنها ما عداها، ومن هؤلاء الشهرستاني في كتابه "الملل والنحل". وإليك كلمته في أصول المذاهب، وكبار الفرق، فقال:
المقدمة الثانية:
في تعيين قانون يبني عليه تعديد الفرق الإسلامية: اعلم أن لأصحاب المقالات طرقا في تعديد الفرق الإسلامية لا على قانون مستند إلى نص، ولا على قاعدة مخبرة عن الوجود، فما وجدت مصنفين منهم متفقين على منهاج واحد في تعديد الفرق.
ومن المعلوم الذي لا مراء فيه أن ليس كل من تميز عن غيره بمقالة ما في مسألة ما عد صاحب مقالة، فتكاد تخرج المقالات عن حد الحصر والعدد، ويكون من انفرد بمسألة في أحكام الجوهر مثلا معدودا في عداد أصحاب المقالات، فلا بد إذن من ضابط في مسائل هي: أصول، وقواعد يكون الاختلاف فيها اختلافا يعتبر مقالة، ويعد صاحبها صاحب مقالة، وما وجدت لأحد من أرباب المقالات عناية بتقرير هذا الضابط، إلا أنهم استرسلوا في إيراد مذاهب الأمة كيفما اتفق وعلى الوجه الذي وجد بلا قانون مستقر ولا أصل مستمر، فاجتهدت على ما تيسر من التقدير وتقدر من التيسير، حتى حصرتها في أربع قواعد هي: الأصول الكبار.
القاعدة الأولى: الصفات، والتوحيد فيها، وهي تشتمل على مسائل: الصفات الأزلية إثباتا عند جماعة، ونفيا عند جماعة، وبيان صفات الذات، وصفات الفعل، وما يجب لله -تعالى- وما يجوز عليه وما يستحيل، وفيها الخلاف بين الأشعرية، والكرامية، والمجسمة والمعتزلة.
القاعدة الثانية: القدر والعدل، وهي تشتمل على مسائل: القضاء، والقدر، والجبر، والكسب في إرادة الخير، والشر، والمحذور، والمعلوم إثباتا عند جماعة، ونفيا عند جماعة، وفيها الخلاف بين القدرية والنجارية، والجبرية، والأشعرية، والكرامية.
القاعدة الثالثة: الوعد، والوعيد، والأسماء، والأحكام، وهي تشتمل على مسائل: الإيمان، والتوبة، والوعيد، والإرجاء، والتفكير والتضليل إثباتا على وجه عند جماعة، ونفيا عند جماعة، وفيها الخلاف بين المرجئة والوعيدية، والمعتزلة، والأشعرية، والكرامية.
القاعدة الرابعة: السمع، والعقل، والرسالة، والأمانة، وهي تشتمل على مسائل: التحسين، والتقبيح، والصلاح، والأصلح، واللطف، والعصمة في النبوة، وشرائط الإمامة نصا عند جماعة، وإجماعا عند جماعة، وكيفية انتقالها على مذهب من قال بالنص، وكيفية إثباتها على مذهب من قال بالإجماع، والخلاف فيها بين الشيعة والخوارج، والمعتزلة، والكرامية، والأشعرية، فإذا وجدنا انفراد واحد من أئمة الأمة بمقالة من هذه القواعد عددنا مقالته مذهبا، وجماعته فرقة، وإن وجدنا واحدا انفرد بمسألة فلا نجعل مقالته مذهبا، وجماعته فرقة، بل نجعله مندرجا تحت واحدة ممن وافق مقالته، ورددنا باقي الاختلافات إلى الفروع التي لا تعد مذهبا مفردا، فلا تذهب المقالات إلى غير النهاية، وإذا تعينت المسائل التي هي قواعد الخلاف تبينت أقسام الفرق، وانحصرت كبارها في أربع بعد أن تداخل بعضها في بعض.