الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منذ اليوم لم تفهم ولم تسأل عنه فلما جاءت هذه السقطة عرفتها، أنت مثل الذباب لا يقع إلا على القذر أو كما قال
…
(العلماء لا يذكرون التعريف عند تكفير المشرك
…
):
ومسألتنا هذه وهي: عبادة الله وحده لا شريك له والبراءة من عبادة ما سواه، وأن من عبد مع الله غيره فقد أشرك الشرك الأكبر الذي ينقل عن الملة، هي أصل الأصول، وبها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وقامت على الناس الحجة بالرسول وبالقرآن، وهكذا تجد الجواب من أئمة الدين في ذلك الأصل عند تكفير من أشرك بالله، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، لا يذكرون التعريف في مسائل الأصول، إنما يذكرون التعريف في المسائل الخفية التي قد يخفى دليلها على بعض المسلمين، كمسائل نازع بها بعض أهل البدع كالقدرية والمرجئة، أو في مسألة خفية كالصرف والعطف.
وكيف يعرفون عباد القبور وهم ليسوا بمسلمين ولا يدخلون في مسمى الإسلام، وهل يبقى مع الشرك عمل والله تعالى يقول:{وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]، {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31]، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48]، «ومن يشرك بالله فقد حبط عمله» (1) إلى غير ذلك من الآيات، ولكن هذا المعتقد يلزم منه معتقد قبيح، وهو: أن
(1) لا توجد آية في القرآن بهذا الترتيب.
الحجة لم تقم على هذه الأمة بالرسول والقرآن، نعوذ بالله من سوء الفهم الذي أوجب لهم نسيان الكتاب والرسول.
بل أهل الفترة الذين لم تبلغهم الرسالة والقرآن، وماتوا على الجاهلية، لا يسمون مسلمين بالإجماع ولا يستغفر لهم، وإنما اختلف أهل العلم في تعذيبهم في الآخرة
…
(رسالة للشيخ محمد بن عبد الوهاب في هذه المسألة):
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب قدَّس الله روحه في الرسالة التي كتب إلى أحمد بن عبد الكريم صاحب الأحساء، أحد الصلحاء أولاً، وقبل أن يفتتن، فنذكر منها شيئًا لمشابهة من رددنا عليه كصاحب الرسالة وهذا نصُّها: «من محمد بن عبد الوهاب إلى أحمد بن عبد الكريم سلام على المرسلين (1) والحمد لله رب العالمين، أما بعد وصل مكتوبك تقرر المسألة التي ذكرت وتذكر أن عليك إشكالاً تطلب إزالته، ثم ورد منك رسالة تذكر أنك عثرت على كلام شيخ الإسلام أزال عنك الإشكال، فنسأل الله أن يهديك لدين الإسلام، وعلى أي شيء يدل كلامه على أن من عبد الأوثان عبادة اللات والعزى، وسبَّ دين الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ما شهد به، مثل سب أبي جهل، أنه لا يكفر بعينه، بل العبارة صريحة واضحة في تكفير مثل ابن فيروز وصالح بن
(1) أخي: تأمل كيف أن الشيخ لم يحيّه بتحية الإسلام، وذلك لأنه كان يرى كفره وردته عن الإسلام، وانظر ما بعده تجده فيه.
عبد الله وأمثالهما، كفرًا ظاهرًا ينقل عن الملة فضلاً عن غيرهما، هذا صريح واضح في كلام ابن القيم وفي كلام الشيخ الذي ذكرت أنه أزال عنك الإشكال في كفر من عبد الوثن الذي على قبر يوسف وأمثاله، ودعاهم في الشدائد
والرخا، وسبَّ دين الرسول، بعدما أقرَّ وشهد به، ودان بعبادة الأوثان بعدما
أقرَّ بها.
وليس في كلامي هذا مجازفة بل أنت تشهد به عليهم، ولكن إذا أعمى الله القلب فلا حيلة فيه وإنما أخاف عليك من قول الله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 3]، والشبهة التي دخلت عليك من أجل هذه البضيعة التي في يدك تخاف أن تضيع أنت وعيالك إذا تركت بلد المشركين وشاك في رزق الله، وأيضًا قرناء السوء.
وأنت والعياذ بالله تنزل درجة أول مرة في الشك، وبلد الشرك، وموالاتهم، والصلاة خلفهم». انتهى كلامه - رحمه الله تعالى-.
فتأمل قوله في تكفير هؤلاء العلماء، وفي كفر من عبد الوثن الذي على قبر يوسف، وأنه صريح في كلام ابن القيم - رحمه الله تعالى -، وفي حكايته عن صاحب الرسالة، وحكم عليه بآية المنافقين، وأن هذا حكم عام
…
ثم قال الشيخ - أي محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى - في تلك الرسالة بعدما ذكر كثرة من ارتد عن الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم، كالذين في زمن
أبي بكر رضي الله عنه حكموا عليهم بالردة بمنع الزكاة، وكأصحاب علي وأهل المسجد الذين بالكوفة، وبني عبيد القدَّاح، كل هؤلاء حكموا عليهم بالردة بأعيانهم، ثم قال: وأما عبارة شيخ الإسلام ابن تيمية التي لبسوا بها عليك فهي أغلظ من هذا كله، ولو نقول بها لكفرنا كثيرًا من المشاهير بأعيانهم فإنه صرح فيها: بأن المعيَّن لا يكفر إلا إذا قامت عليه الحجة، فإذا كان المعيَّن يكفر إذا قامت عليه الحجة، فمن المعلوم: أن قيامها ليس معناه أن يفهم (1) كلام الله ورسوله، مثل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، بل إذا بلغه كلام الله ورسوله وخلا عن ما يعذر به، فهو كافر كما كان الكفار كلهم تقوم عليهم الحجة بالقرآن مع قول الله تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} [الكهف: 57] وقوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ}
[الأنفال: 22].
(المقالات الخفية، والمسائل الجزئية، هي التي لا يكفر المعيَّن فيها إلا بعد إقامة الحجة).
وإذا كان كلام الشيخ ليس في الردة والشرك بل في المسائل الجزئيات ثم
(1) المراد بفهم كلام الله هنا، أن يتفطن العبد إلى مراد الله من الدليل، ويستوعب وجه الاستدلال منه، وليس المقصود أن يفهم دلالة الألفاظ، ويدرك معانيها أي: البيان.
قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ
…
} [إبراهيم: 4].
والدليل على ذلك: أن القرآن لو قرئ كاملاً على أعجمي بدون ترجمان لم تقم عليه الحجة بيقين. هذا والله أعلى وأعلم.
قال: يوضح ذلك أن المنافقين إذا أظهروا نفاقهم صاروا مرتدين، فأين نسبتك أنه لا يكفر أحدًا بعينه.
وقال أيضًا في كلامه على المتكلمين ومن شاكلهم لما ذكر عن أئمتهم شيئًا من أنواع الردة والكفر قال - رحمه الله تعالى -: وهذا إذا كان في المقالات الخفية فقد يقال: إنه مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر تاركها، لكن يقع في طوائف منهم في هذه الأمور الظاهرة التي يعلم المشركون واليهود والنصارى أن محمدًا صلى الله عليه وسلم بعث بها وكفّر من خالفها، مثل: أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سواه من النبيين والملائكة وغيرهم، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام.
ثم تجد كثيرًا من رؤسائهم وقعوا في هذه الأنواع فكانوا مرتدين، وكثير منهم تارة يرتد عن الإسلام ردة صريحة، إلى أن قال: وأبلغ من ذلك أن منهم من صنَّف في الردة، كما صنف: الرازي في عبادة الكواكب، وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين. هذا لفظه بحروفه، فتأمل كلامه في التفرقة بين المقالات الخفية وبين ما نحن فيه في كفر المعين، وتأمل تكفيره رؤسائهم فلانًا وفلانًا بأعيانهم وردتهم ردة صريحة، وتأمل تصريحه بحكاية الإجماع على الردة الفخر الرازي عن الإسلام، مع كونه من أكابر أئمة الشافعية، هل يناسب هذا من كلامه أن المعين لا يكفر ولو دعا عبد القادر في الرخا والشدة، ولو أحب عبد الله بن عوف، وزعم أن دينه حسن، مع عبادته لأبي حديدة.
وقال شيخ الإسلام أيضًا: بل كل شرك في العالم إنما حدث عن رأي بني جنسهم، فهم الآمرون بالشرك الفاعلون له، ومن لم يأمر منهم بالشرك فلم ينه عنه بل يقر هؤلاء وهؤلاء، وإن رجح الموحدين ترجيحًا ما، فقد رجح غيره المشركين وقد يعرض عن الأمرين جميعًا.
فتدبر هذا فإنه نافع جدًا، وكذلك الذين كانوا في ملة الإسلام لا ينهون عن الشرك ويوجبون التوحيد، بل يسوِّغون الشرك ويأمرون به، وهم إذا ادَّعوا التوحيد فإنما توحيدهم بالقول لا بالفعل، انتهى كلامه رحمه الله.
فتأمل كلامه واعرضه على ما غرَّك به الشيطان من الفهم الفاسد الذي كذبت به الله ورسوله وإجماع الأمة، وتحيزت به إلى عبادة الطاغوت، فإن فهمت هذا، وإلا أشير عليك أنك تكثر من التضرع والدعاء إلى من الهداية بيده، فإن الخطر عظيم، فإن الخلود في النار جزاء الردَّة الصريحة ما يساوي بضيعة تربح تومان أو نصف تومان، وعندنا أناس يجوعون بعيالهم ولا شحذوا.
وقد قال الله في هذه المسألة: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: 56]، {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت: 60].
انتهى كلام الشيخ من الرسالة المذكور بحروفه مع بعض الاختصار، فراجعها من التاريخ فإنها نافعة جدًا
…
(مجرد بلوغ القرآن حجة على إفراد الله بالعبادة):
ومن الدليل على مسألتنا ما كتب الشيخ - رحمه الله تعالى - إلى عيسى بن قاسم وأحمد بن سويلم لما سألاه عن قول شيخ الإسلام تقي الدين قدس الله روحه من جحد ما جاء به الرسول وقامت عليه الحجة فهو كافر.
فأجاب بقوله: إلى الأخوين عيسى بن قاسم وأحمد بن سويلم سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: ما ذكرتموه من كلام الشيخ كل من جحد كذا وكذا، وأنكم تسألون عن هؤلاء الطواغيت وأتباعهم هل قامت عليهم الحجة أم لا؟
فهذا من العجب العجاب كيف تشكُّون في هذا، وقد وضحت لكم مرارًا: أن الذي لم تقم عليه الحجة هو الذي حديث عهد بالإسلام، أو الذي نشأ ببادية بعيدة، أو يكون ذلك في مسائل خفية مثل الصرف والعطف فلا يكفر حتى يعرف.
وأما أصول الدين التي وضحها الله في كتابه فإن حجة الله هي: القرآن، فمن بلغه القرآن فقد بلغته الحجة، ولكن أصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة وفهم الحجة فإن أكثر الكفار والمنافقين، لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم كما قال تعالى:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَاّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان: 44].
وقيام الحجة وبلوغها نوع، وفهمهم إياها نوع آخر.
فتأمل كلام الشيخ ونسأل الله أن يرزقك الفهم الصحيح وأن يعافيك من التعصب، وتأمل كلام الشيخ رحمه الله أن كل من بلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة وإن لم يفهم ذلك، وجعله هذا هو السبب في غلط من غلط وأنه عل التعريف في المسائل الخفية، ومن حكينا عنه جعل التعريف في
أصل الدين.
وهل بعد القرآن والرسول تعريف؟!! ثم نقول: هذا اعتقادنا نحن ومشايخنا نعوذ بالله من الحور بعد الكور، وهذه المسألة كثير جدًا، من مصنفات الشيخ رحمه الله، لأن علماء زمانه من المشركين ينازعون في تكفير المعين
…
فهذا شرح حديث عمرو بن عبسة من أوله إلى آخره كله في تكفير المعين (1)، حتى أنه نقل فيه عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن من دعا عليًّا فقد كفر ومن لم يكفِّره فقد كفر، وتدبر ماذا أودعه من الدلائل الشرعية، التي إذا تدبَّرها العاقل المنصف - فضلاً عن المؤمن - عرف أن المسألة وفاقية ولا تشكل إلا على مدخول عليه في اعتقاده
…
قال الشيخ عبد اللطيف رحمه الله على قول العراقي: قد كفَّرتم الحرمين وأهلها، فذكر كلامه وأجاب عنه إلى أن قال: قال العراقي: ومن المعلوم أن المنع من تكفير المسلمين الذين تكلموا في هذا الباب وإن أخطئوا من أحق الأغراض الشرعية، وهو إذا اجتهد فله أجران إن أصاب، وإن أخطأ
(1) المقصود بهذا: رسالتنا المباركة، التي هي محل الشرح، والموسومة: بـ (مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد).
فله أجر واحد. انتهى كلام العراقي.
والجواب أن يقال: هذا الكلام من جنس تحريفه الذي قررناه، في هذا تحريفين:
أحدهما: أنه أسقط السؤال وفرضه في التكفير في المسائل التي وقع فيها نزاع وخلاف بين أهل السنة والجماعة والخوارج والروافض، فإنهم كفروا المسلمين وأهل السُّنة بمخالفتهم فيما ابتدعوه وأصَّلوه ووضعوه وانتحلوه - وأسقط - هذا خوفًا من أن يقال دعا أهل القبور وسؤالهم والاستغاثة بهم من هذا الباب ولم يتنازع فيها المسلمون، بل هي مجمع على أنها من الشرك المكفر، كما حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية وجعلها مما لا خلاف في التكفير بها، فلا يصح حمل كلامه هنا على ما جزم هو بأنه كفر مجمع عليه، ولو صح حمل هذا العراقي
لكان قوله قولاً مختلفًا وقد نزهه الله وصانه عن هذا فكلامه متفق يشهد
بعضه لبعض.
إذا عرفت هذا عرفت تحريف العراقي في إسقاطه بعض الكلام وحذفه، وأيضًا فالحذف لأصل الكلام يخرجه عن وجهه وإرادة المقصود.
التحريف الثاني: أن الشيخ رحمه الله قال: أصل التكفير للمسلمين، وعبارات الشيخ أخرجت عبَّاد القبور من مسمًَّى المسلمين، كما سننقل من كلامه في الحكم عليهم بأنهم لا يدخلون في المسلمين في مثل هذا الكلام، فذكر كلامًا فيما أخطأ من المسلمين في بعض الفروع إلى أن قال: فمن اعتقد
في بشر أنه إله أو دعا ميتًا وطلب منه الرزق والنصر والهداية وتوكل عليه وسجد له، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه. انتهى.
فبطل استدلال العراقي وانهدم من أصله كيف يجعل النهي عن تكفير المسلمين متناولاً لمن يدعو الصالحين ويستغيث بهم مع الله ويصرف لهم من العبادات مالا يستحق إلا الله، وهذا باطل بنصوص الكتاب والسُّنة وإجماع علماء الأمة.
ومن عجيب جهل العراقي أنه يحتج على خصمه بنفس الدعوى، والدعوى لا تصلح دليلاً، فإن دعوى العراقي لإسلام عبَّاد القبور تحتاج دليلاً قاطعًا على إسلامهم، فإذا ثبت إسلامهم منع من تكفيرهم والتفريع ليس مشكلاً.
ومعلوم أن من كفر المسلمين لهواه كالخوارج والرافضة، أو كفَّر من أخطأ في المسائل الاجتهادية أصولاً وفروعًا فهذا ونحوه مبتدع ضال مخالف لما عليه أئمة الهدى ومشايخ الدين.
ومثل شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب لا يكفر أحدًا بهذا الجنس ولا من هذا النوع، وإنما يكفر من نطق بتكفيره الكتاب العزيز وجاءت به السنة الصحيحة وأجمعت على تكفيره الأمة، كمن بدَّل دينه وَفَعل فِعلَ الجاهلية، الذين يعبدون الأنبياء والملائكة والصالحين ويدعونهم، فإن الله كفَّرهم وأباح دماءهم، وأموالهم وذراريهم بعبادة غيره نبيًّا أو وليَّا أو صنمًا، لا فرق في الكفر بينهم كما دل عليه الكتاب العزيز والسنة المستفيضة، وبسط هذا يأتيك مفصلاً، وقد مرَّ بعضه.
وقال وقد سئل عن مثل هؤلاء الجُهَّال، فقرر: أن من قامت عليه الحجة وتأهَّل لمعرفتها يكفر بعبادة القبور، وأما من أخلد إلى الأرض واتبع هواه فلا أدري ما حاله.
وقد سبق من كلامه ما فيه كفاية، مع أن العَلامة ابن القيم رحمه الله جزم بكفر المقلدين لمشايخهم في المسائل المكفرة إذا تمكنوا من طلب الحق ومعرفته وتأهَّلوا لذلك وأعرضوا ولم يلتفتوا، ومن لم يتمكن ولم يتأهل لمعرفة ما جاءت به الرسل، فهو عنده من جنس أهل الفترة ممن لم تبلغه دعوة لرسول
من الرسل.
وكلا النوعين لا يحكم بإسلامهم، ولا يدخلون في مسمَّى المسلمين حتى عند من لم يكفر بعضهم - وسيأتيك كلامه-، وأما الشرك فهو يصدق عليهم واسمه يتناولهم، وأي إسلام يبقي، مع مناقضة أصله وقاعدته الكبرى: شهادة أن لا إله إلا الله، وبقاء الإسلام ومسمَّاه مع بعض ما ذكره الفقهاء في باب حكم المرتد أظهر من بقائه مع عبادة الصالحين ودعائهم ولكن العراقي
يفر من أن يسمِّي ذلك عبادة ودعاء، ويزعم أنه توسل ونداء، ويراه مستحبًا وهيهات أين المفر؟ والإله الطالب، حيل بين العير والنزوات بما
منَّ الله من كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وبما جاء به محمد عبده ورسوله من الحكمة والهدى والبيان لحدود ما أنزل الله عليه، ولا يزال الله سبحانه وتعالى يغرس لهذا الدين غرسًا تقوم به
حجته على عباده، ويجاهدون في بيان دينه وشرعه من ألحد في كتابه ودينه، وصرفه عن موضوعه إلى آخر ما ذكر.
فتأمل قوله رحمه الله: دعاء القبور وسؤالهم والاستغاثة بهم ليست من هذا الباب ولم يتنازع فيها المسلمون، بل هي مجمع على أنها من الشرك المكفِّر كما حكاه شيخ الإسلام ابن تيمة نفسه وجعله مما لا خلاف بالتكفير به ولا يصح حمل كلامه هنا، على ما جزم هو بأنه كفر.
قلت: ويدل عليه كلامه المتقدم: أن من دعا عليًا فقد كفر، ثم قال: التحريف الثاني الذي قال في أصل التكفير للمسلمين، وعبارات الشيخ أخرجت عبَّاد القبور من مسمَّى المسلمين» (1).
هذا معتقد أهل السُّنَّة والجماعة في هذه المسألة.
فهم يعينون بالكفر كل من عبد غير الله باتخاذه إلهًا سواه، وإن صلى وصام وزعم الإسلام.
ولا يشترط أن يسمِّي توجهه لغير الله عبادة، ولا من عبده إلهًا، لأن الأحكام تدور مع الحقائق والمعاني دون الأسماء والألفاظ المجردة عن دلائلها فلو شرب شارب الخمر وسماه بغير اسمه فهو شارب للخمر، ولو زنا زان وسمى فعله نكاح متعة فهو زان، ولو تعامل مراب بالربا وسمى تعامله بيعًا فهو مراب
…
(1) فتاوى الأئمة النجدية (3/ 114 - 1132).
وإحدى الدلائل على ذلك: قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] الآية، فأهل الكتاب لم يسموا أحبارهم ورهبانهم أربابًا، ولكن لمّا أنزلوهم، منزلة الرب في التحليل والتحريم نزل النص القرني بحقيقة الأمر، وإن فرّ أصحابه من اسمه الشنيع.
وإذا قامت على المشرك الحجَّة في الدنيا فهو كافر في أحكام الدنيا والآخرة. وإن كانت الحجة لم تقم عليه فهو كافر في أحكام الدنيا لا في أحكام الثواب والعقاب.
وأما ما دون أصل الدين من الأصول والفروع فهو يخضع لضوابط التكفير المقررة من نصوص الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة وأئمتها، فلا يقع الكفر في استحلال أو رد شيء منها إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة.
وأما إذا وقع المسلم في استحلال أو رد أمر معلوم بالضرورة من الدين، وكان مثله يعلمه فهو كافر مرتد عن الإسلام.
وأما حديث العهد بالإسلام، ومن نشأ ببادية بعيدة فإن وقع في مكفر، دون الشرك الأكبر، فهو معذور حتى تقام عليه الحجة، ما لم يكن مثله من بني جنسه يعلم بطلان ما وقع فيه، مثل نصراني أسلم حديثًا وكان يعيش بين المسلمين، فإن استحل ترك الصلاة، وادعى الجهل، فلا يقبل عذره لأن وجوب الصلاة ما زال معلومًا بالاضطرار من دين المسلمين، ومثله من بني جنسه لا
يجهل ذلك.
(1)
(10/ش) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى مبينًا أحوال هذه الطواغيت، وأحوال عابديها من المشركين، في أثناء شرحه لقوله تعالى {أَفَرَأَيْتُمُ اللَاّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم: 19، 20].
«يقول تعالى مُقَرِّعا للمشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد والأوثان، واتخاذهم لها البيوت مضاهاة للكعبة، التي بناها خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام {أَفَرَأَيْتُمُ اللَاّتَ} وكان «اللات» صخرةً بيضاء منقوشة، وعليها بيت بالطائف له أستار وسَدنَة، وحوله فناء معظم عند أهل الطائف، وهم ثقيف ومن تابعها، يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش».
قال ابن جرير: وكانوا قد اشتقوا اسمها من اسم الله تعالى، فقالوا اللات، يعنون مؤنثة منه، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا، وحكى عن ابن عباس، ومجاهد والربيع بن أنس: أنهم قرؤوا «اللات» بتشديد التاء، وفسروه بأنه كان رجلاً يَلُتُّ للحجيج في الجاهلية السويق، فلما مات عكفوا على
(1) اقتضاء الصراط المستقيم/ 313 - 405 اختصارًا.
قبره فعبدوه.
وقال البخاري: حدثنا مسلم -هو ابن إبراهيم- حدثنا أبو الأشهب، حدثنا أبو الجوزاء، عن ابن عباس:{اللَاّتَ وَالْعُزَّى} قال: كان اللات رجلاً يلت السَّويق، سويق الحاج (1).
قال ابن جرير: وكذا العُزَّى من العزيز، وكانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة، وهي بين مكة والطائف، كانت قريش تعظمها، كما قال أبو سفيان يوم أُحد: لنا العزى ولا عزى لكم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قولوا الله مولانا، ولا مولى لكم)(2).
وروى البخاري من حديث الزهري، عن حُمَيد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف فقال في حلفه: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعالى أقامرك، فليتصدق» (3).
وهذا محمول على من سبق لسانه إلى ذلك، كما كانت ألسنتهم قد اعتادته في زمن الجاهلية، كما قال النسائي: أخبرنا أحمد بن بَكَّار وعبد الحميد بن محمد قالا: حدثنا مَخْلَد، حدثنا يونس، عن أبيه، حدثني مصعب بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال: حلفت باللات والعزى، فقال لي
(1) صحيح البخاري (4859).
(2)
صحيح البخاري (4043).
(3)
صحيح البخاري (4860).
أصحابي: بئس ما قلت! قلت هجرا! فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقال:(قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وانفث عن شمالك ثلاثًا، وتعوَّذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم لا تعد)(1).
وأما «مناة» فكانت بالمُشَلَّل - عند قُدَيد، بين مكة والمدينة - وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظمونها، ويُهلّون منها للحج إلى الكعبة.
وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها نحوه (2). وقد كانت بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر تعظمها العرب كتعظيم الكعبة غير هذه الثلاثة التي نص عليها في كتابه العزيز، وإنما أفرد هذه بالذكر لأنها أشهر من غيرها.
قال ابن إسحاق في السيرة: وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحُجاب، وتهدي لها كما تهدي للكعبة، وتطوف بها كطوفاتها بها، وتنحر عندها، وهي تعرف فضل الكعبة عليها، لأنها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم عليه السلام، ومسجده، فكانت لقريش وبني كنانة العُزّى بنخلة، وكانت سدنتها وحجابها
(1) سنن النسائي (3716، 3717) وسنن ابن ماجه (2097)، وصححه ابن حبان (4364)، ومسند أحمد (590) وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين في تحقيقه للمسند (1/ 183).
(2)
صحيح البخاري (4861).
بني شيبان من سليم حلفاء بني هاشم.
قلت: بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه فهدمها، وجعل يقول:
يَا عُزّ، كُفْرَانَك لا سُبْحَانَك
…
إني رأيت الله قَدْ أهَانَك
وقال النسائي: أخبرنا علي بن المنذر، أخبرنا ابن فُضَيْل، حدثنا الوليد بن جُمَيْع، عن أبي الطُّفَيْلِ قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة، وكانت بها العزى فأتاها خالد وكانت على ثلاث سَمُرات، فقطع السَّمُرات، وهدم البيت الذي كان عليها ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال:«ارجع فإنك لم تصنع شيئًا» فرجع خالد، فلما أبصرته السَّدَنة -وهم حَجَبتها- امعنوا في الحِيَل وهم يقولون:«يا عزى، يا عزى» فأتاها خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحفن التراب على رأسها، فغمسها بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال:«تلك العزى» (1).
قال ابن إسحاق: وكانت اللات لثقيف بالطائف، وكان سَدَنتها وحجباها بني مُعتب.
قلت: وقد بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان صخر بن حرب، فهدماها وجعلا مكانها مسجد الطائف.
(1) النسائي في السنن الكبرى (11547)، ومسند أبي يعلى (902)، وعزاه الهيثمي في المجمع للطبراني، وقال: فيه يحيى بن المنذر وهو ضعيف (10255).
قال ابن إسحاق: وكانت مناة للأوس والخزرج، ومن دان بدينهم من أهل يثرب على ساحل البحر من ناحية المُشلَلَ بقديد، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها أبا سفيان صخر بن حرب رضي الله عنه فهدمها، ويقال: علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
قال: وكانت ذو الخَلَصة لدَوس وخَثعم وبَجِيله، ومن كان ببلادهم من العرب بِتَبَالة.
قلت: وكان يقال لها: الكعبة اليمانية، وللكعبة التي بمكة الكعبة الشامية.
فبعث إليه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم جرير بن عبد الله البجلي فهدمه.
قال: وكانت فَلْس لطيئ ولمن يليها بجبلي طيئ من سَلمى وأجا.
قال ابن هشام: فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليه علي بن أبي طالب فهدمه، واصطفى منه سيفين: الرّسُوب والمخْدَم، فَنفَّله إياهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فهما سيفا علي.
قال ابن إسحاق: وكان لحمير وأهل اليمن بيت بصنعاء يقال له: ريام، وذكر أنه كان به كلب أسود، وأن الحبرين اللذين ذهبا مع تبع استخرجاه وقتلاه، وهدما البيت.
قال ابن إسحاق: «وكانت «رُضَاء» بيتا لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، ولها يقول المستوغر بن ربة بن كعب بن سعد حين هدمها في الإسلام:
ولقد شَدَدْتُ عَلَى رُضَاء شَدّة
…
فَتَرَكْتُها قفرًا بِقَاع أسحَمَا (1)
هذه كانت آلهة المشركين، وتلك كانت أحوالهم المتردية في أوحال الجاهلية ولكن لمّا سطع نور النبوة، وأشرقت شمس الرسالة، خرج من بين ظهراني أهل الجاهلية الأولى: أفضل جيل عرفه التاريخ.
ولقد رأينا كيف بدد نور التوحيد ظلمات الشرك، وكيف قهر بريق الإيمان سواد الكفر
…
ورحم الله الإمام مالك حيث قال: «لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها؛ فما لم يكن يومئذ دينا لا يكون اليوم دينًا» (2).
(1) تفسير القرآن العظيم (7/ 455 - 457).
(2)
انظر: مناسك الحج والعمرة للألباني/ 46.
(1)
(12/ش) لقد شغب كثير من أفراخ المرجئة بمعنى باطل توهموه من هذا الحديث المبارك، من أجل تصحيح إسلام المشركين، والقول بإيمانهم.
فقالوا بزعمهم: الصحابة وقعوا في الشرك الأكبر وكانوا جاهلين فعذروا بجهلهم
…
فيا فرح الرافضة لو سمعوا بهذا الكلام الخبيث السمج في
لفظه ومعناه.
ولو فقه القوم لعلموا أن قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث عقب طلب الحدثاء العهد بالكفر أن يجعل لهم ذات أنواط: (سبحان الله هذا كما قال قوم موسى:
(1) سنن الترمذي (2180)، وقال: حسن صحيح، ومسند أحمد (20892).
{اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ} [الأعراف: 138]، وهذا لفظ الترمذي، وفي رواية أحمد:(قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ}).
فقوله صلى الله عليه وسلم: (كما قال موسى) تشبيه لطلبهم بطلب قوم موسى عليه السلام.
والتشبيه له أربعة أركان: المشبه، والمشبه به، وأداة التشبيه، ووجه الشبه ومن المعلوم أن المشبه به أقوى وأعلى رتبة من المشبه وأن المشبه دون المشبه به في وجه الشبه.
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى -: «حقيقة التشبيه إلحاق ناقص بكامل» (1).
وقال العلامة ابن قيم الجوزية - رحمه الله تعالى -: «ورتبة المشبه به أعلى من رتبة المشبه. وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: (مدمن الخمر كعابد وثن (2)، ونظائر
ذلك» (3).
(1) فتح الباري (1/ 20).
(2)
جاء الحديث بعدة روايات، وهو بمجموعها حديث صحيح، انظر سنن ابن ماجه (3375)، وصحيح ابن حبان (5347)، والقول المسدد في الذب عن مسند الإمام أحمد للحافظ ابن حجر/ 78 - 79، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5861).
(3)
عدة الصابرين/91.
وأورد الحافظ في الفتح وأقره أن: «شرط التشبيه أن يكون المشبه به أقوى» (1).
وقال أيضًا رحمه الله تعالى: «الأصل أن المشبه به أعلى درجة من المشبه» (2).
وقال الإمام الكرماني رحمه الله تعالى: «شرط التشبيه أن يكون المشبه به أقوى» (3).
وبعد هذه النقول ندرك أن طلب بعض حدثاء العهد بالكفر من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم ذات أنواط هو دون طلب قوم موسى عليه السلام منه: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ} وذلك بسبب التفاوت المستفاد من التشبيه الواقع في الحديث.
قال الشيخ المباركفوري في شرحه لهذا الحديث: (قوله «لما خرج» أي عن مكة، كما في رواية لأحمد «إلى حنين» كزبير موضع بين الطائف ومكة، «يقال لها ذات أنواط» قال الجزري في النهاية: هي اسم شجرة بعينها كانت للمشركين «ينوطون بها سلاحهم» أي: يعلقونه بها، ويعكفون حولها.
(1) الفتح (8/ 534).
(2)
الفتح (9/ 583).
(3)
عمدة القاري (22/ 308).
فسألوه أن يجعل لهم مثلها فنهاهم عن ذلك. وأنواط جمع: نوط، وهو مصدر سمي به المنوط انتهى.
«سبحان الله» تنزيهًا وتعجبًا «هذا» أي: هذا القول منكم، (كما قال قوم موسى اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة) لكن لا يخفى ما بينهما من التفاوت المستفاد من التشبيه حيث يكون المشبه به أقوى) (1).
وقال الإمام الشاطبي رحمه الله في ذات المعنى: «فقوله صلى الله عليه وسلم: «حتى تأخذ أمتي بما أخذ القرون من قبلها» (2) يدل على أنها تأخذ بمثل ما أخذوا به، إلا أنه لا يتعين في الاتباع لهم أعيان بدعهم، بل قد تتبعها في أعيانها وتتبعها في أشباهها.
فالذي يدل على الأول قوله: «لتتبعن سنن من كان قبلكم» الحديث فإنه قال فيه: (حتى لو دخلوا في جحر ضب خرب لاتبعتموهم)(3).
والذي يدل على الثاني قوله: «فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط، قال عليه السلام:(هذا كما قالت بنو إسرائيل: اجعل لنا إلهًا) الحديث.
فإن اتخاذ ذات أنواط يشبه اتخاذ الآلهة من دون الله لا أنه هو بنفسه، فلذلك لا يلزم الاعتبار بالمنصوص عليه ما لم ينص عليه مثله من كل وجه
(1) تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي (6/ 339).
(2)
صحيح البخاري (6888).
(3)
صحيح البخاري (6889).
والله أعلم» (1).
فهذا النص من الإمام الأصولي يدل على أن: القوم لم يطلبوا الشرك الأكبر بل مجرد المشابهة، وأنه يشبه طلب بني إسرائيل لا أنه هو بنفسه، وأنه لا يلزم التشابه بينهما بالكلية، فلذلك لا يلزم الاعتبار بالمنصوص عليه، ما لم ينص عليه من كل وجه.
ولذلك قال ابن تيمية -رحمه الله تعالى- تعليقًا على هذه القصة: «فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم مجرد مشابهتهم الكفار في اتخاذ شجرة يعكفون عليها، معلقين عليها سلاحهم، فيكف بما هو أطم من ذلك مشابهتهم المشركين، أو هو الشرك بعينه» (2).
وهذا النقل مرّ معنا في الرسالة محل الشرح، واستشهد به محمد بن عبد الوهاب وأقره.
وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب معلقًا على حادثة ذات أنواط في كتابه التوحيد: «باب، من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما» .
وقول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَاّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى}
[النجم: 19، 20]
(1) الاعتصام للشاطبي (2/ 245 - 246).
(2)
اقتضاء الصراط المستقيم (/314).
فيه مسائل:
الأول: تفسير آية النجم.
الثانية: معرفة صورة الأمر الذي طلبوا.
الثالثة: كونهم لم يفعلوا.
الرابعة: كونهم قصدوا التقرب إلى الله بذلك لظنهم أنه يحبه.
الخامسة: أنهم إذا جهلوا هذا فغيرهم أولى بالجهل.
السادسة: أن لهم من الحسنات والوعد بالمغفرة ما ليس لغيرهم.
السابعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعذرهم في الأمر بل رد عليهم بقوله: (الله أكبر إنها السنن لتتبعن سنن من كان قبلكم)، فغلظ الأمر بهذه الثلاث.
الثامنة: الأمر الكبير وهو المقصود: أنه أخبر أن طلبتهم كطلبة بني
إسرائيل لما قالوا لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا} .
التاسعة: أن نفي هذا معنى لا إله إلا الله مع دقته وخفائه على أولئك.
العاشرة: أنه حلف على الفتيا وهو لا يحلف إلا لمصلحة.
الحادية عشرة: أن الشرك فيه أكبر وأصغر، لأنهم لم يرتدوا بهذا.
الثانية عشرة: قولهم ونحن حدثاء عهد بكفر، فيه أن غيرهم لا يجهل ذلك.
الثالثة عشرة: التكبير عند التعجب خلافًا لمن كرهه.
الرابعة عشرة: سد الذرائع.
الخامسة عشرة: النهي عن التشبه بأهل الجاهلية.
السادسة عشرة: الغضب عند التعليم.
السابعة عشرة: القاعدة الكلية لقوله: (إنها السنن).
الثامنة عشرة: أن ما ذم الله به اليهود والنصارى في القرآن أنه لنا.
التاسعة عشرة: أنه متقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمر فصار فيه التنبيه على مسائل القبر.
أما من ربك؟ فواضح.
وأما من نبيك؟ فمن إخباره بأنباء الغيب.
وأما ما دينك؟ فمن قولهم: (اجعل لنا) إلى آخره.
العشرون: أن سنة أهل الكتاب مذمومة كسنة المشركين.
الحادية والعشرون: أن المتنقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يؤمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة لقولهم: (ونحن حدثاء عهد بكفر)(1).
فانظر إلى قول الإمام في مسائله: أن الشرك فيه أكبر وأصغر، لأنهم لم يرتدوا بذلك.
فالمتقرر لديه رحمه الله تعالى أن من وقع في الشرك الأكبر، ولو كان حديث عهد بكفر فقد ارتد عن الإسلام، لأن العبد لا يكون مسلمًا إلا بإفراد الله بالعبادة مع الكفر بكل ما يعبد من دونه، ولذلك علل -رحمه الله تعالى- ما وقعوا فيه أنه من الشرك الأصغر لأنهم لم يرتدوا به، فلو كان من الأكبر لارتدوا
عن الإسلام.
فإن قال قائل: فلماذا شبه طلبهم بطلب قوم موسى عليه السلام: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا} فنقول: هو مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (أجعلتني لله ندًا)، وفي رواية:(أجعلتني لله عدلاً، قل ما شاء الله وحده) لرجل قال له: «ما شاء الله وشئت» (2)،
(1) كتاب التوحيد /128.
(2)
مسند أحمد (2430)، وسنن ابن ماجة (2117)، والسنن الكبرى للنسائي (10825)، وحسن إسناده الإمام العراقي في تخريج أحاديث الإحياء (7/ 123)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (139).
وكقوله صلى الله عليه وسلم: (مدمن الخمر كعابد وثن)(1)، ونظائر هذه الأحاديث كثيرة.
ومن نافلة القول أن نقرر: أن علماء الأمة وأئمتها قد نصوا على أن
النبي صلى الله عليه وسلم أراد من هذه النصوص سد الذرائع الموصلة للشرك الأكبر، وحسم موارده ليبقى التوحيد شامخًا في نفوس أبناء الأمة، ويظل مصونًا من خدوش الشرك ووسائله.
قال الإمام العلامة ابن تيمية رحمه الله تعالى في بيان هذا المعنى الجليل: «وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق هذا التوحيد لأمته، ويحسم عنهم موارد الشرك إذ هذا تحقيق قولنا:(لا إله إلا الله) فإن الإله هو الذي تألهه القلوب لكمال المحبة والتعظيم والإجلال والإكرام والرجاء والخوف.
حتى قال لهم: (لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد)، وقال له رجل: ما شاء الله وشئت فقال: (أجعلتني لله ندًا بل ما شاء الله وحده)(2)، وقال:(من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت)(3) وقال: (من حلف بغير الله فقد أشرك)» (4)(5).
(1) سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
متفق عليه، صحيح البخاري (2679)، وصحيح مسلم (1646).
(4)
سنن أبي داود (3251)، وصححه ابن حبان (4358)، وصححه الألباني في السلسلة (2042).
(5)
مجموع الفتاوى (1/ 136).
وقال العلامة ابن قيم الجوزية -رحمه الله تعالى- في ذات المعنى: «قال صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد)، وذم الخطيب الذي قال: «من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن عصاهما فقد غوى» (1) سدًا لذريعة التشريك في المعنى بالتشريك في اللفظ، وحسمًا لمادة الشرك حتى في اللفظ.
ولهذا قال للذي قال له ما شاء الله وشئت: (أجعلتني لله ندًا) فحسم مادة الشرك، وسد الذريعة إليه في اللفظ، كما سدها في الفعل والقصد، فصلاة الله وسلامه عليه وعلى آله أكمل صلاة وأتمها وأزكاها وأعمها» (2).
نعود إلى المراد من الحديث فنقول: إن الذين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم ذات أنواط، كانوا حدثاء عهد بكفر، وأنهم طلبوا ولم يفعلوا، ونص العلماء على أن طلبهم كان لمجرد مشابهة المشركين، وليس لاتخاذ إله يعبد مع الله.
وقد قدمنا الآيات والأحاديث الواردة في شأن عصمة الدماء والأموال، وبينّا أنها بفهم سلف الأمة وأئمتها قد غدت قاعدة كلية متواترة تنص على أن العبد حتى ينتقل من الكفر إلى الإسلام، وحتى يصح له أصل دينه وإيمانه لا بد أن يقر ويلتزم بالتوحيد قولاً وعملاً واعتقادًا وولاءً وبراءً.
ومن ثم فإذا جاءت بعض النصوص الجزئية تتعارض في ظاهرها مع
(1) صحيح مسلم (48)، وسنن أبي داود (1097).
(2)
إعلام الموقعين (3/ 146).
منطوق هذه القاعدة الكلية، فينبغي أن تتنزل على مقتضاها ومؤداها، امتثالاً لقول المولى جل في علاه:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَاّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَاّ أُولُو الأَلْبَابِ} [آل عمران: 7].
ونحن نجزم بأن القوم لم يطلبوا الشرك الأكبر بيقين، إذا كيف يجهلونه، وقد كان معلومًا علمًا متواترًا بينهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث بإيجاب التوحيد، وتحريم الشرك بالله في عبادته وطاعته.
فمن أول يوم جهر النبي صلى الله عليه وسلم، وصاح بأعلى صوته في آذان المشركين: بعيب دينهم، وتسفيه عقولهم، وتكفير آبائهم، الذين ماتوا على الشرك قبل بعثته.
فإذا كان المشكرون لا يجهلون هذا، فهل يتصور أن يقع في الجهل به صحابة النبي صلى الله عليه وسلم؟!!! سبحانك هذا بهتان عظيم.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: «قال يونس عن ابن إسحاق ثم إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أحق ما تقول قريش يا محمد: من تركك آلهتنا، وتسفيهك عقولنا، وتكفيرك آبائنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(بلى إني رسول الله، ونبيه، بعثني لأبلغ رسالته، وأدعوك إلى الله بالحق، فوالله إنه للحق أدعوك يا أبا بكر، إلى الله وحده لا شريك له، ولا تعبد غيره، والموالاة على طاعته).
وقرأ عليه القرآن فلم يقر ولم ينكر، فأسلم، وكفر بالأصنام، وخلع الأنداد، وأقر بحق الإسلام، ورجع أبو بكر وهو مؤمن مصدق» (1).
فكفار قريش قد علموا من أول يوم من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قد أرسل بحرمة الشرك وتكفير المشركين، فكيف يخفى على صحابة النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين به ما لا يخفى على مشركي قريش الكافرين به؟!!
ونص العلامة ابن قيم الجوزية على أن من مات على الشرك قبل البعثة فهو في النار، معللاً ذلك بأن حرمة الشرك، والعقوبة عليه كانت معلومة من دين الرسل، ومتداولة بين الأمم فقال -رحمه الله تعالى-: «من مات مشركًا فهو في النار، وإن مات قبل البعثة، لأن المشركين كانوا قد غيروا الحنيفية دين إبراهيم، واستبدلوا بها الشرك وارتكبوه، وليس معهم حجة من الله به، وقبحه والوعيد عليه بالنار لم يزل معلومًا من دين الرسل كلهم، من أولهم إلى آخرهم، وأخبار عقوبات الله لأهله متداولة بين الأمم، قرنًا بعد قرن.
فلله الحجة البالغة. على المشركين في كل وقت، ولو لم يكن إلا ما فطر عباده عليه من توحيد ربوبيته المستلزم لتوحيد إلهيته، وأنه يستحيل في كل فطرة وعقل أن يكون معه إله آخر، وإن كان سبحانه لا يعذب بمقتضى هذه الفطرة وحدها، فلم تزل دعوة الرسل إلى التوحيد في الأرض معلومة لأهلها.
(1) البداية والنهاية (3/ 27).
فالمشرك يستحق العذاب بمخالفته دعوة الرسل والله أعلم» (1).
فانظر رحمك الله تعالى قول الإمام تجده نصًا في المسألة، فإذا كان الوعيد على الشرك معلومًا لكفار قريش قبل البعثة، فكيف بالعلم به بعد البعثة المحمدية، بل وفي أواخر عهد النبوة في وقت غزوة حنين، فكيف بعلمه في ذلك الوقت بين المؤمنين.
وقال الإمام مسلم في صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عفان، حدثنا حمدان بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، أن رجلاً قال:«يا رسول الله أين أبي؟ قال: (في النار)، فلما قفى دعاه فقال: (إن أبي وأباك في النار)» (2).
قال الإمام النووي -رحمه الله تعالى- في شرحه لهذا الحديث، ناصًا على أن كفار قريش كانت الحجة مقامة عليهم، قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف بالأمر بعد بعثته الشريفة.
«باب بيان أن من مات على الكفر فهو في النار، ولا تناله شفاعة ولا تنفعه قرابة المقربين» .
قوله: «أن رجلاً قال يا رسول الله أين أبي؟ قال: (في النار)، فلما قفى دعاه فقال:(إن أبي وأباك في النار).
(1) زاد المعاد (3/ 588).
(2)
صحيح مسلم (203).
فيه: أن مات على الكفر فهو في النار، ولا تنفعه قرابة المقربين.
وفيه: أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار، وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم، وغيره من الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه
عليهم» (1).
وقال الإمام القرطبي مؤكدًا على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين من أول يوم التوحيد، وضده من الشرك والتنديد، وعاقبة كل منهما:«ولم يزل النبي صلى الله عليه وسلم من أول مبعثه إلى مماته يخبر أن من مات على الكفر مخلد في النار، ومن مات على الإيمان واتبعه وأطاعه فهو في الجنة» (2).
فالتوحيد ما زال معلومًا بين المشركين قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ثم جهر به وبأحكامه من أول يوم من بعثته الشريفة، إلا أن بعض السفهاء أصروا على أن يكون التوحيد في غربة بعد بعثته، وأن صحابته الكرام ما زالوا يقعون في الشرك الأكبر واحدًا تلو الآخر، وسوف يعلمون في أرض المحشر من أولى بأطهر جيل عرفه التاريخ نحن أم هم؟!!
ولا تظن أخي القارئ أن في المسألة خلاف، فالقرآن فاصل بيننا وبينهم
(1) صحيح مسلم بشرح النووي (3/ 79).
(2)
تفسير القرطبي (19/ 186).
في أن المشركين كانوا يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بوجوب التوحيد، وبحرمة ضده من الشرك والتنديد إلا أنهم أبوا أن يقروا بأنه دين الله لتكبر السادة، وجهل الأتباع الذين هم تبع لتقريرات السادة والكبراء فكيف بصحابة النبي صلى الله عليه وسلم هل يليق بهم الجهل بأصل دينهم، الذي عرفه أبو جهل، وأبو لهب، وأمية بن خلف ونحوهم.
قال الإمام الطبري مبينًا علم المشركين بالتوحيد: «وقوله: {أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص: 5]، يقول: وقال هؤلاء الكافرون الذين قالوا: محمد ساحر كذاب أجعل محمد المعبودات كلها واحد يسمع دعاءنا جميعنا ويعلم عبادة كل عابد عبده منا {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} : أي إن هذا لشيء عجيب.
كما حدثنا بشر قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد عن قتادة: {أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} ، قال: عجب المشركون أن دعوا إلى الله وحده وقالوا: يسمع لحاجاتنا جميعًا إله واحد ما سمعنا بها في الملة الآخرة» (1).
ولقد كان مشركو قريش إذا سمعوا التوحيد كفروا به، وإذا سمعوا الشرك آمنوا به، فهل يعقل أن يكفروا ويؤمنوا بشيء لا يعلمونه!!!
قال الإمام الطبري، إمام المفسرين رحمه الله:(ذلك بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم، وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير).
وفي هذا الكلام متروك استغنى بدلالة الظاهر من ذكره عليه، وهو:
(1) تفسير الطبري (10/ 551).
فأجيبوا: أن لا سبيل إلى ذلك، هذا الذي لكم من العذاب أيها الكافرون {بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ} [غافر: 12]، فأنكرتم أن تكون الألوهية له خالصة، وقلتم:{أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} .
(وإن يشرك به تؤمنوا) يقول: وإن يجعل لله شريك تصدقوا من جعل ذلك له: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} يقول: فالقضاء لله العلي على كل شيء الكبير الذي كل شيء دونه متصاغرًا له اليوم» (1).
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى مؤكدًا على هذا المعنى في تفسير لقوله تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 4].
«يقول تعالى مخبرًا عن المشركين في تعجبهم من بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيرًا ونذيرًا كما قال عز وجل: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} [يونس: 2]، وقال جل وعلا ههنا:{وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} ، أي بشر مثلهم وقال الكافرون:{هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} أي: أزعم أن المعبود واحد لا إله إلا هو؟
أنكر المشركون ذلك قبحهم الله تعالى، وتعجبوا من ترك الشرك بالله،
(1) تفسير الإمام الطبري (11/ 45).
فإنهم كانوا قد تلقوا عن آبائهم عبادة الأوثان، وأشربته قلوبهم.
فلما دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خلع ذلك من قلوبهم، وإفراد الإله بالوحدانية أعظموا ذلك، وتجبروا وقالوا:{أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ} [ص: 5، 6]، وهم سادتهم وقادتهم ورؤساؤهم وكبراؤهم قائلين:{امْشُوا} أي: استمروا على دينكم {وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ} ، ولا تستجيبوا لما يدعوكم إليه محمد من التوحيد.
وقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} قال ابن جرير: إن هذا الذي يدعونا إليه محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد لشيء يريد به الشرف عليكم، والاستعلاء، وأن يكون له منكم أتباع ولسنا نجيبه إليه» (1).
فإذا عرفت هذا فأصغ سمعك لمجدد الدين في وقته، الإمام محمد بن عبد الوهاب، الذي اشتدت، وسوف تشتد محنته من أعداء الدين، ومن المشركين وأئمة الإرجاء الخبيث، اسمعه وهو يقرر علم المشركين، بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف بأصحابه الكرام، ثم انتهى إلى أنه لا خير في رجل جهال المشركين أعلم منه بـ (لا إله إلا الله)، قال رحمه الله تعالى: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم ليكون الدين كله لله، والذبح كله لله، والنذر كله لله، والاستغاثة كلها لله، وجميع
أنواع العبادة كلها لله، وعرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم
(1) تفسير القرآن العظيم (7/ 53).
يدخلهم في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة والأنبياء والأولياء، يريدون شفاعتهم، والتقرب إلى الله تعالى بهم، هو الذي أحل دمائهم وأموالهم.
عرفت حينئذ التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون، وهذا التوحيد هو معنى قولك: لا إله إلا الله.
فإن الإله عندهم هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور، سواء كان ملكًا، أو نبيًا، أو وليًا، أو شجرًا، أو قبرًا، أو جنيًا، لم يريدوا أن الإله هو: الخالق الرزاق المدبر، فإنهم يقرن أن ذلك لله وحده كما قدمت لك، وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ: السيد. فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى كلمة التوحيد، وهي (لا إله إلا الله) والمراد من هذه الكلمة معناها، لا مجرد لفظها.
والكفار والجهال يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة هو: إفراد الله بالتعلق، والكفر بما يعبد من دونه، والبراءة منه.
فإنه لما قال لهم قولوا: (لا إله إلا الله) قالوا: {أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5].
فإذا عرفت أن جهال الكفار يعرفون ذلك، فالعجب ممن يدعي الإسلام، وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار، بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها، من غير اعتقاد القلب بشيء من المعاني.
والحاذق منهم يظن أن معناها لا يخلق، ولا يرزق ولا يحيي، ولا يميت، ولا يدبر الأمر إلا الله.
فلا خير في رجل جهال الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله» (1).
وقال الشيخ سليمان بن سحمان في ذات المعنى: «إن الكفار الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كانوا يعرفون معنى لا إله إلا الله، وأنها تنفي جميع ما يعبد من دون الله، وتثبت العبادة لله وحده لا شريك له، ولهذا لما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:(قولوا لا إله إلا الله) قالوا: {أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}
[ص: 5] فأبوا عن التلفظ بهذا.
وأما عباد القبور اليوم، فإنهم يشهدون: أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ومع ذلك يدعون الأنبياء والأولياء والصالحين، ويستشفعون بهم في المهمات والملمات، ويلجؤون إليهم في جميع الطلبات والرغبات، ويطلبون منهم قضاء الحاجات، وكشف الكربات، وإغاثة اللهفان، ويزعم هذا (2) وأضرابه من الجهال: أنهم مسلمون بمجرد التلفظ بالشهادتين، والانتساب إلى الإسلام، سبحانك هذا بهتان عظيم» (3).
بعد هذا البيان لنقول: لكل من اتهم، أو جوز وقوع أي واحد من
(1) مجموع مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب (1/ 155).
(2)
أحد المدافعين عن إسلام المشركين المزيف.
(3)
الدرر السنية (10/ 498).
الصحابة في الشرك الأكبر: الموعد بيننا: الوقوف بين يدي رب الأرض والسماوات.
وأما من جوز هذا على نبي الله موسى بن عمران عليه السلام استنادًا منهم إلى إلقائه الألواح عند غضبه، كل هذا ليصحح إسلامًا مزيفًا للمشركين، الذين عدلوا بالله غيره ..
فقول هؤلاء أردأ وأخس من أن يرد عليهم، وكفى به فضحًا لعوراتهم المخزية، وسوف يعلمون حين تحشر البهائم: أي منقلب ينقلبون.
نعود فنقرر: أن الأدلة من الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة وأئمتها قد أبانت: أن المشرك لا يعد من المسلمين، ولو كان حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، وأن بعد هذا القول عن المقرر من الأدلة، كبعد الذين يريدون أن يجمعوا بين الشرك الأكبر والإسلام، وبين الكفر والإيمان في آن واحد، ويأبى الله ورسوله الحكم بالإسلام لمن أشرك برب الأرض والسماوات، وعدل به غيره، واتخذ إلهًا سواه.
(1)
(2)(13/ش) هذا هو أول شرك وقع على وجه الأرض، وكان الناس قبله مسلمين، ولربهم موحدين، حتى دخل عليهم الشيطان اللعين من باب الغلو في الصالحين، فلقد كان بين آدم ونوح عليهما السلام عشرة قرون كاملة
(1) صحيح البخاري (4636).
(2)
تفسير الطبري (12/ 253).
على التوحيد والإسلام، وكان الناس متفقين عليه، ثم دب الشرك فيهم عندما انتشر الجهل بينهم، وتنسخ العلم بالتوحيد، فعند ذلك اختلف الناس فبعث الله النبيين ليحكموا بين الناس فيما كانوا فيه يختلفون، فنصوا على أن الشرك افتراء على الله، وأنه ذنب عظيم تجب التوبة منه، وإلا صار أهله من أصحاب النار خالدين فيها أبدًا.
وكذلك نص الأنبياء: على أن الجنة لا تدخلها إلا نفس موحدة لله بالعبادة، ومستسلمة له بالطاعة، وهكذا فصلوا في اختلاف الناس.
[البقرة: 213].
قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى-: «قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو داود، أخبرنا همام، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين» (1).
قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله «كان الناس أمة واحدة فاختلفوا» ،
(1) انظر تفسير الطبري (2/ 347).
ورواه الحاكم في مستدركه من حديث بندار، عن محمد بن بشار، ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه (1)، وكذا روى أبو جعفر الرازي، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب أنه كان يقرؤها:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [البقرة: 213]، وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} ، قال: كانوا على الهدى جميعًا فاختلفوا، {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} ، فكان أول نبي بعث نوحًا. وهكذا قال مجاهد، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما أولاً.
وقال العوفي عن ابن عباس: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} ، يقول: كانوا كفارًا: {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} ، والقول الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما أصح سندًا ومعنى، لأن الناس كانوا على ملة آدم حتى عبدوا الأصنام، فبعث الله إليهم نوحًا عليه السلام فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، ولهذا قال تعالى:{وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَاّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} أي: من بعد ما قامت الحجج عليهم، وما حملهم على ذلك إلا البغي من بعضهم على بعض {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (2).
(1) المستدرك (4009)، وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، وقال الذهبي في التلخيص: على شرط البخاري (2/ 596).
(2)
تفسير القرآن العظيم (1/ 573 - 574).
(الشرك قبل قيام الحجة ذنب وسيئة وتجب التوبة منه بعد قيامها):
فأول شرك وقع على وجه الأرض كان بسبب الغلو في الصالحين، فأرسل الله نوحًا عليه السلام لينذر قومه ويحذرهم العذاب الأليم على فعل الشرك، وأمرهم بالتوبة منه، وبين لهم أنه ذنب عظيم تجب التوبة منه، حتى ولو وقع هذا الذنب بسبب الجهل وعدم العلم.
وهكذا الأمر في كتاب الله من أوله إلى آخره، تخاطب الرسل أقوامها الذي عبدوا غير الله على أنهم مشركون، من قبل أن تقام عليهم الحجة، وتطالبهم بالتوبة من هذا الذنب العظيم، ولو كان أصحابه متردين في ظلمات الجهل، ويحسبون أنهم بفعله مهتدون، إلا أن العقاب على الشرك لا يكون إلا بعد قيام الحجة الرسالية.
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: في بيان أن فعل الشرك ذنب عظيم، حتى ولو لم تقم الحجة على أصحابه، وأنه تجب التوبة منه بعد قيام الحجة، لأن حسن التوحيد وقبح الشرك أمر ثابت في النفوس، ومعلوم بالعقل.
قال رحمه الله تعالى: «وأيضًا أمر الله الناس أن يتوبوا ويستغفروا مما فعلوه -أي قبل مجيء الرسالة- فلو كان كالمباح المستوي الطرفين، والمعفو عنه، وكفعل الصبيان والمجانين، ما أمر بالاستغفار والتوبة، فعلم أنه
كان من السيئات القبيحة، لكن الله لا يعاقب إلا بعد إقامة الحجة؛ وهذا كقوله تعالى:{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود: 1 - 3]، وقوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6، 7]، وقال:{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [نوح: 1 - 4].
فدل على أنها كانت ذنوبًا قبل إنذارها إياهم.
وقال عن هود عليه السلام: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [الأعراف: 65]، وكذلك قال لوط عليه السلام لقومه:{أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 80].
فدل على أنها كانت فاحشة عندهم قبل أن ينهاهم، بخلاف قول من يقول: ما كانت فاحشة ولا قبيحة ولا سيئة حتى نهاهم عنها. ولهذا قال لهم: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [العنكبوت: 29]، وهذا خطاب لمن يعرفون قبح ما يفعلون ولكن أنذرهم بالعذاب.
وكذلك قول شعيب عليه السلام: {أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 85]، بين أن ما فعلوه كان بخسًا لهم أشياءهم، وأنهم كانوا عاثين في الأرض مفسدين قبل أن ينهاهم، بخلاف قول المجبرة أن ظلمهم ما كان سيئة إلا لما نهاهم، وأنه قبل النهي كان بمنزلة سائر الأفعال، من الأكل والشرب وغير ذلك. كما يقولون في سائر ما نهت عنه الرسل، من الشرك والظلم والفواحش.
وهكذا إبراهيم الخليل عليه السلام قال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 41 - 42]، فهذا توبيخ على فعله قبل النهي، وقال أيضًا:{وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت: 16، 17]، فأخبر أنهم يخلقون إفكًا قبل النهي.
وكذلك قول الخليل عليه السلام لقومه أيضًا: {مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * -إلى قوله- أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 85 - 96].
فهذا كله يبين قبح ما كانوا عليه قبل النهي، وقبل إنكاره عليهم، ولهذا استفهم استفهام منكر فقال:{أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 95] أي: وخلق ما تنحتون فكيف يجوز أن تعبدوا ما تصنعونه
بأيديكم وتدعون رب العالمين.
فلولا أن حسن التوحيد، وعبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وقبح الشرك ثابت في نفس الأمر، معلم بالعقل لم يخاطبهم بهذا، إذ كانوا لم يفعلوا شيئًا يذمون عليه، بل كان فعلهم كأكلهم وشربهم، وإنما كان قبيحًا بالنهي، ومعنى قبحه: كونه منهيًا عنه، لا لمعنى فيه كما تقوله المجبرة (1).
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما الله تعالى في شرحه لكتاب التوحيد، مبينًا كيفية وقوع الشرك في قوم نوح عليه السلام، والفوائد المترتبة على هذه القصة، والعبر المستفادة منها:«قوله في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا، وسموها بأسمائهم ففعلوا، ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك، ونسي العلم عبدت» (2).
قوله وفي الصحيح، أي: صحيح البخاري، وهذا الأثر اختصره المصنف ولفظ ما في البخاري: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «صارت الأوثان التي في قوم نوح في العرب بعد.
(1) مجموع الفتاوى (11/ 679 - 683).
(2)
تقدم تخريجه.
أما «ود» فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما «سواع» فكانت لهذيل، وأما «يغوث» فكانت لمراد، ثم لبني غطيف، بالجرف عند سبأ، وأما «يعوق» فكانت لهمدان، وأما «نسر» فكانت لحمير لآل ذي الكلاع: أسماء رجال صالحين في قوم نوح إلى آخره (1).
وروى عكرمة والحاكم وابن إسحاق نحو هذا، قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن موسى، عن محمد بن قيس: أن يغوث ويعوق ونسرا كانوا قومًا صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة فصورهم. فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم (2)
…
قوله: «ونسي العلم» (3) ورواية البخاري «وتنسخ» (4) وللكشميهني «ونسخ العلم» (5) أي: درست آثاره بذهاب العلماء، وعم الجهل، حتى صاروا لا يميزون بين التوحيد والشرك، فوقعوا في الشرك ظنًا منهم أنه ينفعهم عند الله.
قوله: «عبدت» لما قال لهم إبليس: إن من كان قبلكم كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، هو الذي زين لهم عبادة الأصنام وأمرهم بها، فصار هو
(1) تقدم تخريجه.
(2)
تفسير الطبري (12/ 253).
(3)
صحيح البخاري (4336)، وانظر فتح الباري (8/ 669).
(4)
صحيح البخاري (4336)، وانظر فتح الباري (8/ 669).
(5)
صحيح البخاري (4336)، وانظر فتح الباري (8/ 669).
معبودهم في الحقيقة كما قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس: 60 - 62]. وهذا يفيد الحذر من الغلو ووسائل الشرك ..
قوله: «ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم» أي: طال عليهم الزمان وسبب تلك العبادة والموصل إليها هو ما جرى من الأولين من التعظيم بالعكوف على قبورهم، ونصب صورهم في مجالسهم، فصارت بذلك أوثانًا تعبد من دون الله، كما ترجم (1) به المصنف -رحمه الله تعالى- فإنهم تركوا بذلك دين الإسلام، الذي كان أولئك عليه قبل حدوث وسائل هذا الشرك، وكفروا بعبادة تلك الصور، واتخذوهم شفعاء، وهذا أول شرك حدث في الأرض.
قال القرطبي: وإنما صور أوائلهم الصور ليتأسوا بهم، ويتذكروا أفعالهم الصالحة، فيجتهدوا كاجتهادهم، ويعبدوا الله عند قبورهم، ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم فوسوس لهم الشيطان أن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها (2) اهـ.
قال ابن القيم رحمه الله: «وما زال يوحي الشيطان إلى عباد القبور ويلقي
(1) والباب هو: «ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين» .
(2)
انظر الجامع لأحكام القرآن (21/ 261، وما بعدها).
إليهم أن البناء والعكوف عليها من محبة أهل القبور من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب ثم ينقلها من هذه المرتبة إلى الدعاء بها والإقسام على الله بها، فإن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه أو يُسأل بأحد من خلقه.
فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعائه وعبادته، وسؤاله الشفاعة من دون الله، واتخاذ قبره وثنًا تعلق عليه القناديل والستور، ويطاف به ويستلم ويقبل ويحج إليه ويذبح عنده، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته واتخاذه عيدًا ومنسكًا ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم، وكل هذا مما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من تجريد التوحيد وأن لا يعبد إلا الله.
فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل هذه الرتب العالية، وحطهم عن منزلتهم، وزعم أنه لا حرمة لهم، ولا قدر فغضب المشركون واشمأزت قلوبهم، كما قال تعالى:{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45]، وسرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، حتى عادوا أهل التوحيد، ورموهم بالعظائم، ونفروا الناس عنهم، ووالوا أهل الشرك وعظموهم وزعموا أنهم أولياء الله، وأنصار دينه ورسوله، ويأبى الله ذلك {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَاّ الْمُتَّقُونَ}
[الأنفال: 34]» اهـ كلام ابن القيم رحمه الله.
وفي القصة فوائد ذكرها المصنف رحمه الله.
ومنها: رد الشبه التي يسميها أهل الكلام عقليات ويدفعون بها ما جاء به الكتاب والسنة من توحيد الصفات، وإثباتها على ما يليق بجلال الله، وعظمته، وكبريائه.
ومنها: مضرة التقليد.
ومنها: ضرورة الأمة إلى ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم علمًا وعملاً، بما يدل عليه الكتاب والسنة، فإن ضرورة العبد إلى ذلك فوق كل ضرورة» (1).
(1) فتح المجيد/ 210 - 212.
(1)
(13/ش) قال الإمام البغوي في تفسيره لقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 51].
«قال عكرمة: هم صنمان كان المشركون يعبدونهما من دون الله، وقال
(1) رواه مالك مرسلاً في موطئه (414)، وعبد الرزاق في مصنفه موصولاً (1587)، وكذا ابن أبي شيبة (7544)، والحميدي (1025)، والحديث صحيح انظر الثمر المستطاب
للألباني 361.
أبو عبيدة: هما كل معبود يعبد من دون الله، قال الله تعالى:{أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
وقال عمر: الجبت: الكاهن، والطاغوت: الساحر.
وقال سعيد بن جبير وأبو العالية: الجبت: الساحر بلسان الحبشة، والطاغوت: الكاهن. وروي عن عكرمة: الجبت بلسان الحبشة: شيطان.
وقال الضحاك: الجبت: حيي بن أخطب، والطاغوت: كعب بن الأشرف، دليله قوله تعالى:{يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء: 60]، أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أنا أبو الحسين بن بشران، أنا إسماعيل بن محمد الصفار، أنا أحمد بن منصور الرمادي، أنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن عوف العبدي، عن حيان، عن قطن بن قبيصة، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(العيافة والطرق والطيرة من الجبت)(1).
وقيل: الجبت: كل ما حرم الله، والطاغوت: كل ما يطغي الإنسان» (2).
(1) أخرجه أحمد في مسنده (20623)، وأبو داود في سننه (3408)، والطبراني في المعجم الكبير (941)، وعبد الرزاق في مصنفه (19502)، وحسن إسناده ابن تيمية في مجموع الفتاوى (35/ 192)، وجوده عبد الرحمن بن حسن في فتح المجيد /275، وسليمان بن عبد الله في تيسير العزيز الحميد /348.
(2)
تفسير البغوي (1/ 234).
وتأمل أيضًا ما ذكره في اللات والعزى ومناة، وجعله فعل المشركين معها هو بعينه الذي يفعل بدمشق وغيرها، وتأمل قوله على حديث ذات أنواط، هذا قوله في مجرد مشابهتهم في اتخاذ شجرة، فكيف بما هو أطم من ذلك الشرك عينه؟
فهل للزائغ بعد هذا متعلق بشيء من كلام هذا الإمام؟ وأنا أذكر لفظه الذي احتجوا به على زيغهم.
قال رحمه الله تعالى: أنا من أعظم الناس نهيًا عن أن ينسب معين إلى تكفير أو تبديع، أو تفسيق، أو معصية، إلا إذا علم أنه قد قامة عليه الحجة الرسالية، التي من خالفها كان كافرًا تارة، وفاسقًا أخرى، وعاصيًا أخرى (1) انتهى كلامه.
وهذا صفة كلامه في المسألة في كل موضع وقفنا عليه من كلامه،
(1) مجموع الفتاوى (3/ 229).
(15/ش) هذا قيد مهم من كلام الإمام محمد بن عبد الوهاب لكلام الإمام العلامة ابن تيمية، وهو أن عدم تكفير ابن تيمية للمعين حتى تقوم الحجة مخصوص بالمسائل الخفية لا الظاهرة.
وينضم إلى هذا كلام العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن، الذي نقلناه من قبل، وهو أن عدم تكفير ابن تيمية وابن القيم، ومحمد بن عبد الوهاب للمعين ليس في الوقوع في الشرك الأكبر، لأنهم يقولون: نحن لا نكفر أحدًا من المسلمين وقع في أمر مكفر إلا بعد قيام الحجة، وهم قد نصوا على أن المشرك ليس من عداد المسلمين، لأن الإسلام هو ترك الشرك، والانخلاع منه إلى إفراد الله
بالعبادة.
وقال محمد بن عبد الوهاب مؤكدًا على هذا المعنى في رسالة بعث بها إلى أحمد بن عبد الكريم يحذره فيها من الامتناع عن تكفير المشركين، ويوضح له فيها منهج ابن تيمية في هذا، وأن كلام الشيخ في عدم تكفير المعين ليس في الشرك والردة، وأنه عام في المسائل الجزئيات، سواء كانت من الأصول أو الفروع ....
قال رحمه الله تعالى: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن
عبد الوهاب، إلى أحمد بن عبد الكريم، سلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
أما بعد: وصل مكتوبك، تقرر المسألة التي ذكرت، وتذكر أن عليك إشكالاً تطلب إزالته، ثم ورد منك مراسلة، تذكر أنك عثرت على كلام للشيخ -أي ابن تيمية- أزال عنك الإشكال، فنسأل الله أن يهديك لدين الإسلام.
وعلى أي شيء يدل كلامه، من أن من عبد الأوثان عبادة أكبر من عبادة اللات والعزى، وسب دين الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما شهد به، مثل سب أبي جهل، انه لا يكفر بعينه.
بل العبارة صريحة واضحة في تكفيره مثل ابن فيروز وصالح بن عبد الله وأمثالهما، كفرًا ظاهرًا ينقل عن الملة، فضلاً عن غيرهما، هذا صريح واضح، في كلام ابن القيم الذي ذكرت، وفي كلام الشيخ الذي أزال عنك الإشكال في كفر من عبد الوثن، الذي على قبر يوسف وأمثاله، ودعاهم في الشدائد والرخاء، وسب دين الرسل بعدما أقر به، ودان بعبادة الأوثان بعدما أقر بها.
وليس في كلامي هذا مجازفة، بل أنت تشهد به عليهم، ولكن إذا أعمى الله القلب فلا حيلة فيه، وأنا أخاف عليك من قوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 3]، والشبهة التي دخلت عليك، هذه البضيعة التي في يدك، تخاف تضيع أنت وعيالك إذا
تركت بلد المشركين، وشاك في رزق الله، وأيضًا قرناء السوء، أضلوك
كما هي عادتهم.
وأنت -والعياذ بالله- تنزل درجة درجة، أول مرة في الشك وبلد الشرك وموالاتهم والصلاة خلفهم، وبراءتك من المسلمين مداهنة لهم، ثم بعد ذلك طحت على ابن غنام وغيره، وتبرأت من ملة إبراهيم، وأشهدتهم على نفسك باتباع المشركين من غير إكراه، لكن خوفًا ومداراة.
وغاب عنك قوله تعالى في عمار بن ياسر وأشباهه: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ} [النحل: 106، 107].
فلم يستثن الله إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، بشرط طمأنينة قلبه.
والإكراه لا يكون على العقيدة بل على القول والفعل، فقد صرح بأن من قال المكفِّر أو فَعَلَه فقد كفر، إلا المكره بالشرط المذكور، وذلك: أن ذلك بسبب إيثار الدنيا، لا بسبب العقيدة.
فتفكر في نفسك، هل أكرهوك، وعرضوك على السيف مثل عمار، أم لا؟
وتفكر: هل هذا بسبب أن عقيدته تغيرت، أم بسبب إيثار الدنيا؟
ولم يبق عليك إلا رتبة واحدة، وهي: أنك تصرح مثل ابن رفيع، تصريحًا بمسبة دين الأنبياء، وترجع إلى عبادة العيدروس، وأبي حديدة،
وأمثالهما، ولكن الأمر بيد مقلب القلوب.
(نصيحة جليلة)
فأول ما أنصحك به: أنك تفكر، هل هذا الشرك الذي عندكم، هو الشرك الذي ظهر نبيك صلى الله عليه وسلم ينهى عنه أهل مكة؟ أم شرك أهل مكة نوع آخر أغلظ منه؟ أم هذا أغلظ؟
فإذا أحكمت المسألة، وعرفت أن غالب من عندكم سمع الآيات، وسمع كلام أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين، وأقر به، وقال: أشهد أن هذا هو الحق، ونعرفه قبل ابن عبد الوهاب، ثم بعد ذلك يصرح بمسبة ما شهد أنه الحق، ويصرح بحسن الشرك واتباعه، وعدم البراءة من أهله.
فتفكر هل هذه مسألة مشكلة؟ أو مسألة الردة الصريحة التي ذكرها أهل العلم في الردة؟
ولكن العجب من دلائلك التي ذكرت، كأنها أتت ممن لا يسمع ولا
يبصر.
أما استدلالك بترك النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده، تكفير المنافقين وقتلهم، فقد صرح الخاص والعام، ببديهة العقل، لو يظهرون كلمة واحدة، أو فعلاً واحدًا من عبادة الأوثان، أو مسبة التوحيد الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أنهم يقتلون أشر قتلة.
فإن كنت تزعم: أن الذين عندكم، أظهروا اتباع الدين الذي تشهد أنه دين