المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حصول الثقة واليقين في نفوس المكلفين بمصدر الشريعة وتبلغها - فتاوى ورسائل سماحة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - قسم العقيدة

[عبد الرزاق عفيفي]

فهرس الكتاب

- ‌ مباحث وفتاوى العقيدة

- ‌مسائل في علم التوحيد

- ‌المسألة الأولىإثبات أن العالم ممكن

- ‌ توحيد الربوبية

- ‌توحيد الأسماء والصفات

- ‌توحيد الإلهية

- ‌بيان كفر من آمن ببعض الرسل وكفر ببعض

- ‌قصة موسى عليه السلاموكيف أنها من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ منهج الرسل في الدعوة إلى الله

- ‌حصول الثقة واليقين في نفوس المكلفين بمصدر الشريعة وتبلغها

- ‌ مبحث في أن الجنة والنار مخلوقتانموجودتان الآن، وأنهما باقيتان لا تفنيان

- ‌ مبحث في العرشوالكرسي وإثبات صفة العلو

- ‌مما يجب اعتقاده أن الله اتخذ إبراهيم خليلا، وأنه كلم موسى تكليما

- ‌ رسالة فيالحكم بغير ما أنزل الله

- ‌ رسالة في الدفاععن السنة ورد شبهات المغرضين

- ‌الشبهة الأولىالاقتصار على القرآن وإنكار السنة

- ‌الشبهة الثانيةرد بعض الأحاديث لمخالفتها للعقل أولمعارضتها المستقر في بعض الأذهان

- ‌الرد على أهل المسلك الأولالقائلين برد السنة لمخالفتها العقل

- ‌الرد على أهل المسلك الثانيالقائلين برد السنة بتأويلها على ظاهرها

- ‌دندنة البعض بأن السنة لم تدون في عصر النبوة

- ‌استفسار وبيان

- ‌الجمع بين حديث الذبابوحديث أنتم أعلم بأمور دنياكم

- ‌حكم من رد السنة جملة وتفصيلا

- ‌ التعامل مع من يرد سنة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ وجوب تقديم نصوصالكتاب والسنة على العقل

- ‌ مبدأ وميثاقووجوب التزام عقيدة السلف

- ‌ مبحث في وجوب محبة أصحابرسول الله صلى الله عليه وسلم وموالاتهم والرد على الروافض والنواصب

- ‌ التعريف بأهل السنة والجماعةوتمييزهم عن الفرق الإسلامية

- ‌التعريف بأهل السنة والجماعة

- ‌ كبار الفرق الإسلامية

- ‌ الشيعة والفرق التي تشعبت منها

- ‌من فرق الشيعة الزيدية

- ‌من فرق الشيعة الإمامية

- ‌من فرق الشيعة الكيسانية

- ‌ فتاوى في العقيدة

- ‌التوسل المشروع والتوسل الممنوع

- ‌الكرامات

الفصل: ‌حصول الثقة واليقين في نفوس المكلفين بمصدر الشريعة وتبلغها

‌حصول الثقة واليقين في نفوس المكلفين بمصدر الشريعة وتبلغها

أضف إلى ذلك أن ثبوت الشريعة في ذاتها عند المكلفين، والإيمان بها يتوقف على معرفة مصدرها والثقة بطريق بلاغها، فيجب إذن على العباد أن يعلموا أولا أن لهم ربا خلاقا عليما حكيما، بيده ملكوت كل شيء وإليه يرجعون، إلى غير ذلك مما تفرد به من صفات الربوبية، ويؤديها على وجهها استمدادا لفضل الله ورحمته، ودفعا للتي استوجبت إخلاص العبادة منه ليسلموا وجوههم إليه كونا وشرعا، ويعبدوه مخلصين له الدين رغبة ورهبة، وأن يعلموا ثانيا أنه تعالى يرسل رسله ليبلغوا عنه شريعته رحمة منه وفضلا، ويؤيدهم بالمعجزات، ويعصمهم في البلاغ حكمة منه وعدلا ليميز الكاذب من الصادق والمبطل من المحق، فيثق العباد بشريعة ربهم، ويأمنوا عليها من الدخل والافتراء، وتقوم عليهم بها الحجة، قال تعالى:{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} .

لهذا بدأت الرسل دعوتها بالتوحيد، وإثبات الرسالة والجزاء يوم المعاد، فجرت على موجب العقل ومقتضى الفطرة، وكان لزاما على الدعاة أن يبدءوا بما بدأ به الرسل، ويتبعوا ذلك القول في الفروع وتفاصليها وكل ما يكمل الأصول ويحمي حماها حسب الأهمية وما يشعر به الدعاة من حاجة المدعوين شعوبا وأفرادا.

طريقة الرسل في إثبات وجود الله وتوحيده

لقد سلكت الرسل في إثبات وجود الله وتوحيده وصدقهم في دعوى الرسالة وخبرهم عن اليوم الآخر مسلك الإقناع بالحجة والبرهان، وضرب الأمثال، وجمعت في ذلك بين مناجاة العقل والتأثير على العاطفة والتذكير بما

ص: 213

جبلت عليه النفوس، وفطر عليه الخلق من الإقرار بالحق، والميل إلى العدل والإنصاف، مع لين الجانب، والرفق في الخطاب، والصفح الجميل في غير ذلة ولا مواربة أو مداهنة في الحق، فلا عنت في القول ولا تعسف، ولا فرض لحكم على الأمة دون بينة من الله وسلطان.

ففي إثبات وجود الله: اكتفوا في الاستدلال عليه بالإشارة مع دقة المأخذ وسهولة العبارة، لقلة من أنكر وجوده تعالى ممن مسخت فطرهم، ووضح للعقلاء جهلهم ومجافاتهم الحق وتنكبهم طريق الصواب، قال تعالى:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ} ، فأنكر تعالى أن يكونوا خلقوا بلا خالق؛ ضرورة أن الأثر يحتاج في حدوثه إلى مؤثر كما شهد بذلك العقل والفطرة والحس، وأنكر أن يكونوا خالقين لأنفسهم لما يلزمه من التناقض، وأنكر أن يكونوا خالقين للسماوات والأرض؛ لشهادة تاريخ وجود الأمم والكونيات الأخرى بأن خلق السماوات والأرض قد كان قبل خلق ما بينهما من الإنس والجن ونحوهم، فكيف يخلق المتأخر في الوجود شيئا قد سبقه وتقدم عليه.

وقد أخذ جماعة من العلماء هذا الدليل الخبري العقلي، وأدخلوا عليه شيئا من التكلف والصناعة الكلامية فقالوا: إن نسبة المكن إلى طرفيه الوجود والعدم على السواء، فلو وجد بدون سبب خارج عن ذاته وحقيقته لزم ترجيح أحد المتساوين على الآخر بلا مرجح، ولو أوجد نفسه لزم مع ذلك أن يكون متقدما على نفسه.. باعتباره خالقا لها، متأخرا عنها باعتباره مخلوقا لها، وتقدم الشيء على نفسه وتأخرها عنها باطل بالضرورة، لما فيه من التناقض، ولا بد أيضا أن يكون واجب الوجود لذاته، مختلفا عن العالم في خواصه وصفاته

ص: 214

{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، ذلك ليصح أن يستند إليه العالم في وجوده بدءا ودواما؛ إذ لو كان مستحيلا لما صح أن يكون منه خلق أو تقدير؛ لأن المستحيل عدم محض وفاقد الشيء لا يعطيه، ولو كان ممكنا لافتقر إلى من يرجح وجوده على عدمه كما سبق بيانه، فإن استمرت الحاجة فاستند كل في حدوثه إلى نظير له من الممكنات؛ لزم إما الدور القبلي وإما التسلسل في المؤثرات، وكلاهما باطل باتفاق العقلاء.

وإذا انتفى عنه الإمكان والاستحالة ثبت له وجوب الوجود لذاته ضرورة؛ لأن أقسام الحكم العقلي ثلاثة: الوجوب، والإمكان، والاستحالة، وقد انتفى اثنان فتعين الثالث: وهو وجوب الوجود، قال تعالى:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، وفي الحديث:«اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء» .

ومن نظر فيما ترشد إليه الآيات نظرا ثاقبا، وفكر فيما توحي به سنن الله في المخلوقات -من عجائب خلقها، وحسن تنسيقها، وشد أسرها- تفكيرا عميقا، وبحث في أحكامها وبديع صنعها بحثا بريئا من الهوى والحمية الجاهلية وأنصف مناظره من نفسه -فلم يمنعه من فهم ما عرض عليه من الحق والإذعان له كبر يرديه، ولا عناد يطغيه- اتضح له الهدى، واضطره ذلك أن يؤمن من أعماق قلبه بأن للعالم ربا خلاقا فاعلا مختارا حكيما في تدبيره وتقديره أحاط بكل شيء علما، وهو على كل شيء قدير.

ومع قيام الدليل ووضوح السبيل تعامى بعض الناس عن الحق، ومن أولئك: فرعون موسى، فإنه أنكر بلسانه ما تيقنت به نفسه، فأقام موسى عليه

ص: 215

الحجة بدلالة الأثر على المؤثر، والصنعة على الصانع -فوجود الخلق وعظم شأنه دليل على وجود الخالق وعظم قدرته وقدره وسعة علمه وكمال حكمته- فألقمه الحجر.

وذلك بين فيما حكاه الله عنهما من الحوار والسؤال والجواب، قال تعالى:{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} .

فانظر كيف وقف موسى موقف من يصدع بالحق ويقيم عليه الحجة والبرهان، وكيف وقف فرعون من موسى موقف السفهاء لا يملك إلا الشتم والسباب، والسخرية، والاستهزاء، والتهديد بأليم العذاب، وقال تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} ، وقال تعالى:{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} فبين تعالى أنه آتى موسى الآيات البينات التي تنير البصائر، وتجلو الشكوك، وأن موسى ثبت في ميدان الدعوة ثبات مؤمن بما جاء به موقن بنصر ربه، فلم يرهبه جبروت فرعون ولم يأخذ من نفسه مأخذا مع وحدته وضعف قومه.

أما فرعون فقد بهرته الآيات، وأخذت عليه صولة الحق الطريق فلم يجد لديه سلاحا يحفظ به ملكه في زعمه، ويدافع به عن باطله إلا الخداع والتمويه

ص: 216

على قومه، وإنذار موسى ومن آمن به أن يذيقهم أليم عذابه، وأنى له ذلك! والله من ورائهم محيط، وقد كتب على نفسه أن يجعل العاقبة للمتقين، {فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} .

ومن ذلك أيضا قوله تعالى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} .. إلا أنه أجمل وأوجز في الاستدلال بهذه الآيات وفصل في تلك.

وقد ورث ذلك الزيغ والإلحاد أناس ظهروا في عصور متعاقبة بأسماء مختلفة، واشتهروا بألقاب متنوعة، فتارة يسمون بالدهريين، وأخرى برجال الحقيقة ووحدة الوجود، وأحيانا بالشيوعيين، وآونة بالبهائيين، إلى غير ذلك من العبارات التي اختلفت حروفها ومبانيها والتقت مقاصدها ومعانيها، فكلها ترمي إلى غرض واحد، وتدور حول محور واحد، هو أنه ليس للعالم رب يخلق ويدبر، ولا له إله يقصد ويعبد، وقد تبين بما تقدم وأمثاله فساد مذهبهم وخروجه عن مقتضى العقل والفطرة وما أيد ذلك وصدقه بعد أدلة السمع.

الرد على من يزعم أن العالم وما فيه وليد الصدفة والاتفاق.

فإن زعم بعد ذلك أن وجود العالم وليد الصدفة والاتفاق، أو أنه نشأت أطواره عن تفاعل عناصر المادة فتفرقت إلى وحدات بعد اجتماع أو اجتمعت بعد تفرق واختلاف، وصار لتلك الوحدات أو المركبات من الخواص ما لم يكن لها قبل ذلك من التفاعل، وبذلك تجددت الظواهر، وحدث ما نشاهد من تغير وآثار مع جريانها على سنة لا تتبدل وناموس لا يختلف ولا يتغير.

ص: 217

قيل له: من الذي أودع تلك المادة طبيعتها وأكسبها؟ فإنها إن كانت لها من ذاتها ومقتضى حقيقتها لم تقبل التغير والزوال؛ لأن ما بالذات لا يتغير ولا يزول، وقد رأيناها يتغير، فلا بد لها إذن من واهب يهبها، وفاعل مختار حكيم يوجدها، ويدبرها ويضعها مواضعها، وليس ذلك المادة أو خواصها وطبيعتها؛ فإنها مع حدوثها وحاجتها ليس لها من سعة العلم وكمال الحكمة وشمول المشيئة وعظم القدرة ما ينتظم معه الكون، مع ما نشاهده من إحكام تبهر العقول دقته وجماله، ومن إبداع يأخذ بمجامع القلوب ما فيه من شدة الأسر وقوة الرباط بين وحداته وكمال التناسب بين أجزائه وقيام كل من الآخر مقام الخادم من سيده والراعي من رعيته.

ألا إن الطبيعة صماء لا تسمع، بكماء لا تنطق، عمياء لا تبصر، جاهلة لا تعلم، مسخرة لمن أودعها المادة، خاضعة لتصريفه وتقديره، سائرة على ما رسم لها من سنن لا تعدوها ونواميس لا تخرج عنها، فأنى يكون لها خلق وإبداع! أو إليها تنظيم وتدبير! أو منها وحي وتشريع! إنما ذلك إلى الله الذي شهد العقل والفطرة بوجوب وجوده، وكمال علمه وحكمته، وغناه وقدرته، إلى غير ذلك من صفات جلاله، تعالى الله عما يقول الملحدون علوا كبيرا، قال تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} .

ولا يعيب الحق بعد ذلك أن يقل من سلك طريقه، وأن يزيغ عنه من انتكست بصيرته، وفسدت فطرته، فاتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم،

ص: 218

وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة، ولا يضير الدعاة إليه أن عدل عن الصراط المستقيم من انحرف مزاجه أو غلبته شهوته فخشي أن تحد الشريعة من نزعاته الخبيثة، وتحول دون نزواته الدنيئة، أو أطغاه كبره وسلطانه، وخاف أن تذهب الشريعة بزعامته الكاذبة، وسلطانه الجائر، فوقف في سبيلها، وصد عنها، ولج في خصامها بغيا وعدوانا، فإن الله ناصر دينه ومؤيد رسله وأولياءه {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} ، {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} ، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} .

يحكى عن أبي حنيفة رحمه الله أن جماعة من أهل الكلام أرادوا البحث معه في تقرير الربوبية، فقال لهم: أخبروني قبل أن نتكلم في هذه المسألة عن سفينة في دجلة، تذهب فتمتلئ من الطعام والمتاع وغيرهما بنفسها، وتعود بنفسها فترسو بنفسها، وتفرغ وترجع، كل ذلك من غير أن يديرها أحد؟ فقالوا: هذا محال لا يكون أبدا، فقال لهم: إذا كان هذا محالا في سفينة، فكيف في هذا العالم كله علوه وسفله؟ !!

وقد قال مثل هذه المقالة جماعة من العلماء، وقولهم ليس حجة لصدوره عنهم، بل لصحته في ذاته، وشهادة الواقع له.

إقرار المكلفين حتى المشركين بتفرد الله بالخلق والملك والتدبير وشهادة الفطرة بذلك

شهدت الفطرة بأن الله وحده خالق كل شيء ومليكه، وإليه يرجع الأمر كله من التصريف والتدبير، فهو الذي يحي ويميت، وهو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وهو الذي يرسل الرسل، ويشرع الشرائع ليحق الحق بكلماته ويقيم

ص: 219

العدل بين عباده شرعا وقدرا، إلى غير ذلك مما لا يحصيه العد، ولا تحيط به العبارة.

وقام على ذلك أيضا دليل السمع، وأقر به كل مكلف حتى المشركون قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} وقال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} إلى أن قال: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، فأنكر سبحانه أن يكون معه إله فعل شيئا من ذلك، وقررهم بتفرده بكل شيء من الخلق والتدبير والتصريف والتقدير؛ ليجعل من ذلك ونحوه دليلا على توحيد العبادة الذي هو المقصود الأول من بعثة الرسل وإنزال الكتب وشرع الشرائع -كما سيجيء- ونظائر ما ذكر من الآيات كثير.

ولم يعرف عن طائفة بعينها القول بوجود خالقين متكافئين في الصفات والأفعال، ومن نقل عنهم من طوائف المشركين نسبة شيء من الآثار والحوادث إلى غير الله كقوم هود، حيث حكى الله عنهم {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} ، فإنما نسبوه إلى آلهتهم لزعمهم أنها وثيقة الصلة بالله، وأنها تملك الشفاعة عنده سبحانه لمن عبدها وتقرب إليها بالقرابين، فهي في زعمهم تملك لهم جلب النفع ودفع الضرر، لكن عن طريق الشفاعة لهم عند الله، ومن أجل

ص: 220

هذه الشائبة من الشرك نبه الله سبحانه على بطلانه، وأنكر على من زعمه، فقال تعالى:{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .

استحالة أن يكون في الكون خالقان معبودان

فبين سبحانه أنه لو كان معه إله يشركه في استحقاق العبادة لكان له خلق وتقدير وملك وقهر وتدبير، إذ لا يستحق العبادة إلا من كان كذلك، ليرجى خيره، ونفعه، فيطاع أمره ويقصد قصده، ويخشى بأسه، فلا يعتدى على حدوده ولا ينتهك حماه. ولو كان له خلق وتقدير وملك وتدبير لعلا على شريكه وقهره إن قوي على ذلك ليكون له الأمر وحده، ولذهب كل بما خلق وتفرد بتدبير ما ملك إن لم يكن لديه من القوة ما يفرض بها سلطانه على الجميع، فإن من صفات الرب كمال العلو والكبرياء والقهر والجبروت.

وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} ، على تقدير أن المراد: لاتخذوا سبيلا إلى مغالبته وقهره، أو الخروج عليه والتفرد عنه بما خلقوا وملكوا، أما إن كان المعنى المراد: لاتخذوا سبيلا إلى عبادته والقيام بواجب حقه رجاء رحمته وخوف عقابه، فالآية في توحيد الإلهية، كقوله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} .

وقد استخلص بعض العلماء من ذلك دليلا سموه دليل التمانع، وجعلوا جل همهم إثبات توحيد الربوبية به، قالوا: لو جاز أن يكون للعالم ربان يخلقان

ص: 221

ويدبران أمره لأمكن أن يختلفا، بأن يريد أحدهما وجود شيء، ويريد الآخر عدمه، أو يريد أحدهما حركة شيء ويريد سكونه، وعند ذلك إما أن ينفذ مرادهما، وذلك محال لما يلزمه من الجمع بين الضدين، وإما أن لا ينفذ مراد كل منهما، وذلك محال لما يلزمه من رفع النقيضين وعجز كل منهما، وإما أن ينفذ مراد أحدهما دون الآخر، فيكون الذي نفذ مراده هو الرب دون الآخر لعجزه، والعاجز لا يصلح أن يكون ربا.

ولو أن هؤلاء عنوا بتوحيد الإلهية، وصرفوا همتهم إلى بيان تفاصيله، وأجملوا القول في توحيد الربوبية والاستدلال عليه اكتفاء بشهادة الفطرة وإقرار العبادة به، وعلمه بالضرورة، وجعلوا البحث فيه وسيلة إلى توحيد العبادة ودليلا عليه، لكانوا بذلك قد سلكوا طريقة القرآن ومنهج الرسل عليهم الصلاة والسلام.

انتظام العالم علوه وسفله يثبت لله صفات الكمال التي تليق به

وقصارى القول أن انتظام العالم علوه وسفله، وإحكام صنعه وحسن تنسيقه وشدة الأسر، وقوة التماسك بين أجزائه ووحداته دليل واضح على تفرد الله -سبحانه- بالربوبية ووحدانية أفعاله، وبرهان قاطع على إثبات ما أثبته لنفسه من كمال الأسماء والصفات، أو أثبته له الرسل عليهم الصلاة والسلام من ذلك إثباتا صريحا مفصلا، لم يدع مجالا للشك أو التأويل ولا سبيلا إلى الريب أو التعطيل، فزالت به الشبهة وحصل به اليقين.

وعلى ذلك اجتمعت شهادة الفطرة والعقل الصريح والنقل الصحيح وصدق كل منهما الآخر.

وقد ذكر ابن القيم في مدارج السالكين هذين الطريقتين:

الطريق الأول: الوحي والخبر.

ص: 222

الطريق الثاني: الحس والعقل.

1 -

الوحي الذي جاء من عند الله -تعالى - على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.

2 -

الحس الذي شاهد به البصير آثار الصنعة قال -رحمه الله تعالى- في بيان الطريق الأول:

فأما الرسالة فإنها جاءت بإثبات الصفات إثباتا مفصلا على وجه أزال الشبهة، وكشف الغطاء، وحصل به العلم اليقين، ورفع الشك المريب فثلجت له الصدور، واطمأنت به القلوب، واستقر به الإيمان في نصابه، ففصلت الرسالة الصفات، والنعوت، والأفعال، أعظم من تفصيل الأمر والنهي، وقررت إثباتها أكمل تقرير، فما أبلغ لفظه وأبعده من الإجمال، والاحتمال، وأمنعه من قبول التأويل، ولذلك كان التأويل لآيات الصفات، وأحاديثها بما يخرجها عن حقائقها من جنس تأويل آيات المعاد، وأخباره، بل أبعد منه لوجوه كثيرة ذكرتها في كتاب:" الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة " بل تأويل آيات الصفات بما يخرجها عن حقائق كتأويل آيات الأمر والنهي سواء، فالباب كله باب واحد، ومصدره واحد، ومقصده واحد، وهو إثبات حقيقتها، والإيمان بها.

وكذلك سطا على تأويل آيات المعاد قوم، قالوا: فعلنا فيها، كفعل المتكلمين في آيات الصفات، بل نحن أعذر، فإن اشتمال الكتب الإلهية على الصفات، والعلوم، وقيام الأفعال أعظم من نصوص المعاد للأبدان بكثير، فإذا ما ساغ لهم تأويلها، فكيف يحرم علينا نحن تأويل آيات المعاد.

وكذلك سطا قوم آخرون على تأويل الأمر، والنهي، وقالوا: فعلنا فيها كفعل أولئك في آيات الصفات مع كثرتها، وتنوعها، وآيات الأحكام لا تبلغ زيادة على خمسمائة آية، قالوا: وما يظن أنه معارض من العقليات لنصوص

ص: 223

الصفات، فعندنا معارض عقلي لنصوص المعاد من جنسه، وأقوى منه.

وقال متأولو آيات الأحكام على خلاف حقائقها، وظواهرها، والذي سوغ لنا هذا التأويل القواعد التي اصطلحتموها لنا، وجعلتموها أصلا نرجع إليه، فلما طردناها كان طردها أن الله ما تكلم بشيء قط، ولا يتكلم، ولا يأمر ولا ينهى، ولا له صفة تقوم به، ولا يفعل شيئا.

وطرد هذا الأصل لزوم تأويل آيات الأمر، والنهي، والوعيد، والثواب، والعقاب، وقد ذكرنا في كتاب الصواعق أن تأويل آيات الصفات، وأخبارها بما يخرجها عن حقائقها هو أصل فساد الدنيا والدين، وزوال الممالك، وتسليط أعداء الإسلام عليه إنما كان بسبب التأويل، ويعرف هذا من له اطلاع، وخبرة بما جرى في العالم.

ولهذا يحرم عقلاء الفلاسفة التأويل مع اعتقادهم بصحته؛ لأنه سبب لفساد العالم وتعطيل للشرائع، ومن تأمل كيفية ورود آيات الصفات في القرآن والسنة علم قطعا بطلان تأويلها بما يخرجها عن حقائقها، فإنها وردت على وجه لا يحتمل التأويل بوجه فانظر إلى قوله -تعالى-:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} هل يحتمل هذا التقسيم والتنويع تأويل إتيان الرب جل جلاله بإتيان ملائكته وآياته؟ وهل يبقى مع هذا السياق شبهة أصلا في أنه إتيان بنفسه!

وكذلك قوله -تعالى-: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} . إلى أن قال {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} .

ففرق بين الإيحاء العام، والتكليم الخاص، وجعلها نوعين ثم أكد فعل

ص: 224

التكليم بالمصدر الرافع لتوهم ما يقوله المحرفون، كذلك قوله:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} .

فنوع تكليمه إلى تكليم بواسطة، وتكليم بغير واسطة، وكذلك قوله لموسى عليه السلام:{إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} ففرق بين الرسالة والكلام، والرسالة إنما هي بكلامه، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إنكم ترون ربكم عيانا كما ترون القمر ليلة البدر في الصحو ليس بينه سحاب، وكما ترون الشمس في الظهيرة صحوا ليس دونها سحاب» .

ومعلوم أن هذا البيان، والكشف، والاحتراز ينافي إرادة التأويل قطعا، ولا يرتاب في هذا من له عقل ودين.

ثم قال: الطريق الثاني لإثبات الصفات هو دلالة الصنعة عليها، فإن المخلوق يدل على وجود خالقه، على حياته وقدرته وعلى علمه ومشيئته، فإن الفعل الاحتياري يستلزم ذلك استلزاما ضروريا وما فيه من الإتقان والإحكام، ووقوعه على أكمل الوجوه يدل على حكمة فاعله وعنايته، وما فيه من الإحسان والنفع ووصول المنافع العظيمة إلى المخلوق يدل على رحمة خالقه وإحسانه وجوده، وما فيه من آثار الكمال يدل على أن خالقه أكمل منه، فمعطي الكمال أحق بالكمال، وخالق الأسماع والأبصار والنطق أحق بأن يكون سميعا بصيرا متكلما، وخالق الحياة والعلوم والقدرة والإرادات أحق بأن يكون هو كذلك في نفسه، فما في المخلوقات من أنواع التخصيصات هو من أدل شيء على إرادة

ص: 225

الرب سبحانه ومشيئته وحكمته التي اقتضت التخفيض، إلى أن قال: والإحسان إلى المطيعين، والقرب إليهم بالإكرام، وإعلاء درجاتهم يدل على محبته ورضاه، وعقوبته للعصاة والظلمة وأعداء رسله بأنواع العقوبات المشهودة تدل على صفة الغضب والسخط، والإبعاد والطرد والإقصاء يدل على المقت والبغض، فهذه الدلالات من جنس واحد عند التأمل.

ولهذا دعا الله سبحانه في كتابه عباده إلى الاستدلال بذلك على صفاته، فهو يثبت العلم بربوبيته ووحدانيته وصفات كماله بآثار صنعته المشهودة، فالقرآن مملوء بذلك، فيظهر شاهد اسم الخالق من نفس المخلوق، وشاهد اسم الرزاق من وجود الرزق والمرزوق، وشاهد اسم الرحيم من شهود الرحمة المبثوثة في العالم، إلى أن قال: وهكذا كل اسم من أسمائه الحسنى له شاهد في خلقه وأمره، ويعرفه من عرفه، ويجهله من جهله، فالخلق والأمر من أعظم شواهد أسمائه وصفاته، وكل سليم العقل والفطرة يعرف قدر الصانع وحذقه وتبريزه على غيره، وتفرده بكمال لم يشاركه فيه غيره من مشاهدة صنعته، فكيف لا تعرف صفات من هذا العالم العلوي والسفلي وهذه المخلوقات من بعض صنيعه.

وإذا اعتبرت المخلوقات والمأمورات وجدتها بأسرها كلها دالة على النعوت والصفات وحقائق الأسماء، وعلمت أن المعطلة من أعظم الناس عمى بمكابرة ويكفي ظهور شاهد الصنع فيك خاصة، كما قال تعالى:{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} ، فالموجودات بأسرها شواهد صفات الرب جل جلاله ونعوته وأسمائه، فهي كلها تشير إلى الأسماء الحسنى وحقائقها، وتنادي عليها وتخبر بها بلسان النطق والحال، كما قيل:

ص: 226

تأمل سطور الكائنات فإنها

من الملك الأعلى إليك رسائل

وقد خط فيها لو تأملت خطها

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

تشير بإثبات الصفات لربها

فصامتها يهدي ومن هو قائل

فلست ترى شيئا أدل على شيء من دلالة المخلوقات على صفات خالقها ونعوت كماله وحقائق أسمائه.

وقد تنوعت أدلتها بحسب تنوعها، فهي تدل عقلا وحسا ونظرا واعتبارا، وفي هذا المعنى قال الشاعر:

تأمل في نبات الأرض وانظر

إلى آثار ما صنع المليك

عيون من لجين شاخصات

بأحدق هي الذهب السبيك

على قضب الزبرجد شاهدات

بأن الله ليس له شريك

توحيد الربوبية هو باب الاستدلال على توحيد الإلهية.

وإذا ثبت بدلالة الصنعة على الصانع، وبأدلة السمع والفطرة وجود الله ووجوب وجوده وتفرده بكمال الصفات والأفعال وجب على العباد أن يخلصوا له العبادة، وأن يسلموا وجوههم إليه في السراء والضراء، وأن يدعوه وحده رغبة ورهبة خفية وجهرة، فهذا هو مقتضى الفطرة، وموجب العقل السليم، وبه جاء النقل الصحيح، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فجعل سبحانه تفرده بالربوبية خلقا للحاضرين والسابقين، ووضعه الأرض للأنام وتذليله إياها ليمشوا في مناكبها وينعموا برزقه، ورفعه السماء بغير عمد

ص: 227

يرونها، وإنزاله الأمطار من السماء ليحيي به الأرض بعد موتها ويخرج بها من الثمرات رزقا لعباده بابا إلى توحيد الإلهية، وآية بينة على استحقاقه وحده العبادة، وهذا هو الطريق الفطري في الحجاج، أعني الاستدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهية؛ فإن قلب الإنسان يتعلق أولا بمصدر خلقه ومنشأ نفعه وضره، ثم ينتقل بعد ذلك إلى الوسائل التي تقرب إليه وترضيه عنه وتوثق صلته به.

فتوحيد الربوبية باب إلى توحيد الإلهية، ومن أجل ذلك احتج الله به على المشركين وقررهم به وأرشد إليه رسله وأمرهم أن يدعوا به أممهم، قال تعالى:{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} .

فاستدل بتفرده بالربوبية وكمال التصرف وحمايته ما يريد أن يحميه على استحقاقه وحده العبادة ووجوب تفرده بالإلهية.

وهذا النوع من التوحيد هو المقصود الأهم من بعثة الرسل وإنزال الكتب وهو الذي بدأت به الرسل دعوتها، ووقعت فيه الخصومة بين الرسل وأممهم، وهو الذي شرع من أجله الجهاد، وقامت الحرب على ساقها بين الموحدين والمشركين.

وقال تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فأخبر أن البعث آت لا محالة، ونزه نفسه عما زعمه المشركون من الشركاء، ثم استدل على ذلك بآياته الكونية، فقال:{خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ}

ص: 228

الآيات إلى قوله: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} ، فأخبر سبحانه عن البعث والتوحيد، ثم أقام على ذلك الحجة بآياته الكونية التي لا يشاركه فيها أحد باعترافهم، ثم ختم البحث بنتيجة الاستدلال وهو التوحيد والقدرة على البعث، وذلك قوله:{إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} .

وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} إلى قوله: {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} ، فقررهم سبحانه بما لا يسعهم إنكاره، ولا مخلص لهم من الاعتراف به من تفرده بالرزق والملك والتدبير والإحياء والإماتة والبدء والإعادة والإرشاد والهداية ليقيم به عليهم الحجة في وجوب طاعته دون سواه، وينكر عليهم حكمهم الخاطئ وشركهم الفاضح وعكوفهم على عبادة من لا يملك لهم ضرا ولا نفعا ولا حياة ولا نشورا، وكذلك ما تقدم من قوله:{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} إلى قوله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، فأنكر سبحانه أن يكون معه من خلق ودبر وصرف وقدر، أو من يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء أو يولي ويعزل وينصر ويخذل، أو ينقذ من الحيرة ويهدي من الضلالة، أو من يبدأ الخلق ثم يعيده ويبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، إلى غير ذلك مما استأثر الله به وهذا مما استقر في فطرهم واستيقنت

ص: 229

به أنفسهم، ونطقت به ألسنتهم، وقامت به عليهم الحجة فيما دعت إليه الرسل من توحيد العبادة.

وقال: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} إلى أن قال: {كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، فأمره سبحانه أن يسلك في دعوته لقومه طريق الفطرة والعقل، فيستدل بتفرد الله بالآيات الكونية على توحيد الإلهية، وأن يلين لهم الجانب في غير ذلة ولا مداهنة، ويتلطف معهم في الدعوة والاستدلال من غير كذب ولا خداع، حتى لا تأخذهم العزة بالإثم، وذلك بين قوله:{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} .

فهذا منهج القرآن والرسل في الدعوة حجاج واستدلال ورفق في القول، وأمر بالعرف، وحسن في السياسة من غير مداراة تذهب بالحق، وفي معنى هذه الآية كثير، كمناظرة إبراهيم ونوح وموسى وإخوانهم من النبيين لأممهم عليهم الصلاة والسلام.

ومن سلك طريق القرآن في الدعوة والاستدلال، واهتدى بهدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الحجاج وحسن السياسة قوي يقينه، وخصم مناظره، فإن في ذلك الحجة والبرهان من جهتين: الأولى: أنه الخبر عن المعصوم، والثانية: أنه موجب الفطرة ومقتضى العقل الصحيح.

ص: 230

4 -

وجوب الإيمان بالبعث والنشور

وبيان شبهة الكفار في إنكارهم يوم القيامة

والرد عليهم في ذلك

البعث هو إحياء الله الموتى وإخراجهم من قبورهم يوم القيامة، ويسمى يوم الميعاد لإعادة الأرواح إلى الأبدان فتعود بهذا الحياة للأبدان، ويسمى يوم النشور، لانتشار المخلوقات إلى الموقف، ويسمى يوم الدين؛ لأن الناس يدانون فيه بأعمالهم، أي يجزون عليها.

وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على وجوب الإيمان ببعث الأبدان بعد نفخ الأرواح فيها، كما جاءت شرائع الأنبياء السابقين بالأخبار عنه ووجوب الإيمان به، قال تعالى: مخاطبا آدم وزوجته وإبليس: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} ، وقال:{فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} ، وقال تعالى في بيان دعوة نوح قومه إلى الإيمان بالله واليوم الآخر:{وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} ، وقال تعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام:{وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} ويوم الدين هو يوم الحساب والجزاء، وقال تعالى لنبيه موسى عليه الصلاة والسلام:{إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} ، وأخبر تعالى عن أهل النار إذا قال لهم خزنتها:{أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} .

ص: 231

اعترفوا بأن الرسل تلت عليهم آيات ربهم وأنذرتهم اليوم الآخر، كما قال تعالى عنهم:{قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} ، وأمر سبحانه نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام أن يقسم به على البعث والجزاء فقال:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} ، وذم تعالى من يشك في يوم القيامة أو يكذب به أو يماري فيه قال تعالى:{بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} ، وقال:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} ، وقال:{أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} ، وقال: في بيان جزاء الكافرين به: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} .

ورد عليهم هذه الشبهة بدليل كوني عقلي بين فيه أن من قدر على خلق ما هو أعظم منهم كالسماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم، وقال:{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} وقال: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} . واستدل على

ص: 232

قدرته على الإعادة بقدرته على الخلق، فقال:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وقال في بيان غفلة المكذبين عن النشأة الأولى أو تغافلهم عنها، وأنهم تذكروها، وتبصروا فيها ما وسعهم إلا أن يؤمنوا بيوم القيامة:{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} ، قال تعالى في بيان أن قيام الساعة ومجازاة العباد مقتضى حكمته، وكمال عدله:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} وقال: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} أي لا يؤمر ولا ينهى، ولا يثاب ولا يعاقب، وقال:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} .

بالجملة فكمال علمه يوجب ألا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض، وكمال حكمته يقتضي ألا يترك الناس سدى بلا أمر ولا نهي ولا شرع ولا ثواب ولا عقاب، ومعلوم أن ما حصل في الدنيا لا يكفي للجزاء فلا بد من يوم يتحقق فيه كمال عدل الله وحكمته في الفصل بين العباد، وهو اليوم الذي أعده الله لفصل القضاء بين العباد، وكمال قدرة الله يقتضي ألا يعجز الله شيء، فهو قادر على أن يعيد العظام والرفات والذرات بشرا سويا:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} إلى غير ما تقدم من نصوص القرآن الصريحة في

ص: 233

البعث للأرواح والأبدان.

أما السنة فمنها حديث: «كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب منه خلق، ومنه يركب» ، وستأتي نصوص أخرى في تفاصيل ما يجري على العباد يوم القيامة، وهي متضمنة لقيام الساعة.

وأما جزاء الأعمال: فقد دل على ثبوته قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} .

أي يوم الجزاء على الخير والشر، وقال:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ، ودل على ثبوته الحديث القدسي الذي رواه أحمد، ومسلم من طريق أبي ذر الغفاري وفيه:«يا عبادي إنما هي أعمالكم، أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» .

وأما العرض والحساب وقراءة الكتاب والثواب والعقاب: فالمراد بذلك عرض العباد على الله وعرض كتب أعمالهم عليهم حين تتطاير صحف أعمالهم فمن آخذ كتابه بيمينه، ومن آخذ كتابه بشماله، يقرأ كل ما في كتابه، ويحاسب على عمله، ويثاب المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته، قال تعالى:{وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} .

ص: 234

وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} .

وقال تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} .

وروى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك فقلت: يا رسول الله، أليس قد قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما ذلك العرض، وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب» .

ففهمت عائشة رضي الله عنها من قوله صلى الله عليه وسلم أولا عموم الهلاك لكل من حوسب، فكان الحديث معارضا ليسير الحساب في الآية وانقلاب من أخذ كتابه بيمينه إلى الذي ذكر في الآية مجرد عرض أعمال المؤمن عليه، وأن الحساب الذي ذكر في الحديث أريد به المناقشة في الحساب، فلا تعارض بين الآية والحديث.

وأما الصراط فمعناه في اللغة الطريق، ومعناه المقصود منه هنا الجسر الممتد

ص: 235

على متن جهنم الذي يمر عليه العباد إذا انتهوا من الموقف إلى منازلهم في الجنة أو النار.

وهناك ظلمة دون الصراط يكون فيها الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات، كما روى مسلم من طريق عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات، فقال: هم في الظلمة دون الجسر» ، وفي هذه الظلمة يكون للمؤمنين نور يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، فيقول المنافقون لمن صدقوا في إيمانهم: انظرونا نقتبس من نوركم، فيقال لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا، فإذا ما رجعوا حيل بينهم وبين المخلصين بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، قال الله تعالى:{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} .

ص: 236

والدليل من القرآن على الصراط قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} فإن المراد بالورود في الآية المرور على جهنم فوق الصراط، المضروب على متنها، ثم من الناس من يسقط، ومنهم من ينجو، قال تعالى:{ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} ، ولا يلزم من المرور على الصراط فوقها دخول كل من مر في النار وتعذيبه بها، ولا يلزم أيضا من التعبير بالإنجاء دخول من أنجاهم الله فيها، فإنه يكفي في صحة التعبير بالإنجاء انعقاد أسباب الهلاك مع تخليص أهل الخير، كما في قوله تعالى:{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا} . وقوله: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا} وقوله: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا} فأخبر سبحانه بإنجائهم ولم يكن أصابهم ولا أصاب من آمن بهم شيء من العذاب الذي أهلك الله به من كذبهم وكفرهم، فكان توفر أسباب العذاب إجمالا كافيا لتصحيح التعبير بالإنجاء من الهلاك، وقال صلى الله عليه وسلم:«يجمع الله الناس يوم القيامة -إلى أن قال-: فيعطون نورهم على قدر أعمالهم، وقال: فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل بين يديه، ومنهم من يعطى نوره فوق ذلك ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة بيمينه، ومنهم من يعطى دون ذلك بيمينه، حتى يكون آخر من يعطى نوره على إبهام قدمه، يضيء مرة ويطفأ أخرى، إذا أضاء قدم قدمه، وإذا طفئ قام، قال: فيمر ويمرون على الصراط، والصراط كحد السيف ودحض مزلة، فيقال لهم:»

ص: 237

«امضوا على قدر نوركم، فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالطوف، ومنهم من يمر كشد الرجل يرمل رملا، فيمرون على قدر أعمالهم حتى يمر الذي نوره إبهام قدمه، يجر يدا ويعلق يدا، يجر رجلا ويعلق رجلا، وتصيب جوانبه النار، فيخلصون، فإذا خلصوا قالوا: الحمد لله الذي نجانا منك بعد أن أراناك، فقد أعطانا الله ما لم يعط أحدا» رواه الحاكم من طريق عبد الله بن مسعود.

وأما الميزان فقد أخبر الله تعالى عنه وعن وزن الأعمال به لحكم كثيرة، منها: ظهور عدل الله تعالى لجميع عباده، قال الله تعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} .

وقال: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} .

وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوزن الأعمال، روى مسلم في صحيحه عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان» . وروى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلمتان خفيفتان على»

ص: 238

«اللسان، حبيبتان إلى الرحمن ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» ، وجاء في حديث البطاقة المشهور أن البطاقة التي فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله توضع في إحدى كفتي الميزان، وأن سجلات السيئات توضع في الكفة الأخرى فترجح كفة البطاقة وتطيش كفة سجلات السيئات لهذه الأدلة ذكر أهل السنة أن الميزان له كفتان، وأنه توزن فيه الأعمال وصحف الأعمال وأرباب الأعمال، والله أعلم.

وعلى كل حال يجب الإيمان بالوزن والميزان، وأن العبرة بالأعمال لا بالشخص نفسه، ولا بالصحف نفسها، إنما المعتبر في الوزن هو الأعمال في الرجحان والخفة، وشئون الآخرة من الأمور الغيبية التي لا مجال للعقل فيها إثباتا ونفيا، فعلينا أن نؤمن بما صح من النقل في ذلك كتابا وسنة، ولا نعارضه بعقولنا، لقصورها عن إدراكه، ورحم الله امرأ عرف قدره، ولم يتجاوز حده، ومن أنكر ذلك أو تأول ما ورد فيه من النصوص فقد رام ما ليس إليه، ولا في دائرة تفكيره، والله الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 239