الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 -
الرسالة
الإيمان بالرسل عليهم الصلاة والسلام ركن من أركان الدين، فلا يستقيم لأحد دين ولا يقبل منه عمل إلا إذا أيقن برسالتهم، وأذعن لكل ما جاءوا به من الشرائع كل حسب طاقته وبقدر ما بلغه من ذلك إجمالا أو تفصيلا، قال تعالى:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} ، وفي الحديث:«أن جبريل سأل النبي -عليهما الصلاة والسلام- عن الإيمان، فبينه بقوله: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره» .
بيان كفر من آمن ببعض الرسل وكفر ببعض
ومن زعم أنه آمن ببعض الرسل دون بعض لم يقبل منه ذلك، وكان في حكم من كفر بالجميع، وذلك لأمرين:
الأول: أن من تقدم من الرسل قد بشر بمن تأخر منهم، وأخذ عليه وعلى من تبعه العهد والميثاق إن أدركهم أن يؤمنوا به وينصروه، وأن من تأخر منهم مصدق لمن بين يديه، فمن كفر بواحد منهم تقدم أو تأخر فهو كافر بجميعهم.
الثاني: أن الأمر الذي ثبت به رسالة من آمن به منهم، ومن أجله صدقه، وهو المعجزة، قد أجرى الله مثله على يد من كفر به من الأنبياء تصديقا لهم في دعوى الرسالة، قال صلى الله عليه وسلم:«ما من الأنبياء نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» ، فكان إيمانه بمن آمن به، وكفره بغيره منهم اتباعا للهوى لا لدليل
النبوة وإلا لآمن بالجميع، ومن كان إيمانه تبع هواه ولو تغير هواه لتغير إيمانه فليس بمؤمن في حكم الشريعة، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} .
والقول في رسالة الرسل عليهم الصلاة والسلام يتشعب شعبا كثيرة ويرجع إلى مباحث عدة، يرجع إلى إمكان أن يوحي الله إلى بعض من يصطفيه من عباده بشريعة ليهدي بها أمته سواء السبيل، ثم إلى حاجة العالم إلى هذه القيادة الرشيدة والشريعة المستقيمة ليكون إرسالهم على مقتضى الحكمة وموجب العدالة الإلهية، ثم إلى بيان ما يؤيدهم الله به من الآيات البينات والمعجزات الباهرات التي تدل على صدقهم فيما ادعوه من الرسالة والبلاغ عن الله لتقوم بذلك الحجة وينقطع العذر، ثم إلى بيان ما يتعلق بذلك من تنوع المعجزات وحكمته، وبيان الفوارق بين المعجزات والسحر والكهانة، وبيان ما يعد الله به رسله قبل الرسالة من السيرة الحميدة والأخلاق الفاضلة؛ ليكون ذلك أقرب إلى أن تستجيب لهم أممهم، وتتقبل عنهم ما دعوهم إليه.
وقد تكفل الله ببيان ذلك كله خبرا وعقلا وفطرة فيما أنزل على رسله، فعلمهم سبحانه طريق الحجة والبرهان التي يخضع لها العقل الصريح، وسلك بهم الطريقة المثلى التي لا يرتاب فيها إلا من سفه نفسه وأنكر فطرته.
وإليك تفصيل ذلك؛ لتعلم أن الشرائع الإلهية تعتمد في أصولها الحجة والإقناع، وإن جاء في فروعها وتفاصيل أصولها ما قد يعجز العقل عن إدراك حكمته، فطريقه ثبوت مثل هذا الخبر عن المعصومين عليهم الصلاة والسلام.
مباحث الكلام على الرسالة
المبحث الأول
1 -
إمكان الوحي والرسالة
لا يبعد في نظر العقل، ولا يستحيل في تقدير الفكر أن يختص واهب النعم ومفيض الخير -سبحانه- بعض عباده بسعة في الفكر، ورحابة الصدر، وحسن قيادة، وكمال صبر، وسلامة في الأخلاق؛ ليعدهم بذلك لتحمل أعباء الرسالة، ويكشف لهم عما أخفاه عن غيرهم، ويوحي إليهم بما فيه سعادة الخلق وصلاح الكون رحمة للعالمين، وإعذارا إلى الكافرين، وإقامة للحجة على الناس أجمعين، فإنه -سبحانه- بيده ملكوت كل شيء وهو الفاعل المختار، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، وهو على كل شيء قدير.
وآية ذلك: أنا نشاهد أن الله سبحانه خلق عباده على طرائق شتى في أفكارهم ومذاهب متباينة في مداركهم، فمنهم من سما عقله واتسعت مداركه واطلع من الكون على كثير من أسراره، حتى وصل بما منحه الله من ثاقب الفكر، ويسر له من التجارب إلى أن اخترع للناس ما رفع إليه من أجله أولو الألباب رؤوسهم إعجابا به، وشهادة له بالمهارة، وأنكره عليه صغار العقول، وعدوه شعوذة وكهانة أو ضربا من ضروب السحر، ولم يزالوا كذلك حتى استبان لهم بعد طوال العهد ومر الأزمان ما كان قد خفي عليهم فأذعنوا له وأيقنوا بما كانوا به يكذبون.
ومنهم من ضعف عقله، وضاقت مداركه فعميت عليه الحقائق واشتبه عليه الواضح منها، فأنكرت البديهيات، ورد الآيات البينات، ومنهم من انتهى به انحراف مزاجه واضطراب تفكيره إلى أن أنكر ما تدركه الحواس كطوائف
السفسطائية.
وكما ثبت التفاوت بين الناس في العقول والأفكار بضرورة النظر وبديهة العقل، ثبت التفاوت بينهم -أيضا- في قوة الأبدان وضعفها، وسعة الأرزاق وضيقها، ونيل المناصب العالية والاستيلاء على زمام الأمور وقيادة الشعوب، والحرمان من ذلك إما للعجز وإما للقصور أو التقصير وإما لحكم أخرى يعلمها بارئ الكائنات، ليتخذ بعضهم بعضا سخريا، وربما كشف الغطاء عن الكثير منها لمن تدبر القرآن وعرف سيرة الأنبياء وتاريخ الأمم وما جرى عليها من أحداث.
فمن شاهد ما مضت به سنة الله في عباده من التفاوت بينهم في مداركهم وقواهم وإرادتهم، وغير ذلك من أحوالهم لم يسعه إلا أن يستسلم للأمر الواقع، ويستيقن أن الله ينبئ من شاء من خلقه ويصطفي من أراد من عباده:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} ، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} .
بل هذا الحوار وأمثاله مما دار بين الرسل وأممهم يدل على أنهم لم يكونوا ينكرون أصل الرسالة، ولم يكونوا يستبعدون أن يصطفي الله روحا طيبة لوحيه، أو يختار نفسا طاهرة لتبليغ رسالته وهداية خلقه، لكنهم استبعدوا أن يكون ذلك الرسول من البشر، وظنوا خطأ أنه إنما يكون من الملائكة، زعما منهم أن البشرية تنافي الرسالة، فمهما صفت روح الإنسان وسمت نفسه واتسعت مداركه فهو في نظرهم أقل من أن يكون أهلا؛ لأن يوحي الله إليه، وأحقر من أن يختاره -سبحانه- لتحمل أعباء رسالته.
وقد ذكر الله عنهم هذه الشبهة، وردها بما لا يسع العاقل إلا قبوله والإذعان له، ومن نظر في الكتب المنزلة وتصفح ما رواه علماء الأخبار مما دار بين الأنبياء وأممهم من الجدال والحجاج اتضح له ذلك، قال تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} الآيات إلى قوله: {قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} فانظروا كيف فروا من ميدان المناظرة إلى استعجال الهلاك، وطلبوا ذلك من نوح، فبين لهم أن ذلك إلى الله لا إليه، إن عليه إلا النصح والبلاغ المبين وإقامة الحجة والبرهان، وقال تعالى:{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ} ، فذكر
شبهتهم، ثم ردها بما آتاه من المعجزة الدالة على صدقه، وبنصره وإهلاكهم؛ فإن العاقبة للمتقين.
وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} ، وقال تعالى:{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} ، إلى غير ذلك من الآيات التي دلت على إنكار الأمم لم يكن لأصل الرسالة إنما كان لبعث رسول إليهم من جنسهم.
ولو قال قائل: إن أئمة الكفر وزعماء الضلالة كانوا يوقنون بإمكان أن يرسل الله رسولا من البشر، غير أنهم جحدوا ذلك بألسنتهم حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق، وتمويها على الطغام من الناس وخداعا لضعفاء العقول، وتلبيسا عليهم خشية أن يستجيبوا إلى مقتضى الفطرة، ويسارعوا إلى داعي الدين ومتابعة المرسلين -لو قال ذلك قائل- ما كان بعيدا عن الحقيقة ولا مجافيا للصواب، بل بدرت منهم البوادر التي تؤيد ذلك وتصدقه، وسبق إلى لسانهم ما يرشد البصير إلى ما انطوت عليه نفوسهم من الحسد والاستكبار أن يؤتى الرسل ما أوتوا دونهم، وأن ينالوا من الفضيلة وقيادة الأمم إلى الإصلاح ما لم ينل هؤلاء، قال تعالى:{وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} ، {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} .
هذا وليس بدعا أن يختار الله نبيا من البشر، ويبعث إليهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، بل ذلك هو مقتضى الحكمة وموجب العقل وما جرت به سنة الله في أنبيائه.
فإن الله سبحانه قد مضت سنته في خلقه أن يكونوا أنواعا مختلفة على طرائق شتى وطبائع متباينة، لكل نوع غرائزه وميوله، أو خواصه ومميزاته التي تقتضي الأنس والتآلف بين أفراده، وتساعد على التفاهم والتعاون بين جماعاته، ليستقيم الوجود، وينتظم الكون، فكان اختيار الرسول من الأمة أقرب إلى أخذها عنه وأدعى إلى فهمها منه وتعاونها معه لمزيد التناسب وإمكان الإلف بين أفراد النوع الواحد، ولو كان عمار الأرض من الملائكة لاقتضت الحكمة أن يبعث الله إليهم ملكا رسولا، وقد أرشد الله إلى ذلك في رده على من استنكر أن يرسل إلى البشر رسول منهم، قال تعالى:{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} ، ولكن شاء الله أن يجعل عمار الأرض من البشر، فاقتضت حكمته أن يرسل إليهم من أنفسهم، بل اقتضت حكمته ما هو أخص من ذلك ليكون أقرب إلى الوصول للغاية، وتحصيل المقصود من الرسالة فكتب على نفسه أن يرسل كل رسول بلسان قومه، قال تعالى:
ولو قدر أن الله أجاب الكفار إلى ما طلبوا من إرسال ملك لجعل ذلك الملك في صورة رجل؛ ليتمكنوا من أخذ التشريع عنه والاقتداء به فيما يأتي ويذر، ويخوض معهم ميادين الحجاج والجهاد، وإذ ذاك يعود الأمر سيرته الأولى، كما لو أرسل الله رسولا من البشر، ويقعون في لبس وحيرة، جزاء وفاقا، قال تعالى:{وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} .
ومن نظر في آيات القرآن، وعرف تاريخ الأمم تبين له أن سنة الله في عباده أن يرسل إليهم رسولا من أنفسهم، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} ، وقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} ، وفي ذلك الرد الواضح على من زعم منافاة البشرية للرسالة ببيان سنة الله في رسله وحكمته في اختيارهم على نحو يكفل المصلحة وينتهي بالأمة إلى المقصود.
المبحث الثاني
2 -
حاجة العالم إلى الرسالة
الأفعال الاختيارية منها ما تحمد عاقبته، فيجمل بالعاقل فعله والحرص عليه، ولو ناله في سبيل تحصيله حرج ومشقة، وأصابه منه في عاجل أمره كثير من الآلام، ومنها ما تسوء مغبته، فيجدر بالعاقل أن يتماسك دونه، وأن يتنكب طريقه خشية شره، وطلبا للسلامة من ضره وإن كان فيه ما فيه من اللذات العاجلة التي تغري الإنسان بفعله، وتخدعه عما فيه سلامته.
غير أن العاقل قد يقصر في كثير من شئونه عن التمييز بين إدراك ما قصر عنه إدراكه، وقد يعجز كليا عن العلم بما يجب عليه علمه؛ لأنه ليس في محيط عقله، ولا دائرة فكره، مع ما في علمه به من صلاحه وسعادته، وذلك كمعرفته بالله واليوم الآخر والملائكة تفصيلا، فكان في ضرورة إلى من يهديه الطريق في أصول دينه، وقد يتردد في أمر إما لعارض هوى وشهوة أو لتزاحم الدواعي واختلافها، فيحتاج إلى من ينقذه من الحيرة، ويكشف له عن حجاب الضلالة بنور الهدى، فبان بذلك حاجة العالم إلى رسول يخرجهم من الظلمات إلى النور، ويكلمهم بمعرفة ما قصرت عنه أفهامهم، ويوقفهم على حقيقة ما عجزوا عنه، ويدفع عنهم آلام الحيرة ومضرة الشكوك.
أضف إلى ذلك: أن تفاوت العقول وتباين الأفكار واختلاف الأغراض والمنازع ينشأ عنه تضارب الآراء وتناقض المذاهب، وذلك يفضي إلى سفك الدماء ونهب الأموال والاعتداء على الأعراض وانتهاك الحرمات، وبالجملة ينتهي إلى تخريب وتدمير لا إلى تنظيم وحسن تدبير، ولا يرتفع ذلك إلا برسول يأتي بفصل الخطاب، ويقيم الحجة، ويوضح المحجة، وينشر العدل، فاقتضت حكمة الله أن يرسل الرسل، وينزل الكتب رحمة بعباده وإقامة للعدل بينهم، وتبصيرا لهم بما يجب عليهم من حقوق خالقهم، وإعانة لهم على أنفسهم، وإعذارا إليهم؛ فإنه لا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل
وأنزل الكتب، ففي الحديث أن سعد بن عبادة قال: لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«تعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين، ولا أحد أحب إليه المدحة من الله، ومن أجل ذلك وعد الجنة» .
ومما تقدم يعلم أن إرسال الله للرسل مما يدخل في عموم قدرته، وتقتضيه حكمته فضلا من الله ورحمة، والله عليم حكيم، وهذا هو القول الوسط والمذهب الحق.
وقد أفرط المعتزلة فقالوا: إن بعثة الرسل واجبة على الله إبانة للحق، وإقامة للعدل ورعاية للأصلح، وهذا مبني على ما ذهبوا إليه من القول بالتحسين والتقبيح العقليين وبناء الأحكام عليهما -ولو لم يرد شرع- وهو أصل فاسد.
وتطرف البراهمة، فأحالوا أن يصطفي الله نبيا ويبعث من عباده رسولا، وزعموا أن إرسالهم عبث، إما لعدم الحاجة إليهم اعتمادا على العقل في التمييز بين المصالح والمفاسد، واكتفاء بما يدركه مما يحتاج إليه العباد في المعاش والمعاد، وإما لاستغناء الله عن عباده، وعدم حاجته إلى أعمالهم، خيرا كانت أو شرا؛ إذ هو سبحانه لا ينتفع بطاعتهم، ولا يتضرر بمعصيتهم.
وقد سبق بيان عدم كفاية العقل في إدراك المصالح والمفاسد، وحاجة العالم إلى رسالة تحقيقا لمصالحهم، مع غنى الله عن الخلق وأعمالهم، فليس إرسالهم عبثا، بل هو مقتضى الحكمة والعدالة.
المبحث الثالث
3 -
طريقة الرسل في إثبات توحيد الألوهية والعبادة
لم يدع الأنبياء أممهم إلى الإيمان بما جاءوا به من الشرائع دون بينة أو برهان يكون شاهد صدق على إثبات أن ما دعوهم إليه وحي من الله وشرعه الذي ارتضاه لعباده دينا، ولم يلزموهم بذلك دون إقناع تقوم به الحجة ويسقط به العذر، بل تحدى كل رسول أمته بما آتاه الله من الآيات البينات، والمعجزات الباهرات التي يخضع لها العقل السليم، وتتصاغر أمامها قوى الشر، وطلب منهم أن يأتوا بمثل ما ظهر على يده من خوارق العادات -وأنى لهم ذلك وهو من اختصاص واهب القوى والقدر- فلما عجزوا عنه كان دليلا واضحا على صدقهم في دعوى الرسالة، وأن ما جاءوا به شرع الله ودينه الحق.
فإن لله سبحانه من كمال الحكمة والعدالة وسعة الرحمة والجود وسابغ الكرم والإحسان ما يمتنع معه أن يؤيد متنبئا كذابا يخدع العباد ويفسد عليهم أمر دينهم ودنياهم؛ بل يستحيل في حكمه وعدله أن يبقى عليه أو يهمله؛ لما في ذلك من التلبيس والتضليل وفساد الكون وتخريبه، وهو شر محض، والشر ليس إليه سبحانه، ففي الحديث:«الخير كله بيديك والشر ليس إليك» .
وقد بين سبحانه أنه بالمرصاد لمن افترى عليه كذبا، أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء، فقال تعالى:{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} .
وإذا أبت حكمة الله وسعة رحمته أن يترك عباده سدى فلا يرسل إليهم
رسولا يأمرهم وينهاهم، ويبين لهم معالم الهدى وشرائع الحق، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة، فأولى في حكمه العدل ورحمته الواسعة أن يقضي على المتنبئين كذبا وافتراء، وأن يعاجلهم بالعقوبة والهلاك رحمة للعالمين وتمييزا بين رسله الصادقين والمتنبئين الكاذبين.
المبحث الرابع
4 -
الفرق بين المعجزة والسحر
كل ما لم تبلغه طاقة البشر ولم يقع في دائرة قدرتهم فهو معجز، وقد تطلق المعجزة على ما خرج عن طاقة العامة من الخلق دون الخاصة، كبعض المسائل العلمية المشكلة، واختراع بعض الآلات والأجهزة الحديثة ونحوها مما لا يقوى عليه إلا الخواص من الناس، كالغوص والسباحة وحمل الأثقال، وهذا عجز نسبي يكون في مخلوق دون آخر.
والمراد من المعجزة: هذا الأمر الخارق عن سنن الله العامة في خلقه الذي يظهره الله على يد مدعي النبوة تصديقا له في دعواه وتأييدا له في رسالته مقرونا بالتحدي لأمته ومطالبتهم أن يأتوا بمثله؛ فإذا عجزوا كان ذلك آية من الله على اختياره إياه وإرساله إليهم بشريعته.
أما السحر: فهو في اللغة كل ما دق ولطف وخفي سببه، فيشمل قوة البيان وفصاحة اللسان؛ لما في ذلك من لطف العبارة ودقة المسلك، ويشمل النميمة، لما فيها من خفاء أمر النمام وتلطفه في خداع من نم بينهما ليتم له ما يريد من الوقيعة، ويشمل العزائم والعقد التي يعقدها الساحر، وينفخ فيها مستعينا بالأرواح الخبيثة من الجن ليصل بذلك في -زعمه- إلى ما يريد من الأحداث والمكاسب.
ويتلخص الفرق بين المعجزة والسحر فيما يأتي:
أ - المعجزة ليست من عمل النبي وكسبه، وإنما هي خلق محض من الله على خلاف سننه في الكائنات، وقد طلب من محمد صلى الله عليه وسلم آية، فقال بإرشاد مولاه:{إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} ، وقال لمن استعجلوا ما توعدهم به من أمر ربه:
{مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} . أما السحر فمن عمل الساحر وكسبه سواء أكان تعويذات أم بيانا أم نميمة أم غير ذلك، وله أسبابه ووسائله التي قد تنتهي بمن عرفها ومهر فيها وعمل بها إلى مسبباتها، فليس خارقا للعادة ولا مخالفا لنظام الكون في ربط الأسباب بمسبباتها والوسائل بمقاصدها.
ب - المعجزة تظهر على يد مدعي النبوة؛ لتكون آية على صدقه في دعوى الرسالة التي بها هداية الناس من الضلالة وإخراجهم من الظلمات إلى النور، والأخذ بأيديهم إلى ما ينفعهم في عقائدهم وأبدانهم وأموالهم، والسحر خلق ذميم أو حرفة أو صناعة يموه بها الساحر على الناس ويضللهم، ويخدعهم بها عن أنفسهم وما ملكت أيديهم، ويتخذها وسيلة لكسب العيش من غير حله، ويفرق بها بين المرء وزوجه والصديق وصديقه، وبالجملة يفسد بها أحوال الأمة في خفاء، والناس عنه غافلون.
ج - سيرة من ظهرت على يده المعجزة حميدة وعاقبته مأمونة، فهو صريح في القول والفعل، صادق اللهجة، حسن العشرة، سخي كريم عفيف عما في أيدي الناس يدعو إلى الحق وينافح عنه بقوة وشجاعة، أما الساحر فسيرته ذميمة ومغبته وخيمة، خائن خداع سيئ العشرة، يأخذ ولا يعطي، يدعو إلى الباطل، ويسعى جهده في ستره خشية أن يفتضح أمره ويكشف سره فلا يتم له ما أراد من الشر والفساد.
د - من ظهرت على يده المعجزة يقود الأمم والشعوب إلى الوحدة والسعادة، ويهديها طريق الخير، وعلى يده يسود الأمن والسلام وتفتح البلاد، ويكون العمران، والساحر آفة الوحدة ونذير الفرقة والتخريب والفوضى والاضطراب.
المبحث الخامس
5 -
تنوع المعجزة مع بيان الحكمة في ذلك
آيات الأنبياء التي أيد الله بها رسله قد اختلفت أنواعها، وتباينت مظاهرها وأشكالها إلا أنها تجتمع في أن كلا منها قد عجز البشر عن أن يأتوا بمثله منفردين أو مجتمعين، فكانت بذلك شاهد صدق على الرسالة وحجة قاطعة تخرس الألسنة وينقطع عندها الخصوم، ويجب لها التسليم والقبول.
ويغلب أن تكون معجزة كل رسول مناسبة لما انتشر في عصره وبرز فيه قومه، وعرفوا بالمهارة فيه؛ ليكون ذلك أدعى إلى فهمها، وأعظم في دلالتها على المطلوب، وأمكن في الإلزام بمقتضاها.
ففي عهد موسى انتشر السحر، ومهر فيه قومه حتى أثروا به على النفوس، وسحروا أعين الناظرين، وأوجس في نفسه خيفة منه من شهده وإن كان عالي الهمة قوي العزيمة، فكان ما آتاه الله نبيه موسى فوق ما تبلغه القوى والقدرة، وما يدرك بالأسباب والوسائل، وقد أوضح الله ذلك في كثير من الآيات، قال تعالى:{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى قَالَ أَلْقِهَا يَامُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} ، ولهذا بهت السحرة وبطل ما جاءوا به من التمويه والتخييل وامتاز الحق من الباطل، قال تعالى في بيان ذلك في المباراة التي كانت بين موسى عليه السلام والسحرة {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} .
وفي عهد المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام برع بنو إسرائيل في الطب، فكان مما آتاه الله أن يصور من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، وإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى بإذن الله، إلى غير ذلك من الآيات التي ثبت بها رسالته، وقامت بها الحجة على قومه.
وفي عهد محمد صلى الله عليه وسلم كان العرب قد بلغوا الغاية في الفصاحة وقوة البيان، وجرت الحكمة على ألسنتهم، حتى اتخذوا ذلك ميدانا للسباق والمباراة، فأنزل الله القرآن على رسوله عليه الصلاة والسلام، فكانت بلاغته وبيانه وما تضمنه من الحكم والأمثال إلى جانب ما كان من تأبيد إعجازه كان ذلك من الأدلة والآيات التي تدل على صدقه في نبوته ورسالته قال صلى الله عليه وسلم:«ما من الأنبياء نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» .
المبحث السادس
6 -
معجزات الأنبياء لا تنحصر فيما تحدى به كل نبي قومه
وليست معجزات موسى، وعيسى، ومحمد عليهم الصلاة والسلام قاصرة على ما ذكر، وإنما ذلك بيان لما تحدى به كل منهم قومه، وجعله قاعدة يبني عليها دعوته، ويثبت بها شريعته وإلا فلهؤلاء وغيرهم من الأنبياء كثير من الآيات البينات، والدلائل الواضحات التي دلت على صدقهم سوى ما تحدى به كل نبي قومه، منها ما يرجع إلى سيرتهم قبل الرسالة، فإن الله قد أعدهم لتحمل أعباء رسالته، ومنها ما يرجع إلى ثبات جأشهم وقوة بأسهم في مقام الدعوة والجهاد في سبيل الله نصرة للحق ونشرا له بأنفسهم، وبمن آمن معهم، وهم الأقل عددا والأضعف جاها، مع غنى خصومهم وكثرة عددهم وعددهم وقوة سلطانهم، إلى غير ذلك مما يدل على صدق الداعي في دعوته، وكمال يقينه بها، ومنها ما يرجع إلى سلامة الشريعة التي يدعون إليها، وحكمتهم في حمل الناس عليها، وقوة حجاجهم في الدفاع عنها، وما شوهد من آثارهم في صلاح من اهتدى بها من الأمم في الدولة والسياسة والاجتماع والاقتصاد والحرب وغير ذلك من أحوال الشعوب، حتى إذا حرفوها عن مواضعها وتأولوها على غير وجهها أو أعرضوا عنها وتركوا العمل بها دالت دولهم وساءت حالهم، فإن العاقبة للمتقين، والخيبة والخسران على المفسدين.
ومن ذلك يتبين أن الرسالة ليست شعوذة ولا كهانة، فإن الرسل عرفوا بالصدق والأمانة، والشياطين إنما تنزل على من يجانسهم في الكذب والافتراء والإفك والبهتان، قال تعالى:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} ، ولو لمست الشياطين السماء استراقا للسمع أو طلبا للوحي ما وجدوا إلى ذلك سبيلا، قال تعالى في شأن القرآن:
وما تنزلت به الشياطين {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} .
وليست الرسالة أيضا من جنس ما تجود به قريحة الشعراء، وتمليه عليهم مما تهواه نفوسهم، فإن الشعراء -إلا من عصم الله- يغلب عليهم أن يسلكوا كل فج، ويضربوا في كل واد، ومن سلك سبيلهم كان على شاكلتهم في الغي والفساد.
أما الرسل فقد جاءوا بالهدى ودين الحق، ومن سلك سبيلهم كان على بصيرة في عمله وبينة من أمره واستقامة في سيره، قال تعالى:{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} .
ومن المعجزات ما يرجع إلى آيات حسية أكرم الله بها رسله ومن آمن بهم من تفريج كربة وإزالة شدة، أو خوارق عادات طلبتها الأمة بغيا وعنادا، كانشقاق القمر، فأجيبت إليها دفعا للحرج عن الرسل وزيادة في التثبيت لهم والإعذار إلى من كفر بهم، ومنها ما يرجع إلى تعليم الصناعات وتيسير طريقها كإسالة عين القطر وإلانة الحديد لداود عليه السلام على خلاف السنة الكونية، ليكون ذلك آية له وكرامة، ليكون سعة للعباد ورحمة لهم، وكتسخير الريح والطير والجن لسليمان عليه السلام، إلى غير ذلك مما لا يحصيه إلا الله، ومن اطلع على قصص الأنبياء في القرآن وكتب السير وجد الكثير من ذلك، وسأذكر جملة منها بعد ترشد إلى ما وراءها مما لم يذكر إن شاء الله.
وقد بين سبحانه لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم في كثير من قصص القرآن الطريقة المثلى التي يثبت بها رسالته ويحاج بها أمته، وأرشده إلى كون ذلك القصص آية بينة توجب عليهم أن يستجيبوا لما دعاهم إليه من التصديق برسالته، والإيمان بسائر ما جاءهم من عند الله.
قصة يوسف عليه الصلاة والسلام
وكيف أنها من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم
إن هذه القصة فيها كثير من العجائب والعبر والعظات والأحكام والأخلاق وألوان الابتلاء والامتحان والفضل والإحسان، والذي أقصد إليه من مباحثها أمران لمزيد اتصالهما بما أنا بصدد الكلام عليه، الأول: كيف كانت هذه القصة معجزة لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، والثاني: كيف كانت دليلا على أن الله يعد رسله في حياتهم الأولى قبل الرسالة لتحمل أعبائها حين إرسالهم إلى أممهم.
أما الأول: فإنه تعالى ذكر قصة يوسف عليه الصلاة والسلام في القرآن مفصلة؛ لتكون آية، بل آيات على نبوة رسوله محمد عليه الصلاة والسلام، وبيان ذلك: أنه كان أميا لم يقرأ شيئا من كتب الأولين، ولا درس شيئا من تاريخهم، ولا خط من ذلك شيئا بيمينه حتى يرتاب في أمره ويتهم بأنه تكلم بما قرأ أو درس، قال تعالى:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} ، بل كان من الغافلين عن قصة يوسف وأمثالها، لم تخطر له ببال، ولم تقرع له سمعا قبل أن يوحي الله بها إليه، ويذكرهم له في محكم كتابه، قال تعالى في مطلع سورة يوسف:{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} ، وقال بعد ذكر يوسف لرؤياه وعرضها على أبيه ووصية أبيه له:{لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} .
ولم تكن قصة يوسف بالأمر الذي اشتهر في العرب، وتناولوه بالحديث فيما بينهم، بل كانت غيبا بالنسبة إليهم، ولا كان محمد مع يوسف وإخوته،
ولا شهد مكرهم به، ولا كيدهم له فيتهم بأنه تكلم بأمر شهده أو انتشر بين قومه، قال تعالى لنبيه محمد في ختام قصة يوسف عليه الصلاة والسلام:{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} .
ولا يسع أحدا أن يقول إنه عرف تفاصيل القصة من اليهود، فإن السورة مكية، واليهود كانوا يعيشون بالشام والمدينة وما حولها، ولم يعرف عنه أنه اتصل بهم قبل الهجرة، ولا دارسهم شيئا من العلوم، ولو كان تم شيء من ذلك لانكشف أمره لطول العهد وكثرة الخصوم وحرج قومه من دعوته، وسعيهم جهدهم في الكيد له والصد عنه وحرصهم على تشويه سمعته والقضاء عليه وعلى دعوته حتى رموه بالسحر والكهانة والجنون، واتهموه زورا بالكذب، وهو في قرارة أنفسهم الصادق الأمين، وتبادلوا الرأي فيما يوقعونه من حبسه أو طرده من بينهم وتشريده، وانتهى أمرهم بالاتفاق على قتله، فأنجاه الله من كيدهم، وكتب له الهجرة إلى المدينة حيث عز الإسلام وقامت دولته، قال تعالى:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} ، فقوم هذا شأنهم معه لا يخفى عليهم أمره وهو يعيش بين أظهرهم وهو له بالمرصاد، فلو وجدوا سبيلا عليه باتصاله باليهود والأخذ عنهم لسارعوا إلى فضيحته، والتشنيع عليه بذلك ولم يضطروا إلى الافتراء عليه، ولا إلى التفكير في قتله أو تشريده ولا إلى نشوب الحرب بينه وبينهم سنين طويلة ولم يلجئوا إلى اتهامه تهمة تحمل ردها في طيها، فقد اتهموه برجل أعجمي بمكة وادعوا أنه يعلمه، فسفه الله أحلامهم وألقمهم الحجر، قال تعالى:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} .
وليست قصة يوسف خبرا مقتضبا عبر عنه بالجملة أو الجملتين، فيقال إن صدقه في الحديث عنها وليد الصدفة والاتفاق، بل هي قصة كثيرة العجائب متشعبة الموضوعات، وقعت بين أطراف مختلفة في أزمان متباعدة، فمن رؤيا صادقة إلى مؤامرة، ثم نجاة يتبعها بيع، ثم إيواء
…
إلى مراودة يتبعها هم، ثم عصمة من الفحشاء
…
إلى سجن فيه دعوة إلى التوحيد مع رفق وحسن سياسة وتأويل للرؤيا أصدق تأويل يتبع ذلك خروجه عليه السلام من السجن بريئا من التهمة، وتولية شئون الدولة واجتماع إخوته به مع معرفته لهم وإنكارهم إياه، وما أكثر ما دار بينه وبينهم من الأحاديث وما جرى من الأحداث..... إلى أن انتهى ذلك بتعريفه لهم بنفسه وعفوه عنهم، وحضور أبويه إليه على خير حال إلى غير ذلك من التفاصيل التي يعرفها البصير بكتاب الله.. وقد سيقت القصة مفصلة في جميع نواحيها مستوفاة في جميع فصولها في أدق عبارة وأحكم أسلوب.. أفيعقل بعد ذلك أن يقال إن صدقه عليه الصلاة والسلام فيما سرده من قضاياها ووقائعها وعجائبها على هذا النهج الواضح والطريق السوي وليد الصدفة والاتفاق.
وختم سبحانه سورة يوسف بمثل ما بدأها به من الإرشاد إجمالا إلى القصد الذي من أجله سيقت القصة، وهو أن تكون آية على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وصدقه فيما جاء به من التشريع، وأن قصة يوسف ونحوها مما نزل به الوحي مستقى من المشكاة التي أخذ منها الأنبياء، فليس حديثا مفترى ولكنه تصديق لما بين يديه من كتب المرسلين، وتفصيل لما يحتاج إليه المكلفون من التشريع في معاشهم ومعادهم، وجماع الهداية والرحمة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، أفيمكن أن تكون هذه القيادة الرشيدة بهذا التشريع المستقيم من إنسان أمي عاش في أمة أمية من عند نفسه دون وحي من الله؟ كلا إنها العناية الربانية والرسالة الحقة، والوحي الصادق المبين، نزل به الروح الأمين على قلب محمد
صلى الله عليه وسلم ليكون رحمه للعالمين {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
وأما الثاني: فإن في تفاصيل القصة كثيرا من الأسرار والعجائب التي أيد الله بها رسله، وهيأ بها أنبياءه لقيادة الأمم وسياسة الشعوب من أخلاق سامية وآداب عالية وحكمة بالغة وقوة عزيمة وعقائد صحيحة، وبيان ذلك من وجوه كثيرة:
أ - منها صفاء روح يوسف، ونقاء سريرته، وهذا واضح من الرؤيا الصادقة التي رآها في صغر سنه، وأول نشأته، فتحقق تأويلها بسجود أبويه وإخوته له في كبر سنه وختام حياته، {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} .
ب - ومنها ما خصه الله به من الميزات التي زادت تعلق والده به وحبه له، وحملت إخوته على التآمر عليه والكيد له، فأشار بعضهم بقتله ليخلوا لهم وجه أبيهم وتطيب لهم الحياة مع أبيهم من بعده، ورأى آخرون أن في إبعاده عن أبيه الكفاية، فلما أجمعوا أمرهم على ذلك، ورموه في غيابة الجب، وأوحى الله إليه لتنبئهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون، إيناسا له وإزاحة للغمة عن نفسه، وهيأ له من أخرجه من البئر، لكنهم باعوه بثمن بخس دراهم معدودة، فرعاه الله وجعله عند من يكرم مثواه، ومكن له في الأرض، وعلمه من تأويل الأحاديث {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} .
ج - ومنها الحلم والصفح الجميل وسعة الصدر والصبر على البلاء، فإنه بعد
أن مكن الله له وجعله على خزائن الأرض، واجتمع بإخوته لم ينتقم لنفسه، بل صفح عن الزلة، وعفا عند القدرة، واكتفى بالإشارة في إشعارهم بما سبق من سوء صنيعهم معه، {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} .
د - ومنها عفة فرجه ونزاهة نفسه مع توفر دواعي الشهوة وتهيؤ أسباب الجريمة، من تكرار الخلوة بامرأة العزيز، ومزيد الخلطة، ودعوتها إياه للفاحشة، وحياته معها في بيتها، وأخذها الحيطة بإغلاق الأبواب، لقد كان يوسف من المخلصين لله الواثقين به، فاستعاذ بربه ولاذ بجنابه، واستقبح أن يقابل جميل من أحسن مثواه بخيانته في عرضه، وذكر ما يصيب الظالمين في العواقب من الدمار والخسارة، وبذلك صرف الله عنه السوء والفحشاء، وأظهر براءته على رءوس الأشهاد:{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} ، إلى أن قال تعالى حكاية عن عزيز مصر بعد الشهادة عنده ببراءة يوسف:{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} إلى أن قال تعالى حكاية عن امرأة العزيز مع النسوة اللاتي عيرنها بشغفها، وتعلقها بيوسف:{رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ} .
ولقد عرف يوسف عليه الصلاة السلام طريق الخلاص، ففزع إلى من بيده
القلوب ومقاليد الأمور يصرفها كيف يشاء، وتبرأ من حوله وقوته إلى حول الله وقوته حينما سمع إنذارها له بالسجن إن لم يكن عند رغبتها ويحقق لها ما تريد، وسأل ربه أن يعصمه من الزلل، ويصرف عنه كيد أولئك النسوة:{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} ، وما كان الله ليرد عبدا اتقاه، وأخلص له الدعاء، وكان السجن أحب إليه من الفحشاء {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} .
هـ- ومنها أنه لم يشغله ما أصيب به من تتابع البلاء عن ربه ودينه والدعوة إلى ما ورثه من التوحيد عن آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم الصلاة والسلام، فانتهز حاجة من معه في السجن إليه في تأويل ما رأياه في منامهما، فبدأ بالحديث عن نفسه تعزيزا لمركزه حتى يقبل عنه قوله، ثم نصح لهما في التوحيد وزينه، وحذرهما عن الشرك وقبحه، وأقام على ذلك الحجة مع لطف وتذكير بالصحبة في البلاء، كل ذلك قبل تأويل الرؤيا ليكون أدعى إلى الإصغاء والقبول وأبعد عن الإعراض، وقد أطال في ذلك وجعله المقصود، ثم ختم بتأويل الرؤيا لهما في آية قصيرة، قال تعالى:{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}
فانظر إلى سلامة فطرته وصحة عقيدته وتناسيه البلاء، وذكره لأسلافه وأمجاده الطاهرين المصلحين، ليتخذ منهم قدوة له في التوحيد والدعوة إليه والحذر من الشرك وبيان فساده بالحجة والبرهان، وانظر إلى كرم خلقه مع صاحبيه حتى شهدا له بالمعرفة والفضل والإحسان، وإلى حسن سياسته معهم في الدعوة إلى الله وإيثارها على ما سألاه عنه دون تضييع لما تعلقت به نفوسهما من تأويل الرؤيا، وبلا مجابهة بالمكروه لمن دلت رؤياه على سوء عاقبته، بل أبهم الأمر، فقال:{أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ} وقد حقق الله ما قال فصار كل منهما إلى ما ذكر له في تأويل رؤياه.
و ومنها أن يوسف مع ثقته بربه وتوكله عليه أراد أن يأخذ بأسباب الخلاص مما أصابه من البلاء، وليس في ذلك ما يعيبه أو يغض من توكله على الله، فإنه قد زج به في السجن ظلما وعدوانا بشهادة خصومه -ودفع الظلم مشروع بل قد يكون واجبا- فقال للذي ظن أنه ناج منهما: اذكرني عند ربك، ولكن الله أراد أن يزيده تمحيصا وصدقا في التوكل عليه، وقوة في الصبر على البلاء، فأنسى الشيطان ذلك الفتى أن يذكر يوسف لربه بالخير، فلبث في السجن بضع سنين، ثم اختار الله له طريقا إلي الخلاص خيرا من الطريق التي رسمها لنفسه كما سيأتي.
ز - ومنها أن الله سبحانه شاء أن تكون نجاته بما آتاه من العلم والحكمة وعلمه من تأويل الأحاديث، ولا بشفاعة أحد، ولحاجة الأمة إليه راعيها ورعيتها دون
حاجته إليهم؛ ليكون ذلك أكرم لنفسه وأعز لها ولئلا يكون لأحد عليه سوى الله منة، فهيأ له السبيل لذلك، ورأى ملك مصر رؤيا هاله أمرها، وعجز أشراف قومه عن تعبيرها {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} قالوا {أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ} ، ولما انتهى أمر الرؤيا إلى يوسف أولها أصدق تأويل، وبين أنها كشفت للأمة عن مستقبلها في رخائها وشدتها أربع عشر سنة، {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} ، فأخذ ذلك التعبير من قلب الملك مأخذه، ولم يسعه إلا أن يرسل بإحضار يوسف إليه، فأبى حتى ينظر في قضيته مع النسوة، فإنه قد زج به في السجن من أجلهن، {قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} ، ففعل الملك، وظهرت براءة يوسف:{قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} ، ولما طلبه الملك بعد ذلك وحضر عنده، {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} ، ثقة منه بنفسه، وعلما منه بأنه ليس في الأمة من يصلح لتدبير شئون الدولة الاقتصادية وتصريف أمورها على وجه يحفظ كيانها سواه، فطلب ذلك لمصلحة الأمة لا لحظ نفسه، فاستجاب له الملك لعلمه وصدقه وأمانته، وأتم الله
ليوسف ما شاء من نعمته، {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} .
وبذلك يتبين أن الله محص يوسف ورعاه بتتابع البلاء والإنجاء، وابتلاه بكيد إخوته له ورميهم إياه في الجب، ثم أنجاه، وابتلاه ببيع السيارة له، ثم هيأ له من أحسن مثواه، ابتلاه بتسليط امرأة العزيز عليه وبالنسوة اللاتي قطعن أيديهن، ثم عصمه وحماه، وابتلاه بالسجن، ثم أخرجه منه بريئا من التهمة عليما بربه وبشئون الأمة في وقت اشتدت فيه حاجة البلاء إلى حفيظ عليم يدبر أمرها، ويقودها في حياتها خير قيادة، فتولى أمرها واستسلم له أهلها.
وفي قصة يوسف سوى ما ذكر شيء كثير يدل على أن الله سبحانه تعهد يوسف برعايته، وتولاه في أطوار حياته ليختاره رسولا يضطلع بأعباء الرسالة وليجعل من سيرته الحميدة آيات بينات على صدقه فيما جاء به وأمانته في البلاغ عن رب العالمين.