المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌اسم المشرك ثبت قبل الرسالة - فتح العلي الحميد في شرح كتاب مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد

[مدحت آل فراج]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌ترجمة الإمام الفذالإمام محمد بن عبد الوهاب

- ‌ فتح المسلمون حريملا عنوة

- ‌(حكم تكفير المعين بين الإفراط والتفريط)

- ‌(المشركون الذين عبدوا مع الله غيره يكفرون بأعيانهم):

- ‌الإسلام يجمع معنيين:

- ‌(العلماء لا يذكرون التعريف عند تكفير المشرك

- ‌(الأدلة الجلية على كفر وقتل من أتى بناقض من أهل القبلة)

- ‌ الشرك الأصغر

- ‌التوحيد الذي جاءت به الرسل

- ‌ النواقض العشرة

- ‌(الكفر يستخدم بعدة اعتبارات)

- ‌اسم المشرك ثبت قبل الرسالة

- ‌ المختار بن أبي عبيد الثقفي

- ‌ الجعد بن درهم

- ‌ هذا لم يسمع قط إلا من هؤلاء الملحدين الجاهلين

- ‌ تغير الزمان حتى تعبد الأوثان

- ‌باب في وجوب عداوة أعداء اللهمن الكفار والمرتدين والمنافقين

- ‌«موالاة المسلمين لا تصلح إلا بالبراءة من المشركين»

- ‌«موالاة المسلمين، والبراءة من المشركين أصل من أصول الإسلام بالإجماع»

- ‌«موالاة المشركين ردة عن الدين، ومروق من ملة المسلمين»

- ‌(موالاة المشركين من أجل الدنيا كفر مخرج من الملة)

- ‌«حكم الإكراه على موالاة المشركين وحدوده»

- ‌«تحذير السلف من موادة أهل البدع والمعاصي»

- ‌ فرض الجهاد باق إلى يوم القيامة

- ‌الكتاب في سطور

- ‌فهرس أهم المراجع والمصادر

الفصل: ‌اسم المشرك ثبت قبل الرسالة

رسول، فالحجة عليه العقل والفطرة، وكذا قرر شيخه ابن تيمية.

وقال رحمه الله في كتاب طريق الهجرتين: «الطبقة الرابعة عشر» قوم: لا طاعة لهم ولا معصية، ولا كفر ولا إيمان، وهؤلاء أصناف:

منهم من لم تبلغه الدعوة بحال ولا سمع لها بخبر، ومنهم المجنون الذي لا يعقل شيئًا ولا يميز، ومنهم الأصم الذي لا يسمع شيئًا أبدًا، ومنهم أطفال المشركين الذين ماتوا قبل أن يميزوا شيئًا.

ثم قال في الطبقة «السابعة عشر» : فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا، ولهم حكم أوليائهم» (1).

قلت: فعندما نفى ابن القيم الكفر عن أطفال المشركين، نفاه باعتبار ما يترتب عليه من العقوبة في الدارين، وعندما أثبته لنفس الطائفة أثبته باعتبار ما يجري عليهم من أحكام الكفر في الدنيا.

وأما نصوص ابن تيمية، وابن القيم في ثبوت وصف الشرك لمن عبد غير الله، ولو لم تقم عليه حجة البلاغ، وأن الحجة على الشرك هو العقل والفطرة، فإليكم بعضًا منها:

قال ابن تيمية رحمه الله: «ف‌

‌اسم المشرك ثبت قبل الرسالة

فإنه يشرك بربه، ويعدل به، ويجعل معه آلهة أخرى، ويجعل له أندادًا قبل الرسول» (2).

(1) طريق الهجرتين / 387، 411.

(2)

مجموع الفتاوى (20/ 38).

ص: 343

وقال أيضًا -رحمه الله تعالى-: «وقوله تعالى: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 173]: وهم آباؤنا المشركون، وتعاقبنا بذنوب غيرنا؟

وذلك لأنه لو قدر أنهم -أي المشركين- لم يكونوا عارفين: بأن الله ربهم، ووجدوا آباءهم مشركين، وهم ذرية من بعدهم، ومقتضى الطبيعة العادية أن يحتذي الرجل حذو أبيه، حتى في الصناعات، والمساكن، والملابس، والمطاعم إذ كان هو الذي رباه، ولهذا كان أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ويشركانه، فإذا كان هذا مقتضى العادة الطبيعية، ولم يكن في فطرهم وعقولهم ما يناقض ذلك، قالوا: نحن معذورون، وآباؤنا هم الذين أشركوا، ونحن كنا ذرية لهم بعدهم اتبعناهم بموجب الطبيعة المعتادة، ولم يكن عندنا ما يبين خطأهم.

فإذا كان في فطرتهم ما شهدوا به من أن الله وحده هو ربهم، كان معهم ما يبين بطلان هذا الشرك، وهو التوحيد الذي شهدوا به على أنفسهم.

فإذا احتجوا بالعادة الطبيعية من اتباع الآباء، كانت الحجة عليهم: الفطرة الطبيعية العقلية السابقة لهذا العادة الأبوية.

كما قال صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه)(1).

(1) متفق عليه، صحيح البخاري (1385)، وصحيح مسلم (2658).

ص: 344

فكانت الفطرة الموجبة للإسلام سابقة للتربية التي يحتجون بها.

وهذا يقتضي أن نفس «العقل» الذي به يعرفون التوحيد حجة في بطلان الشرك، لا يحتاج ذلك إلى رسول، فإنه جعل ما تقدم حجة عليه بدون هذا» (1).

وقال ابن القيم في ذات المعنى: «أن يقولوا -أي المشركون- {إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 173] وهم آباؤنا المشركون، أي: أفتعاقبنا بذنوب غيرنا؟

فإنه لو قدر أنهم لم يكونوا عارفين بأن الله ربهم، ووجدوا آباءهم مشركين، وهم ذرية من بعدهم، ومقتضى الطبيعة العادية أن يحتذي الرجل حذو أبيه حتى في الصناعات، والمساكن، والملابس، والمطاعم، إذ كان هو الذي رباه. ولهذا كان أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه.

فإذا كان هذا مقتضى العادة والطبيعة، ولم يكن في فطرهم وعقولهم ما يناقض ذلك، قالوا: نحن معذورون، وآباؤنا هم الذين أشركوا، ونحن كنا ذرية لهم بعدهم، ولم يكن عندنا ما يبين خطأهم، فإذا كان في فطرهم ما شهدوا به من أن الله وحده هو ربهم كان معهم ما يبين بطلان هذا الشرك، وهو التوحيد الذي شهدوا به على أنفسهم.

(1) درء التعارض (4/ 331 - 332).

ص: 345

فإذا احتجوا بالعادة الطبيعية من اتباع الآباء، كانت الحجة عليهم: الفطرة الطبيعية الفعلية السابقة لهذه العادة الطارئة، وكانت الفطرة الموجبة للإسلام سابقة للتربية التي يحتجون بها.

وهذا يقتضي أن نفس «العقل» الذي به يعرفون التوحيد حجة في بطلان الشرك، لا يحتاج ذلك إلى رسول، فإنه جعل ما تقدم حجة عليهم بدون هذا» (1).

قلت: فالمشركون وعبَّاد القبور، وإن كانوا جاهلين ومتأولين، فليسوا بمسلمين عند شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وأحفاده، امتدادًا لمدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه الإمام ابن القيم.

ولذلك فعندما يطلقون القول بالعذر فهم يستثنون منه عباد القبور، وأمثالهم من المشركين لعدم دخولهم في عداد المسلمين لديهم.

ولقد كانت أحكام الناس قبل ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، على النحو الآتي:

من كان عاملاً بالإسلام، وتاركًا للشرك فهو مسلم.

ومن كان واقعًا في عبادة غير الله سبحانه، فهذا ظاهره الكفر، ونفوض حكمه في الباطن إلى الله تعالى، لاحتمال كونه لم تقم عليه حجة البلاغ.

(1) أحكام أهل الذمة (2/ 1011 - 1012).

ص: 346

فإن مات على ذلك، فلا يتصدق عنه، ولا يضحى له، ولا يستغفر له، ولا يحكم ببراءة ذمته من الطاعات، كالحج مثلاً، إن قام به حال شركه، لأن تحقيق الإسلام شرط من شروط قبول الطاعات، وهو منتف لديه.

ومن مات منهم مجهول الحال فلا يحكمون بإسلامه، لأنه لم يكن أصلاً لديهم للحكم به على أقوامهم، وكذا لا يحكمون بكفره، لأنهم يعتقدون أن الله لم يكلفهم بذلك.

فمن كان منهم مسلمًا أدخله الله الجنة، ومن كان كافرًا في الظاهر والباطن، خلده الله في ناره، ومن لم تبلغه الدعوة منهم، وكان واقعًا في الشرك الأكبر، فحكمه حكم أهل الفترات، وليس بمسلم على أية حال.

وكذلك حكم أئمة الدعوة في أموال أهل زمانهم: بحكم أموال الكفار الأصليين، أي: يستحقون التوارث فيما بينهم، ثم من أسلم منهم على شيء من المال فهو له، ولم يقولوا: بردة أقوامهم، لأن المرتد لا يرث ولا يورث، وطرد ذلك القول: يجعل جميع أموال الناس في زمانهم مستحقة لبيت المال، لأنهم مرتدون، وورثوها عن آبائهم المرتدين، وكذا الأموال التي بأيدي المسلمين، حتى يثبت أحدهم أن أباه لم يكن مرتدًا.

وكذلك سلك أئمة الدعوة مع أقوامهم في الدعوة والقتال: مسلك الكفار الأصليين، الذين لم تقم عليهم حجة البلاغ، فلا يقاتلونهم حتى يبلغوهم إياها، فمن قبلها ودان بالإسلام قاتلوا به من وراءه، ومن أباها قاتلوه قتال

ص: 347

المشركين، ولما تحققوا من ظهور دعوتهم، وبلوغها لمن حولهم من الديار، لم يتوجب عليهم الدعوة قبل القتال.

ولقد وردت أسئلة على أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وحمد بن ناصر رحمهم الله جميعًا- منها:

«وأما السؤال الثالث، وهو قولكم ورد: «الإسلام يهدم ما قبله» (1)، وفي رواية:«يجب ما قبله» (2)، وفي حديث حجة الوداع:«ألا إن دم الجاهلية كله موضوع» (3) إلخ، وظهر لنا من جوابكم: أن المؤمن بالله ورسوله، إذا قال: أو فعل ما يكون كفرًا جهلاً منه بذلك، فلا تكفرونه حتى تقوم عليه الحجة الرسالية، فهل لو قتل من هذا حاله، قبل ظهور هذه الدعوة، موضوع أو لا؟

فنقول: إذا كان يعمل بالكفر والشرك لجهله، أو عدم من ينبهه، لا نحكم بكفره حتى تقام عليه الحجة، ولكن لا نحكم بأنه مسلم، بل نقول: عمله هذا كفر يبيح المال والدم، وإن كنا لا نحكم على هذا الشخص لعدم قيام الحجة عليه، لا يقال: إن لم يكن كافرًا فهو مسلم، بل نقول: عمله عمل الكفار،

(1) صحيح مسلم (121)، ومسند أحمد (17112).

(2)

مسند أحمد (17109)، وقال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني، ورجالهما ثقات. المجمع (15890)، وصححه الألباني في مختصر الإرواء (1280).

(3)

أبو داود (3334)، والترمذي (307)، وقال: حسن صحيح، وابن ماجة (3055)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2852).

ص: 348

وإطلاق الحكم على هذا الشخص بعينه متوقف على بلوغ الحجة الرسالية، وقد ذكر أهل العلم، أن أصحاب الفترات، يمتحنون يوم القيامة في العرصات، ولم يجعلوا حكمهم حكم الكفار، ولا حكم الأبرار.

وأما حكم هذا الشخص إذا قتل، ثم أسلم قاتله، فإنا لا نحكم بديته على قاتله إذا أسلم، بل نقول: الإسلام جب ما قبله، لأن القاتل قتله في حال كفره (1)، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وأما قولكم: وهل ينفع هذا المؤمن المذكور، ما معه من أعمال البر، وأفعال الخير، قبل تحقيق التوحيد؟

فيقال: لا يطلق على الرجل المذكور اسم الإسلام، فضلاً عن الإيمان، بل يقال: الرجل الذي يفعل الكفر، أو يعتقده في حال جهله، وعدم من ينبهه إذا فعل شيئًا من أفعال البر، وأفعال الخير، أثابه الله على ذلك إذا صحح إسلامه وحقق توحيده، كما يدل عليه حديث حكيم بن حزام:«أسلمت على ما أسلفت من خير» (2).

وأما الحج الذي فعله في تلك الحالة فلا نحكم ببراءة ذمته، بل نأمره بإعادة الحج، لأنا لا نحكم بإسلامه في تلك الحالة، والحج من شرط

(1) انظر أخي القارئ ففي أول الفتوى قالوا: لا نحكم لكفره حتى تقام الحجة، وهنا قالوا: قتله في حال كفره.

(2)

متفق عليه، صحيح البخاري (1436)، وصحيح مسلم (123).

ص: 349

صحته: الإسلام فكيف نحكم بصحة حجه وهو يفعل الكفر، أو يعتقده؟

ولكنا لا نكفره إلا بعد قيام الحجة عليه، فإذا قامت عليه الحجة وسلك سبيل المحجة، أمرناه بإعادة الحج، ليسقط الفرض عنه بيقين» (1).

وسئل الشيخ حمد بن ناصر -رحمه الله تعالى-: عن قول الفقهاء: إن المرتد لا يرث ولا يورث، فكفار أهل زماننا هل هم مرتدون؟ أم حكمهم حكم عبدة الأوثان، وأنهم مشركون؟

فأجاب: «أما من دخل في دين الإسلام ثم ارتد فهؤلاء مرتدون، وأمرهم عندك واضح، وأما من لم يدخل في دين الإسلام، بل أدركته الدعوة الإسلامية، وهو على كفره، كعبدة الأوثان، فحكمه حكم الكافر الأصلي، لأنا لا نقول: الأصل إسلامهم، والكفر طارئ عليهم.

بل نقول: الذين نشؤوا بين الكفار، وأدركوا آباءهم على الشرك بالله، هم كآبائهم، كما دل عليه الحديث الصحيح في قوله:«فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه» (2).

فإن كان دين آبائهم الشرك بالله، فنشأ هؤلاء واستمروا عليه، فلا نقول: الأصل الإسلام، والكفر طارئ، بل نقول: هم الكفار الأصليون، ولا يلزمنا

(1) فتاوى الأئمة النجدية (3/ 94 - 96).

(2)

تقدم تخريجه.

ص: 350

على هذا تكفير من مات في الجاهلية قبل ظهور الدين، فإنا لا نكفر الناس بالعموم، كما أنا لا نكفر اليوم بالعموم.

بل نقول: من كان من أهل الجاهلية عاملاً بالإسلام، تاركًا للشرك، فهو مسلم.

أما من كان يعبد الأوثان، ومات على ذلك قبل ظهور هذا الدين، فهذا ظاهره الكفر، وإن كان يحتمل أنه لم تقم عليه الحجة الرسالية لجهله وعدم من ينبهه، لأنا نحكم على الظاهر، أما الحكم على الباطن فذلك إلى الله، والله تعالى لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه، كما قال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15].

«حكم مجهول الحال»

وأما من مات منهم مجهول الحال، فهذا لا نتعرض له، ولا نحكم بكفره ولا بإسلامه، وليس ذلك مما كلفنا به، {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134].

فمن كان منهم مسلمًا أدخله الله الجنة.

ومن كان كافرًا أدخله الله النار.

ومن كان منهم لم تبلغه الدعوة، فأمره إلى الله تعالى.

وقد علمت الخلاف في أهل الفترات، ومن لم تبلغهم الحجة الرسالية.

ص: 351

وأيضًا فإنه لا يمكن أن نحكم في كفار زماننا بما حكم به الفقهاء في المرتد: أنه لا يرث ولا يورث، لأن من قال: لا يرث ولا يورث يجعل ماله فيئًا لبيت مال المسلمين، وطرد هذا القول أن يقال: جميع أملاك الكفار اليوم بيت مال، لأنهم ورثوها عن أهليهم، وأهلوهم مرتدون لا يورثون، وكذلك الورثة مرتدون لا يرثون، لأن المرتد لا يرث ولا يورث.

وأما إذا حكمنا فيهم بحكم الكفار الأصليين، لم يلزم شيء من ذلك، بل يتوارثون، فإذا أسلموا فمن أسلم على شيء فهو له، ولا تتعرض لما مضى منهم في جاهليتهم، لا الموارث ولا غيرها.

وقد روى أبو داود، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم، وكل قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام» (1)، وروى سعيد في سننه من طريقين، عن عروة بن أبي مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«من أسلم علي شيء فهو له» (2) ونص أحمد على مثل ذلك، كما تقدم عنه في رواية مهنَّا.

واعلم أن القول بأن المرتد لا يرث ولا يورث، أحد الأقوال في المسألة،

(1) أبو داود (2914)، وابن ماجة (2415)، وصححه الألباني في مختصر الإرواء (1717).

(2)

نسبه الألباني إلى سعيد بن منصور، وقال رواه من طريقين، وحسنه الألباني، انظر إرواء الغليل (6/ 156).

ص: 352

وهو المشهور في المذهب، وهو مذهب مالك والشافعي.

والقول الثاني: أنه لورثته المسلمين، وهو رواية عن أحمد، وهو مروي عن أبي بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وهو قول جماعة من التابعين، وهو قول الأوزاعي، وأهل العراق.

والقول الثالث: أن ماله لأهل دينه الذي اختاره، إن كان منهم من يرثه، وإلا فهو فيء، وهو رواية عن أحمد، وهو مذهب داود بن علي، وصلى الله على محمد» (1).

وقال الشيخ حمد بن ناصر، بعد أن بيَّن أن الله أرسل الرسل لئلا تكون للناس حجة عليه بعد إرسالهم، وأنَّ عبادة الله وحده لا شريك له معلومة بالضرورة من الدين، وأن الحجة عليها مجرد بلوغ القرآن، فقال رحمه الله تعالى: «إذا تقرر هذا، فنقول: إن هؤلاء الذين ماتوا قبل ظهور هذه الدعوة الإسلامية، وظاهر حالهم الشرك، لا نتعرض لهم، ولا نحكم بكفرهم ولا بإسلامهم، بل نقول: من بلغته هذه الدعوة المحمدية، وانقاد لها، ووحد الله، وعبده وحده لا شريك له، والتزم شرائع الإسلام، وعمل بما أمر الله به، وتجنب ما نهاه عنه، فهذا من المسلمين الموعودين بالجنة، في كل زمان وفي كل مكان.

(1) الدرر السنية (10/ 335 - 337).

ص: 353

وأما من كانت حاله حال أهل الجاهلية، لا يعرف التوحيد الذي بعث الله رسوله يدعو إليه، ولا الشرك الذي بعث الله رسوله ينهى عنه، ويقاتل عليه، فهذا لا يقال: إنه مسلم لجهله، بل من كان ظاهر عمله الشرك بالله فظاهره الكفر، فلا يستغفر له، ولا يتصدق عنه، ونكل حاله إلى الله الذي يبلو السرائر، ويعلم ما تخفي الصدور.

«تكفير المعين، أي: الكفر المعذب عليه، لا يكون إلا بعد إقامة الحجة»

ولا نقول: فلان مات كافرًا، لأنا نفرق بين المعين وغيره، فلا نحكم على معين بكفر، لأنا لا نعلم حقيقة حاله وباطن أمره، بل نكل ذلك إلى الله، ولا نسب الأموات، بل نقول: أفضوا إلى ما قدموا، وليس هذا من الدين الذي أمرنا الله به، بل الذي أمرنا به أن نعبد الله وحده ولا نشرك به، ونقاتل من أبى عن ذلك، بعدما ندعوه إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أصر وعاند كفرناه، وقاتلناه.

فينبغي للطالب أن يفهم الفرق بين المعين وغيره، فنكفر من دان بغير الإسلام جملة، ولا نحكم على معين بالنار، ونلعن الظالمين جملة، ولا نخص معينًا بلعنة، كما قد ورد في الأحاديث: من لعن السارق، وشارب الخمر، فنلعن

من لعنه الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم جملة، ولا نخص شخصًا بلعنة، يبين ذلك:

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن شارب الخمر جملة، ولما وجد رجلاً

قد شرب، قال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به النبي

ص: 354

- صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تلعنوه فوالله ما علمت إلا انه: يحب الله ورسوله» (1)(2).

وقال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله جميعًا: «فيمن مات على التوحيد، وإقامة قواعد الإسلام الخمس وأصول الإيمان الستة، ولكن كان يدعو وينادي ويتوسل في الدعاء إذا دعا ربه، ويتوجه بنبيه في دعائه معتمدًا على الحديثين الذين ذكرناهما، أو جهلاً منه وغباوة، كيف حكمهم؟

فالجواب: أن يقال: قد قدمنا الكلام على سؤال الميت والاستغاثة به، وبينا الفرق بينه، وبين التوسل به في الدعاء، وأن سؤال الميت والاستغاثة به في قضاء الحاجات، وتفريج الكربات من الشرك الأكبر، الذي حرمه الله تعالى ورسوله، واتفقت الكتب الإلهية، والدعوات النبوية على تحريمه، وتكفير فاعله، والبراءة منه، ومعاداته.

ولكن في أزمنة الفترات، وغلبة الجهل لا يكفر الشخص المعين بذلك حتى تقوم عليه الحجة بالرسالة، ويبين له، ويعرف أن هذا هو الشرك الأكبر الذي حرمه الله ورسوله، فإذا بلغته الحجة، وتليت عليه الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، ثم أصر على شركه فهو كافر، بخلاف من فعل ذلك جهالة منه ولم ينبه على ذلك.

(1) صحيح البخاري (6780).

(2)

فتاوى الأئمة النجدية (3/ 99 - 100).

ص: 355

فالجاهل فعله كفر، ولكن لا يحكم بكفره إلا بعد بلوغ الحجة إليه، فإذا قامت عليه الحجة ثم أصر على شركه فقد كفر، ولو كان يشهد: أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويصلي، ويزكي، ويؤمن بالأصول الستة.

وأما من مات وهو يفعل الشرك جهلاً لا عنادًا، فهذا نكل أمره إلى الله تعالى، ولا ينبغي الدعاء له، والترحم عليه، والاستغفار له، وذلك لأن كثيرًا من العلماء يقولون: من بلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة، كما قال تعالى:{لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]، فإذا بلغه القرآن، وأعرض عنه، ولم يبحث عن أوامره ونواهيه فقد استوجب العقاب، قال تعالى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124] وقال تعالى: {وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا * خَالِدِينَ فِيهِ} [طه: 99 - 101].

وأما المبحث الرابع: في تقسيم مواريث من مات على ذلك، وما حصل منهم من الإتلافات، وما وقع بينهم من القتل وغيره، ما حكمه؟

فالجواب: أن تقسيم المواريث التي قسمت في حال الشرك والجهل تقر على ما هي عليه، ولا ترد القسمة في الإسلام، ومن أسلم على شيء في يده قد ملكه في الجاهلية لم ينزع من يده في الإسلام، لأن الإسلام يجب ما قبله. وكذلك ما حصل بينهم من القتل والإتلافات، فالذي نفتي به أنه لا يطالب بشيء

من ذلك، وذلك لأن حال الناس قبل هذا الدين، أكثرهم حاله

ص: 356

كحال أهل الجاهلية الأولى، وكل قوم لهم عادة وطريقة استمروا عليها تخالف أحكام الشرع في المواريث والدماء والديات وغير ذلك، ويفعلون ذلك مستحلين له، فإذا أسلموا لم يطالبوا بشيء مما فعلوه في جاهليتهم، وتملكوه من المظالم، ونحوها.

وأما الديون والأمانات فالإسلام لا يسقطها، بل يجب أداؤها إلى أربابها، والله أعلم» (1).

وقال الشيخان حسين وعبد الله ابنا محمد بن عبد الوهاب -رحم الله الجميع- في الجواب على مسألة وردت عليهم، ضمن مسائل عدة:

«المسألة الثالثة عشرة» : فيمن مات قبل الدعوة، ولم يدرك الإسلام، وهذه الأفعال التي يفعلها الناس اليوم يفعلها، ولم تقم عليه الحجة ما الحكم فيه؟ وهل يلعن أو يسب أو يكف عنه؟ وهل يجوز لابنه الدعاء له؟ وما الفرق بين من لم يدرك هذه الدعوة وبين من أدركها ومات معاديًا لهذا الدين وأهله؟

«الجواب: أن من مات من أهل الشرك قبل بلوغ هذه الدعوة، فالذي يحكم عليه أنه إذا كان معروفًا بفعل الشرك، ويدين به، ومات على ذلك فهذا ظاهره أنه مات على الكفر، فلا يدعى له، ولا يضحى له، ولا يتصدق عنه.

وأما حقيقة أمره فإلى الله تعالى، فإن كان قد قامت عليه الحجة في حياته

(1) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، القسم الأول من الجزء الأول/ 78 - 80.

ص: 357

وعاند فهذا كافر في الظاهر والباطن، وإن كان لم تقم عليه الحجة فأمره إلى الله تعالى.

وأما سبه ولعنه فلا يجوز، بل لا يجوز سب الأموات مطلقًا كما في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا» (1)، إلا إن كان أحد من أئمة الكفر، وقد اغتر الناس به فلا بأس بسبه إذا كان فيه مصلحة دينية، والله أعلم» (2).

«وسئل أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمهم الله تعالى-: من لم تشمله دائرة إمامتكم، ويتسم بسمة دولتكم هل داره كفر وحرب على العموم؟

فأجابوا: الذي نعتقده وندين الله به: أن من دان بالإسلام، وأطاع ربه فيما أمر، وانتهى عما نهى عنه وزجر، فهو المسلم حرام المال والدم، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ولم نكفر أحدًا دان بدين الإسلام لكونه لم يدخل في دائرتنا، ولم يتسم بسمة دولتنا، بل لا نكفر إلا من كفر الله ورسوله، ومن زعم أنا نكفر الناس بالعموم، أو نوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه ببلده، فقد كذب وافترى.

وأما من بلغته دعوتنا إلى توحيد الله، والعمل بفرائض الله، وأبى أن

(1) صحيح البخاري (1393)، وسنن النسائي (1910)، وسنن أبي داود (4253)، ومسند أحمد (24296).

(2)

الدرر السنية (10/ 142).

ص: 358

يدخل في ذلك، وأقام على الشرك بالله، وترك فرائض الإسلام، فهذا نكفره ونقاتله، ونشن عليه الغارة، بل بداره.

وكل من قاتلناه فقد بلغته دعوتنا بل الذي نتحقق ونعتقده: أن أهل اليمن، وتهامة، والحرمين، والشام، والعراق قد بلغتهم دعوتنا، وتحققوا أنا نأمر بإخلاص العبادة لله.

وننكر ما عليه أكثر الناس من الإشراك بالله، من دعاء غير الله، والاستغاثة بهم عند الشدائد، وسؤالهم قضاء الحاجات، وإغاثة اللهفات، وأنا نأمر بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وسائر أمور الإسلام، وننهى عن الفحشاء والمنكرات، وسائر الأمور المبتدعات، ومثل هؤلاء لا تجب دعوتهم قبل القتال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون (1) وغزا أهل مكة بلا إنذار ولا دعوة.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم لعلي يوم خيبر، لما أعطاه الراية، وقال:«أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام» (2)، فهو عند أهل العلم على

الاستحباب.

وأما إذا قدرنا: أن أناسًا لم تبلغهم دعوتنا، ولم يعلموا حقيقة أمرنا، فإن

(1) الحديث متفق على صحته، وانظر: صحيح البخاري (2541)، وصحيح مسلم (1730).

(2)

سبق تخريجه.

ص: 359

الواجب دعوتهم أولاً قبل القتال، فيدعون إلى الإسلام، وتكشف شبهتهم إن كان لهم شبهة، فإن أجابوا فإنه يقبل منهم، ثم يكف عنهم، فإن أبوا حلت دماؤهم وأموالهم» (1).

وقال الشيخ عبد العزيز «قاضي الدرعية» ، ومن حوله من العلماء، في رسالتهم المسماة:«المسائل الشرعية إلى علماء الدرعية» : «وأما السؤال الثاني: وهو قولكم: من لم تشمله دائرة إمامتكم، ويتسم بسمة دولتكم، هل داره كفر وحرب على العموم إلخ

فنقول وبالله التوفيق: «الذي نعتقده وندين الله به: أن من دان بالإسلام وأطاع ربه فيما أمر، وانتهى عما عنه نهى وزجر، فهو المسلم حرام المال والدم، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة.

ولم نكفر أحدًا دان بالإسلام لكونه لم يدخل في دائرتنا، ولم يتسم بسمة دولتنا، بل لا نكفر إلا من كفره الله ورسوله، ومن زعم أنا نكفر الناس بالعموم، أو نوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه ببلده فقد كذب وافترى.

وأما من بلغته دعوتنا إلى توحيد الله والعمل بفرائض الله، وأبى أن يدخل في ذلك، وأقام على الشرك بالله، وترك فرائض الإسلام فهذا نكفره، ونقاتله، ونشن عليه الغارة.

(1) الدرر السنية (9/ 352 - 353).

ص: 360

وكل من قاتلناه فقد بلغته دعوتنا، بل الذي نتحققه ونعتقده: أن أهل اليمن، وتهامة، والحرمين، والشام، والعراق قد بلغتهم دعوتنا، وتحققوا: أنا نأمر بإخلاص الدين والعبادة لله، وننكر ما عليه أكثر الناس من الإشراك بالله، من دعاء غير الله، والاستغاثة بهم عند الشدائد، وسؤالهم قضاء الحاجات، وإغاثة اللهفان.

وإنا نأمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وسائر أمور الإسلام، وننهى عن الفحشاء والمنكرات، وسائر الأمور المبتدعات.

ومثل هؤلاء لا يجب دعوتهم قبل القتال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون (1)، وغزا أهل مكة بلا إنذار ولا دعوة (2).

وأما قوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه يوم خيبر -لما أعطاه الراية- وقال: «أنفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام» (3)، فهو عند أهل العلم على الاستحباب.

وأما إذا قدرنا أن أناسًا لم تبلغهم دعوتنا، ولم يعلموا حقيقة أمرنا أن الواجب دعوتهم أولاً قبل القتال، فيدعون إلى الإسلام، وتكشف شبهتهم إن كان لهم شبهة، فإن أجابوا فإنه يقبل منهم ثم يكف عنهم، فإن أبوا حلت

(1) الحديث متفق عليه، صحيح البخاري (2541)، وصحيح مسلم (1730).

(2)

يقصد بهذا فتح مكة.

(3)

سبق تخريجه.

ص: 361

دماؤهم وأموالهم.

وأما قولكم: من أجاب الدعوة وحقق التوحيد وتبرأ من الشرك هل تلزمه الهجرة وإن لم يكن له قدرة؟

فنقول: الهجرة تجب على كل مسلم لا يقدر على إظهار دينه ببلده إن كان قادرًا على الهجرة، كما دل على ذلك قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97].

وأما من لم يقدر على الهجرة فقد استثناهم الله تعالى بقوله: {إِلَاّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً}

[النساء: 98].

وأما السؤال الثالث وهو قولكم: قد ورد: «الإسلام يهدم ما قبله» (1)، وفي رواية:«يجب ما قبله» (2)، وفي حديث حجة الوداع:«ألا إن دم الجاهلية كله موضوع» (3) إلخ

وظهر لنا من جوابكم أن المؤمن بالله ورسوله إذا قال أو فعل ما يكون كفرًا جهلاً منه بذلك، فلا تكفرونه حتى تقوم عليه الحجة الرسالية، فهل لو قتل من هذا حاله قبل ظهور هذه الدعوة موضوع أو لا؟

(1) سبق تخريجهم.

(2)

سبق تخريجهم.

(3)

سبق تخريجهم.

ص: 362

فنقول: إذا كان يعمل بالكفر والشرك لجهله وعدم من ينبهه، لا نحكم بكفره حتى تقام عليه الحجة، ولكن نحكم بأنه مسلم (1)، بل نقول: عمله هذا كفر يبيح المال والدم.

وإن كنا لا نحكم على هذا الشخص لعدم قيام الحجة عليه، لا يقال: إن لم يكن كافرًا فهو مسلم بل نقول: عمله عمل الكفار، وإطلاق الحكم على هذا الشخص بعينه متوقف على بلوغ الحجة الرسالية إليه.

وقد ذكر أهل العلم أن أصحاب الفترات يمتحنون يوم القيامة في العرصات، ولم يجعلوا حكمهم حكم الكفار، ولا حكم الأبرار.

وأما حكم هذا الشخص إذا قتل، ثم أسلم قاتله فإنا لا نحكم بديته على قاتله إذا أسلم، بل نقول: الإسلام يجب ما قبله، لأن القاتل قتله في حال كفره، والله أعلم

وأما قولكم وهل ينفع هذا المؤمن المذكور ما يصدر منه من أعمال البر، وأفعال الخير قبل تحقيق التوحيد جاهلاً؟

فيقال: لا يطلق على الرجل المذكور اسم الإسلام فضلاً عن الإيمان، بل يقال: الرجل الذي يفعل الكفر، أو يعتقده في حال جهله وعدم من ينبهه، إذا

(1) هكذا في الأصل، وإن كان السياق يقتضي حتمًا: ولكن لا نحكم بأنه مسلم. والدليل على ذلك: قوله بعد هذا: لا يقال إن لم يكن كافرًا فهو مسلم

ولا أدل على ذلك من هدر دمه، إذا قوتل في حالة كفره.

ص: 363

فعل شيئًا من أفعال البر، وأفعال الخير أثابه الله على ذلك إذا صحح إسلامه وحقق توحيده، كما يدل عليه حديث حكيم بن حزام:«أسلمت على ما أسلفت من خير» (1).

وأما الحج الذي فعله في تلك الحالة فلا نحكم ببراءة ذمته به، بل نأمره بإعادة الحج، لأنا لا نحكم بإسلامه في تلك الحالة، والحج من شرط صحته: الإسلام، فكيف يحكم بصحة حجه، وهو يفعل الكفر أو يعتقده؟

ولكنا لا نكفره لعدم قيام الحجة عليه، فإذا قامت عليه الحجة، وسلك سبيل المحجة، أمرناه بإعادة الحج ليسقط الفرض عنه بيقين» (2).

قلت: خلاصة زبدة النقول السابقة نعرضها من خلال كلام الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن، الذي نقلها بدوره عن الشيخ العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن، فقال: «ومسألتنا هذه وهي: عبادة الله وحده لا شريك له، والبراءة من عبادة ما سواه، وأن من عبد مع الله غيره فقد أشرك الشرك الأكبر الذي ينقل عن الملة، هي: أصل الأصول، وبها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وقامت على الناس الحجة بالرسول وبالقرآن، وهكذا تجد الجواب من أئمة الدين في

ذلك الأصل عند تكفير من أشرك بالله فإنه يستتاب فإن تاب وإلا

(1) سبق تخريجه.

(2)

فتاوى الأئمة النجدية (3/ 107 - 111).

ص: 364

قتل، لا يذكرون التعريف في مسائل الأصول، إنما يذكرون التعريف في المسائل الخفية التي قد يخفى دليلها على بعض المسلمين، كمسائل نازع بها بعض أهل البدع كالقدرية والمرجئة، أو في مسألة خفية كالصرف والعطف.

وكيف يعرفون عباد القبور وهم ليسوا بمسلمين، ولا يدخلون في مسمى الإسلام وهل يبقى مع الشرك عمل؟!

والله تعالى يقول: {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]، {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31] {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48]، «ومن يشرك بالله فقد حبط عمله» (1) إلى غير ذلك من الآيات.

ولكن هذا المعتقد يلزم منه معتقد قبيح، وهو أن الحجة لم تقم على هذه الأمة بالرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن، نعوذ بالله من سوء الفهم الذي أوجب لهم نسيان الكتاب والرسول؛ بل أهل الفترة الذين لم تبلغهم الرسالة والقرآن، وماتوا على الجاهلية، لا يسمون مسلمين بالإجماع ولا يستغفر لهم، وإنما اختلف أهل العلم في تعذيبهم في الآخرة

ص: 365

-إلى أن قال نقلاً عن أخيه العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن قوله- مع أن العلامة ابن القيم رحمه الله جزم بكفر المقلدين لمشايخهم في المسائل المكفرة إذا تمكنوا من طلب الحق، ومعرفته، وتأهلوا لذلك وأعرضوا، ولم يلتفتوا.

ومن لم يتمكن، ولم يتأهل لمعرفة ما جاءت به الرسل فهو عنده من جنس أهل الفترة، ممن لم تبلغه دعوة لرسول من الرسل، وكلا النوعين لا يحكم بإسلامهم، ولا يدخلون في مسمى المسلمين حتى عند من لم يكفر بعضهم، وسيأتيك كلامه وأما الشرك فهو يصدق عليهم، واسمه يتناولهم، وأي إسلام يبقى مع مناقضة أصله، وقاعدته الكبرى شهادة أن لا إله إلا الله

-إلى أن قال في ص160 - وتفطن أيضًا فيما قال الشيخ عبد اللطيف فيما نقله عن ابن القيم: أن أقل أحوالهم «أي من فعلوا الشرك جاهلين» أن يكونوا مثل أهل الفترة الذين هلكوا قبل البعثة، ومن لم تبلغه دعوة نبي من الأنبياء إلى أن قال: وكلا النوعين لا يحكم بإسلامهم، ولا يدخلون في مسمى المسلمين حتى عند من لم يكفر بعضهم، وأما الشرك فهو يصدق عليهم، واسمه يتناولهم، وأي إسلام يبقى مع مناقضة أصله، وقاعدته الكبرى شهادة أن لا إله إلا الله؟

«ثم قال في ص 163 بعد أن سرد كلام العلامة ابن القيم في أهل الفترات

ص: 366

من كتابه: طريق الهجرتين السابق نقله».

فقف هنا وتأمل هذا التفصيل البديع فإنه رحمه الله لم يستثن إلا من عجز عن إدراك الحق، مع شدة طلبه، وإرادته له.

فهذا الصنف هو المراد في كلام شيخ الإسلام، وابن القيم، وأمثالهما من المحققين. وأما العراقي (1) وإخوانه المبطلون فشبهوا بأن الشيخ لا يكفر الجاهل، وأنه يقول هو معذور، وأجملوا القول ولم يفصلوا، وجعلوا هذه الشبهة ترسًا يدفعون به الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وصاحوا على عباد الله الموحدين، كما جرى لأسلافهم من عباد القبور والمشركين.

وإلى الله المصير، وهو الحاكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون» (2).

(1) أحد أشد المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والمنافحين عن إسلام المشركين.

(2)

عقيدة الموحدين والرد على الضلال المبتدعين الرسالة السادسة/ 149 - 163.

ص: 367

فمن أحسن ما يزيل الإشكال فيها، ويزيد المؤمن يقينًا، ما جرى من

النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، والعلماء بعدهم رحمهم الله فيمن انتسب إلى الإسلام، كما ذكر أنه صلى الله عليه وسلم بعث البراء رضي الله عنه، ومعه الراية إلى رجل تزوج امرأة أبيه ليقتله ويأخذ ماله (1)، ومثله همه بغزو بني المصطلق، لما قيل: إنهم منعوا الزكاة (32/ش).

(32/ش) قال الله تعالى في شأن هذه القصة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيرها: «وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني المصطلق، وقد روي ذلك من طرق، ومن أحسنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده، من رواية ملك بني المصطلق، وهو الحارث بن ضرار والد جويرية بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها.

قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن سابق، حدثنا عيسى بن دينار، حدثني أبي، أنه سمع الحارث بن ضرار الخزاعي رضي الله عنه يقول: «قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني إلى الإسلام، فدخلت فيه، وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها، وقلت يا رسول الله: أرجع إليهم فأدعوهم إلى الإسلام، وأداء

(1) سبق تخريجه.

ص: 368

الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته، وترسل إلي يا رسول الله رسولاً إبان كذا وكذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة.

فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ الإبان الذي أراد

رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه، احتبس عليه الرسول لم يأته، وظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله تعالى ورسوله، فدعا بسروات (1) قومه، فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وقت لي وقتًا يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة فانطلقوا بنا نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق -أي: خاف-، فرجع حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله: إن الحارث قد منعني الزكاة، وأراد قتلي، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث البعث إلى الحارث رضي الله عنه، وأتى الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث، وفصل عن المدينة لقيهم الحارث فقالوا: هذا الحارث فلما غشيهم قال لهم: إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك. قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة، وأردت قتله، قال رضي الله عنه: لا والذي بعث محمدًا بالحق ما رأيته بتة، ولا أتاني. فلما دخل الحارث على

(1) أي: زعمائهم وسادتهم.

ص: 369

رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: «منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟» ، قال: لا والذي بعثك بالحق ما رأيته، ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم خشيت أن يكون كانت سخطة الله تعالى ورسوله. قال: فنزلت الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} [الحجرات: 6 - 8]- إلى قوله- {حَكِيمٌ} (1)(2).

(1) مسند أحمد (17731)، وقال الهيثمي في المجمع: رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد ثقات (11352)، وقال ابن تيمية:«هذه القصة معروفة من وجوه كثيرة» مجموع الفتاوى (7/ 248).

(2)

تفسير ابن كثير (7/ 370 - 371).

ص: 370