المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(الكفر يستخدم بعدة اعتبارات) - فتح العلي الحميد في شرح كتاب مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد

[مدحت آل فراج]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌ترجمة الإمام الفذالإمام محمد بن عبد الوهاب

- ‌ فتح المسلمون حريملا عنوة

- ‌(حكم تكفير المعين بين الإفراط والتفريط)

- ‌(المشركون الذين عبدوا مع الله غيره يكفرون بأعيانهم):

- ‌الإسلام يجمع معنيين:

- ‌(العلماء لا يذكرون التعريف عند تكفير المشرك

- ‌(الأدلة الجلية على كفر وقتل من أتى بناقض من أهل القبلة)

- ‌ الشرك الأصغر

- ‌التوحيد الذي جاءت به الرسل

- ‌ النواقض العشرة

- ‌(الكفر يستخدم بعدة اعتبارات)

- ‌اسم المشرك ثبت قبل الرسالة

- ‌ المختار بن أبي عبيد الثقفي

- ‌ الجعد بن درهم

- ‌ هذا لم يسمع قط إلا من هؤلاء الملحدين الجاهلين

- ‌ تغير الزمان حتى تعبد الأوثان

- ‌باب في وجوب عداوة أعداء اللهمن الكفار والمرتدين والمنافقين

- ‌«موالاة المسلمين لا تصلح إلا بالبراءة من المشركين»

- ‌«موالاة المسلمين، والبراءة من المشركين أصل من أصول الإسلام بالإجماع»

- ‌«موالاة المشركين ردة عن الدين، ومروق من ملة المسلمين»

- ‌(موالاة المشركين من أجل الدنيا كفر مخرج من الملة)

- ‌«حكم الإكراه على موالاة المشركين وحدوده»

- ‌«تحذير السلف من موادة أهل البدع والمعاصي»

- ‌ فرض الجهاد باق إلى يوم القيامة

- ‌الكتاب في سطور

- ‌فهرس أهم المراجع والمصادر

الفصل: ‌(الكفر يستخدم بعدة اعتبارات)

(الكفر يستخدم بعدة اعتبارات)

وهؤلاء العلماء يستخدمون لفظ الكفر بعدة اعتبارات، وبحسب ما يتعلق به من الأحكام، وذلك لأن الاسم الواحد قد ينفى ويثبت بحسب الأحكام المتعلقة به. فلا يجب إذا ثبت أو نفي في حكم معين أن يكون كذلك في بقية الأحكام، وهذا أمر مشهور في كلام العرب.

فالكفر قبل قيام الحجة له حد وأحكام، وبعد قيام الحجة له حد وأحكام أخر. وعليه فأحيانًا ينفون وقوع الكفر إلا بعد قيامها، وهم مع ذلك النفي يحكمون على فاعل الشرك الأكبر بالشرك، وخروجه من عداد المسلمين، وبالكفر الغير معذب عليه.

قال الإمام العلامة ابن تيمية في بيان هذا المعنى الهام: «وجماع الأمر أن الاسم الواحد ينفى ويثبت بحسب الأحكام المتعلقة به، فلا يجب إذا ثبت أو نفي في حكم أن يكون كذلك في سائر الأحكام، وهذا في كلام العرب وسائر الأمم، لأن المعنى مفهوم.

مثال ذلك: المنافقون قد يجعلون من المؤمنين في موضع، وفي موضع آخر يقال: ما هم منهم.

قال تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَاّ قَلِيلاً} [الأحزاب: 18] الآية.

فهنالك جعل هؤلاء المنافقين الخائفين من العدو

الناكلين عن الجهاد،

ص: 330

الناهين لغيرهم، الذامين للمؤمنين -منهم. وقال في آية أخرى:{وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التوبة: 56] وهؤلاء: ذنبهم أخف، فإنهم لم يؤذوا المؤمنين ولا بنهي، ولا سلق بألسنة حداد، ولكن حلفوا بالله أنهم من المؤمنين في الباطن بقلوبهم، وإلا فقد علم المؤمنين أنهم منهم في الظاهر فكذبهم الله، وقال:{وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} وهناك قال: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} .

فالخطاب: لمن كان في الظاهر مسلمًا مؤمنًا، وليس مؤمنًا بأن منكم من هو بهذه الصفة، وليس مؤمنًا بل أحبط الله عمله فهو منكم في الظاهر لا الباطن.

ولهذا لما استؤذن النبي في قتل بعض المنافقين قال: (لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه)(1) فإنهم من أصحابه في الظاهر عند من لا يعرف حقائق الأمور، وأصحابه الذين هم أصحابه ليس فيهم نفاق

وكذلك: الأنساب مثل كون الإنسان أبًا لآخر أو أخاه، يثبت في بعض الأحكام دون بعض. فإنه قد ثبت في الصحيحين أنه لما اختصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص، وعبد بن زمعة بن الأسود في ابن وليدة زمعة، وكان عتبة بن أبي وقاص قد فجر بها في الجاهلية، وولدت منه ولدًا، فقال عتبة لأخيه سعد: إذا قدمت مكة فانظر ابن وليدة زمعة فإنه ابني.

فاختصم فيه هو، وعبد بن زمعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال سعد: «يا رسول الله

(1) متفق عليه صحيح البخاري (3518)، وصحيح مسلم (2584).

ص: 331

ابن أخي عتبة، عهد إلي أخي عتبة فيه إذا قدمت مكة، انظر إلى ابن وليدة زمعة فإنه ابني، ألا ترى يا رسول الله شبهه بعتبة؟».

فقال عبد: «يا رسول الله أخي، وابن وليدة أبي، ولد على فراش أبي» .

فرأى النبي شبهًا بينًا بعتبة، فقال:(هو لك يا عبد بن زمعة. الولد للفراش، وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة)(1) لما رأى من شبهه البين بعتبة

فتبين أن الاسم الواحد ينفي في حكم، ويثبت في حكم، فهو أخ في الميراث وليس بأخ في المحرمية (2)».

فالكفر الذي ينفيه ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب -رحمهم الله تعالى- عمن وقع في عبادة غير الله، وهو الكفر الذي يستحق صاحبه العقوبة في الدارين، القتل في الدنيا، والخلود في النيران في الآخرة؛ وهذا لا يكون إلا بعد قيام الحجة الرسالية؛ لقوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15].

قال ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: «فإن حال: الكافر لا تخلو من أن يتصور الرسالة أو لا، فإن لم يتصورها فهو في غفلة عنها، وعدم إيمان بها، كما قال تعالى:{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]، وقال: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا

(1) متفق عليه، صحيح البخاري (2053)، وصحيح مسلم (1457).

(2)

مجموع الفتاوى (7/ 418 - 419).

ص: 332

عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 136].

لكن الغفلة المحضة لا تكون إلا لمن لم تبلغه الرسالة، والكفر المعذب عليه لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة

فكل مكذب لما جاءت به الرسل فهو كافر، وليس كل كافر مكذبًا، بل قد يكون مرتابًا إن كان ناظرًا فيه، أو معرضًا عنه بعد أن لم يكن ناظرًا فيه، وقد يكون غافلاً عنه لم يتصوره بحال، لكن عقوبة هذا موقوفة على تبليغ المرسل إليه» (1).

فانظر -رحمني الله وإياك- إلى قول الإمام في أول النقل فإن حال الكافر لا تخول من أن يتصور الرسالة أو لا ثم قال: وأما الكفر المعذب عليه لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة، وقوله: العقوبة متوقفة على تبليغ المرسل إليه فأشار الإمام إلى وجود كفر ثابت قبل بلوغ الرسالة، وإلى وجود كفر آخر لا يثبت إلا بعد بلوغها، وهو الكفر المعذب عليه.

وقال -رحمه الله تعالى- منكرًا على من يقول: أن حسن التوحيد، وقبح الشرك، وإمكان المعاد لا يعلم بالعقل: «وكثير من هؤلاء يعتقدون أن في ذلك ما لا يجوز أن يعلم بالعقل: كالمعاد وحسن التوحيد، والعدل، والصدق، وقبح الشرك، والظلم والكذب.

والقرآن يبين: الأدلة العقلية الدالة على ذلك، وينكر على من لم يستدل

(1) مجموعه الفتاوى (2/ 78 - 79).

ص: 333

بها، ويبين أنه بالعقل يعرف: المعاد، وحسن عبادته وحده، وحسن شكره، وقبح الشرك، وكفر نعمه، كما قد بسطت الكلام على ذلك في مواضع

فتارك الواجب وفاعل القبيح، وإن لم يعذب بالآلام كالنار فيسلب من النعم وأسبابها ما يكون جزاءه، وهذا جزاء من لم يشكر النعمة، بل كفرها أن يسلبها فالشكر قيد النعم، وهو موجب للمزيد.

والكفر بعد قيام الحجة موجب للعذاب، وقبل ذلك ينقص النعمة ولا يزيد، مع أنه لا بد من إرسال رسول يستحق معه النعيم أو العذاب، فإنه ما ثم دار إلا الجنة أو النار» (1).

انظر إلى قول الشيخ أن العقل يعلم به حسن التوحيد والمعاد وقبح الشرك، ولذلك فالكفر ثابت لمن عبد غير الله قبل قيام الحجة لمخالفة حجية العقل والفطرة وهذا الكفر ينقص النعمة ولا يزيد، والكفر بعد الحجة موجب للعذاب.

ونقل -رحمه الله تعالى- عن الإمام محمد بن نصر المروزي وأقره قال: «قالوا: أي: أهل السنة: ولما كان العلم بالله إيمانًا، والجهل به كفرًا،

وكان العلم بالفرائض إيمانًا، والجهل بها قبل نزولها ليس بكفر؛ لأن أصحاب

رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقروا بالله أول ما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم إليهم،

(1) مجموع الفتاوى (16/ 252 - 253).

ص: 334

ولم يعلموا الفرائض التي افترضت عليهم بعد ذلك -فلم يكن جهلهم بذلك كفرًا، ثم أنزل الله عليهم الفرائض، فكان إقرارهم بها والقيام بها إيمانًا، وإنما يكفر من جحدها لتكذيبه خبر الله، ولو لم يأت خبر من الله ما كان بجهلها كافرًا، وبعد مجيء الخبر، من لم يسمع بالخبر من المسلمين لم يكن بجهلها كافرًا، والجهل بالله في كل حال كفر قبل الخبر وبعد الخبر» (1).

انظر لهذا النقل فالجهل بالله كفر قبل الخبر وبعد الخبر، والمقصود الجهل بتوحيده، والدليل على ذلك: قوله أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقروا بالله أول ما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم إليهم.

ومن المعلوم بيقين أن الإقرار هنا: هو الإقرار بتوحيد الإلهية لا بتوحيد الربوبية فقط، الذي لا يفرق بين الموحدين والمشركين.

إذًا فالجهل بالله كفر قبل الخبر وبعد الخبر، لكن قبل الخبر ينقص النعمة ولا يزيد، ومحرم على أصحابه دخول الجنة، وإن ماتوا على ذلك لا يصلى عليهم، ولا يستغفر لهم، ولا يدفنون في مقابر المسلمين لأنهم مشركون وليسوا بمسلمين، إلا أنهم لا يعذبون في الدارين إلا بعد إقامة الحجة الرسالية، وهذا هو الكفر بعد الخبر، وهو الكفر المعذب عليه، وكما أنهم لا يعذبون فهم أيضًا لا ينعمون.

قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: «فلا ينجون من عذاب الله إلا من أخلص

(1) مجموع الفتاوى (7/ 325).

ص: 335

لله دينه وعبادته، ودعاه مخلصًا له الدين، ومن لم يشرك به ولم يعبده فهو معطل عن عبادته وعبادة غيره، كفرعون وأمثاله، فهو أسوأ حالاً من المشرك، فلا بد من عبادة الله وحده، هذا واجب على كل أحد، فلا يسقط عن أحد البتة، وهو الإسلام العام الذي لا يقبل الله دينًا غيره.

ولكن لا يعذب الله أحدًا حتى يبعث إليه رسولاً، وكما أنه لا يعذبه فلا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة مؤمنة، ولا يدخلها مشرك، ولا مستكبر عن عبادة ربه.

فمن لم تبلغه الدعوة في الدنيا امتحن في الآخرة، ولا يدخل النار إلا من اتبع الشيطان، فمن لا ذنب له لا يدخل النار، ولا يعذب الله بالنار أحدًا إلا بعد أن يبعث إليه رسولاً» (1).

فمن هذه النقول للشيخ تبين: أنه لا يحكم بالإسلام للمشرك الجاهل ألبتة، إلا أنه لا يحكم عليه بالعذاب في الدارين إلا بعد إقامة الحجة الرسالية وهم قبلها مشركون، وليسوا بمسلمين.

قال ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: «نعم قد يشكل على كثير من الناس نصوص لا يفهمونها، فتكون مشكلة بالنسبة إليهم لعجز فهمهم عن معانيها، ولا يجوز أن يكون في القرآن ما يخالف صريح العقل والحس وإلا وفي القرآن

(1) مجموع الفتاوى (14/ 476 - 477).

ص: 336

بيان معناه، فإن القرآن جعله الله شفاءً لما في الصدور، وبيانًا للناس فلا يجوز أن يكون بخلاف ذلك، لكن قد تخفى آثار الرسالة في بعض الأمكنة والأزمنة، حتى لا يعرفون ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، إما ألا يعرفوا اللفظ، وإما أن يعرفوا اللفظ ولا يعرفوا معناه، فحينئذ يصيرون في جاهلية بسبب عدم نور النبوة، ومن ههنا يقع الشرك، وتفريق الدين شيعًا، كالفتن التي تحدث السيف.

فالفتن القولية والعملية هي من الجاهلية بسبب خفاء نور النبوة عنهم، كما قال مالك بن أنس: إذا قل العلم ظهر الجفاء، وإذا قلت الآثار ظهرت الأهواء، ولهذا شبهت الفتن بقطع الليل المظلم، قال أحمد في خطبته: الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة بقايا من أهل العلم، فالهدى الحاصل لأهل الأرض إنما هو من نور النبوة، كما قال تعالى:{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123].

فأهل الهدى والفلاح هم: المتبعون للأنبياء وهم المسلمون المؤمنون في كل زمان ومكان.

وأهل العذاب والضلال هم: المكذبون للأنبياء.

يبقى أهل الجاهلية، الذين لم يصل إليهم ما جاءت به الأنبياء، فهؤلاء في: ضلال وجهل وشرك وشر، لكن الله يقول:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]، وقال: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ

ص: 337

عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وقال:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَاّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59].

فهؤلاء لا يهلكهم الله، ويعذبهم حتى يرسل إليهم رسولاً، وقد رويت آثار متعددة في أن من لم تبلغه الرسالة في الدنيا، فإنه يبعث إليه رسول يوم القيامة في عرصات القيامة» (1).

ففي هذا النقل يبرهن فيه شيخ الإسلام على أن أهل الهدى والفلاح هم: المتبعون للأنبياء وهم المسلمون المؤمنون.

وأهل العذاب والضلال هم: المكذبون للأنبياء، وهذا هو الكفر المعذب عليه.

يبقى أهل الجاهلية الذين لم يصل إليهم ما جاءت به الأنبياء، إذًا فهم لم يكذبوا فلم يقعوا في الكفر المعذب عليه، بيد أنهم لم يتبعوهم أيضًا، ووقعوا في الإشراك بالله.

فهؤلاء في ضلال وجهل وشرك وشر، إلا إنهم لا يعذبون إلا بعد قيام الحجة الرسالية. وهذا هو الكفر قبل الحجة وبلوغ الخبر.

ويلاحظ أن هذا النقل في الأمة المحمدية، ولا يجرؤ أحد أن يقول إنهم

(1) مجموع الفتاوى (17/ 307).

ص: 338

مشركون على الإطلاق دون التعيين، لأنه لو كان كذلك لما قال عنهم الشيخ: إنهم يمتحنون في العرصات، لأنهم لو كانوا مسلمين لدخلوا الجنة دون امتحان، فثبوت الامتحان لهم دال على أنهم مشركون على التعيين.

وقال أيضًا رحمه الله: «وأصل الإيمان والتقوى الإيمان برسل الله وجماع ذلك: الإيمان بخاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، فالإيمان به يتضمن: الإيمان بجميع كتب الله ورسله.

وأصل الكفر والنفاق هو: الكفر بالرسل وبما جاءوا به، فإن هذا هو الكفر الذي يستحق صاحبه العذاب في الآخرة فإن الله تعالى أخبر في كتابه أنه لا يعذب أحدًا إلا بعد بلوغ الرسالة» (1).

قلت: فهذا هو الكفر الذي ينفيه ابن تيمية في الكليات والجزئيات والأصول والفروع، وهو الكفر المعذب عليه، لأنه لا تكليف إلا بشرع، والشرع لا يلزم إلا بالبلاغ مع انتفاء المعارض، إلا كفر التنقص والاستهزاء فأهله معذبون عليه بإطلاق، لأنه لا يتصور جهله ولا التعبد به.

سئل الشيخ ابن تيمية رحمه الله عن قوم داوموا على الرياضة مرة، فرأوا أنهم قد تجوهروا، فقالوا: لا نبالي الآن ما عملنا، وإنما الأوامر والنواهي رسوم العوام، ولو تجوهروا لسقطت عنهم، وحاصل النبوة يرجع

(1) مجموع الفتاوى (11/ 186).

ص: 339

إلى الحكمة والمصلحة، والمراد منها ضبط العوام، ولسنا نحن من العوام فندخل في حجر التكليف، لأنا قد تجوهرنا وعرفنا الحكمة!!!

فهل هذا القول كفر من قائله؟ أم يبدع من غير تكفير؟ وهل يصير ذلك عمن في قلبه خضوع للنبي صلى الله عليه وسلم؟

فأجاب: «لا ريب عند أهل العلم والإيمان أن هذا القول من أعظم الكفر وأغلظه، وهو شر من قول اليهود والنصارى

والمقصود أن المتمسكين بجملة منسوخة فيها تبديل خير من هؤلاء، الذين يزعمون سقوط الأمر والنهي عنهم بالكلية، فإن هؤلاء خارجون في هذه الحال عن جميع الكتب والشرائع والملل، لا يلتزمون لله أمرًا ولا نهيًا بحال، بل هؤلاء شر من المشركين والمستمسكين ببقايا من الملل، كمشركي العرب الذين كانوا مستمسكين ببقايا من دين إبراهيم عليه السلام.

فمن كان من قوله هو أنه أو طائفة غيره قد خرجت عن كل أمر ونهي، بحيث لا يجب عليها شيء، ولا يحرم عليها شيء، فهؤلاء أكفر أهل الأرض، وهم من جنس فرعون وذويه

وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة الذي يندرس فيها كثير من علوم النبوات، حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيرًا مما بعث الله به رسوله، ولا يكون هناك من يبلغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر «وأخذ يدلل على هذا إلى أن قال» فقد تبين: أن هذا

ص: 340

القول كفر، ولكن تكفير قائله لا يحكم به حتى يكون قد بلغه من العلم ما تقوم به عليه الحجة التي يكفر تاركها، ودلائل فساد هذا القول كثيرة في الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة وأئمتها ومشائخها، لا يحتاج إلى بسطها، بل قد علم بالاضطرار من دين الإسلام: أن الأمر والنهي ثابت في حق العباد إلى الموت.

وأما قول القائل: هل يصدر ذلك عمن في قلبه خضوع للنبي صلى الله عليه وسلم؟

فيقال: هذا لا يصدر عمن هو مقر بالنبوات مطلقًا، بل قائل ذلك كافر بجميع الأنبياء والمرسلين، لأنهم جميعًا أتوا بالأمر والنهي للعباد إلى حين الموت، بل لا يصدر هذا القول ممن في قلبه خضوع لله، وإقرار بأنه إله العالم، فإن هذا الإقرار يستلزم أن يكون الإنسان عبدًا لله خاضعًا له، ومن سوغ لإنسان أن يفعل ما يشاء من غير تعبد بعبادة الله، فقد أنكر أن يكون الله إلهه» (1).

انظر -رحمك الله- إلى هذه الفتوى، فإنه قرر في أولها: أنهم أكفر أهل الأرض، وأكفر من اليهود والنصارى، وأنهم أخبث من المشركين، ثم قام بنفي الكفر عنهم بعد ذلك لقلة العلم وغلبة الجهل، وهذا هو الكفر المعذب عليه، ثم أثبت بعد هذا أنهم كفار بجميع الكتب والرسل وكفار بإلهية الله، وهذا هو الكفر قبل الخبر وقيام الحجة.

(1) مجموع الفتاوى (11/ 401 - 413).

ص: 341

وقال ابن القيم رحمه الله: «في الرد على الإمام ابن عبد البر في إنكار: أحاديث الامتحان لأهل الفترات مستشهدًا بقوله: «ولا يخلو من مات في الفترة من أن يكون كافرًا أو غير كافر ..

جوابه من وجوه: أحدها أن يقال: هؤلاء لا يحكم لهم بكفر ولا إيمان فإن الكفر هو: جحود ما جاء به الرسول، فشرط تحققه بلوغ الرسالة؛ والإيمان هو: تصديق الرسول فيما أخبر، وطاعته فيما أمر وهذا أيضًا مشروط ببلوغ الرسالة، ولا يلزم من انتفاء أحدهما وجود الآخر إلا بعد قيام سببه.

فلما لم يكن هؤلاء في الدنيا كفارًا ولا مؤمنين، كان لهم في الآخرة حكم آخر غير حكم الفريقين.

فإن قيل: فأنتم تحكمون لهم بأحكام الكفار في الدنيا، من: التوارث والولاية والمناكحة.

قيل: إنما نحكم لهم بذلك في أحكام الدنيا، لا في الثواب والعقاب كما تقدم بيانه» (1).

فقد نص الإمام ابن القيم في هذا النقل: على انتفاء الكفر المعذب عليه إلا بعد قيام الحجة، وأصحابه كفار في أحكام الدنيا لا في أحكام الثواب والعقاب، هذا مع قوله قبل ذلك أن الشرك ثابت لأصحابه لا يحتاج إلى

(1) أحكام أهل الذمة (2/ 656).

ص: 342