الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 -
منهج الرسل في الدعوة إلى الله
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أنبيائه ورسله وآلهم أجمعين، وبعد:
فلم يكن الله سبحانه وتعالى ليدع عباده سدى ويتركهم هملا دون أن يأمرهم، ينهاهم ويجزيهم على ما كسبت أيديهم، قال تعالى:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} ، وقال تعالى:{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} .
فأرسل سبحانه الرسل وشرع الشرائع رعاية لمصالح عباده في معاشهم، ومعادهم فضلا منه ورحمة، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ، وأبان الدليل وأوضح السبيل وبشر وأنذر إقامة للحجة عليهم وإعذارا إلى من حقت عليه كلمة العذاب، فاتبع هواه بغير هدى من الله حكمة منه وعدلا، قال تعالى:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} .
ومن تمام رحمة الله بعباده ونعمته عليهم وكمال حكمته في إقامة الحجة والإعذار إلى من سبق عليه القول منهم أن جعل شريعة كل رسول من رسله شاملة كل ما تحتاجه أمته جامعة لما يصلح شأنها، وينهض بها في إقامة دولتها وبناء مجدها، وتقويم أودها وحفظ كيانها، ويجعلها مثلا أعلى في جميع شئونها، سعيدة في الدنيا والآخرة، قال صلى الله عليه وسلم:«ما بعث نبيا إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم» بل تضمنت فوق ذلك ما يكمل الضروريات والحاجيات والتحسينات على خير حال وأقوم طريق، قال تعالى:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} .
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة، وأنا خاتم النبيين» .
وقال أبو ذر رضي الله عنه: «لقد توفي رسول صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما» .
وقال عمر رضي الله عنه: «قام فينا رسول الله مقاما، فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه، ونسيه من نسيه» .
وقال مالك بن أنس: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح أولها، ثم ذكر قوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} ، ثم قال: فما لم يكن يؤمنذ دينا فلا يكون اليوم دنيا.
ولا عجب في أن يشرع الله شريعة عامة دائمة لعالم يطول عهده ويتجدد خلقه وتتطور أحواله، ويكون التدرج في شرعها أيام رسولها، ثم تستقر بعد وفاته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فإن الله سبحانه أحاط بكل شيء علما ووسع كل شيء فقدره تقديرا، فهو عليم بكل شئونه الظاهرة والباطنة، وما
يصلح حاله في عاجله وآجله {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} .
إنما يستنكر ذلك من البشر ونحوهم من المخلوقات؛ لأن أفكارهم محدودة ومداركهم قاصرة، مع استيلاء الهوى عليهم وتمكن العصبية منهم، إلى غير ذلك مما يوجب كثرة اللغط في آرائهم والاضطراب والتناقض في مذاهبهم، في أصول التشريع وفروعه عن قصد وغير قصد، وخاصة تفاصيل التوحيد والمعاد والعبادات والمعاملات، قال تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} .
ولما كانت الأمم الماضية تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي وكان الوحي مستمرا، جرت فيهم سنة التطور في التشريع والتدريج في الأحكام، وكان الكثير من التفاصيل وفروع الشريعة مؤقتا، فنسخت الشريعة اللاحقة من أحكام الشريعة السابقة ما اقتضت المصلحة نسخه تنشئة للأمة وتربية لها وسدا لحاجتها، أو عقوبة لها على ظلمها وتمردها على شرائع ربها، قال تعالى -في رسالة عيسى عليه الصلاة والسلام:{وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} ، وقال تعالى في محمد عليه الصلاة والسلام:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} الذين {يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
أما هذه الأمة المحمدية فشريعتها خاتمة الشرائع، ورسولها خاتم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا نبي بعده، فاقتضت حكمة الله أن تكون شريعته فيهم عامة دائمة إلى يوم القيامة كفيلة بجميع مصالحهم الدينية والدنيوية، منظمة لنواحي حياتهم المختلفة، مغنية لهم عما سواها في جميع أمورهم وشئونهم، ولو طال بهم الأمد واختلفت أحوالهم على مر الأيام والعصور حضارة وثقافة، وتباينت أفكارهم ذكاء وغباوة، وحالتهم قوة وضعفا وغنى وفقرا.
وفاء الشريعة بمصالح الخلق في العاجل والآجل
وجاءت تكاليف هذه الشريعة جملتها وتفصيلها قواعدها وجزئيتها بتحقيق مقاصد التشريع الضرورية التي لا بد منها في قيام مصالح العباد الدينية والدنيوية، ولا تستقيم أحوالهم إلا بها، وذلك يرجع إلى ما يحفظ عليهم دينهم وأنفسهم وأنسابهم وعقولهم وأموالهم، وبتحقيق مقاصده الحاجية التي تيسر عليهم طريق العمل للوصول للغاية المنشودة، وتجعلهم في سعة وسهولة وترفع عنهم المشقة والحرج، وبتحقيق ما يجمل حالهم، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.
وصحيفة الوجود وواقع الحياة في تاريخ الأمم أصدق شهيد بذلك؛ فمن ابتغى الهدى في شريعة الله من النظم والقوانين الوضعية أضله الله، ومن
حكم غيرها في عقيدته أو عبادته أو معاملاته فهو مبتدع، فيه جاهلية، سيئ الظن بربه معجب بفكر نفسه أو أفكار من اتخذهم من زعمائه أربابا في التشريع يشرعون له ما يضاهي به شريعة الله، بل يؤثر قوانينهم مع قصورهم وتقصيرهم على شريعة أحكم الحاكمين، وكفى بذلك زيغا وضلالا وكفرا وطغيانا، قال تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .
وقال: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} .
وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} ، إلى غير ذلك من النصوص التي حثت على العمل بكتاب الله وهدي رسوله عليه الصلاة والسلام، وحذرت من الحيدة عن ذلك والإعراض عنه تباعا للآراء، ونحاتة الأفكار دون بينة من الله أو حجة عن المعصوم صلى الله عليه وسلم.
وإليك كلمات في أركان الشريعة والسياسة في البلاغ، وأمثلة من نصوص الكتاب والسنة وسيرة الخلفاء الراشدين، وسوف يتبين لك منها سعة الشريعة وغناها بالنصوص والقواعد العامة، والجزئيات الخاصة التي تشرح حق الله على عبده، وحق العبد على ربه، وحق الراعي والرعية، وتحدد موقف الدولة من الدولة في السلم والحرب، والعلاقة بين أفراد الشعب وجماعاته، بل بينت حقوق الحيوانات والعجماوات على راعيها وحدث من تسخيره لها وتسلطه عليها على وجه من العدالة يكفل لها البقاء، وحل جميع ما يجد من المشاكل العامة والخاصة على أقوم وأهدى سبيل.
إن للشريعة أصولا إليها ترجع، ودعائم عليها تقوم، فشريعة الصلاة والصيام والزكاة ونحوها من العبادات لا يستقيم أداؤها ولا التنسك بها إلا إذا عرف العابد أن يتقرب إليه غني كريم، قوي متين، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، إلى غير ذلك من صفات الجلال والإنعام وقوة البأس وشدة الانتقام، فإنه إذا عرفه العباد بذلك أشربت قلوبهم حبه، واستشعرت كمال الذل والخوف منه، فأسلموا وجوههم إليه، وعبدوه عبادة من يعلم أنه يسمعه ويراه ويراقبه في كل شئونه وأحواله رجاء رحمته وخشية عذابه.
وشريعة المعاملات لا تعدو -ذلك النهج- نهج العبادات؛ فإن استقامة الناس في أخلاقهم، وعدلهم في رضاهم وغضبهم، وإنصافهم لأوليائهم وأعدائهم، ونصحهم في بيعهم وشرائهم، وجميع معاملاتهم يتوقف على شعور القلب بهيمنة قوة غيبية فوق قوى العالم، قوة رب قادر يخفض ويرفع ويعطي ويمنع على سنن قويم من الحكمة والعدالة، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، ولا راد لما قضى، بذلك الشعور يستقيم حال الإنسان، وينتظم أمره في سره وعلنه، فيرعى الحقوق دفعا لعذابه ونقمته، وبذلك الشعور وحده يجتمع شمل العالم ويعم الأمن والسلام جميع مرافق الحياة.