الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعلم ما حكم به محمد صلى الله عليه وسلم فيمن أشرك بالله مع ادعائه الإسلام، وما حكم به في ذلك الخلفاء الراشدون، كعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره لما حرقهم بالنار (1)، مع أن غيرهم من أهل الأوثان، الذين لم يدخلوا في الإسلام لا يقتلون بالتحريق، والله الموفق.
وقالوا أبو العباس أحمد بن تيمية في الرد على المتكلمين لما ذكر بعض أحوال أئمتهم، قال: «وكل شر في العالم إنما حدث برأي جنسهم، فهم الآمرون بالشرك والفاعلون له، ومن لم يأمر بالشرك فلم ينه عنه، بل يقر هؤلاء، وإن رجح الموحدين ترجيحًا ما فقد يرجح غيره المشركين، وقد يعرض عن الأمرين جميعًا، فتدبر هذا فإنه نافع جدًا.
ولهذا كان رؤوسهم المتقدمون والمتأخرون يأمرون بالشرك، وكذلك الذين كانوا في ملة الإسلام لا ينهون عن الشرك ويوجبون التوحيد، بل يسوغون الشرك، أو يأمرون به، أو لا يوجبون التوحيد. وقد رأيت من مصنفاتهم في عبادة الملائكة وعبادة الأنفس المفارقة، أنفس الأنبياء وغيرهم ما هو أصل الشرك.
وهم إذا ادعوا التوحيد فإنما توحيدهم بالقول لا بالعبادة والعمل، و
التوحيد الذي جاءت به الرسل
لا بد فيه من التوحيد بإخلاص الدين لله،
(1) تقدم تخريجه.
وعبادته وحده لا شريك له، وهذا شيء لا يعرفونه.
فلو كانوا موحدين بالقول والكلام لكان معهم التوحيد دون العمل، وذلك لا يكفي في السعادة والنجاة، بل لا بد من أن يعبد الله وحده، ويتخذ إلهًا دون ما سواه، وهذا هو معنى قول «لا إله إلا الله» (1) انتهى كلام الشيخ.
فتأمل -رحمك الله- هذا الكلام فإنه مثل ما قال الشيخ فيه نافع جدًا، ومن أكبر ما فيه من الفوائد أنه يبين حال من أقر بهذا الدين، وشهد أنه الحق، وأن الشرك هو الباطل، وقال بلسانه ما أريد منه، ولكن لا يدين بذلك، إما بغضًا له، أو إيثارًا للدنيا مثل تجارة، أو غيرها فيدخلون في الإسلام، ثم يخرجون منه كما قال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} [المنافقون: 3]، {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ} [النحل: 106] {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ} [النحل: 107](24/ش).
(24/ش) ما أشد وقع هذه الآيات على المرجئة وأذنابهم لو كانوا يعلمون فأساطين الإرجاء قرروا قديمًا وحديثًا الكفر بعد الإيمان لا يكون إلا بتغيير الاعتقاد، أي: بالتكذيب والاستحلال والجحود، ومحله قول القلب فقط دون
(1) مجموع الفتاوى (18/ 57) وما بعدها.
عمله وأعمال الجوارح، لأن الإيمان عندهم هو التصديق.
وأما أهل السنة والأثر: فالإيمان عندهم قول وعمل واعتقاد، والكفر يقع بالقول وإن تعرى عن الاعتقاد، وبالفعل وإن تجرد عن الاعتقاد، وبالاعتقاد ولو لم يصاحبه قول أو عمل.
والآيات تنص على أن من كفر بالله من بعد إيمانه يكون كافرًا إلا أن يكون مكرهًا على فعل الكفر في الظاهر، وقلبه يكون مطمئنًا بالإيمان في الباطن.
فدل ذلك على أن من فعل الكفر بسبب الخوف، أو الطمع، أو مداراة لأهله، أو مشحة بوطنه، أو فعله على وجه المزح واللعب .. دل ذلك على أنه يكون كافرًا مرتدًا عن الملة، ولو لم يتغير اعتقاده بصحة دين الإسلام، وببطلان كل ما دونه من الأديان.
وفي هذا أبين الدلالة على فساد مذهب المرجئة الخبيثة من وجهين:
الوجه الأول: أن الكفر عندهم لا يقع إلا بتغيير الاعتقاد، والإكراه على ذلك لا يملكه أي واحد من البشر كائنًا من كان.
فالإكراه لا يتصور وقوعه إلا على الأقوال أو الأفعال، فدل ذلك على أن العبد إذا قال الكفر أو فعله - دون اعتقاد له - يكفر إلا أن يكون مكرهًا، وقلبه مطمئن بالإيمان.
الوجه الثاني: تعليل الله لكفر المرتدين عن الإيمان أنه بسبب حبهم للحياة الدنيا، وإيثارها على الآخرة.
أي أن حب العاجلة قد يحمل العبد على فعل الكفر فيكفر دون أن يغير اعتقاده بصحة الإسلام، وببطلان كل ما دونه من الأديان.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: «والكافر قد لا يعلم وجود ذلك الضرر لكنه يحمله حب العاجلة على الكفر.
يبين ذلك قوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [النحل: 106 - 109]، فقد ذكر تعالى من كفر بالله من بعد إيمانه، وذكر وعيده في الآخرة، ثم قال:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ} وبين تعالى أن الوعيد استحقوه بهذا.
ومعلوم: أن باب التصديق والتكذيب، والعلم والجهل، ليس هو من باب الحب والبغض.
وهؤلاء -أي غلاة المرجئة- يقولون: إنما استحقوا الوعيد لزوال التصديق والإيمان من قلوبهم، وإن كان ذلك قد يكون سببه حب الدنيا على الآخرة.
والله سبحانه وتعالى جعل استحباب الدنيا على الآخرة هو الأصل الموجب للخسران، واستحباب الدنيا على الآخرة قد يكون مع العلم والتصديق بأن
الكفر يضر في الآخرة، وبأنه ما له في الآخرة من خلاق.
وأيضًا فإنه سبحانه استثنى المكره من الكفار، ولو كان الكفر لا يكون إلا بتكذيب القلب وجهله لم يستثن منه المكره، لأن الإكراه على ذلك ممتنع، فعلم أن التكلم بالكفر كفر لا في حال الإكراه.
وقوله تعالى: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل: 106]، أي: لاستحبابه الدنيا على الآخرة، ومنه قول النبي:«يصبح الرجل مؤمنًا، ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا يبيع دينه بعرض من الدنيا» (1)» (2).
وقال محمد بن عبد الوهاب: «قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ} [النحل: 106 - 107] الآية، فلم يعذر الله من هؤلاء إلا من أكره، مع كون قلبه مطمئنًا بالإيمان.
وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه، سواء فعله خوفًا، أو طمعًا، أو مداراة، أو مشحة بوطنه، أو أهله، أو عشيرته، أو ماله، أو فعله على وجه المزح، أو لغير ذلك من الأغراض، إلا المكره. فالآية تدل على هذا من جهتين.
الأولى: قوله: {إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ} فلم يستثن الله تعالى إلا المكره.
(1) صحيح مسلم (118)، وسنن الترمذي (2195)، ومسند أحمد (7687).
(2)
مجموع الفتاوى (7/ 559/560).
ومعلوم: أن الإنسان لا يكره إلا على الكلام أو الفعل، وأما عقيدة القلب فلا يكره عليه أحد.
والثانية: قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ} .
فصرح أن هذا الكفر والعذاب، لم يكن بسبب الاعتقاد، أو الجهل، أو البغض للدين، أو محبة الكفر، وإنما سببه: أن له في ذلك حظًا من حظوظ الدنيا فآثره على الدين» (1).
وقال الإمام الطبري مبينًا أن إيثار الحياة الدنيا هو الذي أحل بالمرتدين عن الإيمان سخط الله وأليم عقابه:
وضرب إمام الدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب مثلاًَ رائعًا يبين به كفر من قال الكفر لأجل الدنيا، ولو لم يعتقد حقيقته في الباطن، ولم يتغير اعتقاده
(1) كشف الشبهات /41.
(2)
تفسير الطبري (7/ 652).
في الباطن، فقال -رحمه الله تعالى-: «لو نقدر أن السلطان ظلم أهل المغرب ظلمًا عظيمًا في أموالهم وبلادهم، ومع هذا خافوا استيلاءهم على بلادهم ظلمًا وعدوانًا، ورأوا أنهم لا يدفعونهم إلا باستنجاد الفرنج، وعلموا أن الفرنج لا يوافقونهم إلا أن يقولوا: نحن معكم على دينكم ودنياكم، ودينكم هو الحق، ودين السلطان هو الباطل، وتظاهروا بذلك ليلاً ونهارًا، مع أنهم لم يدخلوا في دين الفرنج، ولم يتركوا الإسلام بالفعل.
لكن لما تظاهروا بما ذكرنا، ومرادهم دفع الظلم عنهم، هل يشك أحد أنهم مرتدون في أكبر ما يكون من الكفر والردة؟ إذا صرحوا أن دين السلطان هو الباطل، مع علمهم أنه حق، وصرحوا أن دين الفرنج هو الصواب» (1).
وهذا مثل رائع عملي دال على أن الكفر يقع عند أهل السنة بالقول ولو لم يصاحبه اعتقاد، وبالفعل وإن تجرد عن تغير الاعتقاد، ويكون بالاعتقاد من التصديق والتكذيب، والحب والبغض، ولو لم يقارنه قول أو عمل.
وأما من قال نظريًا الكفر يقع بالقول، وبالعمل، وبالاعتقاد، ثم عمليًا تراه لا يوقعه إلا بالجحود والاستحلال فهذا يكون من رؤوس أئمة الجهمية الخبيثة، ويجب على الموحدين أن يفضوا أيديهم منه في مسائل تلقي الإيمان والكفر.
وقبل الانتقال عن ذكر مسألة الإكراه على الكفر، نذكر بأن المحققين من العلماء أوجبوا على المكره استخدام المعاريض قدر المستطاع، وما ذاك إلا
(1) الدرر السنية (10/ 116 - 117).
لعظم الكفر والردة بعد الإيمان.
قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: «قال المحققون من العلماء: إذا تلفظ المكره بالكفر فلا يجوز له أن يجريه على لسانه إلا مجرى المعاريض فإن في المعاريض لمندوحة عن الكذب، ومتى لم يكن كذلك كان كافرًا؛ لأن المعاريض لا سلطان للإكراه عليها» .
مثاله: أن يقال له اكفر بالله فيقول باللاهي فيزيد الياء.
وكذلك إذا قيل له: اكفر بالنبي فيقول: هو كافر بالنبي مشددًا، وهو المكان المرتفع من الأرض، ويطلق على ما يعمل من الخوص شبه المائدة، فيقصد أحدهما بقلبه، ويبرأ من الكفر، ويبرأ من إثمه (1).
(1) تفسير القرطبي (12/ 443 - 444).
فإذا قال هؤلاء بألسنتهم: نشهد أن هذا دين الله ورسوله، ونشهد أن المخالف له باطل، وأنه الشرك بالله غَرَّ هذا الكلام ضعيف البصيرة.
وأعظم من هذا وأطم أن أهل حريملا، ومن وراءهم يصرحون: بمسبة الدين، وأن الحق ما عليه أكثر الناس، يستدلون بالكثرة على حسن ما هم فيه من الدين، ويفعلون، ويقولون: ما هو من أكبر الردة وأفحشها.
فإذا قالوا: التوحيد حق، والشرك باطل، وأيضًا لم يحدثوا في بلدهم أوثانًا جادل الملحد عنهم، وقال: إنهم يقرون أن هذا شرك، وأن التوحيد هو الحق، ولا يضرهم عنده ما هم عليه من السبِّ لدين الله، وبغي العوج له، ومدح الشرك، وذبهم دونه بالمال، واليد، واللسان، فالله المستعان.
وقال أبو العباس أيضًا في الكلام على كفر مانعي الزكاة: والصحابة لم يقولوا: هل أنت مقر بوجوبها أو جاحد لها؟
هذا لم يُعهد عن الخلفاء والصحابة، بل قال الصديق لعمر رضي الله عنهما والله لو منعوني عقالاً أو عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه»، فجعل المبيح للقتال مجرد المنع لا جحد الوجوب، وقد روي أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب لكن بخلوا بها، ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم جميعهم سيرة واحدة، وهي مقاتلتهم وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم والشهادة على قتلاهم بالنار، وسموهم جميعهم أهل الردة، وكان من أعظم فضائل الصديق رضي الله عنه -
عندهم أن ثبته الله على قتالهم، ولم يتوقف كما يتوقف غيره، فناظرهم حتى رجعوا إلى قوله، وأما قتل المقرين بنبوة مسيلمة فهؤلاء لم يقع بينهم نزاع في قتالهم» (1) انتهى.
فتأمل كلامه رحمه الله في تكفير المعين، والشهادة عليه إذا قتل بالنار، وسبي (26/ش) حريمه وأولاده عند منع الزكاة.
فهذا الذي ينسب عنه أعداء الدين عدم تكفير المعين.
قال رحمه الله بعد ذلك: «وكفر هؤلاء وإدخالهم في الردة قد ثبت باتفاق الصحابة المستند إلى نصوص الكتاب والسنة» .
(26/ش) طلع علينا في هذا الزمان بعض من يزعم السلفية: بأنه لا يجوز الحكم على من مات على الشرك بالنار، ولو كان من أئمة الكفر، من النصارى واليهود ونحوهم
…
فتحيرنا، وحق لنا هذا.
فهم لا يريدون تكفير المعين من المشركين، ولا يريدون تحقيق البراءة منهم، ثم من مات أيضًا على كفره، ولو كان مباينًا لملة المسلمين لا يريدون أن نحكم عليه أيضًا بالنار.
ثم تراهم قد توغلوا بعنف في الحكم على كثير من مناطات الشرك الأكبر بأنه من الشرك الأصغر العملي، الذي لا يخرج صاحبه من الملة.
ويا ليتهم وقفوا عند هذا الحد، بل قاموا بشن الغارة على دعاة التوحيد،
(1) انظر مجموع الفتاوى (28/ 472، 519)، والفتاوى الكبرى (2/ 31)، (3/ 534)، وشرح العمدة في الفقه لابن تيمية (4/ 62).
ورموهم بالعظائم ونالوا من أعراضهم.
فسبحان الله ما أعظم هذا الإشكال، وما أشد تلك المعضلة.
ولم يدر هؤلاء أنهم يسعون في تهوين أمر الشرك في نفوس العباد شاءوا ذلك أم أبوا، ذاك الذنب الذي حرم الله على أصحابه الجنة، وأوجب لهم به الخلود في النيران، وحجب المولى -جل في علاه- مغفرته العظيمة، وعفوه -الذي لا يعلمه إلا هو سبحانه- عن أن ينال هذا الذنب الأكبر الأعظم.
واستشهد القوم بقول الإمام الطحاوي في عقيدته: «ولا ننزل أحدًا منهم جنة ولا نارًا» .
ولو رجعنا إلى قول الإمام الطحاوي، لوجدناه يتحدث عن أهل القبلة، الذين ماتوا في الظاهر على التوحيد والإيمان، فهل بجرؤ أحد على الحكم على أمثال هؤلاء بأنهم من أهل النار، سبحانك هذا بهتان عظيم.
قال الإمام الطحاوي -رحمه الله تعالى-: «وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون، وإن لم يكونوا تائبين، بعد أن لقوا الله عارفين مؤمنين ....
ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، ونصلي على من مات منهم.
ولا ننزل أحدًا منهم جنة ولا نارًا، ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق ما لم يظهر منهم شيء من ذلك، ونذر سرائرهم إلى الله تعالى» (1).
(1) العقيدة الطحاوية /45.
وقال ابن أبي العز الحنفي مبينًا هذا المعنى في شرحه: «يريد: أنا لا نقول عن أحد معين من أهل القبلة إنه من أهل الجنة أو من أهل النار إلا من أخبر
الصادق صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة، كالعشرة رضي الله عنهم، وإن كنا نقول: إنه لا بد أن يدخل النار من أهل الكبائر من شاء الله إدخاله النار، ثم يخرج منها بشفاعة الشافعين، ولكنا نقف في الشخص المعين فلا نشهد له بجنة ولا نار إلا عن علم، لأن الحقيقة باطنة، وما مات عليه لا نحيط به، لكن نرجو للمحسنين ونخاف على المسيئين» (1).
فإذا كان هذا في حق من مات من أهل القبلة على التوحيد والإيمان، فلماذا يتوسع هؤلاء -وهذا دأبهم دائمًا في مثل هذه المسائل فانتبه- في جعل هذا الحكم ينطبق على المرتدين، وعلى أئمة الكفر المباينين للملة، فضلاً عن اتباعهم، من المقلدة لهم، والمقتدين لآثارهم.
والرد على هذه الشبهة من وجوه:
الوجه الأول: ما قاله صديق الأمة، أبو بكر الصديق رضي الله عنه في وجوب الشهادة على أعيان القتلى المرتدين بالنار، وكان في محضر من الصحابة، وانقضى عصرهم، ولم يظهر له مخالف في هذا فكان إجماعًا.
وقد ذكرت هذا الوجه أولاً بسبب وروده في متن الرسالة محل الشرح.
(1) شرح العقيدة الطحاوية /378.
الوجه الثاني: قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113]، فالآية نص في أن الكافر إذا مات على كفره فقد تبين لنا أنه من أهل النار، وأنه يعين بذلك.
وقال الإمام ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-: «ومعنى قوله: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} أي: من بعد ما بان أنهم ماتوا كفارًا» (2).
والعبرة في هذه المسألة بالخواتيم، فمن مات على الكفر حكمنا به عليه وشهدنا له بالنار في الظاهر، والله يتولى السرائر.
(1) تفسير الطبري (6/ 487).
(2)
زاد المسير في علم التفسير (3/ 509).
قال الإمام القرطبي - رحمه الله تعالى- في هذه الآية: «ظاهر حالة المرء عند الموت يحكم عليه بها، فإن مات على الإيمان حكم عليه به، وإن مات على الكفر حكم له به، وربك أعلم بباطن حاله» (1).
وقال أيضًا -رحمه الله تعالى- مؤكدًا على هذا المعنى في أثناء تفسيره لقوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94] الآية. بعد عرضه لحديث أسامة بن زيد رضي الله عنه لما قتل متأولاً الرجل الذي نطق بالشهادتين بعدما علاه بسيفه.
قال القرطبي: «وفي هذه من الفقه باب عظيم: وهو أن الأحكام تناط بالمظان والظواهر، لا على القطع واطلاع السرائر» (2).
وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- في قصة موت أبي طالب: «فهذا شأن من مات على الكفر -أي الخلود في النار- فلو كان مات على التوحيد لنجا من النار أصلا؛ والأحاديث الصحيحية، والأخبار المتكاثرة طافحة بذلك» (3).
الوجه الثالث: عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله أين أبي؟
(1) تفسير القرطبي (10/ 401).
(2)
تفسير القرطبي (7/ 51).
(3)
الإصابة في تمييز الصحابة.
قال: «في النار» فلما قفى دعاه فقال: «إن أبي وأباك في النار» (1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، وبوب الإمام النووي له بابًا:«بيان أن من مات على الكفر فهو في النار» ، وقال فيه:«أن من مات على الكفر فهو في النار، ولا تنفعه قرابة المقربين» (2).
الوجه الرابع: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: «إن أبي كان يصل الرحم وكان وكان. فأين هو؟ قال: «في النار» ، قال: فكأنه وجد من ذلك. فقال يا رسول الله فأين أبوك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حيثما مررت بقبر مشرك فبشره بالنار» قال فأسلم الأعرابي بعد. وقال: لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعبًا، ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار» (3).
وقال الإمام السندي -رحمه الله تعالى- في شرحه لسنن ابن ماجه على هذا الحديث:
والجواب: -أي من النبي صلى الله عليه وسلم عام في كل مشرك (4) اهـ.
(1) صحيح مسلم (203).
(2)
صحيح مسلم بشرح النووي (3/ 79).
(3)
سنن ابن ماجة (1573) وصحح إسناده البوصيري في الزوائد، وهو من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وجاء أيضًا من رواية سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وعزاها الهيثمي في الزوائد للبزار والطبراني في الكبير وقال: ورجاله رجال الصحيح المجمع (1/ 315)، وصحح الألباني رواية ابن ماجة، انظر صحيح ابن ماجة (1278).
(4)
شرح سنن ابن ماجة (1/ 113).
وقال العلامة علي القاري الحنفي فيه: «وفي هذا التعميم دلالة واضحة، وإشارة لائحة بأن أهل الجاهلية كلهم كفار، إلا ما خص منهم بالأخبار عن النبي المختار صلى الله عليه وسلم» (1).
وقال الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى- معلقًا عليه: «وإذا زار قبر الكافر فلا يسلم عليه، ولا يدعو له، بل يبشره بالنار، كذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم» (2).
وكان سلفنا الصالح، وأئمة الهدى إذا حكموا بالكفر على واحد، حكموا له بالخلود في النيران إذا مات عليه، وأجروا عليه أحكام التكفير، لأن باب الحكم بالكفر على معين، والشهادة له بالنار إن مات عليه واحد.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: «والجهمية عند كثير من السلف، مثل عبد الله بن المبارك، ويوسف بن أسباط، وطائفة من أصحاب الإمام احمد، وغيرهم ليسوا من الثنتين والسبعين فرقة التي افترقت عليها هذه الأمة، بل أصول هذه عند هؤلاء هم: الخوارج، والشيعة، والمرجئة، والقدرية.
وهذا المأثور عن أحمد، وهو المأثور عن عامة أئمة السنة والحديث أنهم كانوا يقولون: من قال القرآن مخلوق فهو كافر؛ ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر؛ ونحو ذلك.
(1) أدلة معتقد أبي حنيفة في أبوي الرسول صلى الله عليه وسلم /75.
(2)
تلخيص أحكام الجنائز/ 83.
ثم حكى أبو نصر السجزي عنهم في هذا قولين:
أحدها: أنه كفر ينقل عن الملة، قال: وهو قول الأكثرين.
والثاني: أنه كفر لا ينقل. ولذلك قال الخطابي: أن هذا قالوه على سبيل التغليظ.
وكذلك تنازع المتأخرون من أصحابنا في تخليد المكفر من هؤلاء، فأطلق أكثرهم عليه التخليد، كما نقل ذلك عن طائفة من متقدمي علماء الحديث، كأبي حاتم، وأبي زرعة، وغيرهم، وامتنع بعضهم من القول بالتخليد» (1).
وقال الإمام الفقيه ابن قدامة -رحمه الله تعالى-: «ولا تجوز الصلاة على كافر لقول الله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] وقال الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} .
ومن حكمنا بكفره من أهل البدع لم نصل عليه. قال أحمد: لا أشهد الجهمي ولا الرافضي ويشهدهما من أحب» (2).
وقال الإمام ابن أبي العز مؤكدًا على أن المعين من الكفار إذا مات على كفره فإنه يشهد له بالنار: «وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: ناظرت
(1) مجموع الفتاوى (12/ 486 - 487).
(2)
الكافي في فقه الإمام أحمد بن حنبل (1/ 362).
أبا حنيفة رحمه الله مدة حتى اتفق رأيي ورأيه: أن من قال بخلق القرآن فهو كافر.
وأما الشخص المعين إذا قيل: هل تشهدون أنه من أهل الوعيد، وأنه كافر؟
فهذا لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة، فإنه من أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه، بل يخلده في النار فإن هذا حكم الكافر بعد الموت» (1).
فهذه بعض من نصوص السلف في أهل البدع المغلظة.
فمن حكم منهم عليهم بالكفر، حكم للميت على هذه البدعة المكفرة بالخلود في النار، وامتنعوا من الصلاة عليه والدعاء له، ومن دفنه في قبور المسلمين، ومن القيام على قبره، إلى غير ذلك من أحكام الكفر الثابتة من الشرع الحكيم.
وقبل الانتقال من هذه المسألة المهمة، نذكر بأن المحذور فيها هو الشهادة على من مات على الكفر بالنار على وجه القطع واليقين، فهذا لا يكون إلا فيمن أخبر الوحي فيه بذلك.
وأما ما دون ذلك فنحن نشهد له بغلبة الظن لظاهر حاله عند موته، ولأن الأحكام كما قدمنا من قبل منوط إجراؤها بالظواهر وغلبة الظن، دون اليقين والقطع، وإلا تعذر العمل بها. وبالله التوفيق، ومنه وحده العون والسداد.
(1) شرح العقيدة الطحاوية/ 316.
ومن أعظم ما يحل الإشكال في مسألة التكفير والقتال، عمن قصد اتباع الحق: إجماع الصحابة على قتل مانعي الزكاة، وإدخالهم في أهل الردة، وسبي ذراريهم، وفعلهم فيهم ما صح عنهم، وهو أول قتال وقع في الإسلام على من ادعى أنه من المسلمين.
فهذه أول وقعة وقعت في الإسلام على هذا النوع؛ أعني المدعين للإسلام، وهي أوضح الوقعات، التي وقعت من العلماء عليهم من عصر الصحابة رضي الله عنهم إلى وقتنا هذا.
وقال الإمام أبو الوفاء بن عقيل: «لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرك إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا، وإلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى انتهى كلامه.
والمراد منه قوله: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع.
وقال أيضًا في كتاب الفنون: لقد عظم الله الحيوان لا سيما ابن آدم، حيث أباحه الشرك عند الإكراه، فمن قدم حرمة نفسك على حرمته حتى أباحك أن تتوقى عن نفسك بذكره بما لا ينبغي له سبحانه، لحقيق أن تعظم شعائره وتوقر أوامره وزواجره، وعصم عرضك
بإيجاب الحد بقذفك، وعصم مالك بقطع يد مسلم في
سرقته، وأسقط شطر الصلاة في السفر لأجل مشقتك، وأقام مسح الخف مقام غسل الرجل إشفاقًا عليك من مشقة الخلع واللبس، وأباحك الميتة سدًا لرمقك وحفظًا لصحتك، وزجرك عن مضارك بحد عاجل ووعيد آجل، خرق العوائد لأجلك، وأنزل الكتب إليك.
أيحسن لك مع هذا الإكرام أن يراك على ما نهاك عنه منهمكًا، ولما أمرك تاركًا؟ وعلى ما زجرك مرتكبًا؟ وعن داعيه معرضًا، ولداعي عدوه فيك مطيعًا؟
يعظمك وهو هو، وتهمل أمره وأنت أنت، هو حط رتبة عباده لأجلك، وأهبط إلى الأرض من امتنع من سجدة يسجدها لأبيك.
هل عاديت خادمًا طالت خدمته لك لترك صلاة؟ هل نفيته من دارك للإخلال بفرض أو لارتكاب نهي؟
فإن لم تعترف اعتراف العبد «للمولى» فلا أقل أن تقتضي نفسك إلى الحق سبحانه اقتضاء المساوي المكافي.
ما أفحش ما تلاعب الشيطان بالإنسان!! بينما هو بحضرة الحق سبحانه، وملائكة السماء سجود له، ترامي به الأحوال والجهات إلى أن يوجد ساجدًا لصورة في حجر، أو لشجرة من الشجر، أو لشمس، أو لقمر، أو لصورة ثور خار، أو لطائر صفر.
ما أوحش زوال النعم وتغير الأحوال والحور بعد الكور، لا يليق بهذا الحي الكريم الفاضل على جميع الحيوانات أن يرى إلا عابدًا لله
في دار التكليف، أو مجاورًا لله في دار الجزاء والتشريف، وما بين ذلك فهو واضع نفسه في غير موضعها. انتهى كلامه.
والمراد منه أنه جعل أقبح حال وأفحشها من أحوال الإنسان أن يشرك بالله، ومثله بأنواع:
منها السجود للشمس أو للقمر، ومنها السجود للصورة، كما في الصور التي في القباب على القبور، والسجود قد يكون بالجبهة على الأرض، وقد يكون بالانحناء من غير وصول إلى الأرض كما فسر به قوله تعالى:{وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [النساء: 154].
قال ابن عباس: أي ركعًا (27/ش).
(27/ش) قال الإمام الطبري في تفسير هذه الآية: «حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله:{وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [البقرة: 58] أنه أحد أبوب بيت المقدس وهو يدعى باب حطة. وأما قوله: {سُجَّدًا} فإن ابن عباس رضي الله عنهما كان يتأوله بمعنى الركع.
حدثني محمد بن بشار قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري قال: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله:{وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} قال: ركعًا من باب صغير.
حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي قال: حدثنا أبو أسامة، عن سفيان عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله:
{وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} قال: أمروا أن يدخلوا ركعًا.
قال أبو جعفر: وأصل السجود الانحناء لمن سجد له معظمًا بذلك فكل منحن لشيء تعظيمًا له فهو ساجد
…
فذلك تأويل ابن عباس قوله: {سُجَّدًا} ركعًا لأن الراكع منحن وإن كان الساجد أشد انحناء منه (1).
(1) تفسير الطبري (1/ 338).
وقال ابن القيم في إغاثة اللهفان في إنكار تعظيم القبور: وقد آل الأمر بهؤلاء المشركين إلى أن صنف بعض غلاتهم في ذلك كتابًا سماه: مناسك المشاهد، ولا يخفى أن هذه مفارقة لدين الإسلام ودخول في دين عباد الأصنام» (1) انتهى.
وهذا الذي ذكره ابن القيم رجل من المصنفين يقال له: ابن المفيد، فقد رأيت ما قال فيه بعينه فكيف ينكر تكفير المعين؟
وأما كلام سائر أتباع الأئمة في التكفير فذكر منه قليلاً من كثير.
أما كلام الحنفية فكلامهم في هذا الباب من أغلظ الكلام، حتى إنهم يكفرون المعين إذا قال: مصيحف أو مسيجد، وصلى صلاة بلا وضوء، ونحو ذلك وقال في: النهر الفائق، واعلم أن الشيخ قاسما قال في شرح درر البحار: إن النذر الذي يقع من أكثر العوام بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلا يا سيدي فلان إن رد غائبي، أو عوفي مريضي فلك من الذهب، أو الفضة، أو الشمع، أو الزيت كذا باطل إجماعًا لوجوه -إلى أن قال- ومنها ظن أن الميت يتصرف في الأمر، واعتقاده هذا كفر -إلى أن قال-: وقد ابتلي الناس بذلك لا سيما في مولد الشيخ أحمد البدوي انتهى كلامه.
فانظر إلى تصريحه أن هذا كفر مع قوله إنه يقع من أكثر العوام، وأن أهل العلم قد ابتلوا بما لا قدرة لهم على إزالته.
(1) انظر: إغاثة اللهفان (1/ 197).
وقال القرطبي: رحمه الله لما ذكر سماع الفقر أو صورته قال: هذا حرام بالإجماع وقد رأيت فتوى شيخ الإسلام جمال الملة أن مستحل هذا كافر، ولما علم أن حرمته بالإجماع لزم أن يكفر مستحله.
فقد رأيت كلام القرطبي، وكلام الشيخ الذي نقل عنه في كفر من استحل السماع والرقص، مع كونه دون ما نحن فيه بالإجماع بكثير.
وقال أبو العباس رحمه الله: حدثني ابن الخضيري عن والده الشيخ الخضيري إمام الحنفية في زمانه قال: كان فقهاء بخارى يقولون في ابن سينا: كان كافرًا ذكيًا (1).
فهذا إمام الحنفية في زمنه حكى عن فقهاء بخارى جملة: كفر ابن سينا، وهو رجل معين مصنف يتظاهر بالإسلام.
وأما كلام المالكية في هذا فهو أكثر من أن يحصر، وقد اشتهر عن فقهائهم سرعة الفتوى، والقضاء بقتل الرجل عند الكلمة التي لا يفطن لها أكثر الناس، وقد ذكر القاضي عياض في آخر كتاب الشفاء من ذلك طرفًا، ومما ذكر أن من حلف بغير الله على وجه التعظيم كفر، وكل هذا دون ما نحن فيه بما لا نسبة بينه وبينه.
وأما كلام الشافعية فقال صاحب الروضة رحمه الله: إن المسلم إذا ذبح للنبي صلى الله عليه وسلم كفر.
(1) مجموع الفتاوى (9/ 40).
وقال أيضًا: من شك في كفر طائفة ابن عربي فهو كافر، وكل هذا دون ما نحن فيه.
قال ابن حجر في شرح الأربعين على حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «إذا سألت فاسأل الله» ما معناه: أن من دعا غير الله فهو كافر، وصنف في هذا النوع كتابًا مستقلاً سماه: الإعلام بقواطع الإسلام، ذكر فيه أنواعًا كثيرة من الأقوال والأفعال كل واحد منها ذكر أنه يخرج من الإسلام ويكفر به المعين، وغالبه لا يساوي عشير معشار ما نحن فيه» (28/ش).
(28/ش) بعدما قام الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب بعرض نبذ يسيرة، ومختصرة لكل مذهب من المذاهب الأربعة على حدة في مسألة تكفير المعين، رأيت أن نبين مسائل الردة، ونواقض الإسلام، وما يصير به المسلم مرتدًا عن دينه، من كل مذهب من المذاهب الأربعة.
ولا شك أن من أوجب الواجبات أن يعرف العبد: جمل وتفاصيل مسائل الردة والنواقض حتى يعصم دينه من الارتكاس في حمأة الكفر، وحتى يحقق قوله سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] وحتى يستطيع أن يقوم بأوجب الواجبات بعد التوحيد المتمثل في موالاة المؤمنين، والبراءة من الكافرين والمرتدين.
وسوف نعرض أولاً لكتاب المرتد من المذهب الشافعي والحنفي معًا جمعهما الإمام النووي -رحمه الله تعالى:
فقال: «كتاب الردة، هي أفحش أنواع الكفر، وأغلظها حكمًا، وفيه بابان:
الأول: في حقيقة الردة، ومن تصح منه، وفيه طرفان.
الأول: في حقيقتها، وهي قطع الإسلام، ويحصل ذلك تارة بالقول الذي هو كفر، وتارة بالفعل، والأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن تعمد واستهزاء بالدين صريح، كالسجود للصنم أو للشمس، وإلقاء المصحف في القاذورات، والسحر الذي فيه عبادة الشمس ونحوها، قال الإمام: في بعض التعاليق عن شيخي أن الفعل بمجرده لا يكون كفرًا (1)، قال: وهذا زلل عظيم من المعلق ذكرته للتنبيه على غلطه (1).
(1) الذي يقول عن النواقض التي يكفر بها العبد: أنها ليست في ذاتها مكفرة، ولكنها دلالة وأمارة على الكفر هو الجهم بن صفوان، ومن نحا نحوه في قضية الإيمان فالإيمان عنده هو التصديق، ومن ثم لا يكفر إلا المكذب. فإذا جاءت دلالة من دلالات الكفر التي يمكن أن تجتمع مع التصديق في الباطن، كسب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً قال هذه علامة وأمارة على الكفر، أي: لم يكفر بها ولكن علمنا بها خلو قلبه من التصديق، بمنزلة شهادة الشهود وإقرار المقر على نفسه، بمعنى أنه لو جاء رجل وأقر على نفسه كذبًا بفعل الفاحشة أقمنا عليه الحد بإقراره في الظاهر، ويكون في الباطن بريئًا من اقتراف هذا الذنب.
وكذلك عنده دلالات الكفر التي يمكن أن تجتمع مع التصديق نقيم بها حد الكفر على أصحابها في الظاهر، ثم إن كان مصدقًا في الباطن نجا يوم القيامة، وهذه بدعة فصل الظاهر عن الباطن، ولقد نصر هذا القول الإمام الأشعري، واستشرت هذه البدعة في الأمة في وقت ما، حتى غلبت على كثير من علماء وأمراء وعباد ودعاة وقضاة الأمة.
ولقد قام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- ببذل جهود مضنية للتصدي، وإبطال هذه البدعة الشنيعة، وصاح على أهلها، ونادى عليهم بالضلال.
ولذلك فلن تجد أنقى من تراث هذا الإمام الفذ العبقري العملاق في تقرير مسائل الكفر والإيمان، ومن تبعه كتلميذه العلامة ابن قيم الجوزية، ومن تبنى منهجه بكل شمول وصدق وعدل وشفافية في تقرير مسائل الكفر والإيمان، مثل الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأحفاده -رحمهم الله تعالى- ولذلك تجد الحرص الشديد من إمام الدعوة بالاستشهاد الدائم المتواصل بنصوص الإمام العلامة ابن تيمية في كل كتبه ورسائله وفتاويه، وما تقدم ذكره هو حال الجهمية القدماء، يكفرون المعين في الظاهر دون الباطن.
أما من ورثهم في هذه الأزمان، فيحكمون على فاعل الشرك الأكبر بالإسلام في الظاهر والباطن، ويقطعون بنجاته في الدنيا والآخرة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
انظر: مجموع الفتاوى (7/ 557 وما بعدها).
وتحصل الردة بالقول الذي هو كفر، سواء صدر على اعتقاد أو عناد أو استهزاء، هذا قول جملي، وأما التفصيل فقال المتولي: من اعتقد قدم العالم، أو حدوث الصانع، أو نفي ما هو ثابت للقديم بالإجماع، ككونه عالمًا قادرًا، أو أثبت ما هو منفي عنه بالإجماع، كالألوان، أو أثبت له الاتصال والانفصال كان كافرًا، وكذا من جحد جواز بعثة الرسل، أو أنكر نبوة نبي من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، أو كذبه، أو جحد آية من القرآن مجمعًا عليها، أو زاد في القرآن كلمة واعتقد أنها منه، أو سب نبيًا، أو استخف به، أو استحل محرمًا بالإجماع، كالخمر والزنا واللواط، أو حرم حلالاً
بالإجماع، أو نفى وجوب مجمع على وجوبه، كركعة من الصلوات الخمس، أو اعتقد وجوب ما ليس بواجب بالإجماع، كصلاة سادسة وصوم شوال، أو نسب عائشة رضي الله عنها إلى الفاحشة، أو ادعى النبوة بعد نبينا صلى الله عليه وسلم، أو صدق مدعيًا لها، أو عظم صنمًا بالسجود له، أو تقرب إليه بالذبح باسمه، فكل هذا كفر.
قلت: قوله: إن جاحد المجمع عليه يكفر، ليس على إطلاقه، بل الصواب فيه تفصيل سبق بيانه في باب تارك الصلاة عقب كتاب الجنائز، ومختصره أنه إن جحد مجمعًا عليه يعلم من دين الإسلام ضرورة، كفر إن كان فيه نص، وكذا إن لم يكن فيه نص في الأصح، وإن لم يعلم من دين الإسلام ضرورة بحيث لا يعرفه كل المسلمين، لم يكفر، والله أعلم.
قال المتولي: ولو قال للمسلم: يا كافر بلا تأويل كفر، لأنه سمى الإسلام كفرًا، والعزم على الكفر في المستقبل كفر في الحال، وكذا التردد في أنه يكفر أم لا فهو كفر في الحال، وكذا التعليق بأمر مستقبل، كقوله: إن هلك مالي أو ولدي تهودت أو تنصرت.
قال: الرضا بالكفر كفر، حتى لو سأله كافر يريد الإسلام أن يلقنه كلمة التوحيد فلم يفعل، أو أشار عليه بأن لا يسلم، أو على مسلم بأنه يرتد، فهو كافر بخلاف ما لو قال لمسلم: سلبه الله الإيمان، أو لكافر: لا رزقه الله الإيمان فليس بكفر، لأنه ليس رضا بالكفر، لكنه دعا عليه بتشديد الأمر والعقوبة عليه.
قلت: وذكر القاضي حسين في «الفتاوى» وجهًا ضعيفًا، أن من قال لمسلم: سلبه الإيمان كفر. والله أعلم.
ولو أكره مسلمًا على الكفر، صار المكره كافرًا، والإكراه على الإسلام والرضا به، والعزم عليه في المستقبل ليس بإسلام.
ومن دخل دار الحرب: وشرب معهم الخمر، وأكل لحم الخنزير، لا يحكم بكفره، وارتكاب كبائر المحرمات ليس بكفر، ولا ينسلب به اسم الإيمان، والفاسق إذا مات ولم يتب لا يخلد في النار.
فرع
في كتب أصحاب أبي حنيفة رحمه الله اعتناء تام بتفصيل الأقوال والأفعال المقتضية للكفر، وأكثرها مما يقتضي إطلاق أصحابنا الموافقة عليه، فنذكر ما يحضرنا مما في كتبهم.
منها: إذا سخر باسم من أسماء الله تعالى، أو بأمره، أو بوعده، كفر، وكذا لو قال: لو أمرني الله تعالى بكذا لم أفعل، أو لو صارت القبلة في هذه الجهة ما صليت إليها، أو لو أعطاني الجنة ما دخلتها.
قلت: مقتضى مذهبنا والجاري على القواعد أنه لا يكفر في قوله: لو أعطاني الجنة ما دخلتها، وهو الصواب والله أعلم.
ولو قال لغيره: لا تترك الصلاة، فإن الله تعالى يؤاخذك، فقال: لو آخذني الله بها، مع ما بي من المرض والشدة، ظلمني أو قال المظلوم:
هذا بتقدير الله تعالى، فقال الظالم: أنا أفعل بغير تقدير الله تعالى كفر، ولو قال: لو شهد عندي الأنبياء والملائكة بكذا ما صدقتهم كفر، ولو قيل له: قلم أظفارك فإنه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا أفعل وإن كانت سنة، كفر.
قلت: المختار أنه لا يكفر بهذا إلا أن يقصد استهزاء والله أعلم.
واختلفوا فيما إذا قال الطالب ليمين خصمه، وقد أراد الخصم أن يحلف بالله تعالى: لا أريد الحلف بالله تعالى، إنما أريد الحلف بالطلاق والعتاق، والصحيح أنه لا يكفر، واختلفوا فيمن نادى رجلاً اسمه عبد الله، وأدخل في آخره حرف الكاف الذي يدخل للتصغير بالعجمية، فقيل: يكفر، وقيل: إن تعمد التصغير كفر، وإن كان جاهلاً لا يدري ما يقول، أو لم يكن له قصد، لا يكفر، واختلفوا فيمن قال: رؤيتي إياك كرؤية ملك الموت، وأكثرهم على أنه لا يكفر، قالوا: ولو قرأ القرآن على ضرب الدف أو القضيب، أو قيل له: تعلم الغيب، فقال: نعم، فهو كفر، واختلفوا فيمن خرج لسفر، فصاح العقعق (1) فرجع هل يكفر؟
قلت: الصواب أنه لا يكفر في المسائل الثلاث، والله أعلم.
ولو قال: لو كان فلان نبيًّا آمنت به -كفر، وكذا لو قال: إن كان ما قاله الأنبياء صدقًا نجونا، أو قال: لا أدري أكان النبي صلى الله عليه وسلم إنسيًا أم جنيًّا، أو قال: إنه جن، أو صغر عضوًا من أعضائه على طريق الإهانة.
(1) العقعق: اسم طائر معروف، وصوته العققة (لسان العرب)(2/ 495).
واختلفوا فيما لو قال: كان طويل الظفر، واختلفوا فيمن صلى بغير وضوء متعمدًا، أو مع ثوب نجس، أو إلى غير القبلة.
قلت: مذهبنا ومذهب الجمهور، لا يكفر إن لم يستحله والله أعلم.
ولو تنازع رجلان، فقال أحدهما: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال الآخر: لا حول لا تغني من جوع، كفر، ولو سمع أذان المؤذن فقال: إنه يكذب، أو قال وهو يتعاطى قدح الخمر، أو يقدم على الزنا: باسم الله تعالى، استخفافًا باسم الله تعالى كفر، ولو قال: لا أخاف القيامة، كفر، واختلفوا فيما لو وضع متاعه في موضع وقال: سلمته إلى الله تعالى، فقال له رجل: سلمته إلى من لا يتبع السارق إذا سرق.
ولو حضر جماعة، وجلس أحدهم على مكان رفيع تشبهًا بالمذكرين، فسألوه المسائل وهم يضحكون، ثم يضربونه بالمخراق، أو تشبه بالمعلمين فأخذ خشبة، وجلس القوم حوله كالصبيان، وضحكوا واستهزؤوا، وقال: قصعة ثريد خير من العلم، كفر.
قلت: الصواب أنه لا يكفر في مسألتي التشبه، والله أعلم.
ولو دام مرضه واشتد فقال: إن شئت توفيتني مسلمًا، وإن شئت توفيتني كافرًا، صار كافرًا، وكذا لو ابتلي بمصائب، فقال: أخذت مالي، وأخذت ولدي، وكذا وكذا، وماذا تفعل أيضًا، أو ماذا بقي ولم تفعله كفر، ولو غضب على ولده أو غلامه، فضربه ضربًا شديدًا، فقال رجل: لست بمسلم،
فقال: لا متعمدًا كفر، ولو قيل له: يا يهودي، يا مجوسي، فقال: لبيك كفر.
قلت: في هذا نظر إذا لم ينو شيئًا (1)، والله أعلم.
ولو أسلم كافر، فأعطاه الناس أموالا، فقال مسلم: ليتني كنت كافرًا فأسلم فأعطى، قال بعض المشايخ: يكفر.
قلت: في هذا نظر، لأنه جازم بالإسلام في الحال والاستقبال، وثبت في الأحاديث الصحيحة في قصة أسامة رضي الله عنه حين قتل من نطق بالشهادة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟» قال: حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل يومئذ» (2) ويمكن الفرق بينهما، والله أعلم.
ولو تمنى أن لا يحرم الله تعالى الخمر، أو لا يحرم المناكحة بين الأخ والأخت لا يكفر، ولو تمنى أن لا يحرم الله تعالى الظلم أو الزنا، وقتل النفس بغير حق كفر، والضابط أن ما كان حلالاً في زمان فتمنى حله لا يكفر.
ولو شد الزنار على وسطه كفر، واختلفوا فيمن وضع قلنسوة المجوس
(1) هناك كثير من الصور التي اختلف العلماء في كفر أصحابها، ولكن على المؤمن العاقل أن لا يقع فيها، لأنه يربأ بنفسه أن يقال له قد وقعت في أمر اختلف العلماء فيه، فبعضهم كفروك به، وبعضهم فسقوك وجرموك.
ثم ماذا لو أخذ بقول من لم يكفره، ثم يوم القيامة، يوم الفصل بين الناس كان الحكم حكم من كفروه!!
(2)
صحيح مسلم (97).
على رأسه، والصحيح أنه يكفر، ولو شد على وسطه حبلاً، فسئل عنه، فقال: هذا زنار، فالأكثرون على أنه يكفر، ولو شد على وسطه زنارًا، ودخل دار الحرب للتجارة كفر، وإن دخل لتخليص الأسارى لم يكفر.
قلت: الصواب أنه لا يكفر في مسألة التمنى، وما بعدها إذا لم تكن نية، والله أعلم.
ولو قال معلم الصبيان: اليهود خير من المسلمين بكثير، لأنهم يقضون حقوق معلمي صبيانهم كفر، قالوا: ولو قال: النصرانية خير من المجوسية كفر، ولو قال المجوسية شر من النصرانية، لا يكفر.
قال: الصواب أنه لا يكفر بقوله: النصرانية خير من المجوسية إلا أن يريد أنها دين حق اليوم (1) والله أعلم.
قالوا: ولو عطس السلطان، فقال له رجل: يرحمك الله، فقال آخر: لا تقل للسلطان هذا، كفر الآخر.
قلت: الصواب أنه لا يكفر بمجرد هذا، والله أعلم.
(1) وهذا كفر بإجماع المسلمين. قلت: وكم من الزنادقة اليوم يريدون أن يجعلوا الدين النصراني والدين اليهودي دينًا صحيحًا متقبلاً، وأن الأديان طرق إلى الله كالمذاهب في الإسلام، وهذا كفر معلم بالاضطرار من دين الإسلام، وقد وقع الإجماع على كفر اليهود والنصارى، وعلى كفر من شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم وسوف يأتي ذكره إن شاء الله.
قالوا: ولو سقى فاسق ولده خمرًا، فنثر أقرباؤه الدراهم والسكر، كفروا.
قلت الصواب أنهم لا يكفرون، والله أعلم.
قالوا: ولو قال كافر لمسلم: اعرض علي الإسلام، فقال: حتى أرى، أو اصبر إلى الغد، أو طلب عرض الإسلام من واعظ، فقال: اجلس إلى آخر المجلس كفر، وقد حكينا نظيره عن المتولي قالوا: ولو قال لعدوه: لو كان نبيًا لم أؤمن به، أو قال: لم يكن أبو بكر الصديق رضي الله عنه من الصحابة كفر، قالوا: ولو قيل لرجل: ما الإيمان؟ فقال: لا أدري كفر، أو قال لزوجته: أنت أحب إلي من الله تعالى كفر.
وهذه الصور تتبعوا فيها الألفاظ الواقعة في كلام الناس، وأجابوا فيها اتفاقًا أو اختلافًا بما ذكر، ومذهبنا يقتضي موافقتهم في بعضها، وفي بعضها يشترط وقوع اللفظ في معرض الاستهزاء» (1).
وقال الإمام القاضي عياض -رحمه الله تعالى- في بيان مذهب المالكية في نواقض الإسلام، ومسائل الردة: «فصل، في بيان ما هو من المقالات كفر وما يتوقف أو يختلف فيه وما ليس بكفر، اعلم أن تحقيق هذا الفصل وكشف اللبس فيه مورده الشرع ولا مجال للعقل فيه، والفصل البين في هذا أن كل مقالة صرحت بنفي الربوبية أو الوحدانية، أو عبادة أحد غير الله، أو مع الله فهي كفر، كمقالة الدهرية، وسائر فرق أصحاب الاثنين، من الديصانية،
(1) روضة الطالبين وعمدة المفتين (1/ 64 - 70).
والمانوية، وأشباههم من الصابئين، والنصارى، والمجوس، والذين أشركوا بعبادة الأوثان، أو الملائكة، أو الشياطين، أو الشمس، أو النجوم، أو النار، أو أحد غير الله، من مشركي العرب وأهل الهند والصين والسودان وغيرهم ممن لا يرجع إلى كتاب، وكذلك القرامطة، وأصحاب الحلول، والتناسخ، من الباطنية الطيارة ومن الروافض، وكذلك من اعترف بإلهية الله ووحدانيته، ولكنه اعتقد أنه غير حي، أو غير قديم، وأنه محدث، أو مصور، أو ادعى له ولدًا، أو صاحبة، أو والدًا، أو متولد من شيء، أو كائن عنه، أو أن معه في الأزل شيئًا قديمًا غيره، أو أن ثم صانعًا للعالم سواه، أو مدبرًا غيره فذلك كله كفر بإجماع المسلمين، كقول الإلهيين من الفلاسفة والمنجمين والطبائعيين، وكذلك من ادعى مجالسة الله، والعروج إليه، ومكالمته، أو حلوله في أحد الأشخاص، كقول بعض المتصوفة، والباطنية، والنصارى والقرامطة.
وكذلك نقطع على كفر من قال بقدم العالم، أو بقائه، أو شك في ذلك على مذهب بعض الفلاسفة، والدهرية، أو قال بتناسخ الأرواح، وانتقالها أبد الآباد في الأشخاص، وتعذيبها أو تنعمها فيها بحسب زكائها وخبثها، وكذلك من اعترف بالإلهية والوحدانية، ولكنه جحد النبوة من أصلها عمومًا، أو نبوة
نبينا صلى الله عليه وسلم خصوصًا، أو أحد من الأنبياء الذين نص الله عليهم بعد علمه بذلك فهو كافر بلا ريب، كالبراهمة، ومعظم اليهود، والأروسية من النصارى، والغرابية من الروافض، الزاعمين أن عليًا كان المبعوث إليه جبريل،
وكالمعطلة، والقرامطة والإسماعيلية، والعنبرية من الرافضة، وإن كان بعض هؤلاء قد أشركوا في كفر آخر مع من قبلهم.
وكذلك من دان بالوحدانية، وصحة النبوة، ونبوة نبينا صلى الله عليه وسلم، ولكن جوز على الأنبياء الكذب فيما أتوا به، ادعى في ذلك المصلحة بزعمه، أو لم يدعها فهو كافر بإجماع، كالمتفلسفين، وبعض الباطنية، والروافض، وغلاة المتصوفة، وأصحاب الإباحة فإن هؤلاء زعموا أن ظواهر الشرع، وأكثر ما جاءت به الرسل من الأخبار عما كان، ويكون من أمور الآخرة والحشر؛ والقيامة؛ والجنة، والنار ليس منها شيء على مقتضى لفظها، ومفهوم خطابها، وإنما خاطبوا بها الخلق على جهة المصلحة لهم، إذ لم يمكنهم التصريح لقصور أفهامهم.
فمضمون مقالاتهم إبطال الشرائع، وتعطيل الأوامر والنواهي، وتكذيب الرسل، والارتياب فيما أتوا به، وكذلك من أضاف إلى نبينا صلى الله عليه وسلم تعمد الكذب فيما بلغه وأخبر به، أو شك في صدقه أو سبه، أو قال إنه لم يبلغ أو استخف به، أو بأحد من الأنبياء، أو أزرى عليهم، أو آذاهم، أو قتل نبيًا، أو حاربه فهو كافر بإجماع.
وكذلك نكفر من ذهب مذهب بعض القدماء في أن في كل جنس من الحيوان نذيرًا ونبيًّا، من القردة والخنازير والدواب والدود وغير ذلك، ويحتج بقوله تعالى:{وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَاّ خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] إذ ذلك يؤدي إلى أن يوصف أنبياء هذه الأجناس بصفاتهم المذمومة، وفيه من الإزراء على
هذا المنصف المنيف ما فيه، مع إجماع المسلمين على خلافه، وتكذيب قائله.
وكذلك نكفر من اعترف من الأصول الصحيحة بما تقدم، ونبوة نبينا صلى الله عليه وسلم ولكن قال: كان أسودًا، أو مات قبل أن يلتحي، أو ليس الذي كان بمكة، والحجاز، أو ليس بقرشي، لأن وصفه بغير صفاته المعلومة، نفي له، وتكذيب به.
وكذلك من ادعى نبوة أحد مع نبينا صلى الله عليه وسلم، أو بعده، كالعيسوية من اليهود القائلين بتخصيص رسالته إلى العرب، وكالخرمية القائلين بتواتر الرسل، وكأكثر الرافضة القائلين بمشاركة علي في الرسالة للنبي صلى الله عليه وسلم وبعده، فكذلك كل إمام عند هؤلاء يقوم مقامه في النبوة والحجة، وكالبزيغية، والبيانية منهم القائلين بنبوة بزيغ وبيان، وأشباه هؤلاء، أو من ادعى النبوة لنفسه، أو جوز اكتسابها، والبلوغ بصفاء القلب إلى مرتبتها، كالفلاسفة، وغلاة المتصوفة، وكذلك من ادعى منهم أنه يوحى إليه، وإن لم يدع النبوة أو أنه يصعد إلى السماء، ويدخل الجنة، ويأكل من ثمارها، ويعانق الحور العين، فهؤلاء كلهم كفار مكذبون للنبي صلى الله عليه وسلم، لأنه
أخبر صلى الله عليه وسلم أنه خاتم النبيين، لا نبي بعده، وأخبر عن الله تعالى أنه خاتم النبيين وأنه أرسل كافة للناس، واجتمعت الأمة على حمل هذا الكلام على ظاهره، وأن مفهومه المراد به دون تأويل ولا تخصيص، فلا شك في كفر هؤلاء الطوائف كلها قطعًا إجماعًا وسمعًا.
وكذلك وقع الإجماع على تكفير كل من دافع نص الكتاب، أو خص حديثًا، مجمعًا على نقله، مقطوعًا به، مجمعًا على حمله على ظاهره، كتكفير الخوارج بإبطال الرجم.
ولهذا نكفر من لم يكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو وقف فيهم، أو شك، أو صحح مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلام، واعتقده، واعتقد إبطال كل مذهب سواه، فهو كافر بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك.
وكذلك نقطع بتكفير كل قائل قال قولاً يتوصل به إلى تضليل الأمة، وتكفير جميع الصحابة، كقول الكميلية من الرافضة بتكفير جميع الأمة بعد
النبي صلى الله عليه وسلم إذ لم تقدم عليًا وكفرت عليًا إذ لم يتقدم، ويطلب حقه في التقديم، فهؤلاء قد كفروا من وجوه، لأنهم أبطلوا الشريعة بأسرها، إذ قد انقطع نقلها، ونقل القرآن إذ ناقلوه كفرة على زعمهم، وإلى هذا والله أعلم أشار مالك في أحد قوليه بقتل من كفر الصحابة، ثم كفروا من وجه آخر بسبهم النبي صلى الله عليه وسلم على مقتضى قولهم، وزعمهم أنه عهد إلى علي رضي الله عنه، وهو يعلم أنه يكفر بعده على قولهم، لعنة الله عليهم، وصلى الله على رسوله وآله.
وكذلك نكفر بكل فعل أجمع المسلمون أنه لا يصدر إلا من كافر، وإن كان صاحبه مصرحًا بالإسلام مع فعله ذلك الفعل، كالسجود للصنم وللشمس والقمر والصليب والنار، والسعي إلى الكنائس والبيع مع أهلها والتزيي بزيهم،
من شد الزنانير، فحص الرؤوس (1) فقد أجمع المسلمون أن هذا لا يوجد إلا من كافر، وأن هذه الأفعال علامة على الكفر، وإن صرح فاعلها بالإسلام.
وكذلك أجمع المسلمون على تكفير كل من استحل القتل، أو شرب الخمر، أو الزنا، مما حرم الله بعد علمه بتحريمه، كأصحاب الإباحة من القرامطة، وبعض غلاة المتصوفة.
وكذلك نقطع بتكفير كل من كذب، وأنكر قاعدة من قواعد الشرع، وما عرف يقينًا بالنقل المتواتر من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، ووقع الإجماع المتصل عليه، كمن أنكر وجوب الصلوات الخمس، وعدد ركعاتها، وسجداتها، ويقول إنما أوجب الله علينا في كتابة الصلاة على الجملة، وكونها خمسًا، وعلى هذه الصفات والشروط لا أعلمه، إذ لم يرد فيه في القرآن نص جلي، والخبر به عن الرسول صلى الله عليه وسلم خبر واحد.
وكذلك أجمع على تكفير من قال من الخوارج: إن الصلاة طرفي النهار، وعلى تكفير الباطنية في قولهم: إن الفرائض أسماء رجال أمروا بولايتهم، والخبائث والمحارم أسماء رجال أمروا بالبراءة منهم، وقول بعض المتصوفة: إن العبادة وطول المجاهدة إذا صفت نفوسهم أفضت بهم إلى إسقاطها،
(1) قوله وفحص الرؤوس بفاء مفتوحة وحاء وصاد مهملتين في الصحاح، وفي الحديث فحصوا عن رؤوسهم: كأنهم حلقوا وسطها وتركوها مثل أفاحيص القطا انظر لسان العرب. مادة «فحص» .
وإباحة كل شيء لهم، ورفع عهد الشرائع عنهم، وكذلك إن أنكر منكر مكة، أو البيت، أو المسجد الحرام، أو صفة الحج، أو قال الحج واجب في القرآن، واستقبال القبلة كذلك، ولكن كونه على هذه الهيئة المتعارفة، وأن تلك البقعة هي مكة، والبيت، والمسجد الحرام لا أدري هل هي تلك أو غيرها؟ ولعل الناقلين أن النبي صلى الله عليه وسلم فسرها بهذه التفاسير غلطوا ووهموا، فهذا ومثله لا مرية في تكفيره، إن كان ممن يظن به علم ذلك، وممن خالط المسلمين، وامتدت صحبته لهم، إلا أن يكون حديث عهد بإسلام، فيقال له سبيلك أن تسأل عن هذا الذي لم تعلمه بعد كافة المسلمين فلا تجد بينهم خلافًا، كافة عن كافة إلى معاصر الرسول صلى الله عليه وسلم، أن هذه الأمور كما قيل لك، وأن تلك البقعة هي مكة، والبيت الذي فيها هو الكعبة، والقبلة التي صلى لها الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون، وإن صفات الصلوات المذكورة، هي التي فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وشرح مراد الله بذلك، وأبان حدودها فيقع ذلك العلم كما وقع لهم، ولا ترتاب بذلك بعد، والمرتاب في ذلك والمنكر بعد البحث، وصحبة المسلمين كافر باتفاق، ولا يعذر بقوله لا أدري، لا يصدق فيه، بل ظاهره التستر على التكذيب، إذ لا يمكن أنه لا يدري.
وأيضًا فإنه إذا جوز على جميع الأمة الوهم والغلط فيما نقلوه من ذلك، وأجمعوا أنه قول الرسول وفعله، وتفسير مراد الله به، أدخل الاسترابة في جميع الشريعة إذ هم الناقلون لها، وللقرآن، وانحلت عرى الدين كرة، ومن قال هذا كافر، وكذلك من أنكر القرآن، أو حرفًا منه، أو غير شيئًا منه، أو زاد
فيه، كفعل الباطنية، والإسماعيلية، أو زعم أنه ليس بحجة للنبي صلى الله عليه وسلم، أو ليس فيه حجة، ولا معجزة، كقول هشام الفوطي، ومعمر الصيمري: إنه لا يدل على الله، ولا حجة فيه لرسوله، ولا يدل على ثواب، ولا عقاب، ولا حكم، ولا محالة في كفرهما بذلك القول، وكذلك نكفرهما بإنكارهما أن يكون في سائر معجزات النبي صلى الله عليه وسلم حجة له، أو في خلق السماوات والأرض دليل على الله لمخالفتهم الإجماع، والنقل المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم باحتجاجه بهذا كله، وتصريح القرآن به، وكذلك من أنكر شيئًا، مما نص فيه القرآن بعد علمه أنه من القرآن الذي في أيدي الناس، ومصاحف المسلمين، ولم يكن جاهلاً به، ولا قريب عهد بالإٍسلام، واحتج لإنكاره، إما بأنه لم يصح النقل عنده، ولا بلغه العلم به، أو لتجويز الوهم على ناقله، فنكفره بالطريقين المتقدمين، لأنه مكذب للقرآن، مكذب للنبي صلى الله عليه وسلم، لكنه تستر بدعواه.
وكذلك من أنكر الجنة، أو النار، أو البعث، أو الحساب، أو القيامة فهو كافر بإجماع للنص عليه، وإجماع الأمة على صحة نقله متواترًا، وكذلك من اعترف بذلك، ولكنه قال: إن المراد بالجنة والنار والحشر والنشر والثواب والعقاب: معنى غير ظاهره، وأنها لذات روحانية، ومعان باطنة، كقول النصارى، والفلاسفة، والباطنية، وبعض المتصوفة، وزعم أن معنى القيامة الموت، أو فناء محض، وانتقاض هيئة الأفلاك، وتحليل العالم، كقول بعض الفلاسفة، وكذلك نقطع بتكفير غلاة الرافضة في قولهم: إن الأئمة أفضل من الأنبياء.
فأما من أنكر ما عرف بالتواتر من الأخبار والسير والبلاد، التي لا يرجع إلى إبطال شريعة، ولا يفضي إلى إنكار قاعدة من الدين، كإنكار غزوة تبوك، أو مؤتة، أو وجود أبي بكر وعمر، أو قتل عثمان، أو خلافة علي رضي الله عنهم، مما علم بالنقل ضرورة، وليس في إنكار وجحد شريعة، فلا سبيل إلى تكفيره بجحد ذلك، وإنكار وقوع العلم له، إذ ليس في ذلك أكثر من المباهتة، كإنكار هشام وعباد وقعة الجمل، ومحاربة علي من خالفه.
فأما إن ضعف ذلك من أجل تهمة الناقلين، ووهم المسلمين أجمع، فنكفره بذلك لسريانه إلى إبطال الشريعة.
فأما من أنكر الإجماع المجرد، الذي ليس طريقه النقل المتواتر عن الشارع، فأكثر المتكلمين، ومن الفقهاء، والنظار في هذا الباب قالوا: بتكفير كل من خالف الإجماع الصحيح، الجامع لشروط الإجماع، المتفق عليه عمومًا، وحجتهم قوله تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} [النساء: 115] الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم:«من خالف الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» (1) وحكوا الإجماع على تكفير من خالف الإجماع،
(1) سنن الترمذي (2863) وقال: حديث حسن صحيح غريب، ومسند أحمد (17132) وصححه ابن خزيمة (1895)، وأخرجه الحاكم في المستدرك (259)، وقال حديث صحيح على شرط الشيخين، وقال الذهبي في التلخيص: على شرطهما، وقال الهيثمي: رواه أحمد، ورجاله ثقات، رجال الصحيح خلا علي ابن إسحاق، وهو ثقة / مجمع الزوائد (9094)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي.
وذهب آخرون إلى الوقوف عن القطع بتكفير من خالف الإجماع، الذي يختص بنقل العلماء، وذهب آخرون إلى التوقف في تكفير من خالف الإجماع الكائن عن نظر، كتكفير النظام بإنكاره الإجماع، لأنه بقوله هذا مخالف إجماع السلف على احتجاجهم به خارق للإجماع.
قال القاضي أبو بكر: القول عندي أن الكفر بالله هو الجهل بوجوده، والإيمان بالله هو العلم بوجوده (1)، وأنه لا يكفر أحد بقول ولا رأي إلا أن يكون هو الجهل بالله، فإن عصى بقول، أو فعل نص الله ورسوله، أو أجمع المسلمون أنه لا يوجد إلا من كافر، أو يقوم دليل على ذلك فقد كفر، ليس لأجل قوله أو فعله، لكن لما يقارنه من الكفر.
فالكفر بالله لا يكون إلا بأحد ثلاثة أمور:
أحدها: الجهل بالله تعالى.
والثاني: أن يأتي فعلاً، أو يقول قولاً يخبر الله ورسوله أو يجمع المسلمون أن ذلك لا يكون إلا من كافر، كالسجود للصنم، والمشي إلى الكنائس بالتزام الزنار مع أصحابها في أعيادهم، أو يكون ذلك القول أو الفعل
(1) هذه هي عقيدة الجهم بن صفوان في الإيمان، والتي نصرها الإمام الأشعري، ثم رجع عنها إلى قول أهل السنة في الإيمان، وانظر ما قلناه في هامش صفحتي (294، 295).
لا يمكن معه العلم بالله، قال: فهذان الضربان، وإن لم يكونا جهلاً بالله، فهما علم أن فاعلهما كافر منسلخ من الإيمان.
فأما من نفى صفة من صفات الله تعالى الذاتية، أو جحدها مستبصرًا في ذلك، كقوله: ليس بعالم، ولا قادر، ولا مريد، ولا متكلم، وشبه ذلك من صفات الكمال الواجبة له تعالى، فقد نص أئمتنا على الإجماع على كفر من نفى عنه تعالى الوصف بها، وأعراه عنها، وعلى هذا حمل قول سحنون: من قال: ليس لله كلام فهو كافر، وهو لا يكفر المتأولين كما قدمناه.
فأما من جهل صفة من هذه الصفات فاختلف العلماء ههنا، فكفره بعضهم، وحكي ذلك عن أبي جعفر الطبري وغيره، وقال به أبو الحسن الأشعري مرة؛ وذهب طائفة إلى أن هذا لا يخرجه عن اسم الإيمان، وإليه رجع الأشعري.
قال: لأنه لم يعتقد ذلك اعتقادًا يقطع بصوابه، ويراه دينًا وشرعًا، وإنما يكفر من اعتقد أن مقاله حق.
واحتج هؤلاء بحديث السوداء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما طلب منها التوحيد لا غير (1)، وبحديث القائل:«لئن قدر الله علي» وفي رواية فيه: «لعلي
(1) جاء احد الصحابة رضي الله عنهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريد عتق أمته السوداء فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أين الله؟) قالت: في السماء، قال:(من أنا؟) قالت: أنت رسول الله، قال:(اعتقها فإنها مؤمنة) صحيح مسلم (537)، وسنن النسائي (1203)، وسنن أبي داود (795).
أضل الله ثم قال: فغفر الله له» (1).
قالوا: ولو بوحث أكثر الناس عن الصفات، وكوشفوا عنها لما وجد من يعلمها إلا الأقل، وقد أجاب الآخر عن هذا الحديث بوجوه منها:
أن قدر بمعنى، قدر، ولا يكون شكه في القدرة على إحيائه، بل في نفس البعث، الذي لا يعلم إلا بشرع، ولعله لم يكن ورد عندهم به شرع يقطع عليه، فيكون الشك فيه حينئذ كفرًا، فأما ما لم يرد به شرع فهو من مجوزات العقول.
أو يكون قدر بمعنى: ضيق، وسيكون ما فعله بنفسه إزراء عليها، وغضبًا لعصيانها.
وقيل: إنما قال: ما قاله وهو غير عاقل لكلامه، ولا ضابط للفظه، مما استولى عليه من الجزع والخشية، التي أذهبت لبه فلم يؤاخذ به.
وقيل: كان هذا في زمن الفترة، وحيث ينفع مجرد التوحيد.
وقيل: بل هذا من مجاز كلام العرب، الذي صورته الشك، ومعناه التحقيق، وهو يسمى تجاهل العارف، وله أمثلة في كلامهم كقوله تعالى:{لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] وقوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24].
(1) متفق عليه، صحيح البخاري (7506)، وصحيح مسلم (2756).
فأما من أثبت الوصف، ونفى الصفة فقال: أقول عالم ولكن لا علم له، ومتكلم ولكن لا كلام له، وهكذا في سائر الصفات على مذهب المعتزلة، فمن قال: بالمآل لما يؤديه إليه قوله، ويسوقه إليه مذهبه كفره، لأنه إذا نفى العلم انتفى وصف عالم، إذ لا يوصف بعالم إلا من له بعلم فكأنهم صرحوا عنده بما أدى إليه قولهم، وهكذا عند هذا سائر فرق أهل التأويل، من المشبهة، والقدرية،
وغيرهم.
ومن لم ير أخذهم بمآل قولهم ولا ألزمهم موجب مذهبهم، لم ير إكفارهم، قال: لأنهم إذا وقفوا على هذا، قالوا: لا نقول ليس بعالم، ونحن ننتفي من القول بالمآل الذي ألزمتموه لنا، ونعتقد نحن وأنتم أنه كفر، بل نقول: إن قولنا لا يؤول إليه على ما أصلناه.
فعلى هذين المأخذين اختلف الناس في إكفار أهل التأويل، وإذا فهمته اتضح لك الموجب لاختلاف الناس في ذلك، والصواب ترك إكفارهم، والإعراض عن الحتم عليهم بالخسران، وإجراء حكم الإسلام عليهم في قصاصهم، ووراثاتهم، ومناكحاتهم، ودياتهم، والصلاة عليهم، ودفنهم في مقابر المسلمين، وسائر معاملاتهم، لكنهم يغلظ عليهم بوجيع الأدب، وشديد الزجر، والهجر حتى يرجعوا عن بدعتهم، وهذه كانت سيرة الصدر الأول فيهم، فقد
كان نشأ على زمن الصحابة، وبعدهم في التابعين من قال بهذه الأقوال، من القدر ورأي الخوارج، والاعتزال، فما أزاحوا لهم قبرًا،
ولا قطعوا لأحد منهم ميراثًا، لكنهم هجروهم، وأدبوهم بالضرب، والنفي والقتل على قدر أحوالهم، لأنهم فساق ضلال عصاة، أصحاب كبائر عند المحققين، وأهل السنة، ممن لم يقل بكفرهم منهم، خلافًا لمن رأى غير ذلك والله الموفق
للصواب.
قال القاضي أبو بكر: وأما مسائل الوعد، والوعيد، والرؤية، والمخلوق (1)، وخلق الأفعال، وبقاء الأعراض، والتولد، وشبهها من الدقائق، فالمنع في إكفار المتأولين فيها أوضح، إذ ليس في الجهل بشيء منها، جهل بالله تعالى، ولا أجمع المسلمون على إكفار من جهل شيئًا منه، وقد قدمنا في الفصل قبله من الكلام، وصورة الخلاف في هذا ما أغنى عن إعادته بحول الله تعالى» (2).
وقال الإمام الحجاوي المقدسي مبينًا مذهب الحنابلة في نواقض الإسلام، ومسائل الردة: «باب حكم المرتد، وهو الذي يكفر بعد إسلامه، ولو مميزًا طوعًا، ولو هازلاً.
فمن أشرك بالله، أو جحد ربوبيته، أو وحدانيته، أو صفة من صفاته، أو اتخذ له صاحبة، أو ولدًا، أو ادعى النبوة، أو صدق من ادعاها، أو جحد نبيًا، أو كتابًا من كتب الله أو شيئًا منه، أو جحد الملائكة، أو البعث، أو
(1) أي القول بمسألة خلق القرآن.
(2)
الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم (2/ 282 - 295).
سب الله، أو رسوله، أو استهزأ بالله، أو كتبه، أو رسله.
قال الشيخ (1) أو كان مبغضًا لرسوله، أو لما جاء به اتفاقًا، وقال: أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم، ويدعوهم، ويسألهم كفر إجماعًا انتهى.
أو سجد لصنم، أو شمس، أو قمر، أو أتى بقول، أو فعل صريح في الاستهزاء بالدين، أو وجد منه امتهان القرآن أو طلب تناقضه، أو دعوى أنه مختلف، أو مختلق، أو مقدور على مثله، أو إسقاط لحرمته، أو أنكر الإسلام، أو الشهادتين، أو أحدهما كفر؛ لا من حكى كفرًا سمعه ولا يعتقده؛ أو نطق بكلمة الكفر ولم يعلم معناها، ولا من جرى على لسانه سبقًا من غير قصد لشدة فرح، أو دهش، أو غير ذلك.
كقول من أراد أن يقول: «اللهم أنت ربي وأنا عبدك، فقال أنت عبدي وأنا ربك» (2).
ومن أطلق الشارع كفره فهو كفر لا يخرج به عن الإسلام: «كدعواهم لغير أبيهم» ، «وكمن أتى عرافًا فصدقه بما يقول» فهو تشديد وكفر، لا يخرج به عن الإسلام» (3).
(1) هو ابن تيمية -رحمه الله تعالى-.
(2)
صحيح مسلم (2747).
(3)
هذا محمول بلا ريب على الأحاديث التي تأولها العلماء أنها في الشرك الأصغر كالأمثلة التي ضربها المصنف.
وإن أتى بقول يخرجه عن الإسلام، مثل أن يقول: هو يهودي، أو نصراني أو مجوسي، أو بريء من الإسلام، أو القرآن، أو النبي عليه الصلاة والسلام، أو يعبد الصليب، ونحو ذلك على ما ذكروه في الإيمان، أو قذف النبي صلى الله عليه وسلم، أو أمه، أو اعتقد قدم العالم، أو حدوث الصانع، أو سخر بوعد الله، أو بوعيده، أو لم يكفر من دان بغير الإسلام كالنصارى، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم، أو قال قولاً يتوصل به إلى تضليل الأمة، أو تكفير الصحابة
فهو كافر.
وقال الشيخ: من اعتقد أن الكنائس بيوت الله، وأن الله يعبد فيها، وأن ما يفعل اليهود والنصارى عبادة لله، وطاعة له ولرسوله، أو أنه يحب ذلك، أو يرضاه، أو أعانهم على فتحها، وإقامة دينهم، وأن ذلك قربة، أو طاعة فهو كافر.
وقال في موضع آخر: من اعتقد أن زيارة أهل الذمة كنائسهم قربة إلى الله فهو مرتد، وإن جهل أن ذلك محرم عرف ذلك، فإن أصر صار مرتدًا.
وقال: قول القائل ما ثم إلا الله: إن أراد ما يقوله أهل الاتحاد: من أن ما ثم موجود إلا الله، ويقولون: أن وجود الخالق هو وجود المخلوق، والخالق هو المخلوق، والمخلوق هو الخالق، والعبد هو الرب، والرب هو العبد، ونحو ذلك من المعاني، وكذلك الذين يقولون: إن الله تعالى بذاته في كل مكان،
ويجعلونه مختلطًا بالمخلوقات، يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وقال:
من اعتقد أن لأحد طريقًا إلى الله، من غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم، أو لا يجب عليه اتباعه، وأن له أو لغيره خروجًا عن اتباعه وأخذ ما بعث به، أو قال: أنا
محتاج إلى محمد في علم الظاهر دون علم الباطن، أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة، أو قال: إن من الأولياء من يسعه الخروج من شريعته، كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى، أو أن هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه
فهو كافر.
وقال: من ظن أن قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] بمعنى قدر فإن الله ما قدر شيئًا إلا وقع، وجعل عباد الأصنام ما عبدوا إلا الله فإن هذا من أعظم الناس كفرًا بالكتب كلها.
وقال: من استحل الحشيشة كفر بلا نزاع، وقال: لا يجوز لأحد أن يلعن التوراة، ومن أطلق لعنها يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وإن كان ممن يعرف أنها منزلة من عند الله، وأنه يجب الإيمان بها فهذا يقتل بشتمه لها، ولا تقبل توبته في أظهر قولي العلماء، وأما من لعن دين اليهود، الذي هم عليه في هذا الزمان فلا بأس عليه في ذلك، وكذلك إن سب التوراة التي عندهم، بما يبين أن قصده ذكر تحريفها، مثل أن يقال: نسخ هذه التوراة مبدلة لا يجوز العمل بما فيه، ومن عمل اليوم بشرائعها المبدلة، والمنسوخة فهو كافر، فهذا الكلام ونحوه حق لا شيء على قائله.
فصل- وقال: ومن سب الصحابة، أو أحدًا منهم، واقترن بسبه دعوى أن عليًا إله، أو نبي، وأن جبريل غلط، فلا شك في كفر هذا، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره، وكذلك من زعم أن القرآن ينقص منه شيء
وكتم، أو أن له تأويلات باطنة تسقط الأعمال المشروعة، ونحو ذلك، وهذا قول القرامطة، والباطنية، ومنهم التناسخية، ولا خلاف في كفر هؤلاء كلهم، ومن قذف عائشة رضي الله عنها، بما برأها الله منه كفر بلا خلاف، ومن سب غيرها من أزواجه صلى الله عليه وسلم ففيه قولان:
أحدهما: أنه كسب واحد من الصحابة.
والثاني: وهو الصحيح أنه كقذف عائشة رضي الله عنها.
وأما من سبهم سبًا لا يقدح في عدالتهم، ولا بدينهم مثل: من وصف بعضهم ببخل، أو جبن، أو قلة علم، أو عدم زهد، ونحوه فهذا يستحق التأديب والتعزير، ولا يكفر.
وأما من لعن وقبح مطلقًا فهذا محل الخلاف، أعني: هل يكفر أو يفسق، توقف أحمد في كفره، وقتله، وقال: يعاقب، ويجلد، ويحبس حتى يموت، أو يرجع عن ذلك، وهذا المشهور من مذهب مالك، وقيل: يكفر إن استحله؛ والمذهب يعزر، كما تقدم أول باب التعازير.
وفي الفتاوى المصرية: يستحق العقوبة البليغة باتفاق المسلمين، وتنازعوا هل يعاقب بالقتل أو ما دون القتل؟
وقال: أما من جاوز ذلك كمن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا نفرًا قليلاً لا يبلغون بضعة عشر، وأنهم فسقوا، فلا ريب أيضًا في كفر قائل ذلك، بل من شك في كفره فهو كافر، انتهى ملخصًا من الصارم المسلول.
ومن أنكر أن يكون أبو بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كفر، لقوله تعالى:{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} [التوبة: 40]، وإن جحد وجوب العبادات الخمس، أو شيئًا منها، ومنها الطهارة؛ أو حل الخبز واللحم والماء، أو أحل الزنا ونحوه، أو ترك الصلاة، أو شيئًا من المحرمات الظاهرة، المجمع على تحريمها كلحم الخنزير، والخمر، وأشباه ذلك أو شك فيه، ومثله لا يجهله -كفر.
وإن استحل قتل المعصومين، وأخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل كفر، وإن كان بتأويل كالخوارج، لم يحكم بكفرهم، مع استحلالهم دماء المسلمين وأموالهم، متقربين بذلك إلى الله تعالى، وتقدم في المحاربين.
والإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت مع الاستطاعة، وصوم رمضان؛ فمن أنكر ذلك، أو بعضه لم يكن مسلمًا.
ومن ترك شيئًا من العبادات الخمس تهاونًا، فإن عزم على أن لا يفعله أبدًا استتيب -عارفًا- وجوبًا كالمرتد، وإن كان جاهلاً عرف، فإن أصر قتل حدًا ولم يكفر، إلا بالصلاة إذا دعي إليها، وامتنع، أو شرط أو ركن مجمع عليه فيقتل كفرًا، وتقدم في كتاب الصلاة.
ومن شفع عنده في رجل فقال: لو جاء النبي صلى الله عليه وسلم يشفع فيه ما قبلت منه. إن تاب بعد القدرة عليه قتل، لا قبلها» (1).
(1) الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل (4/ 297 - 301).