الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
«تحذير السلف من موادة أهل البدع والمعاصي»
.
وعن قتادة عن الحسن: ليس بينك وبين الفاسق حُرمة، وقال الحسن: لا تُجالس صاحب بدعة فإنه يمرض قلبك، وقال النخعي: لا تجالسوا أهل البدع، ولا تكلِّموهم، فإني أخاف أن ترتد قلوبكم.
فانظر -رحمك الله- إلى كلام السلف الصالح، وتحذيرهم عن مُجالسة أهل البدع والإصغاء لهم، وتشديدهم في ذلك، ومنعهم من السلام عليهم.
فكيف بالرافضة: الذين أخرجهم أهل السُّنَّة والجماعة من الثنتين والسبعين فرقة؟ مع ما هم عليه من الشرك البواح، من دعوة غير الله في الشدة والرخاء، كما هو معلوم من حالهم، ومواكلتهم والسلام عليهم - والحالة هذه - من أعظم المنكرات، وأقبح السيئات، فيجب هجرهم والبعد عنهم، والهجر مشروع لإقامة الدين، وقمع المبطلين، وإظهار شرائع المرسلين، وردع لمن خالف طريقتهم من المعتدين.
قال البخاري - رحمه الله تعالى - في صحيحه: «باب من لم يسلِّم على من ارتكب ذنبًا، ولم يرد سلامه، حتى تتبيَّن توبته، وإلى متى تتبين توبة العاصي» (1).
قال ابن حجر في الفتح (2): وابتداء الكفار بالسلام، أجازه طائفة من العلماء
(1) أورده الإمام البخاري رحمه الله تعالى في كتاب الاستئذان.
(2)
انظر: فتح الباري (11/ 40).
..................................................................
ــ
ومنعه طائفة، قال: والحق مع المانعين، إلا أن يترتب عليه مصلحة دينية، وكذلك أهل البدع والمعاصي المجاهرين بها، يمنع من ابتدائهم بالسلام والرد عليهم، قال المهلَّب: ترك السلام على أهل المعاصي والبدع، سُّنة ماضية، وبه قال كثير من أهل العلم.
وقال النووي: وأما المبتدع، ومن اقترف ذنبًا عظيمًا ولم يتب منه، لا يسلَّم عليهم، ولا يرد عليهم السلام، كما قاله جماعة من أهل العلم، واحتج البخاري بقصة كعب، انتهى.
فانظر: يا طالب الحق إلى ما قاله البخاري، واستدل به، وإلى قول صاحب الفتح: والحق مع من منع، وإلى قول المهلب والنووي، ووازن بين أقوالهم، وبين قول من أجازه وأباحه وجادل عليه، تعرف أنه لا بصيرة له، ولا معرفة له بأصول الشرع وأقوال العلماء، وأما قول صاحب الفتح: إلا أن يترتب عليه مصلحة دينية، فالمصلحة هي أن يُرجى بها إسلام غيره، أو تأليفه، أو غير ذلك، وأما المصالح الدنيوية فلا تترتب عليها الأمور الشرعية، ولا تناط بها أحكامها، ولا تُجعل سلَّمًا وذريعة إلى الجمع بين ما فرَّق الله ورسوله بينهما.
وقال البغوي رحمه الله في كتاب السُّنَّة: وأما هجر أهل المعاصي وأهل الريب والبدع في الدين، فيشرع إلى أن تزول الريبة عن حالهم، وتظهر علامات توبتهم وأماراتها.
.................................................................
ــ
وقال ابن القيم (1) - رحمه الله تعالى - في الهدي النبوي: وفي نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن السلام على هؤلاء الثلاثة، يعني كعبًا وصاحبيه، من بين من تخلَّف عنه، دليل عل صدقهم، وكذب المنافقين، فأراد هجر الصادقين وتأديبهم على هذا الذنب - إلى أن قال - وفيه دليل أيضًا: على هجران الإمام، والعالم، والمطاع، لمن فعل ما يستوجب العتب، ويكون هجرانه دواء له - إلى أن قال -: وفي إشارة الناس للنبطي الذي يقول: من يدل على كعب ابن مالك؟ دون نطقهم له، تحقيق لمقصود الهجر، وإلا لو قالوا له صريحًا كعب بن مالك، لم يكن ذلك سلامًا، ولا يكونون به مخالفين للنهي، لكن لفرط تحريهم وتمسكهم بالأمر، إذ لم يذكروه بصريح اسمه.
وقد يقال: إن في الحديث عنه بحضرته وهو يسمع، نوع مكالمة، لا سيما إذا جعل ذلك ذريعة إلى المقصود بالسلام، وهي ذريعة قريبة، فالمنع من ذلك من باب منع الحيل وسد الذرائع، وهذا أحسن وأفقه، انتهى كلامه رحمه الله تعالى -.
فانظر إلى قوله: وقد يقال: إن في الحديث عنه بحضرته، وهو يسمع، نوع مكالمة
…
إلخ، فإذا كان في ذكره باسمه نوع مكالمة، فكيف بمن ابتدأ المشرك والعاصي والمبتدع بالسلام، وأظهر له الإكرام، وأكثر عنه الجدال، والخصام!
(1) زاد المعاد (3/ 506).
.................................................................
ــ
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (1) رحمه الله، وقد سئل عن الهجر المشروع، ومن يجب هجره أو يجوز هجره، قال في أثناء كلامه: ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف أقوامًا ويهجر آخرين، وقد يكون المؤلفة قلوبهم أشر حالا من المهجورين، كما أن الثلاثة الذين خُلِّفوا كانوا خيرًا من المؤلفة قلوبهم، لكن أولئك كانوا سادة مطاعين في عشائرهم، وكانت المصلحة الدينية في تأليفهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، وفي هجرهم عزّ الدين، وتطهير لهم من ذنوبهم. انتهى كلامه رحمه الله.
فانظر: أيها المنصف بعين الإنصاف، واحذر التعصب والاعتساف إلى ما قاله شيخ الإسلام، من أن في هجرهم عزا للدين، هذا إذا كانوا مسلمين لكنهم أصحاب معاص واقتراف لبعض الأوزار، فيجب هجرهم واعتزالهم حتى يقلعوا، وأما المشرك والمبتدع: فلا نزاع في هجرهما ولا خلاف فيه إلا عند من قلَّ حظه ونصيبه، من العلم الموروث عن صفوة الرسل، صلوات الله وسلامه عليهم
…
- ثم اتخذ في سرد الأدلة على وجوب الإنكار على أهل البدع والمعاصي حتى قال - فتأمل رحمك الله ما ذكره هذا الإمام - أي الإمام البخاري -: من الأحاديث والآثار الدالة على وجوب هجر أهل المعاصي، وأن ذلك هو هديه وسنَّته، فمن أعرض عنهما، ونبذهما وراء ظهره، فقد خاب سعيه وضل عمله، فلا نجاة للخلق ولا سعادة ولا كفاية ولا هداية، إلا باتباع محمد صلى الله عليه وسلم واتباع ما
(1) انظر: مجموع الفتاوى (28/ 203 - 210) ومحل الشاهد في/ 206.
.................................................................
ــ
جاء به، ورفض ما خالفه، وهجر من نكب عن سنَّته، وإن كان الحبيب المواتيا {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: 12]
…
فمن أكرم من تلك نحلته، وتلك طريقته، كان دليلاً على عدم فقهه، وبصيرته في دين الإسلام، وعدم فرقه بين عابدي الرحمن وعابدي الأوثان، والضدان عنده يجتمعان، فلضعف بصيرته، نهج هذا المنهج، وأعرض عن الحق بعدما اتضح وأبلولج، فيخشى عليه أن يحشر يوم القيامة معهم، ويكون من جملتهم، كما كان في الدين من أصدقائهم ومعاشريهم، عياذًا بك اللَّهم من تلك الأحوال والأعمال، التي تؤول بصاحبها إلى الخزي والوبال، وسوء المنقلب في الحال والمآل.
وأكثر الخلق إنما يحمله على الوقوع في تلك الورطات، الحرص على تحصيل الدنيا، والتقرب عند أهلها، وتسليك حاله معهم، ولو فسد عليه دينه وانهدم إيمانه، نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللَّهُمَّ يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلوبنا على دينك.
- وأخذ الشيخ يسرد الأدلة الدالة على حرمة موالاة المشركين حتى قال - وأما حكم الرافضة - فيما تقدَّم - فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في «الصارم المسلول» (1): ومن سبَّ الصحابة، أو أحدًا منهم، واقترن بسبه أن جبرائيل غلط في الرسالة، فلا شك في كفره، بل لا شك في كفر من توقف في
(1) الصارم المسلول (3/ 590 إلى آخر الكتاب).
...............................................................
ــ
كفره؛ ومن قذف عائشة فيما برأها الله منه، كفر بلا خلاف - إلى أن قال -: وأما من لعن أو قبَّح - يعني الصحابة (1) رضي الله عنهم ففيه الخلاف، هل يفسق أو يكفر، وتوقف أحمد في تكفيره وقال: يعاقب ويجلد ويحبس، حتى يموت أو يتوب.
قال رحمه الله وأما من زعم أن الصحابة ارتدوا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم إلا نفرًا قليلاً لا يبلغون بضعة عشر، أو أنهم فسقوا، فلا ريب أيضًا في كفر قائل ذلك، بل لا ريب في كفر من لم يكفره، انتهى كلامه رحمه الله.
فهذا حكم الرافضة في الأصل، وأما الآن، فحالهم أقبح وأشنع، لأنهم أضافوا إلى ذلك الغلو في الأولياء والصالحين، من أهل البيت وغيرهم، واعتقدوا فيهم النفع والضر في الشدة والرخاء، ويرون أن ذلك قربة تقربهم إلى الله، ودين يدينون به، فمن توقف في كفرهم والحالة هذه، وارتاب فيه، فهو جاهل بحقيقة ما جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، فليراجع دينه قبل حلول رمسه (2)
…
وأما مجرد السلام على الرافضة، ومصاحبتهم ومعاشرتهم، مع اعتقاد كفرهم وضلالهم، فخطر عظيم، وذنب وخيم، يخاف على مرتكبه من موت قلبه
(1) المقصود هنا: «بعضهم» أو «آحادهم» أما لعنهم جميعًا فلا شك أنه ردة فاحشة، واقرأ ما بعده تجده فيه.
(2)
الرمس، المقصود به هنا: الطمس، والدفن.
..................................................................
ــ
وانتكاسه، وفي الأثر: إن من الذنوب ذنوبًا عقوبتها موت القلوب، وزوال الإيمان.
فلا يجادل في جوازه إلا مغرور بنفسه، مستعبد لفلسه، فمثل هذا يقابل بالهجر، وعدم الخوض معه في هذه المباحث، التي لا يدريها إلا من تربَّى بين يدي أهل هذه الدعوة الإسلامية والطريقة المحمدية، وتلقى عنهم أصول دينه، لأن ضدهم لا يؤمن أن يلقي عليك شيئًا من الشبه الفاسدة، التي لا تشكك في الدين وتوجب لك الحيرة، وما أحسن ما قيل: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم.
وأما قول المنازع: إن أخذت فقد أخذ الصالحون، وإن رددت فقد رد الصالحون، فهذا معاكسة وتصحيف، ليس الشأن في أخذ الهدية أو ردها، إنما الشأن والنزاع في ابتداء الكفار والمبتدعين والعصاة بالسلام، وعدم النفرة منهم، ولا يستدل بهذا على جواز السلام والمواكلة إلا من هو جاهل بالأحكام الشرعية، والسيرة النبوية، وسيرته صلى الله عليه وسلم وسيرة خلفائه وأصحابه من بعده ومن سلك منهاجهم من الصفوة، يخالف ما استدل به.
وقبول الهدية نوع، والسلام نوع آخر، أما الهدية فقد قبلها صلى الله عليه وسلم، وقبلها أصحابه، والسلف الصالح من بعدهم، ولا ينكر على من قبل، ولا على من رد، ولو كانت الهدية من مشرك، وأما ترك السلام والهجر فالرسول صلى الله عليه وسلم هجر مرتكب الذنب ولم يرد عليه، وكذلك في مكاتباته للمشركين، لا يبدؤهم بالسلام، كما
..............................................................
ــ
يعرف ذلك من له خبرة بسيرته وهديه، كما مرَّ في الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا تحتمل التأويل. وأما الوفود والرسل، فكانوا يفدون عليه صلى الله عليه وسلم ويعطيهم الجوائز ويخاطبهم باللين، ويدعوهم بدعاية الإسلام، وهم على كفرهم، فلا يستدل بذلك على: جواز السلام على المشركين والمبتدعين، ومن يتولاهم من فسَّاق المسلمين، إلا من هو من أجهل الخلق بأصول الشريعة.
وأما شيخه الذي يدعي أنه على طريقته، فالمعروف عندنا من أخلاقه وسيرته: الغيرة والغلظة والشدة على أعداء الله وأعداء رسوله، والتحذير منهم ومن موالاتهم.
وأما أنت أيها المنازع، فالواجب عليك تقوى الله تعالى، وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه، والاقتداء بالسلف الصالح، والاهتداء بهديه من، وعدم الانبساط مع من هبَّ ودبَّ، لأن الواجب على المنتسب للطلب، والمتزيي بزي أهل العلم، أعظم مما يجب على غيره، فليكن لك بصيرة ونُهمة بمعرفة أصل الأصول، وزبدة دعوة الرسل، والبحث عما يضاد هذا الأصل وينقضه، أو ينقص كماله الواجب، والوقوف عند أوامر الرب ونواهيه، والبعد عن الرذائل والقبائح .. فالحق مرحمة، والجدال والخصام ملحمة، فهذا آخر ما تيسر إيراده، وفيه الكفاية لمن أراد الله هدايته» (1).
(1) الدرر السنية (8/ 437 - 453).
فتأمل رحمك الله أحاديث الغربة وبعضها في الصحيح مع كثرتها وشهرتها، وتأمل إجماع العلماء كلهم أن هذا قد وقع من زمن طويل حتى قال ابن القيم رحمه الله الإسلام في زماننا أغرب منه في أول ظهوره، فتأمل هذا تأملاً جيدًَا لعلك أن تسلم من هذه الهُوَّة الكبيرة، التي هلك فيها أكثر الناس، وهي الاقتداء بالكثرة والسواد الأكبر، والنفرة من الأقل، فما أقل من سلم منها، ما أقله ما أقله (42/ش)!!!.
ــ
(42/ش) ألا ما أشد غربة أهل التوحيد والسُّنَّة اليوم. فالمؤمنون الموحدون الذين استقاموا على السنة غرباء ما أشد غربتهم، غرباء في ديارهم، غرباء في عشائرهم، غرباء بين أبنائهم وآبائهم وإخوانهم
…
وكلما ازدادت الفتن والبلايا، وكلما كثر تلبيس علماء السوء ازدادت غربتهم، وعظمت محنتهم. شردوا من أوطانهم، وحيل بينهم وبين أهليهم ومساكنهم، وتربص بهم أعداء الله في كل مكان حلّوا فيه، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، إلا أن قلوبهم قد اتسعت بقدر ما حلّ فيها من الإيمان بالله، والجهاد في سبيله.
في كل لحظة من أعمارهم يدفعون ثمن غربتهم باهظًا، رماهم المخالفون بأقبح الألفاظ، وكانوا لهم أشنع التهم، واستحلوا دماءهم وأعراضهم وأموالهم
…
وما نقموا منهم إلا أنهم ثبتوا على الدين الصحيح، ولم يبدلوا ولم يميعوا ولم يداهنوا، بل وداروا مع القرآن حيث دار، في وقت يدور الناس فيه مع السلطان والطواغيت وفتن الدنيا وحظوظ النفس
…
حيث دارت.
..................................................................
ــ
أبو إلا الانطلاق: من إفراد الله بالتوحيد والطاعة مع البراءة من الشرك وأهله، وعليه عقدوا ولاءهم وبراءهم. وقد علموا أن الثمن المبذول سيكون رهيبًا، بيد أنهم متيقنون من ربح بيعهم، وثقل ثفقتهم، وعلو كعبهم على كل من عاداهم.
قبضوا على دينهم في وقت غربته فاشتعل في أيديهم كالجمر، وكلما ازداد حرارة ولهيبًا ازدادوا تمسكًا واستقامة.
لم يبحثوا عن الأمن في الدنيا، بل جل همهم مصروف للبحث عن الأمن في الآخرة.
وهذه الغربة لا وحشة على أصحابها لأنهم بما يتنعمون، ويستعذبون كل ما يلاقون جزاء التمسك بدينهم، والعض بالنواجذ على هدي نبيهم صلى الله عليه وسلم.
اللهم هون على المؤمنين بك غربتهم، وثبتهم على الحق الخالص حتى الممات.
قال الإمام ابن قيم الجوزية في وصف الغربة، وحال أصحابها: «فأهل الإسلام في الناس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة الذين يميزونها من الأهواء والبدع فيهم غرباء، والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين هم أشد هؤلاء غربة.
ولكن هؤلاء هم أهل الله حقًا فلا غربة عليهم، وإنما غربتهم بين الأكثرين الذين قال الله عز وجل فيهم:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116]
..................................................................
ــ
فأولئك هم الغرباء من الله ورسوله ودينه، وغربتهم هي الغربة الموحشة، وإن كانوا هم المعروفين المشار إليهم كما قيل:
فليس غريبًا من تناءت دياره
…
ولكن من تنأين عنه غريب
…
وهذه الغربة قد تكون في مكان دون مكان، ووقت دون وقت، وبين قوم دون قوم، ولكن أهل هذه الغربة هم أهل الله حقًّا، فإنهم لم يأووا إلى غير الله، ولم ينتسبوا إلى غير رسول، ولم يدعوا إلى غير ما جاء به، وهم الذين فارقوا الناس أحوج ما كانوا إليهم، فإذا انطلق الناس يوم القيامة مع آلهتهم بقوا في مكانهم، فيقال لهم: ألا تنطلقون حيث انطلق الناس؟ فيقولون: فارقنا الناس ونحن أحوج إليهم منا اليوم وإنا ننتظر ربنا الذي كنا نعبده.
فهذه الغربة لا وحشة على صاحبها، بل هو آنس ما يكون إذا استوحش الناس، وأشد ما تكون وحشته إذا استأنسوا، فوليه الله ورسوله والذين آمنوا، وإن عاداه أكثر الناس وجفوه.
ومن صفات هؤلاء الغرباء الذي غبطهم النبي صلى الله عليه وسلم: التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس وترك ما أحدثوه، وإن كان هو المعروف عندهم، وتجريد التوحيد وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، لا شيخ ولا طريقة ولا مذهب ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله
...............................................................
ــ
بالعبودية له وحده، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده، وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقًا، وأكثر الناس بل كلهم لائم لهم، فلغربتهم بين الخلق يعدونهم أهل شذوذ وبدعة ومفارقة للسواد الأعظم.
ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم هم «النزَّاع من القبائل» (1): أن الله سبحانه بعث رسوله، وأهل الأرض على أديان مختلفة، فهم بين عباد أوثان ونيران وعباد صور وصلبان ويهود وصابئة وفلاسفة، وكان الإسلام في أول ظهوره غريبًا، وكان من أسلم منهم، واستجاب لله ولرسوله غريبًا في حيه وقبيلته وأهله وعشيرته.
فكان المستجيبون لدعوة الإسلام نزاعًا من القبائل، بل آحادًا منهم، تغربوا عن قبائلهم وعشائرهم، ودخلوا في الإسلام فكانوا هم الغرباء حقًا حتى ظهر الإسلام، وانتشرت دعوته، ودخل الناس فيه أفواجًا.
فزالت تلك الغربة عنهم، ثم أخذ في الاغتراب والترحل، حتى عاد غريبًا كما بدأ، بل الإسلام الحق الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم هو اليوم أشد غربة منه في أول ظهوره، وإن كانت أعلامه ورسومه الظاهرة مشهورة معروفة.
(1) سنن ابن ماجه (3988) ومسند أحمد (3596)، وسنن الدارمي (2755) وصححه الألباني رحمه الله في صحيح ابن ماجه (3223).
ولنختم ذلك بالحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم في «صحيحه» عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسُّنته ويقتدون بأمره - وفي رواية - يهتدون بهديه ويستنون بسنته، ثم إنها تخلُف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» (1) انتهى ما نقلته والحمد لله رب العالمين (43/ش).
ــ
فالإسلام الحقيقي غريب جدًا، وأهله غرباء أشد الغربة بين الناس» (2).
(43/ش) قد تطابقت الأمة جيلاً بعد جيل، وقرنًا بعد قرن على وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأن وجوبه ثابت بالكتاب والسُّنَّة والإجماع.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر به قوام الدين، وحفظ الملة، وتحقيق هوية الأمة، وكذا الأخذ على يد الظالم، وإلا عمّ العقاب الصالح والطالح قال الله تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]، وهو غير
(1) صحيح مسلم (50)، ومسند أحمد (4148).
(2)
مدارج السالكين (3/ 195 - 168).
محصور بأصحاب الولايات فقط، بل جائز فعله لآحاد المسلمين، بشرط أن لا يجلب ضررًا أشد من ضرر وجود المنكر، وعلى هذا كان تاريخ المسلمين.
وعلى قدر حفظ الأمة وفروع هذا الباب يكون الثبات والنصر والعلو على الأعداء، وعلى قدر التضييع يكون الانسلاخ من الملة وكسر الشوكة، وتسلط الأعداء.
قال الإمام النووي - رحمه الله تعالى -:
«والحديث دال: على أن مراتب إنكار المنكر ثلاث. فينبغي لطالب الآخرة والساعي في تحصيل رضا الله عز وجل أن يعتني بهذا الباب فإن نفعه عظيم، لا سيما وقد ذهب معظمه، ويخلص نيته ولا يهابنَّ من ينكر عليه لارتفاع مرتبته، فإن الله تعالى قال:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40]، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، وقال تعالى:{وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101]، وقال تعالى:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2، 3]
واعلم أن الأجر على قدر النصب» (1).
(1) صحيح مسلم بشرح النووي (2/ 22 - 26).
...............................................................
ــ
وقال الإمام ابن حزم -رحمه الله تعالى-: «والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على كل مسلم إن قدر بيده فبيده، وإن لم يقدر بيده فبلسانه وإن لم يقدر بلسانه فبقلبه ولابد، وذلك أضعف الإيمان، فإن لم يفعل فلا إيمان له» .
ومن خاف القتل أو الضرب أو ذهاب المال، فهو عذر يبيح له أن يغير بقلبه فقط، ويسكت عن الأمر بالمعروف وعن النهي عن المنكر فقط.
ولا يبيح له ذلك: العون بلسان، أو بيد على تصويب المنكر أصلاً، لقول الله تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} [الحجرات: 9].
وقال عز وجل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104](1)».
قلت: ومن هذا نتيقن أن مراتب إنكار المنكر ثلاث، أولها باليد فإن لم يستطع العبد كان الإنكار باللسان، فإن لم يستطع كان الإنكار بالقلب ولا بد، لأنه فرض لازم لا يسقط عن أي أحد ألبتة، وإلا فعدم بغض المعصية المجمع على حرمتها بالقلب مؤذن بذهاب الإيمان بالكلية، إذ لا إيمان لمن لم ينكر
(1) المحلى بالآثار (8/ 423).
.................................................................
ــ
المنكر بقلبه. وهذا مقتضى قوله صلى الله عليه وسلم: (وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)(1).
قال الإمام النووي - رحمه الله تعالى - في وجوب الأمر بالمعروف وأهميته: «وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وهو أيضًا من النصيحة التي هي الدين
…
قال العلماء: ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولايات، بل ذلك جائز لآحاد المسلمين.
قال إمام الحرمين: والدليل عليه إجماع المسلمين. فإن غير الولاة في الصدر الأول، والعصر الذي يليه كانوا يأمرون الولاة بالمعروف وينهونهم عن المنكر، مع تقرير المسلمين إياهم، وترك توبيخهم على التشاغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير ولاية والله أعلم. ثم إنه إنما يأمرون وينهى من كان عالمًا بما يأمر به وينهى عنه
…
واعلم أن هذا الباب، أعني باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد ضيع أكثره من أزمان متطاولة، ولم يبق منه في هذه الأزمان إلا رسوم قليلة جدًا، وهو باب عظيم به قوام الأمر وملاكه.
وإذا كثر الخبث عم العقاب الصالح والطالح، وإذا لم يأخذوا على يد الظالم
(1) صحيح مسلم (50) ومسند أحمد (4148).
.................................................................
ــ
أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقابه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63](1)».
وقال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى في بيان أن من لم ينكر المنكر بقلبه فقد مرق من الدين بالكلية: «ومن الإيمان بما أمر: فعل ما أمر، وترك ما حظر، ومحبة الحسنات، وبغض السيئات، ولزوم هذا الفرق إلى الممات. فمن لم يستحسن الحسن المأمور به، ولم يستقبح السَّيئ المنهي عنه، لم يكن معه من الإيمان شيء. كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:(من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)(2)، وكما قال في الحديث الصحيح عند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)(3) رواه مسلم.
(1) صحيح مسلم بشرح النووي (2/ 23 - 24).
(2)
صحيح مسلم (49)، وسنن الترمذي (2137)، وسنن النسائي (4922)، وسنن أبي داود (963).
(3)
سبق تخريجه.
.................................................................
ــ
فأضعف الإيمان الإنكار بالقلب، فمن لم يكن في قلبه بغض المنكر، الذي يبغضه الله ورسوله لم يكن معه من الإيمان شيء» (1).
وقال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله: «وأما إنكاره بالقلب فلابد منه. فمن لم ينكر قلبه المنكر دل على ذهاب الإيمان من قلبه، وقد روي عن أبي جحيفة قال: قال علي رضي الله عنه: إن أول ما تغلبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم، ثم الجهاد بألسنتكم، ثم الجهاد بقلوبكم.
فمن لم يعرف قلبه المعروف، وينكر قلبه المنكر نكس، فجعل أعلاه أسفله.
وسمع ابن مسعود رضي الله عنه رجلاً يقول: هلك من لم يأمر بالمعروف، ولم ينه عن المنكر.
فقال ابن مسعود رضي الله عنه: هلك من لم يعرف بقلبه المعروف والمنكر، يشير إلى أن معرفة المعروف والمنكر بالقلب فرض، لا يسقط عن أحد؛ فمن لم يعرفه هلك.
وأما الإنكار باللسان واليد فإنما يجب بحسب الطاقة. وقال ابن مسعود يوشك من عاش منكم أن يرى منكرًا لا يستطيع له غير أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره» (2).
(1) مجموع الفتاوى (8/ 367).
(2)
جامع العلوم والحكم/321.
وقد رأيت للشيخ تقي الدين رسالة كتبها وهو في السجن إلى بعض إخوانه، لما أرسلوا إليه يشيرون عليه بالرفق بخصومه ليتخلص من السجن، أحببت أن أنقل أولها لعظم منفعتها، قال - رحمه الله تعالى - (1): الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد فقد وصلت الورقة التي فيها. رسالة الشيخين الناسكين القدوتين، أيدهما الله وسائر الإخوان بروح منه، وكتب في قلوبهم الإيمان، وأدخلهم مدخل صدق، وأخرجهم مخرج صدق، وجعلهم ممن ينصر به السلطان، سلطان العلم والحجة بالبيان والبرهان، وسلطان القدر والنصرة باللسان والأعوان، وجعلهم من أوليائه المتقين، وحزبه الغالبين لمن ناوأهم من الأقران، ومن الأئمة المتقين الذين جمعوا بين الصبر والإيقان، والله محقق ذلك، ومنجز وعده في السر والإعلان، ومنتقم من حزب الشيطان لعباد الرحمن، لكن بما اقتضته حكمته ومضت به سنته، من الابتلاء والامتحان، الذي يميز الله به أهل الصدق والإيمان من أهل النفاق والبهتان، إذ قد دل
(1) انظر مجموع الفتاوى (3/ 211 - 214).
كتابه على أنه لا بد من الفتنة لكل من ادعى الإيمان، والعقوبة لذوي السيئات والطغيان فقال تعالى:{الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [العنكبوت: 1 - 4].
فأنكر سبحانه على من ظن أن أهل السيئات يفوتون الطالب الغالب، وأن مدعي الإيمان يتركون بلا فتنة تميز بين الصادق والكاذب، وأخبر في كتابه أن الصدق في الإيمان لا يكون إلا بالجهاد في سبيله (44/ش).
ــ
(44/ش) هذا مفرق طريق دومًا بين المؤمنين والمنافقين، وبين الصادقين والكاذبين، وبين المستقيمين والناكثين على أعقابهم.
فزكاة الإيمان الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس، لأن الله كتب وقضى بأن دينه لن يقوم إلا بالجهاد في سبيله؛ والصراع قائم ومستمر إلى قيام الساعة بين أهل الحق والعدل وأهل الباطل والظلم قال تعالى في محكم التنزيل:{وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217] وقال صلى الله عليه وسلم: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم)(1).
وكل من شكك في هذه الحقيقة فاتهموه في دينه كائنًا من كان. فقضاة
(1) متفق عليه، صحيح البخاري (2852)، ومسلم (1873).
................................................................
ــ
النفاق اليوم يريدون تمييع حقيقة الصراع الضروس بين المسلمين والكفار من جانب المسلمين فقط، وفي الجانب الآخر يظل على أشده من أعداء الله، فهيهات هيهات أيها المجرمون. فوالذي أنفس المؤمنين بيده نحن في نحوركم قبل أن نكون في نحو أسيادكم من الكفار على اختلاف مذاهبهم وتباين مللهم.
قال علامة الأمة الإمام ابن تيمية مبينًا أهمية الجهاد، وأن الدين لا يقوم إلا به: «اعلم: أن الله تعالى بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالهدى، ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأكمل لأمته الدين، وأتم عليهم النعمة وجعله على شريعة من الأمر، وأمره أن يتبعها، ولا يتبع سبيل الذين لا يعلمون، وجعل كتابه مهيمنًا على ما بين يديه من الكتب، ومصدقًا لها، وجعل له شرعةً ومنهاجًا وشرع لأمته سُنن الهدى.
ولن يقوم الدين إلا بالكتاب والميزان والحديد كتاب يهدي به، وحديد ينصره كما قال تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25].
«فالكتاب» به يقوم العلم والدين، و «الميزان» به تقوم الحقوق في العقود المالية والقبوض. «والحديد» به تقوم الحدود على الكافرين والمنافقين.
ولهذا كان في الأزمان المتأخرة «الكتاب» للعلماء والعباد. و «الميزان» للوزراء والكتَّاب وأهل الديوان «الحديد» للأمراء والأجناد.
..............................................................
ــ
والكتاب له الصلاة، والحديد له الجهاد، ولهذا كان أكثر الآيات والأحاديث النبوية في الصلاة والجهاد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في عيادة المريض:(اللهم اشف عبدك يشهد لك صلاة وينكأ لك عدوًّا)(1)، وقال عليه الصلاة والسلام:(رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله)» (2)(3).
فالدين لا يقوم إلا بالجهاد، ولهذا فقد شرع مع كل بر وفاجر. ولولا الجهاد لظهر الكفَّار بالفساد في الأرض، وعملوا على تعطيل أحكام الإسلام وسعوا بالبغي والظلم بين العباد.
ولهذا ولغيره الكثير سيظل فرض الجهاد باقيًا إلى قيام الساعة - على رغم أنف المنافقين والذين في قلوبهم مرض - ليدفع الله بأهل الحق والعدل أهل الباطل والظلم.
قال الإمام العلامة عبد الرحمن بن حسن في معرض الرد على من زعم
(1) سنن أبي (2701)، ومسند أحمد (6312)، وصححه ابن حبان (2974)، والحاكم وقال على شرط مسلم المستدرك (1273)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (264).
(2)
سنن الترمذي وقال: حسن صحيح (2616)، وسنن ابن ماجه (3973)، ومسند أحمد (21008)، وقال الألباني: صحيح لغيره، انظر: صحيح الترغيب والترهيب (2866).
(3)
مجموع فتاوى ابن تيمية (3/ 211).
.................................................................
ــ
أن الجهاد لا يصح إلا بإمام: «ومعلوم: أن الدين لا يقوم إلا بالجهاد، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالجهاد مع كل بر وفاجر، تفويتًا لأدني المصلحتين لتحصيل أعلاهما، وارتكابًا لأخف الضررين لدفع أعلاهما، فإن ما يدفع بالجهاد من فساد الدين، أعظم من فجور الفاجر، لأن بالجهاد يظهر الدين ويقوى العمل به وبأحكامه، ويندفع الشرك وأهله حتى تكون الغلبة للمسلمين، والظهور لهم على الكافرين، وتندفع سورة أهل الباطل، فإنهم لو ظهروا لأفسدوا في الأرض بالشرك والظلم والفساد، وتعطيل الشرائع والبغي في الأرض.
ويحصل بالجهاد مع الفاجر من مصالح الدين ما لا يحصى، كما قال صلى الله عليه وسلم:«إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خلاق لهم» (1).
ولو ترك الجهاد معه لفجوره لضعف الجهاد، وحصلت الفرقة والتخاذل، فيقوى بذلك أهل الشرك والباطل، الذين غرضهم الفساد وذهاب الدين، فإذا ابتلي الناس بمن لا بصيرة له ولا علم ولا حلم، ونزل المشركون وأهل الفساد من قلبه منزلة أهل الإسلام لطمع يرجوه منهم، أو من أعوانهم، وأعانهم على ظلمهم، وصدقهم في كذبهم، فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئًا.
ويقال أيضًا: كل من أقام بإزاء العدو وعاداه، واجتهد في دفعه، فقد جاهد ولا بد، وكل طائفة تصادم عدو الله، فلا بد أن يكون لها أئمة ترجع إلى
(1) صحيح مسلم (111)، ومسند أحمد (7744) دون قوله:«وبأقوام لا خلاق لهم» والزيادة في مسند أحمد (19555).