المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الشرك الأصغر - فتح العلي الحميد في شرح كتاب مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد

[مدحت آل فراج]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌ترجمة الإمام الفذالإمام محمد بن عبد الوهاب

- ‌ فتح المسلمون حريملا عنوة

- ‌(حكم تكفير المعين بين الإفراط والتفريط)

- ‌(المشركون الذين عبدوا مع الله غيره يكفرون بأعيانهم):

- ‌الإسلام يجمع معنيين:

- ‌(العلماء لا يذكرون التعريف عند تكفير المشرك

- ‌(الأدلة الجلية على كفر وقتل من أتى بناقض من أهل القبلة)

- ‌ الشرك الأصغر

- ‌التوحيد الذي جاءت به الرسل

- ‌ النواقض العشرة

- ‌(الكفر يستخدم بعدة اعتبارات)

- ‌اسم المشرك ثبت قبل الرسالة

- ‌ المختار بن أبي عبيد الثقفي

- ‌ الجعد بن درهم

- ‌ هذا لم يسمع قط إلا من هؤلاء الملحدين الجاهلين

- ‌ تغير الزمان حتى تعبد الأوثان

- ‌باب في وجوب عداوة أعداء اللهمن الكفار والمرتدين والمنافقين

- ‌«موالاة المسلمين لا تصلح إلا بالبراءة من المشركين»

- ‌«موالاة المسلمين، والبراءة من المشركين أصل من أصول الإسلام بالإجماع»

- ‌«موالاة المشركين ردة عن الدين، ومروق من ملة المسلمين»

- ‌(موالاة المشركين من أجل الدنيا كفر مخرج من الملة)

- ‌«حكم الإكراه على موالاة المشركين وحدوده»

- ‌«تحذير السلف من موادة أهل البدع والمعاصي»

- ‌ فرض الجهاد باق إلى يوم القيامة

- ‌الكتاب في سطور

- ‌فهرس أهم المراجع والمصادر

الفصل: ‌ الشرك الأصغر

فصل

وأما‌

‌ الشرك الأصغر

فكيسير الرياء، والحلف بغير الله، وقول: هذا من الله ومنك وأنا بالله وبك، ومالي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا أنت لم يكن هكذا وكذا، وقد يكون هذا شركًا أكبر بحسب حال قائله ومقصده. ثم قال الشيخ -يعني ابن القيم رحمه الله تعالى- بعد ذكر الشرك الأكبر والأصغر.

ومن أنواع هذا الشرك: سجود المريد للشيخ، ومن أنواعه التوبة للشيخ فإنها شرك عظيم، ومن أنواعه النذر لغير الله، والتوكل على غير الله، والعمل لغير الله، والإنابة والخضوع والذل لغير الله، وابتغاء الرزق من عند غيره وإضافة نعمه إلى غيره.

ومن أنواعه: طلب الحوائج من الموتى، والاستعانة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، فضلاً عمن استغاث به أو سأله أن يشفع له إلى الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، والله لم يجعل سؤال غيره سببًا لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن.

والميت محتاج إلى من يدعو له كما أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم، ونسأل الله لهم العافية والمغفرة. فعكس المشركون هذا وزاروهم زيارة العبادة، وجعلوا قبورهم أوثانًا

ص: 235

تُعْبدُ، فجمعوا بين الشرك بالمعبود، وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد، ونسبتهم إلى تنقص الأموات، وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك وأولياءه المؤمنين بذمهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا أو أنهم أمروهم به، وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم. ولله در خليله إبراهيم عليه السلام حيث يقول:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 35، 36].

وما نجا مِنْ شَرَكِ هذا الشرك الأكبر إلا من جرد التوحيد لله وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله. انتهى كلامه (21/ش).

(21/ش) هذا هو حال المشركين في كل زمان ومكان، عدلوا بالله غيره، واستبدلوا الشرك بالتوحيد، والكفر بالإيمان، والعصيان بالطاعة وحب المخلوق بحب الخالق، وخوف المخلوق بالخوف من الخالق .. حتى تملكهم الشرك، وأشربته قلوبهم قال الله تعالى:{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ}

[البقرة: 93] الآية.

حتى بلغ الأمر بهم إلى درجة الاستهزاء بالتوحيد ودعاته، مع وجود الإصرار التام على المضي قدمًا في سبيل الشرك والتنديد، وبذل كل ما يملكون من مادي ومعنوي للصد، وللحد من انتشار وغلبة التوحيد على

ص: 236

النفوس، الذي هو أصل دين النبيين، وزبدة رسالة المرسلين -صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين-.

قال ابن تيمية: «في الكلام على قوله: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65] تدل على أن الاستهزاء بالله كفر، وبالرسول كفر، من جهة الاستهزاء بالله وحده كفر بالضرورة، فلم يكن ذكر الآيات والرسول شرطًا، فعلم أن الاستهزاء بالرسول كفر وإلا لم يكن لذكره فائدة، وكذلك الآيات. وأيضًا فالاستهزاء بهذه الأمور متلازم.

والضالون مستخفون بتوحيد الله تعالى بدعاء غيره من الأموات، وإذا أمروا بالتوحيد ونهوا عن الشرك استخفوا به، كما قال تعالى:{وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَاّ هُزُوًا} [الأنبياء: 36] الآية.

فاستهزأوا بالرسول لما نهاهم عن الشرك، وما زال المشركون يسبون الأنبياء، ويصفونهم بالسفاهة والضلال والجنون إذا دعوهم إلى التوحيد، لما في أنفسهم من عظيم الشرك.

وهكذا تجد من فيه شبه منهم إذا رأى من يدعو إلى التوحيد استهزأ بذلك، لما عنده من الشرك. قال الله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165].

فمن أحب مخلوقًا مثل ما يحب الله فهو مشرك، ويجب الفرق بين الحب في الله والحب مع الله.

ص: 237

فهؤلاء الذين اتخذوا القبور أوثانًا تجدهم يستهزئون بما هو من توحيد الله وعبادته، ويعظمون ما اتخذوه من دون الله شفعاء، ويحلف أحدهم اليمين الغموس كاذبًا، ولا يجترئ أن يحلف بشيخه كاذبًا.

وكثير من طوائف متعددة ترى أحدهم يرى: أن استغاثته بالشيخ إما عند قبره، أو غير قبره أنفع له من أن يدعو الله في المسجد عند السحر، ويستهزئ بمن يعدل عن طريقته إلى التوحيد، وكثير منهم يخربون المساجد، ويعمرون المشاهد فهل هذا إلا من استخفافهم بالله وبآياته ورسوله، وتعظيمهم للشرك؟!!

وإذا كان لهذا وقف ولهذا وقف، كان وقف الشرك أعظم عندهم مضاهاة لمشركي العرب، الذين ذكرهم الله في قوله:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا} [الأنعام: 136] الآية، فيفضلون ما يجعل لغير الله على ما يجعل لله، ويقولون: الله غني وآلهتنا فقيرة.

وهؤلاء إذا قصد أحدهم القبر، الذي يعظمه يبكي عنده، ويخشع، ويتضرع ما لا يحصل له مثله في الجمعة، والصلوات الخمس، وقيام الليل فهل هذا إلا من حال المشركين لا الموحدين؟!!

ومثل هذا أنه إذا سمع أحدهم سماع الأبيات حصل له من الخشوع والحضور ما لا يحصل له عند الآيات، بل يستثقلونها، ويستهزئون بها، وبمن يقرؤها، مما حصل لهم به أعظم نصيب من قوله:{قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} .

ص: 238

والذين يجعلون دعاء الموتى أفضل من دعاء الله، منهم من يحكي: أن بعض المريدين استغاث بالله فلم يغثه، واستغاث بشيخه فأغاثه، وأن بعض المأسورين دعا الله فلم يخرجه، فدعا بعض الموتى فجاءه فأخرجه إلى بلاد الإسلام، وآخر قال: قبر فلان الترياق المجرب.

ومنهم من إذا نزل به شدة لا يدعو إلا شيخه، قد لهج به كما يلهج الصبي بذكر أمه، وقد قال تعالى للموحدين:{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200]» (1).

(1) مجموع الفتاوى (15/ 50).

ص: 239

والمراد بهذا: أن بعض الملحدين نسب إلى الشيخ أن هذا شرك أصغر، وشبهته أنه ذكره في الفصل الثاني الذي ذكر في أوله الأصغر، وأنت رحمك الله تجد الكلام من أوله إلى آخره في الفصل الأول، والثاني صريحًا لا يحتمل التأويل من وجوه كثيرة منها:

أن دعاء الموتى والنذر لهم ليشفعوا له عند الله هو الشرك الأكبر، الذي بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عنه، فكفر من لم يتب منه وقاتله وعاداه، وآخر ما صرح به قوله آنفًا: وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر، إلى آخره.

فهل بعد هذا البيان بيان إلا العناد، بل الإلحاد.

ولكن تأمل قوله -أرشدك الله- وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من عادى المشركين، إلى آخره، وتأمل أن الإسلام لا يصح إلا بمعاداة أهل الشرك الأكبر، وإن لم يعادهم فهو منهم وإن لم يفعله (21/ش).

(21/ش) قال الإمام العلامة ابن تيمية في وجوب البراءة من الشرك وأهله حتى يصح إيمان العبد وإسلامه: «فإن أهل الملل متفقون على أن الرسل جميعهم نهوا من عبادة الأصنام، وكفروا من يفعل ذلك، وأن المؤمن لا يكون مؤمنًا حتى يتبرأ من عبادة الأصنام وكل معبود سوى الله، كما قال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى

ص: 240

وقد ذكر في الإقناع عن الشيخ تقي الدين: أن من دعا علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهو كافر، وأن من شك في كفره فهو كافر (23/ش).

تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4].

وقال الخليل: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَاّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75 - 77]، وقال الخليل لأبيه وقومه:{إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَاّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 26، 27]، وقال الخليل وهو إمام الحنفاء، الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب، واتفق أهل الملل على تعظيمه لقوله:{يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 78، 79]» (1).

(23/ش) ما زال العلماء جيلاً بعد جيل، وقرنًا بعد قرن يقررون كفر من شك في كفر الكافر، وأنه ناقض من نواقض الإسلام يخرج صاحبه من الملة بالكلية.

ولكن لهذا شروط منها:

أ- أن يكون الكفر الذي وقع الكافر فيه كفرًا أكبر مجمعًا عليه، فلا يدخل في هذا الكفر المختلف فيه ألبتة.

ب- أن يكون كفر هذا الكافر معلومًا بالاضطرار من دين الإسلام، بحيث يكون الشك فيه بمثابة الشك في نص صحيح ثابت بالتواتر.

(1) مجموع الفتاوى (2/ 128).

ص: 241

جـ- أن تقام الحجة، وتزال الشبهة، فإن استمر الشك بعد ذلك حكم بالكفر على صاحبه.

ولكن نريد أن نسجل هنا أمرًا مهمًا نصحًا للأمة، وبراءة للذمة: أن هناك بعض مناطات من الكفر الأكبر، فيها من الاستهزاء والسخرية والعناد لرب الأرض والسموات ما يجعل مجرد الشك فيها كفرًا أكبر مخرجًا من الملة، ويكون صاحبها مرتدًا عن دين الإسلام.

وفي بعضها من الجهل والغفلة وسوء الاعتقاد ما يصير مجرد الشك فيها خطرًا عظيمًا على دين صاحبه، وقد يذهبه بالكلية.

فالحاصل: أن صور الشك في كفر الكافر ليست على درجة واحدة، وليست على رتب متساوية، حتى يكون الحكم فيها وعليها واحدًا.

وهذا يدل على أن تكفير المشركين المستند إلى البرهان والدليل من أعظم دعائم الدين، فبه ينقمع الشرك وأهله، وبه ينفصل سبيل المؤمنين عن سبيل المجرمين، وبه يتحقق أجل أصول الملة، المتمثل في الكفر بالطاغوت، والبراءة من الشرك والمشركين.

ولا أدل على ذلك من كون الشرع حكم على أن من شك في كفر الكافر يكون كافرًا مرتدًا.

قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن في معرض الحديث عن متى يصح

ص: 242

التكفير، ومتى لا يصح: «وأما إن كان المكفر لأحد من هذه الأمة يستند في تكفيره له إلى نص وبرهان من كتاب الله وسنة نبيه، وقد رأى كفرًا بواحًا، كالشرك بالله، وعبادة ما سواه، والاستهزاء به تعالى، أو بآياته، أو رسله، أو تكذيبهم، أو كراهة ما أنزل الله من الهدى ودين الحق، أو جحد صفات الله تعالى ونعوت جلاله، ونحو ذلك، فالمكفر بهذا وأمثاله، مصيب مأجور، مطيع لله ورسوله.

قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل: 36].

فمن لم يكن من أهل عبادة الله تعالى، وإثبات صفات كماله ونعوت جلاله، مؤمنًا بما جاءت به رسله، مجتنبًا لكل طاغوت يدعو إلى خلاف ما جاءت به الرسل، فهو ممن حقت عليه الضلالة، وليس ممن هدى الله للإيمان به، وبما جاءت به الرسل عنه.

والتكفير: بترك هذه الأصول وعدم الإيمان بها، من أعظم دعائم الدين، يعرفه كل من كانت له نهمة في معرفة دين الإسلام.

وغالب ما في القرآن: إنما هو في إثبات ربوبيته تعالى، وصفات كماله، ونعوت جلاله، ووجوب عبادته وحده لا شريك له، وما أعد لأوليائه الذين أجابوا رسله في الدار الآخرة، وما أعد لأعدائه الذين كفروا به وبرسله، واتخذوا

ص: 243

من دونه الآلهة والأرباب، وهذا بيِّن بحمد الله» (1).

وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: ومعنى الكفر بالطاغوت: أن تبرأ من كل ما يعتقد فيه غير الله من جني، أو إنسي، أو شجر، أو حجر، أو غير ذلك، وتشهد عليه بالكفر والضلال، وتبغضه، ولو كان أنه أبوك، أو أخوك.

فأما من قال: أنا لا أعبد إلا الله، وأنا لا أتعرض السادة والقباب على القبور، وأمثال ذلك فهذا كاذب في قوله لا إله إلا الله، ولم يؤمن بالله ولم يكفر بالطاغوت» (2).

وقال أيضًا -رحمه الله تعالى-: «وأنت يا من منَّ الله عليه بالإسلام، وعرف أن ما من إله إلا الله، لا تظن أنك إذا قلت: هذا هو الحق وأنا تارك ما سواه، لكن لا أتعرض للمشركين، ولا أقول فيهم شيئًا، لا تظن أن ذلك يحصل لك به الدخول في الإسلام، بل لا بد من بغضهم، وبغض من يحبهم، ومسبتهم، ومعاداتهم. كما قال أبوك إبراهيم، والذين معه:{إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]، وقال تعالى:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة: 256]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ

(1) الدرر السنية (12/ 261).

(2)

الدرر السنية (2/ 121).

ص: 244

رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].

ولو يقول رجل: أنا أتبع النبي صلى الله عليه وسلم وهو على الحق، لكن: لا أتعرض اللات، والعزى، ولا أتعرض أبا جهل وأمثاله ما عليَّ منهم، لم يصح إسلامه (1).

وقال الشيخ حسين، والشيخ عبد الله، ابنا الشيخ محمد -رحمهم الله تعالى- في أثناء جواب لهما: المسألة الحادية عشرة: رجل دخل هذا الدين وأحبه، ولكن لا يعادي المشركين، أو عاداهم ولم يكفرهم، أو قال: أنا مسلم لكن لا أقدر أن أكفر أهل لا إله إلا الله، ولو لم يعرفوا معناها.

ورجل دخل هذا الدين وأحبه، ولكن يقول: لا أعترض للقباب، وأعلم أنها لا تنفع ولا تضر، ولكن ما أتعرضها.

الجواب: أن الرجل لا يكون مسلمًا، إلا إذا عرف التوحيد ودان به، وعمل بموجبه، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به، وأطاعه فيما نهى عنه، وآمن به وبما جاء به.

فمن قال: لا أعادي المشركين، أو عاداهم ولم يكفرهم، أو قال: لا أتعرض أهل لا إله إلا الله، ولو فعلوا الكفر والشرك وعادوا دين الله، أو قال: لا أتعرض للقباب، فهذا لا يكون مسلمًا، بل هو ممن قال الله فيهم: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ

(1) الدرر السنية (2/ 109).

ص: 245

بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء: 150، 151].

والله سبحانه وتعالى: أوجب معاداة المشركين، ومنابذتهم، وتكفيرهم، فقال:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22]، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} الآيات [الممتحنة: 1] والله أعلم» (1).

وقال عبد الرحمن بن حسن: «ووسم تعالى أهل الشرك بالكفر فيما لا يحصى من الآيات، فلا بد من تكفيرهم أيضًا، وهذا هو مقتضى: لا إله إلا الله، كلمة الإخلاص، فلا يتم معناها. إلا بتكفير من جعل لله شريكًا في عبادته، كما في الحديث الصحيح: «من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله» .

وقوله: «وكفر بما يعبد من دون الله» : تأكيد للنفي، فلا يكون معصوم الدم والمال إلا بذلك، فلو شك، أو تردد، لم يعصم دمه وماله.

فهذه الأمور هي تمام التوحيد، لأن لا إله إلا الله قيدت في الأحاديث بقيود ثقال، بالعلم، والإخلاص، والصدق، واليقين، وعدم الشك، فلا يكون

(1) الدرر السنية (10/ 139، 140).

ص: 246

المرء موحدًا إلا باجتماع هذا كله، واعتقاده، وقبوله، ومحبته، والمعاداة فيه والموالاة» (1).

وقال الشيخ سليمان بن عبد الله -رحمهما الله تعالى-: «فإن جادل مجادل في أن عبادة القباب، ودعاء الأموات مع الله ليس بشرك، وأن أهلها ليسوا بمشركين بان أمره، واتضح عناده وكفره» (2).

وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما الله تعالى: «لو عرف العبد معنى: لا إله إلا الله لعرف أن من شك، أو تردد في كفر من أشرك مع الله غيره، أنه لم يكفر بالطاغوت» (3).

وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: «إن فعل مشركي الزمان عند القبور، مع دعاء أهل القبور، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والذبح والنذر لهم، وقولنا: إن هذا شرك أكبر، وأن من فعله فهو كافر، والذين يفعلون هذه العبادات عند القبور كفار بلا شك، وقول الجهال: إنكم تكفرون المسلمين فهذا ما عرف الإسلام، ولا التوحيد.

والظاهر: عدم صحة إسلام هذا القائل، فإن لم ينكر هذه الأمور التي

(1) الدرر السنية (2/ 205، 206).

(2)

الدرر السنية (8/ 127، 128).

(3)

الدرر السنية (11/ 523)، بتصرف يسير.

ص: 247

يفعلها المشركون اليوم، ولا يراها شيئًا فليس بمسلم» (1).

وإليكم نصوص العلماء في تكفير من شك في كفر الكافر، أو قال بالتوقف فيه، أو صحح مذهبه، وإن أظهر مع ذلك الإسلام، واعتقده، واعتقد بطلان كل دين سواه.

قال محمد بن سحنون: «أجمع العلماء على أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم والمتنقص له كافر، والوعيد جار عليه بعذاب الله له، وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر» (2).

وقال الإمام القاضي عياض، وهو ينص على أنواع وجمل من النواقض: «وكذلك وقع الإجماع على تكفير كل من دافع نص الكتاب، أو خص حديثًا مجمعًا على نقله مقطوعًا به مجمعًا على حمله على ظاهره كتكفير الخوارج بإبطال الرجم.

ولهذا نكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو وقف فيهم، أو شك، أو صحح مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلام واعتقده واعتقد إبطال كل مذهب سواه، فهو كافر بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك» (3).

(1) فتاوى الأئمة النجدية (3/ 60).

(2)

نقله القاضي عياض في كتابه الشفا (2/ 188)، وابن تيمية في الصارم المسلول /9.

(3)

الشفا (2/ 236).

ص: 248

وقال العلامة الإمام ابن تيمية في معرض حديثه عن الرافضة الخبثاء: «أما من اقترن بسبه دعوى أن عليًا إله، أو أنه كان هو النبي، وإنما غلط جبرائيل في الرسالة فهذا لا شك في كفره، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره.

وكذلك من زعم منهم أن القرآن نقص منه آيات وكتمت، أو زعم أن له تأويلات باطنة تسقط الأعمال المشروعة، ونحو ذلك، وهؤلاء يسمون: القرامطة، والباطنية، ومنهم التناسخية، وهؤلاء لا خلاف في كفرهم.

وأما من سبهم سبًا لا يقدح في عدالتهم، ولا في دينهم -مثل وصف بعضهم بالبخل، أو الجبن، أو قلة العلم، أو عدم الزهد، ونحو ذلك - فهذا هو الذي يستحق التأديب، والتعزير، ولا نحكم بكفره بمجرد ذلك.

وعلى هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من أهل العلم.

وأما من لعن وقبح مطلقًا، فهذا محل الخلاف فيهم لتردد الأمر بين لعن الغيظ، ولعن الاعتقاد.

وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام إلا نفرًا قليلاً، يبلغون بضعة عشر نفسًا، أو أنهم فسقوا عامتهم، فهذا لا ريب أيضًا في كفره، لأنه كذب بما نصه القرآن في غير موضع، من: الرضى عنهم، والثناء عليهم، بل من يشك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين.

ص: 249

فإن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسُّنة كفار، أو فساق، وأن هذه الآية التي هي:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، وخيرها هو القرن الأول، كان عامتهم كفارًا أو فساقًا؛ ومضمونها أن هذه الأمة شر الأمم، وأن سابقي هذه الأمة هم شرارهم. وكفر هذا مما يعلم باضطرار من دين الإسلام.

ولهذا تجد عامة من ظهر عليه شيء من هذه الأقوال، فإنه يتبين أنه زنديق» (1).

وفي سؤال ورد على ابن تيمية في حكم من شك في كفر فرعون مستشهدًا هذا الشاك بقول الله تعالى في حق عن فرعون عند غرقه: {آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} [يونس: 90] الآية.

فأجاب -رحمه الله تعالى-: «الحمد لله كفر فرعون وموته كافرًا وكونه من أهل النار هو مما علم بالاضطرار من دين المسلمين، بل ومن دين اليهود والنصارى، فإن أهل الملل الثلاثة متفقون على أنه من أعظم الخلق كفرًا.

ولهذا لم يذكر الله تعالى في القرآن قصة كافر كما ذكر قصته في بسطها، وتثنيتها، ولا ذكر عن كافر من الكفر أعظم مما ذكر من كفره، واجترائه، وكونه أشد الناس عذابًا يوم القيامة.

ولهذا كان المسلمون متفقين على أن من توقف في كفره، وكونه من أهل النار، فإنه يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافرًا مرتدًا؛ فضلاً عمن يقول:

(1) الصارم المسلول /590، وما بعدها.

ص: 250

أنه مات مؤمنًا.

والشك في كفره، أو نفيه أعظم منه في كفر أبي لهب ونحوه، وأعظم من ذلك في أبي جهل، وعقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، ونحوهم، ممن تواتر كفرهم، ولم يذكر باسمه في القرآن» (1).

وقال محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في نواقض الإسلام العشرة: «الثالث: من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم كفر» (2).

وقال العلامة علي القاري في بيان حكم من شك أو توقف في كفر اليهود أو النصارى أو أهل الحلول والاتحاد: «فقد نص العلامة ابن المقري كما سبق: أن من شك في كفر اليهود والنصارى، وطائفة ابن عربي فهو كافر، وهو أمر ظاهر، وحكم باهر.

وأما من توقف فليس بمعذور في أمره، بل توقفه سبب كفره. فقد نص الإمام الأعظم، والهمام الأقدم في الفقه الأكبر: أنه إذا أشكل على الإنسان شيء من دقائق علم التوحيد فينبغي له أن يعتقد ما هو الصواب عند الله تعالى، إلى أن يجد عالمًا فيسأله، ولا يسعه تأخير الطلب، ولا يعذر بالوقف فيه، ويكفر إن وقف انتهى.

(1) جامع الرسائل /203 - 204.

(2)

فتاوى الأئمة النجدية (3/ 62).

ص: 251

وقد ثبت عن أبي يوسف أنه حكم بكفر من قال: لا أحب الدباء، بعدما قيل له: إنه كان يحبه سيد الأنبياء، فكيف بمن طعن في جميع الأنبياء، وادعى أن خاتم الأولياء أفضل من سيد الأصفياء، فإن كنت مؤمنًا حقًا، مسلمًا صدقًا، فلا تشك في كفر جماعة ابن عربي، ولا تتوقف» (1).

وقال الإمام سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى: «القرآن كلام الله عز وجل من قال مخلوق فهو كافر، ومن شك في كفره فهو كافر» (2).

وقال الإمامان أبو حاتم، وأبو زرعة الرازيان، وهما يتحدثان عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار، وما يعتقدان من ذلك، فقالا: «أدركنا العلماء في جميع الأمصار، حجازًا وعراقًا وشامًا ويمنًا فكان من مذهبهم: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته

ومن زعم: أن القرآن مخلوق فهو كافر بالله العظيم، كفرًا ينقل عن الملة؛ ومن شك في كفره ممن يفهم فهو كافر» (3).

وقال محمد بن عبد الوهاب رحمه الله مستحسنًا لقول واحد من الأعراب: «وما أحسن ما قاله واحد من البوادي لما قدم علينا، وسمع شيئًا من الإسلام،

(1) الرد على القائلين بوحدة الوجود لعلي القاري الحنفي /155.

(2)

أخرجه الإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتابه السنة بإسناد حسن (1/ 112).

(3)

اعتقاد أهل السنة - للالكائي (1/ 176 - 178).

ص: 252

قال: أشهد أننا كفار - يعني هو وجميع البوادي - وأشهد أن المطوع الذي يسمينا إسلامًا أنه كافر، وصلى الله على سيدنا محمد» (1).

وقال الشيخ أبا بطين -رحمه الله تعالى-: «وقد أجمع المسلمون على كفر من لم يكفر اليهود والنصارى، أو شك في كفرهم، ونحن نتيقن أن أكثرهم جهال» (2).

ونذكر هنا بعضًا من مناطات الكفر البواح، الذي لنا من الله فيه برهان، وسوف ترى أخي القارئ وجوب تكفير أصحابها، وإلا وقع «غالبًا» الكفر على الشاك، أو المتوقف في تكفيرهم.

قال محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-: «إن المرتدين افترقوا في ردتهم، فمنهم من كذب النبي صلى الله عليه وسلم ورجعوا إلى عبادة الأوثان وقالوا: لو كان نبيًا ما مات؛ ومنهم من ثبت على الشهادتين، ولكن أقر بنبوة مسيلمة ظنًا أن

النبي صلى الله عليه وسلم أشركه في النبوة، لأن مسيلمة أقام شهود زور شهدوا له بذلك فصدقهم كثير من الناس.

ومع هذا: أجمع العلماء أنهم مرتدون ولو جهلوا ذلك، ومن شك في ردتهم فهو كافر» (3).

(1) الدرر السنية (8/ 119).

(2)

الدرر السنية (12/ 69، 70).

(3)

فتاوى الأئمة النجدية (3/ 62).

ص: 253

وقال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب -رحمهم الله تعالى-: «وأما قول من يقول: إن من تكلم بالشهادتين ما يجوز تكفيره، وقائل هذا القول لا بد أن يتناقض، ولا يمكنه طرد قوله، في مثل من أنكر البعث، أو شك فيه مع إتيانه بالشهادتين، أو أنكر نبوة أحد من الأنبياء الذين سمَّاهم الله في كتابه، أو قال: الزنا حلال، أو نحو ذلك، فلا أظن يتوقف في كفر هؤلاء وأمثالهم إلا من يكابر ويعاند.

فإن كابر وعاند وقال: لا يضر شيء من ذلك، ولا يكفر به من أتى بالشهادتين فلا شك في كفره، ولا كفر من شك في كفره، لأنه بقوله هذا مكذب لله ولرسوله ولإجماع المسلمين، والأدلة على ذلك ظاهرة بالكتاب والسنة والإجماع.

فمن قال: إن التلفظ بالشهادتين لا يضر معهما شيء، أو قال: من أتى بالشهادتين وصلى وصام لا يجوز تكفيره، وإن عبد غير الله فهو كافر، ومن شك في كفره فهو كافر، لأن قائل هذا القول مكذب لله ورسوله وإجماع المسلمين كما قدمنا، ونصوص الكتاب والسنة في ذلك كثيرة، مع الإجماع القطعي الذي لا يستريب فيه من له أدنى نظر في كلام العلماء، لكن التقليد والهوى يعمي ويصم. {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]» (1).

(1) الدرر السنية (10/ 250).

ص: 254

وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين رحمه الله تعالى: «وأما من يقول: إن من تكلم بالشهادتين لا يجوز تكفيره، فقائل هذا القول لا بد أن يتناقض، ولا يمكنه طرد قوله في مثل: من أنكر البعث، أو شك فيه مع إتيانه بالشهادتين، أو أنكر نبوة أحد من الأنبياء الذين سماهم الله تعالى في كتابه؛ أو قال: الزنا حلال، أو اللواط، أو الربا ونحو ذلك، أو أنكر مشروعية الأذان، أو الإقامة، أو أنكر الوتر، أو السواك، ونحو ذلك.

فلا أظنه يتوقف في كفر هؤلاء وأمثالهم إلا أن يكابر أو يعاند، فإن كابر أو عاند، فقال: لا يضر شيء من ذلك، ولا يكفر به من أتى بالشهادتين فلا شك في كفره، ولا في كفر من شك في كفره، لأنه بقوله هذا مكذب لله ولرسوله ولجميع المسلمين؛ والأدلة على كفره ظاهرة من الكتاب والسنة والإجماع» (1).

نعود فنقرر ما قلناه وفصلناه من قبل: أن تكفير المشركين الذين عبدوا مع الله غيره، ليس من أصل الدين، الذي يجب على كل عبد القيام به حتى يصح إسلامه، ويقبل إيمانه.

وكذلك نقرر في المقابل: أن عدم تكفير المشركين قد يصل في بعض أحواله ومناطاته إلى أن يكون مناقضًا للإسلام بمجرده، ولا يحتاج إلى إقامة الحجة، وإزالة الشهبة.

(1) فتاوى الأئمة النجدية (3/ 68).

ص: 255

سئل ابن تيمية: «ما تقول السادة العلماء، أئمة الدين، وهداة المسلمين رضي الله عنهم أجمعين- في الكلام الذي تضمنه كتاب فصوص الحكم، وما شاكله من الكلام الظاهر في اعتقاد قائله أن الرب والعبد شيء واحد ليس بينهما فرق، وأن ما ثم غير، كمن قال في شعره: أنا وهو واحد ما معنا شيء.

ومثل: أنا من أهوى ومن أهوى أنا.

ومثل: إذا كنت ليلى وليلى أنا.

وكقول من قال: لو عرف الناس الحق ما رأوا عابدًا ولا معبودًا.

وحقيقة هذه الأقوال لم تكن في كتاب الله عز وجل، ولا في السنة، ولا في كلام الخلفاء الراشدين، والسلف الصالحين.

ويدعي القائل لذلك: أنه يحب الله سبحانه وتعالى، والله تعالى يقول:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] الآية.

والله سبحانه وتعالى ذكر خير خلقه بالعبودية في غير موضع، فقال تعالى عن خاتم رسله:{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10]، وكذلك قال في حق عيسى عليه السلام:{إِنْ هُوَ إِلَاّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} [الزخرف: 59]، وقال تعالى:{لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172] الآية.

فالنصارى كفار بقولهم مثل هذا القول في عيسى بمفرده، فكيف بمن

ص: 256

يعتقد هذا الاعتقاد تارة في نفسه، وتارة في الصور الحسنة من النسوان والمردان، ويقولون: إن هذا الاعتقاد له سر خفي، وباطن حق، وأنه من الحقائق التي لا يطلع عليها إلا خواص الخواص من الخلق.

فهل في هذه الأقوال سر خفي يجب على من يؤمن بالله، واليوم الآخر، وكتبه، ورسله أن يجتهد على التمسك بها، والوصول إلى حقائقها كما زعم هؤلاء؟ أم باطنها كظاهرها؟ وهذا الاعتقاد المذكور هو حقيقة الإيمان بالله ورسوله، وبما جاء به، أم هو الكفر بعينه؟

وهل يجب على المسلم أن يتبع في ذلك قول علماء المسلمين ورثة الأنبياء والمرسلين، أم يقف مع قول هؤلاء الضالين المضلين، وإن ترك ما أجمع عليه أئمة المسلمين، ووافق هؤلاء المذكورين؟

فماذا يكون من أمر الله له يوم الدين؟ أفتونا مأجورين أثابكم الله الكريم.

فأجاب شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين ما تضمنه كتاب فصوص الحكم، وما شاكله من الكلام فإنه كفر باطنًا وظاهرًا، وباطنه أقبح من ظاهره، وهذا يسمى مذهب أهل الوحدة وأهل الحلول وأهل الاتحاد، وهم يسمون أنفسهم المحققين، وهؤلاء نوعان:

نوع: يقول بذلك مطلقًا كما هو مذهب صاحب الفصوص ابن عربي وأمثاله، مثل: ابن سبعين، وابن الفارض، والقونوي، والششتري،

ص: 257

والتلمساني، وأمثالهم، ممن يقول: إن الوجود واحد. ويقولون: إن وجود المخلوق هو وجود الخالق، لا يثبتون موجودين، خلق أحدهما الآخر، بل يقولون: الخالق هو المخلوق، والمخلوق هو الخالق، ويقولون بذلك في المسيح عيسى، والغالية الذين يقولون بذلك في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وطائفة من أهل بيته، والحاكمية الذين يقولون بذلك في الحاكم، والحلاجية الذين يقولون بذلك في الحلاج، واليونسية الذين يقولون: بذلك في يونس، وأمثال هؤلاء، ممن يقول بإلهية بعض البشر، وبالحلول والاتحاد فيه، ولا يجعل ذلك مطلقًا في كل شيء».

ومن هؤلاء من يقول بذلك في بعض النسوان، والمردان، أو بعض الملوك، أو غيرهم.

فهؤلاء كفرهم شر من كفر النصارى، الذين قالوا:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17].

أما الأولون فيقولون بالإطلاق، ويقولون: النصارى إنما كفروا بالتخصيص.

وأقوال هؤلاء شر من أقوال النصارى، وفيها من التناقض ما في أقوال النصارى، ولهذا يقولون بالحلول تارة، وبالاتحاد أخرى، وبالوحدة تارة. فإنه مذهب متناقض في نفسه، ولهذا يلبسون على من لم يفهمه فهذا كله كفر باطنًا وظاهرًا بإجماع كل مسلم.

ص: 258

ومن شك في كفر هؤلاء، بعد معرفة قولهم، ومعرفة دين الإسلام فهو كافر، كمن يشك في كفر اليهود، والنصارى، والمشركين» (1).

وقال أيضًا رحمه الله تعالى في حكم أهل الحلول والاتحاد، ومن جادل عنهم، أو شك في كفرهم: «وكذلك قوله -أي ابن عربي- أن المشركين لو تركوا عبادة الأصنام، لجهلوا من الحق بقدر ما تركوا منها، هو من الكفر المعلوم بالاضطرار من جميع الملل، فإن أهل الملل متفقون على أن الرسل جميعهم نهوا عن عبادة الأصنام، وكفروا من يفعل ذلك، وأن المؤمن لا يكون مؤمنًا حتى يتبرأ من عبادة الأصنام، وكل معبود سوى الله. كما قال الله تعالى:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4].

وقال الخليل: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَاّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75 - 77]، وقال الخليل لأبيه وقومه:{إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَاّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 26، 27] وقال الخليل، وهو إمام الحنفاء، الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب،

واتفق أهل الملل على تعظيمه لقوله: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ *

إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ

(1) مجموع الفتاوى (2/ 362 - 368).

ص: 259

الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 78 - 79].

وهذا أكثر وأظهر عند أهل الملل من اليهود والنصارى، فضلاً عن المسلمين من أن يحتاج أن يستشهد عليه بنص خاص.

فمن قال: إن عباد الأصنام لو تركوهم، لجهلوا من الحق بقدر ما تركوا من هؤلاء فهو أكفر من اليهود والنصارى، ومن لم يكفرهم فهو أكفر من اليهود والنصارى.

فإن اليهود والنصارى يكفرون عباد الأصنام، فكيف من يجعل تارك عبادة الأصنام جاهلاً من الحق، بقدر ما ترك منها.

(وأخذ الشيخ يتكلم عن صور كفرهم الشنيعة إلى أن قال): ولم أصف عشر ما يذكرونه من الكفر، ولكن هؤلاء التبس أمرهم على من لم يعرف حالهم، كما التبس أمر القرامطة الباطنية لما ادعوا أنهم فاطميون، وانتسبوا إلى التشيع، فصار المتبعون مائلين إليهم غير عالمين بباطن كفرهم.

ولهذا كان من مال إليهم أحد رجلين: إما زنديقًا منافقًا؛ وإما جاهلاً ضالاً.

وهكذا هؤلاء الاتحادية فرؤوسهم هم أئمة كفر يجب قتلهم، ولا تقبل توبة أحد منهم إذا أخذ قبل التوبة، فإنه من أظلم الزنادقة الذين يظهرون الإسلام، ويبطنون أعظم الكفر، وهم الذين يفهمون قولهم، ومخالفتهم لدين

المسلمين.

ص: 260

ويجب عقوبة كل من انتسب إليهم، أو ذب عنهم، أو أثنى عليهم، أو عظم كتبهم، أو عرف بمساعدتهم ومعاونتهم، أو كره الكلام فيهم، أو أخذ يعتذر لهم بأن هذا الكلام لا يدري ما هو، أو من قال: إنه صنف هذا الكتاب، وأمثال هذه المعاذير، التي لا يقولها إلا جاهل أو منافق.

بل تجب عقوبة كل من عرف حالهم، ولم يعاون على القيام عليهم. فإن القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات لأنهم أفسدوا العقول، والأديان على خلق المشايخ، والعلماء، والملوك، والأمراء، وهم يسعون في الأرض فسادًا، ويصدون عن سبيل الله.

فضررهم في الدين أعظم من ضرر من يفسد على المسلمين دنياهم، ويترك دينهم، كقطاع الطريق، وكالتتار الذين يأخذون منهم الأموال، ويبقون لهم دينهم، ولا يستهين بهم إلا من لم يعرفهم، فضلالهم وإضلالهم أعظم من أن يوصف، وهم أشبه الناس بالقرامطة الباطنية.

ولهذا هم يريدون دولة التتار، ويختارون انتصارهم على المسلمين، إلا من كان عاميًا من شيعهم، واتبعهم فإنه لا يكون عارفًا بحقيقة أمرهم.

ولهذا يقرون اليهود والنصارى على ما هم عليه، ويجعلونهم على حق، كما يجعلون عباد الأصنام على حق، وكل واحدة من هذه من أعظم الكفر.

ومن كان محسنًا للظن بهم، وادعى أنه لا يعرف حالهم، عرف حالهم، فإن لم يباينهم، ويظهر لهم الإنكار، وإلا ألحق بهم، وجعل منهم.

ص: 261

وأما من قال: لكلامهم تأويل يوافق الشريعة فإنه من رؤوسهم، وأئمتهم، فإنه إن كان ذكيًا فإنه يعرف كذب نفسه فيما قاله، وإن كان معتقدًا لها باطنًا وظاهرًا، فهو أكفر من النصارى.

فمن لم يكفر هؤلاء، وجعل لكلامهم تأويلاً، كان عن تكفير النصارى بالتثليث، والاتحاد أبعد والله أعلم» (1).

وقال أيضًا رحمه الله تعالى بعد أن سرد جملاً من عقائد القرامطة الباطنية الزنادقة: «وهذا الذي ذكرته حال أئمتهم وقادتهم العالمين بحقيقة قولهم، ولا ريب أنه قد انضم إليهم من الشيعة والرافضة من لا يكون في الباطن عالمًا بحقيقة باطنهم، ولا موافقًا لهم على ذلك، فيكون من أتباع الزنادقة المرتدين، والموالي لهم، الناصر لهم، بمنزلة أتباع الاتحادية، الذين يوالونهم ويعظمونهم وينصرونهم ولا يعرفون حقيقة قولهم في وحدة الوجود، وأن الخالق هو المخلوق.

فمن كان مسلمًا في الباطن، وهو جاهل معظم لقول ابن عربي، وابن سبعين، وابن الفارض، وأمثالهم من أهل الاتحاد فهو منهم، وكذا من كان معظمًا للقائلين بمذهب الحلول والاتحاد» (2).

(1) مجموع الفتاوى (2/ 128 - 133).

(2)

الفتاوى الكبرى (3/ 495).

ص: 262

وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب في رسالة بعث بها إلى بعض الإخوان يقرر فيها كفرهم بسبب شكهم في كفر الطواغيت وأتباعهم، وذلك لكونه قد وضحه مرارًا لهم من قبل، أي قد أقام عليهم الحجة في ذلك، فقال رحمه الله تعالى: «بسم الله الرحمن الرحيم، إلى الإخوان، سلام عليكم ورحمة الله

وبركاته.

وبعد: ما ذكرتم من قول الشيخ -أي ابن تيمية- كل من جحد كذا وكذا، وقامت عليه الحجة؛ وأنكم شاكون في هؤلاء الطواغيت وأتباعهم، هل قامت عليهم الحجة، فهذا من العجب، كيف تشكون في هذا وقد أوضحته لكم مرارًا؟!

فإن الذي لم تقم عليه الحجة، هو الذي حديث عهد بالإسلام، والذي نشأ ببادية بعيدة، ويكون ذلك في مسألة خفية، مثل الصرف والعطف، فلا يكفر حتى يعرف.

وأما أصول الدين التي أوضحها الله وأحكمها في كتابه، فإن حجة الله هي القرآن، فمن بلغه القرآن قد بلغته الحجة، ولكن أصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة، وبين فهم الحجة، فإن أكثر الكفار والمنافقين من المسلمين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم، كما قال تعالى:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَاّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان: 44].

وقيام الحجة نوع، وبلوغها نوع -وقد قامت عليهم-، وفهمهم إياها

ص: 263

نوع آخر؛ وكفرهم ببلوغها إياهم، وإن لم يفهموها.

إن أشكل عليكم ذلك، فانظر قوله صلى الله عليه وسلم في الخوارج:«أينما لقيتموهم فاقتلوهم» ، وقوله:«شرُّ قتلى تحت أديم السماء» ، مع كونهم في عصر الصحابة، ويحقر الإنسان عمل الصحابة معهم، ومع إجماع الناس أن الذي أخرجهم من الدين هو: التشدد والغلو والاجتهاد، وهم يظنون أنهم يطيعون الله، وقد بلغتهم الحجة، ولكن لم يفهموها.

وكذلك قتل علي رضي الله عنه الذي اعتقدوا فيه، وتحريقهم بالنار، مع كونهم تلاميذ الصحابة، ومع عبادتهم وصلاتهم وصيامهم، وهم يظنون أنهم

على حق.

وكذلك إجماع السلف، على تكفير غلاة القدرية وغيرهم، مع علمهم وشدة عبادتهم، وكونهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ولم يتوقف أحد من السلف في تكفيرهم لأجل كونهم لم يفهموا، فإن هؤلاء كلهم لم يفهموا.

إذا علمتهم ذلك؛ فإن هذا الذي هم فيه كفر، الناس يعبدون الطواغيت، ويعادون دين الإسلام، فيزعمون انه ليس ردة، لعلهم ما فهموا الحجة، كل هذا بين.

وأظهر مما تقدم: الذين حرقهم علي، فإنه يشابه هذا، وأما إرسال كلام الشافعية وغيرهم، فلا يتصور أن يأتيكم أكثر مما أتاكم، فإن كان معكم بعض

ص: 264

الإشكال، فارغبوا إلى الله تعالى أن يزيله عنكم، والسلام» (1).

وسئل الشيخ محمد بن عبد اللطيف رحمهما الله تعالى عن: حكم الأفعال الشركية التي تفعل عند القبور، والأعياد المقامة عليها، فأجاب:«الجواب وبالله التوفيق: اعلم أن هذه الأفعال هي من دين الجاهلية، التي بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بإنكارها وإزالتها ومحو آثارها، لأنها من الشرك الأكبر، التي دلت الآيات المحكمات على تحريمه، وهذه الأعياد تشبه أعياد الجاهلية، فمن اعتقد جوازه وحله، وأنه عبادة ودين، فهو من أكفر خلق الله وأضلهم، ومن شك في كفره بعد قيام الحجة عليهم فهو كافر» (2).

وقال الشيخ سليمان بن عبد الله -رحمهما الله تعالى-: «وأما قول السائل: فإن كان يقدر من نفسه أن يتلفظ بكفرهم وسبهم -أي: في أهل بلد مرتدين، وهكذا كان نص السؤال- ما حكمه؟

فالجواب: لا يخلو ذلك عن أن يكون شاكًا في كفرهم أو جاهلاً به، أو يقر بأنهم كفرة هم وأشباههم، ولكن لا يقدر على مواجهتهم وتكفيرهم، أو يقول: غيرهم كفار، لا أقول إنهم كفار؛ فإن كان شاكًا في كفرهم أو جاهلاً بكفرهم بينت له الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على كفرهم، فإن شك بعد ذلك أو تردد فإنه كافر بإجماع العلماء، على أن من شك في كفر الكافر

فهو كافر.

(1) فتاوى الأئمة النجدية (3/ 70 - 71).

(2)

الدرر السنية (10/ 439، 440).

ص: 265

وإن كان يقر بكفرهم، ولا يقدر على مواجهتهم بتكفيرهم فهو مداهن لهم، ويدخل في قوله تعالى:{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9]، وله حكم أمثاله من أهل الذنوب.

وإن كان يقول: أقول غيرهم كفار، ولا أقول هم كفار، فهذا حكم منه بإسلامهم، إذ لا واسطة بين الكفر والإسلام، فإن لم يكونوا كفارًا فهم مسلمون؛ وحينئذ فمن سمى الكفر إسلامًا، أو سمى الكفار مسلمين، فهو كافر فيكون هذا كافرًا» (1).

وقال الشيخ سليمان بن سحمان: «ثم لو قدر أن أحدًا من العلماء توقف عن القول بكفر أحد من هؤلاء الجهال المقلدين للجهمية، أو الجهال المقلدين لعباد القبور أمكن أن نعتذر عنه بأنه مخطئ معذور، ولا نقول بكفره لعدم عصمته من الخطأ، والإجماع في ذلك قطعي ولا بد أن يغلط، فقط غلط من هو خير منه، كمثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما نبهته المرأة رجع في مسألة المهر وفي غير ذلك، وكما غلط غيره من الصحابة.

وقد ذكر شيخ الإسلام في رفع الملام عن الأئمة الأعلام: عشرة أسباب في العذر لهم فيما غلطوا وأخطأوا، وهم مجتهدون.

وأما تكفيره -أعني المخطئ والغالط- فهو من الكذب والإلزام الباطل، فإنه لم يكفر أحد من العلماء أحدًا إذا توقف في كفر أحد لسبب من

(1) فتاوى الأئمة النجدية (3/ 73).

ص: 266

فإذا كان هذا حال من شك في كفره مع معاداته له، ومقته له، فكيف بمن يعتقد أنه مسلم، ولم يعاده؟ فكيف بمن أحبه؟ فكيف بمن جادل عنه، وعن طريقته، وتعذر أنا لا نقدر على التجارة وطلب الرزق إلا بذلك؟ وقد قال تعالى:{وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص: 57](23/ش).

الأسباب، التي يعتذر بها العالم إذا أخطأ ولم يقم عنده دليل على كفر من قام به هذا الوصف، الذي يكفر به، من قام به بل إذا بان له، ثم بعد ذلك عاند وكابر وأصر» (1).

(23/ش) قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسير هذه الآية: «يقول تعالى مخبرًا عن اعتذار بعض الكفار في عدم اتباع الهدى حيث قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص: 57] أي: نخشى إن اتبعنا ما جئت به من الهدى، وخالفنا من حولنا من أحياء العرب المشركين، أن يقصدونا بالأذى، والمحاربة، ويتخطفونا أينما كنا. قال الله تعالى مجيبًا لهم: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا} يعني: هذا الذي اعتذروا به كذب وباطل، لأن الله تعالى جعلهم في بلد آمين، وحرم معظم آمن منذ وضع، فكيف يكون هذا الحرم آمنًا لهم في حال كفرهم وشركهم، ولا يكون آمنًا لهم وقد أسلموا وتابعوا الحق؟» (2).

(1) كشف الأوهام والالتباس (69 - 70).

(2)

تفسير القرآن العظيم (6/ 247).

ص: 267

فإذا كان هذا قول الله تعالى فيمن تعذر عن التبيين بالعمل بالتوحيد، ومعاداة المشركين بالخوف على أهله وعياله، فكيف بمن اعتذر في ذلك بتحصيل التجارة؟

ولكن الأمر كما تقدم عن عمر رضي الله عنه: إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية لهذا لم يفهم معنى القرآن، وأنه أشرف وأفسد من الذين قالوا:{إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص: 57].

ومع هذا فالكلام الذي يظهرونه نفاق، وإلا فهم يعتقدون أن أهل التوحيد ضالون مضلون، وأن عبدة الأوثان أهل الحق والصواب.

كما صرح به إمامهم في الرسالة التي أتتكم قبل هذه، خطه بيده يقول: بيني وبينكم أهل هذه الأقطار، وهم خير أمة أخرجت للناس، وهم كذا وكذا.

فإذا كان يريد التحاكم إليهم، ويصفهم بأنهم خير أمة أخرجت للناس، فكيف أيضًا يصفهم بشرك ومخالطتهم للحاجة؟ ما أحسن قول أصدق القائلين:{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ * إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات: 7 - 9]{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق: 5].

فرحم الله امرأً نظر لنفسه، وتفكر فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله، من معاداة من أشرك بالله من قريب أو بعيد، وتكفيرهم، وقتالهم حتى يكون الدين لله.

ص: 268