المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌قصة موسى عليه السلاموكيف أنها من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم - فتاوى ورسائل سماحة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - قسم العقيدة

[عبد الرزاق عفيفي]

فهرس الكتاب

- ‌ مباحث وفتاوى العقيدة

- ‌مسائل في علم التوحيد

- ‌المسألة الأولىإثبات أن العالم ممكن

- ‌ توحيد الربوبية

- ‌توحيد الأسماء والصفات

- ‌توحيد الإلهية

- ‌بيان كفر من آمن ببعض الرسل وكفر ببعض

- ‌قصة موسى عليه السلاموكيف أنها من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ منهج الرسل في الدعوة إلى الله

- ‌حصول الثقة واليقين في نفوس المكلفين بمصدر الشريعة وتبلغها

- ‌ مبحث في أن الجنة والنار مخلوقتانموجودتان الآن، وأنهما باقيتان لا تفنيان

- ‌ مبحث في العرشوالكرسي وإثبات صفة العلو

- ‌مما يجب اعتقاده أن الله اتخذ إبراهيم خليلا، وأنه كلم موسى تكليما

- ‌ رسالة فيالحكم بغير ما أنزل الله

- ‌ رسالة في الدفاععن السنة ورد شبهات المغرضين

- ‌الشبهة الأولىالاقتصار على القرآن وإنكار السنة

- ‌الشبهة الثانيةرد بعض الأحاديث لمخالفتها للعقل أولمعارضتها المستقر في بعض الأذهان

- ‌الرد على أهل المسلك الأولالقائلين برد السنة لمخالفتها العقل

- ‌الرد على أهل المسلك الثانيالقائلين برد السنة بتأويلها على ظاهرها

- ‌دندنة البعض بأن السنة لم تدون في عصر النبوة

- ‌استفسار وبيان

- ‌الجمع بين حديث الذبابوحديث أنتم أعلم بأمور دنياكم

- ‌حكم من رد السنة جملة وتفصيلا

- ‌ التعامل مع من يرد سنة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ وجوب تقديم نصوصالكتاب والسنة على العقل

- ‌ مبدأ وميثاقووجوب التزام عقيدة السلف

- ‌ مبحث في وجوب محبة أصحابرسول الله صلى الله عليه وسلم وموالاتهم والرد على الروافض والنواصب

- ‌ التعريف بأهل السنة والجماعةوتمييزهم عن الفرق الإسلامية

- ‌التعريف بأهل السنة والجماعة

- ‌ كبار الفرق الإسلامية

- ‌ الشيعة والفرق التي تشعبت منها

- ‌من فرق الشيعة الزيدية

- ‌من فرق الشيعة الإمامية

- ‌من فرق الشيعة الكيسانية

- ‌ فتاوى في العقيدة

- ‌التوسل المشروع والتوسل الممنوع

- ‌الكرامات

الفصل: ‌قصة موسى عليه السلاموكيف أنها من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم

‌قصة موسى عليه السلام

وكيف أنها من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم

كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بعد تتابع المعجزات على ثبوتها -واضحة ظاهرة لكل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ولكن المشركين تعنتوا معه حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق وأنفة واستكبارا أن يتبعوا رجلا منهم، فطلبوا منه أن يأتيهم بآية، فهدى الله رسوله إلى أن فيما أوحى إليه من القرآن آيات بينات على نبوته وبعد ذلك نبأ موسى وفرعون.

فقد أوضح له في قصصهما أولا وجه دلالته على رسالته.

ثانيا سنته الحكيمة في إعداد الأنبياء لتحمل أعباء الرسالة.

أما الأول: فقد ذكر سبحانه في أول سورة "القصص" بيانا عن نشأة موسى عليه الصلاة والسلام، وحاله قبل الرسالة، وأتبعه ببيان عن رسالته إلى أن أنجاه ومن آمن به، وأهلك أعداءه ليكون ذلك آية، بل آيات على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصدقه فيما أنزل الله عليه من الوحي، ودعا إليه أمته من الهدى، ويرشد إلى ذلك قوله تعالى في مطلع السورة:{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ، وقوله تعالى عند انتهاء ما أراد ذكره من القصة:{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} .

وذكر في آخر السورة أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن لديه من الأسباب ما يبعث على الأمل في الرسالة، ولا من الدواعي ما يحمله على أن يحدث نفسه بها ويستشرف إليها

ص: 198

عن أن يدعيها ويسعى في تحقيقها، فقد كان صلى الله عليه وسلم أميا لا يقرأ ولا يكتب، ولم يخالط أهل الكتاب حتى يتعلم منهم قصص الأنبياء وتاريخ أممهم وما جرى بينهم من الأحداث، وليس في آبائه من ملك حتى تتعلق نفسه بذلك ويطلب ملك آبائه، وبيان ذلك كما يلي:

1 -

قدم الله بين يدي هذه القصة من الآيات ما بين فيها سنته العادلة وحكمته البالغة في القضاء على من علا في الأرض وأفسد فيها، ومنه على المستضعفين والتمكين لهم وإنالتهم من عدوهم فضلا منه ورحمة، والله عليم حكيم، قال تعالى:{وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} وأتبع قصة قارون وما أصابه من الهلاك بقوله: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} ، وهذه هي سنته سبحانه في عباده، ولن تجد لسنة الله تبديلا، ثم فصل ذلك فيما ذكره بعد من القصة.

2 -

ولد موسى عليه الصلاة والسلام بمصر وكان ملكها -إذ ذاك- جبارا جائرا يقتل كل حديثي الولادة، فاضطرت أمه إلى إلقائه في اليم خوفا عليه من خطر القتل فالتقطه آل فرعون، وحين ذاك مر موسى بطور آخر من أطوار الخطر، وقضى الله لنبيه أن ينتهي بهم التفكير في أمره إلى أن يتخذه فرعون ولدا، وأن ينشأ في بيت ملك ليربى فيه على العزة وشدة البأس وقوة العزيمة، والأخذ بالحزم، ولا يصاب بما أصيب به قومه من العذاب والذل والهوان، وبذلك يصلح لحمل أعباء الرسالة ومواجهة فرعون في جبروته وطغيانه، ثم أولاه سبحانه نعمة أخرى، فكتب عليه ألا يرضع إلا من أمه، حتى اضطر فرعون ومن إليه أن يردوه إلى أمه، وهم لا يشعرون، وبهذا التدبير الحكيم واللطف الخفي أنجز الله

ص: 199

لأم موسى وعده، فرجع إليها ولدها لكفله ويتمتع بحنانها، وينعم بعطفها وتقر به عينها، ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق.

3 -

هذه حلقة أولى من حياة موسى، كلها عبر وعظات وآيات بينات على سنته تعالى في إعداد أنبيائه قبل الرسالة فمنها:

أولا: أن الله سبحانه وتعالى جعل نجاته مما أصاب غيره من أبناء قومه فيما يراه الناس دمارا وإلقاء بالنفس إلى التهلكة {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} .

ثانيا: أن الله سبحانه كتب لموسى حياة سعيدة في بيت من يخشى عليه منهم، فعاش بين أظهرهم عيشة الملوك {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} .

ثالثا: أن الله حرم عليه تحريما كونيا أن يرضع من امرأة سوى أمه، فكان ذلك فيما يرى الناس بلاء أحاط به، وهم لا يشعرون، فاجتمع له إلى السلامة والنجاة عطف الأمهات وعز الملوك، {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} .

4 -

وهناك سلسلة أخرى من حياة موسى قبل الرسالة تضمنت الكثير مما حباه الله به من العلم والحكمة والمروءة والنجدة ونصر المظلوم والأخذ على يد الظالم والعطف على الضعيف وقوة الإيمان بالله والصدق في الالتجاء إليه والتوكل عليه

ص: 200

والتواضع مع عزة النفس، وغير ذلك من مكارم الأخلاق التي يعد الله بها من يختاره للرسالة وقيادة الأمم، وألخص ذلك فيما يأتي:

أولا: حفظ الله على موسى صفاء روحه وسلامة فطرته، فمع أنه عاش في أوساط ظلم وطغيان ولكن لم يتأثر بما يتأثر به من قضى أيامه الأولى من حياته في بيئة استشرى فيها الفساد، وطبعت بطابع الجبروت والاستبداد، ولم يصب بما يصاب به أبناء الوجهاء، ومن يتقلب في النعمة ورغد العيش غالبا من الجهل والاستهتار أو الرخاوة والخلاعة والمجون، بل صانه الله عن كل ما يشينه، وآتاه العلم النافع والحكمة البالغة وسداد الرأي، كما حفظ عليه نعمته من قبل في بدنه {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} .

ثانيا: جبل الله نبيه موسى على الحزم والأخذ بالقوة في نصرة المظلوم، يتجلى ذلك من الخصومة التي كانت بين إسرائيلي وفرعوني، وإنصافه للمظلوم، كما طبعه الله على الرفق بالضعيف والعطف عليه ومد يد المعونة إليه، يتبين ذلك فيما كان منه من النجدة حينما ورد ماء مدين، فوجد عليه أمة من الناس يسقون، ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء، وأبونا شيخ كبير، فسقى لهما، فجمع له بين شدة البطش بالظالمين، وكمال الرفق بالمستضعفين.

ثالثا: كان من آثار عناية الله بموسى ورعايته له أن قوى فيه الوعي الديني، واستحكمت الصلة بينه وبين ربه، فأحب ما يحبه الله من العدل والإنصاف، وكره ما يبغضه الله من الظلم والعدوان، لذلك فزع إلى ربه واعترف بظلمه لنفسه حينما قضى القبطي نحبه من وكزته، وأسرع في الأوبة إليه من ذنبه، فغفر الله له، فأخذ على نفسه عهدا ألا يكون ظهيرا للمجرمين، شكرا

ص: 201

لله على نعمته ووفاء له بما غفر من ذنبه {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} .

رابعا: فاض قلبه إيمانا بالله، وعظمت ثقته به وتوكلا عليه، فقصد إليه وحده في غربته وحيرته رجاء أن يهديه سواء السبيل {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} ، ولما اشتدت به الحاجة وأخذ منه الجوع مأخذه توجه إلى ربه وسأله من فضله، وأبت عليه عزة نفسه أن يشكو حاجته لغيره، أو يعرض لمن سقى لهما بطلب الأجر، {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} وقد استجاب الله دعاه وهيأ له بيئة صالحة يحيا فيها حياة طيبة فقد عرض عليه شعيب لما عرف عنه من القوة والأمانة أن يزوجه إحدى ابنتيه على أن يرعى له الغنم ثماني حجج، فإن أتم عشرا كان ذلك مكرمة منه، فالتزم موسى بذلك، ولم يمنعه ما كان فيه أولا من رغد العيش وحياة الملوك أن يكون أجيرا يأكل ويتزوج من كسب يده، وأشهد ربه على ذلك {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} وقد ثبت أنه أتم أبعد الأجلين، فدل على أنه طبع على حب الخير وفعل المعروف.

5 -

وحلقة ثالثة من حياة موسى عليه الصلاة والسلام بعد الرسالة يتجلى فيها

ص: 202

ما حباه الله به ليكون أصلا له يعتمد عليه في إثبات رسالته والرشاد، ويتبين ذلك في مواضع من القصة، منها:

أولا: طلب موسى من ربه أن يشد أزره بأخيه هارون، فإنه أفصح منه لسانا وأقوى بيانا، فآتاه سؤله، وأرسله معه زيادة في المنة ومضاعفة للإحسان، وليكون عونا له في الحجاج وتحمل أعباء الرسالة، وخافا أن يبطش بهما فرعون وجنوده وأن يقتلوا موسى بالقبطي الذي سبق أن قتله فقال تعالى:{لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} ، وجعل لهما سلطانا تقوم به الحجة، وتنخلع به قلوب الجبارين، وتمتلئ بالضعف والوهن من حجاج عقلي في الربوبية بهر فرعون وقطع عليه طريق الجدال، ومن يد إذا أدخلها في جيبه ثم أخرجها خرجت بيضاء للناظرين، ومن عصا إذا ألقاها صارت حية تسعى حقا لا سحرا، قد أبطل الله بها كيد الساحرين، وبهذا وغيره مما أيده الله به ثبت في ميدان الدعوة إلى الله ثبات واثق بربه مؤمن بما يدعو إليه من الهدى والنور، وتجلى في حجاجه صولة الحق، وأحسن من نفسه بالعزة والقوة، وبذلك ذل جبروت فرعون، وتلاشى عنده تألهه وتعاليه:{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} .

ص: 203

ولم يعد فرعون يملك لموسى من الكيد إلا أن يرعد ويبرق ويموه ويخدع {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} ولم يكن ليأخذ على يديه أحد من الحاضرين، ولا هناك من الأسباب العادية ما يمنعه أن يبطش بموسى، فإن الدولة دولته والجنود جنوده، لكنها عناية الله برسوله وما آتاه من آيات وسلطان قد بهر فرعون وقطع نياط قلبه، ولم يملك أيضا ملأ فرعون وزبانيته سوى أن يثيروا حفيظته ويغروه بموسى ومن آمن به، {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} .

من هذا يتبين للعاقل أن موسى وهو وحيد غريب وقومه مستعبدون لم يقف هذا الموقف من فرعون وملئه والدولة دولتهم إلا وهو مؤيد من ربه، صادق في دعوته أن هذا لهو الحق المبين.

ثانيا: جرت سنة الله العادلة أن يفتح بالحق بين رسله وبين من كذب بهم من الأمم، فينصر رسله ومن سار سيرتهم ويجعلهم خلفاء في الأرض، ويهلك من كذبهم وانحرف عن طريقتهم، ليكون ذلك من آيات الله التي يفصل بها بين الصادق والكاذب والحق والباطل والشريعة العادلة والقوانين الجائرة {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} ، وقال تعالى:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} ، وقال: قال {مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} .

ص: 204

وهذا الذي انتهى به أمر موسى ومن آمن به وفرعون ومن استهواه، {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} وقال:{فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} .

فانظر كيف اتحدت وسيلة الإنجاء للأولياء والإهلاك للأعداء وإنها آية الله الباهرة، وقدرته القاهرة، نجى موسى ومن آمن به بما جعله هلاكا لفرعون وجنده، هذا إلى جانب انفلاق البحر اثني عشر طريقا وتماسك مائه وخروجه عن طبيعة السيلان بضربة عصا.

وفي قصص موسى ذلك من الآيات ما يبهر العقول، ويأخذ بمجامع القلوب، ولا يدع مجالا للريب ولا قولا لقائل إلا من سفه نفسه، وسعى في هلاكها، والله الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 205