الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
.............................................................
ــ
الله فتعبدوه وحده لا شريك له، وتخلعوا ما تعبدون معه من الأوثان والأنداد» (1).
وقال الإمام أبو بكر الجصاص -رحمه الله تعالى-: «قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} الآية، وقوله: {وَالَّذِينَ مَعَهُ} قيل فيه: الأنبياء، وقيل: الذين آمنوا معه فأمر الله الناس بالتأسي بهم في إظهار معاداة الكفار، وقطع الموالاة بيننا وبينهم بقوله: {إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا}، فهذا حكم قد تعبد المؤمنون به» (2).
«حكم الإكراه على موالاة المشركين وحدوده»
إذا خاف المسلم من شر الكفار وكانوا غالبين ظاهرين، فرخص له أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه، وبجوارحه لا بقلبه، من غير أن يستحل دمًا حرامًا أو مالاً حرامًا، ومن غير أن يظهر الكفار على عورات المسلمين، فإن فعل غير ذلك، ووالى الكفار من دون المؤمنين اختيارًا فقد انقطعت كل الروابط والصلات بينه وبين الله لارتداده عن دينه، ولنصرته للكفار على المؤمنين.
قال الله تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى
(1) تفسير القرآن العظيم (8/ 87).
(2)
أحكام القرآن (9/ 51).
...............................................................
ــ
اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28].
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: «نهى الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين، وأن يتخذوهم أولياء يسرون إليهم بالمودة من دون المؤمنين ثم توعد على ذلك فقال:{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} أي: من يرتكب نهي الله في هذا فقد برئ من الله.
وقوله: {إِلَاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} أي: إلا من خاف في بعض البلدان أو الأوقات من شرهم، فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته، كما حكاه البخاري عن أبي الدرداء أنه قال:(إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا تلعنهم)(1).
وقال الثوري: قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان، وكذا رواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: إنما التقية باللسان، وكذا قال أبو العالية، وأبو الشعثاء، والضحاك، والربيع بن أنس، ويؤيد ما قالوه قول الله تعالى:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]» (2).
وقال الإمام البغوي مبينًا حد التقية، والمحاذير التي ينبغي عدم الوقوع فيها عند الاضطرار إليها: «قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} أي: موالاة الكفار في نقل الأخبار إليهم، وإظهارهم على عورة المسلمين. {فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي
(1) ذكره البخاري معلقًا في صحيحه في كتاب الأدب، باب المداراة مع الناس.
(2)
تفسير القرآن العظيم (2/ 30).
...............................................................
ــ
شَيْءٍ} أي: ليس من دين الله في شيء، ثم استثنى فقال:{إِلَاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} يعني: إلا أن تخافوا منهم مخافة
…
ومعنى الآية: أن الله تعالى نهى المؤمنين عن موالاة الكفار ومداهنتهم ومباطنتهم، إلا أن يكون الكفار غالبين ظاهرين، أو يكون المؤمن في قوم كفار يخافهم فيداريهم باللسان، وقلبه مطمئن بالإيمان دفعًا عن نفسه، من غير أن يستحل دمًا حرامًا أو مالاً حرامًا، أو يظهر الكفار على عورة المسلمين.
والتقية لا تكون إلا مع خوف القتل وسلامة النية، قال الله تعالى:{إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ} [النحل: 106] ثم هذا رخصة، فلو صبر حتى قتل فله أجر عظيم، وأنكر قوم التقية اليوم. قال معاذ بن جبل ومجاهد: كانت التقية في بدو الإسلام قبل استحكام الدين وقوة المسلمين، وأما اليوم فقد أعز الله الإسلام، فليس ينبغي لأهل الإسلام أن يتقوا من عدوهم؛ وقال يحيى البكاء: قلت لسعيد بن جبير في أيام الحجاج: إن الحسن كان يقول لكم: التقية باللسان والقلب مطمئن بالإيمان، فقال سعيد: ليس في الإسلام تقية، إنما التقية في أهل الحرب {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} أي: يخوفكم الله عقوبته على موالاة الكفار، وارتكاب المنهي عنه، ومخالفة المأمور» (1).
وقال الإمام الشنقيطي -رحمه الله تعالى- مبينًا حدود التقية، وكيفية استخدامها: «قوله تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ
(1) تفسير معالم التنزيل (2/ 25).
...............................................................
ــ
يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28]، فهذه الآية الكريمة فيها بيان لكل الآيات القاضية بمنع موالاة الكفار مطلقًا وإيضاح، لأن محل ذلك في حالة الاختيار، وأما عند الخوف والتقية فيرخص في موالاتهم بقدر المداراة التي يكتفي بها شرهم، ويشترط في ذلك سلامة الباطن من تلك الموالاة.
ومن يأتي الأمور على اضطرار
…
فليس كمثل آتيها اختيارًا
ويفهم من ظواهر هذه الأبيات: أن من تولى الكفار عمدًا اختيارًا، رغبة فيهم أنه كافر مثلهم» (1).
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله تعالى- في ذات المعنى السابق: «وهذا نهي من الله تعالى للمؤمنين عن موالاة الكافرين بالمحبة والنصرة، والاستعانة بهم على أمر من أمور المسلمين، وتوعد على ذلك فقال:{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} أي: فقد انقطع عن الله، وليس له في دين الله نصيب؛ لأن موالاة الكافرين لا تجتمع مع الإيمان، لأن الإيمان يأمر بموالاة الله وموالاة أوليائه المؤمنين المتعاونين على إقامة دين الله وجهاد أعدائه، قال تعالى:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]، فمن والى الكافرين من دون المؤمنين، الذين يريدون أن يطفئوا نور الله ويفتنوا أولياءه خرج من حزب المؤمنين، وصار من حزب
(1) أضواء البيان (1/ 437).
.............................................................
ــ
الكافرين، قال تعالى:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]، وفي هذه الآية دليل على الابتعاد عن الكفار، وعن معاشرتهم وصداقتهم، والميل إليهم والركون إليهم، وأنه لا يجوز أن يولى كافر ولاية من ولايات المسلمين، ولا يستعان به على الأمور التي هي مصالح لعموم المسلمين، قال الله تعالى:{إِلَاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} أي: تخافوهم على أنفسكم، فيحل لكم أن تفعلوا ما تعصمون به دماءكم من التقية باللسان، وإظهار ما به تحصل التقية» (1).
وقال الإمام أبو بكر الجصاص في باين حدود العلاقة بين المؤمنين والكافرين، ومتى تجوز التقية «قال ابن عباس رضي الله عنهما: «نهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية أن يلاطفوا الكفار -ثم أخذ في ذكر آيات وأحاديث دالة على حرمة موالاة المشركين حتى قال- فهذه الآي والآثار دالة: على أنه ينبغي أن يعامل الكفار بالغلظة والجفوة دون الملاطفة والملاينة، ما لم تكن حالا يخاف فيها على تلف نفسه، أو تلف بعض أعضائه، أو ضررًا كبيرًا يلحقه في نفسه، فإنه إذا خاف ذلك جاز له إظهار الملاطفة والموالاة من غير صحة اعتقاد
…
وقوله تعالى: {إِلَاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} يعني: أن تخافوا تلف النفس وبعض الأعضاء، فتتقوهم بإظهار الموالاة من غير اعتقاد لها» (2).
وهذا الإمام العلامة سليمان بن عبد الله يحشد عددًا من الأدلة الصحيحة
(1) تفسير السعدي (1/ 127).
(2)
أحكام القرآن (3/ 388).
................................................................
ــ
الصريحة في كفر من والى المشركين خوف الدوائر، أو لأجل دنيا فانية، وبين رحمه الله ردة كل من وقع في هذا الأمر الشنيع، ولو لم يتغير اعتقاده في الباطن بصحة الإسلام وببطلان كل ما دونه من الأديان، قال الشيخ سليمان ابن عبد الله -رحمهما الله تعالى-: «بسم الله الرحمن الرحيم اعلم رحمك الله: أن الإنسان إذا أظهر للمشركين الموافقة على دينهم خوفًا منهم، ومدارة لهم، ومداهنة لدفع شرهم، فإنه كافر مثلهم؛ وإن كان يكره دينهم ويبغضهم، ويحب الإسلام والمسلمين، هذا إذا لم يقع منه إلا ذلك، فكيف إذا كان في دار منعة واستدعى بهم، ودخل في طاعتهم، وأظهر الموافقة على دينهم الباطل، وأعانهم عليه بالنصرة والمال ووالاهم، وقطع الموالاة بينه وبين المسلمين، وصار من جنود القباب والشرك وأهلها؛ بعدما كان من جنود الإخلاص والتوحيد وأهله.
فإن هذا لا يشك مسلم أنه كافر، من أشد الناس عداوة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يستثنى من ذلك إلا المكره، وهو الذي يستولي عليه المشركون فيقولون له: اكفر أو افعل كذا وإلا فعلنا بك وقتلناك، أو يأخذونه فيعذبونه حتى يوافقهم، فيجوز له الموافقة باللسان مع طمأنينة القلب بالإيمان.
وقد أجمع العلماء: على أن من تكلم الكفر هازلاً أنه يكفر، فكيف بمن أظهر الكفر خوفًا وطمعًا في الدنيا، وأنا أذكر بعض الأدلة على ذلك بعون الله وتأييده.
الدليل الأول: قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} ، فأخبر تعالى أن اليهود والنصارى، وكذلك المشركين لا يرضون عن
................................................................
ــ
النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتبع ملتهم، ويشهد أنهم على حق، ثم قال:{قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120] وفي الآية الأخرى: {إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 145].
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لو يوافقهم على دينهم ظاهرًا من غير عقيدة القلب، لكن خوفًا من شرهم ومداهنة، كان من الظالمين، فكيف بمن أظهر لعباد القبور والقباب، أنهم على حق وهدى مستقيم، فإنهم لا يرضون إلا بذلك.
الدليل الثاني: قوله تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217] فأخبر تعالى أن الكفار لا يزالون يقاتلون المسلمين حتى يردوهم عن دينهم إن استطاعوا، ولم يرخص في موافقتهم خوفًا على النفس والمال والحرمة.
بل أخبر عمن وافقهم بعد أن قاتلوه ليدفع شرهم، أنه مرتد، فإن مات على ردته بعد أن قاتله المشركون، فإنه من أهل النار الخالدين فيها، فكيف بمن وافقهم من غير قتال؟ فإذا كان من وافقهم بعد أن قاتلوه لا عذر له، عرفت أن الذين يأتون إليهم ويسارعون في الموافقة لهم من غير خوف ولا قتال، أنهم أولى بعدم العذر، وأنهم كفار مرتدون.
الدليل الثالث: قوله تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ
..............................................................
ــ
الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28] فنهى سبحانه المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء وأصدقاء وأصحابًا من دون المؤمنين، وإن كانوا خائفين منهم وأخبر أن من فعل ذلك فليس من الله في شيء، أي: لا يكون من أولياء الله الموعودين بالنجاة في الآخرة: {إِلَاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} وهو: أن يكون الإنسان مقهورًا معهم لا يقدر على عداوتهم، فيظهر لهم المعاشرة وقلبه مطمئن بالبغضاء والعداوة، وانتظار زوال المانع، فإذا زال رجع إلى العداوة والبغضاء، فكيف بمن اتخذهم أولياء من دون المؤمنين من غير عذر، إلا استحباب الدنيا على الآخرة، والخوف من المشركين، وعدم الخوف من الله؟ فما جعل الله الخوف منهم عذرًا، بل قال تعالى:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175].
الدليل الرابع: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران: 149]، فأخبر تعالى: أن المؤمنين إن أطاعوا الكفار فلا بد أن يردوهم على أعقابهم عن الإسلام، فإنهم لا يقنعون منهم بدون الكفر، وأخبر أنهم إن فعلوا ذلك صاروا من الخاسرين في الدنيا والآخرة، ولم يرخص في موافقتهم وطاعتهم خوفًا منهم.
وهذا هو الواقع، فإنهم لا يقنعون ممن وافقهم إلا بالشهادة أنهم على حق، وإظهار العداوة والبغضاء للمسلمين، وقطع اليد منهم؛ ثم قال تعالى:
................................................................
ــ
{بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران: 150] فأخبر تعالى أنه ولي المؤمنين وناصرهم، وهو خير الناصرين، ففي ولايته وطاعته كفاية وغنية عن طاعة الكفار.
فياحسرة على العباد الذي عرفوا التوحيد ونشؤوا فيه ودانوا به زمانًا، كيف خرجوا عن ولاية رب العالمين وخير الناصرين، إلى ولاية القباب وأهلها، ورضوا بها بدلاً من ولاية من بيده ملكوت كل شيء، بئس للظالمين بدلاً ..
الدليل الخامس: قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [النحل: 106 - 107] فحكم تعالى حكمًا لا يبدل: أن من رجع عن دينه إلى الكفر فهو كافر، سواء كان له عذر خوفًا على نفس أو مال أو أهل أم لا، وسواء كفر بباطنه وظاهره، أم بباطنه دون ظاهره، وسواء كفر بفعاله أو مقاله، أو بأحدهما دون الآخر، وسواء كان طامعًا في دنيا ينالها من المشركين أم لا، فهو كافر على كل حال، إلا المكره، وهو في لغتنا: المغصوب.
فإذا أكره إنسان على الكفر، أو قيل له أكفر وإلا قتلناك، أو ضربناك، أو أخذه المشركون فضربوه، ولم يمكنه التخلص إلا بموافقتهم، جاز له موافقتهم في الظاهر، بشرط أن يكون قلبه مطمئنًا بالإيمان، أي ثابتًا عليه معتقدًا له، فأما إن وافقهم بقلبه، فهو كافر ولو كان مكرهًا.
................................................................
ــ
وظاهر كلام أحمد: أنه في الصورة الأولى، لا يكون مكرهًا حتى يعذبه المشركون، فإنه لما دخل عليه يحيى بن معين وهو مريض، فسلم عليه فلم يرد عليه السلام، فما زال يعتذر ويقول حديث عمار، وقال الله:{إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} فقلب أحمد وجهه إلى الجانب الآخر، فقال يحيى: لا يقبل عذرًا، فلما خرج يحيى، قال أحمد: يحتج بحديث عمار، وحديث عمار مررت بهم وهم يسبونك، فنهيتهم فضربوني، وأنتم: قيل لكم نريد أن نضربكم؛ فقال يحيى: والله ما رأيت تحت أديم السماء أفقه في دين الله منك.
ثم أخبر تعالى: أن هؤلاء المرتدين الشارحين صدورهم بالكفر، وإن كانوا يقطعون على الحق، ويقولون: ما فعلنا هذا إلا خوفًا، فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم.
ثم أخبر تعالى: أن سبب هذا الكفر والعذاب، ليس بسبب الاعتقاد للشرك، أو الجهل بالتوحيد، أو البغض للدين، أو محبة الكفر، وإنما سببه أن له في ذلك حظًا من حظوظ الدنيا فآثره على الآخرة؛ وعلى رضا رب العالمين، فقال:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} فكفرهم تعالى، وأخبر أنه لا يهديهم مع كونهم يعتذرون بمحبة الدنيا، ثم أخبر تعالى: أن هؤلاء المرتدين لأجل استحباب الدنيا على الآخرة، هم الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، وأنهم الغافلون؛ ثم أخبر خبرًا مؤكدًا محققًا: أنهم في الآخرة هم الخاسرون.
..............................................................
ــ
الدليل السادس: قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11] فأخبر تعالى: أن من الناس من يعبد الله على حرف، أي على طرف، فإن أصابه خير، أي نصر وعز وصحة وسعة وأمن وعافية، ونحو ذلك اطمأن به، أي ثبت، وقال: هذا دين حسن ما رأينا فيه إلا خيرًا، وإن أصابته فتنة، أي: خوف ومرض وفقر ونحو ذلك انقلب على وجهه، أي: ارتد عن دينه، ورجع إلى أهل الشرك.
فهذه الآية مطابقة لحال المنقلبين عن دينهم في هذه الفتنة سواء بسواء. فإنهم قبل هذه الفتنة يعبدون الله على حرف، أي: على طرف، ليسوا ممن يعبد الله على يقين وثبات، فلما أصابتهم هذه الفتنة انقلبوا عن دينهم، وأظهروا الموافقة للمشركين، وأعطوهم الطاعة، وخرجوا عن جماعة المسلمين إلى جماعة المشركين، فهم معهم في الآخرة كما هم معهم في الدنيا، فخسروا:{الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} هذا مع أن كثيرًا منهم في عافية ما أتاهم من عدو، وإنما ساء ظنهم بالله، فظنوا أنه يديل الباطل وأهله على الحق وأهله، فأرداهم سوء ظنهم بالله، كما قال تعالى:{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 23].
وأنت: يا من مَنَّ الله عليه بالثبات على الإسلام، احذر أن يدخل في قلبك شيء من الريب، أو تحسين هؤلاء المرتدين، وأن موافقتهم للمشركين وإظهار
................................................................
ــ
طاعتهم رأيًا حسنًا، حذرًا على النفس والأموال والمحارم، فإن هذه الشبهة هي التي أوقعت كثيرًا من الأولين والآخرين في الشرك بالله، ولم يعذرهم الله بذلك، وإلا فكثير منهم يعرفون الحق ويعتقدونه بقلوبهم، وإنما يدينون لله بالشرك للأعذار الثمانية التي ذكرها الله في كتابه، أو لبعضها، فلم يعذر بها أحدًا ولا ببعضها، فقال:{قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].
الدليل السابع: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 25 - 28] فذكر تعالى عن المرتدين على أدبارهم: أنهم من بعدما تبين لهم الهدى ارتدوا على علم فلم ينفعهم علمهم بالحق مع الردة، وغرهم الشيطان بتسويله وتزيين ما ارتكبوه من الردة.
الدليل الثامن: قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22] فأخبر تعالى: أنك لا تجد من كان يؤمن بالله
................................................................
ــ
واليوم الآخر يواد من حاد الله ورسوله، ولو كان أقرب قريب، وأن هذا مناف للإيمان مضاد له، لا يجتمع هو والإيمان إلا كما يجتمع الماء والنار، وقد قال تعالى في موضع آخر:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة: 23].
ففي هاتين الآيتين: البيان الواضح أنه لا عذر لأحد في الموافقة على الكفر، خوفًا على الأموال والآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشائر ونحو ذلك مما يعتذر به كثير من الناس، إذا كان لم يرخص لأحد في موالاتهم، واتخاذهم أولياء بأنفسهم، خوفًا منهم وإيثارًا لمرضاتهم، فكيف بمن اتخذ الكفار الأباعد أولياء وأصحابًا، وأظهر لهم الموافقة على دينهم خوفًا على بعض هذه الأمور، ومحبة لها، ومن العجب: استحسانهم لذلك، واستحلالهم له، فجمعوا مع الردة استحلال الحرام
…
وأيضًا: فليس الخوف بعذر كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10] فلم يعذر الله تبارك وتعالى من يرجع عن دينه عند الأذى والخوف، فكيف بمن لم يصبه أذى ولا خوف، وإنما جاء إلى الباطل محبة له وخوفًا من الدوائر، والأدلة على هذا كثير، وفي هذا كفاية لمن أراد الله هدايته.
وأما من أراد الله فتنته وضلالته، فكما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ}
.............................................................
ــ
[يونس: 96، 97] فنسأل الله الكريم المنان: أن يحينا مسلمين، وأن يتوفانا مسلمين، وأن يلحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، برحمته وهو أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد» (1).
هذا هو هدي القرآن، وفقه شريعة الرحمن، وتلك هي نصوص علماء الأمة وأئمتها. تنص وترشد وتبين: ما يجوز فعله وما لا يجوز، وقت علو الكفار وغلبتهم على المسلمين.
فيجوز للمسلم المستضعف إذا خاف على نفسه تلف عضو من أعضائها أن يظهر بعض الملاطفة، والموالاة بظاهره وجوارحه، دون باطنه وقلبه، بقدر يدفع به عن نفسه شر الكفار وأذاهم.
ولكن لا يجوز له بحال أن يعين -فضلاً عن أن يباشر- على سفك دم حرام، أو أخذ مال حرام، أما من يقوم بنصرة الكفار ودلهم على عورات المسلمين، أو يسهل لهم هذا حتى يأمن هو على نفسه وماله وعرضه، وحتى تسلم له دنياه
…
فمن فعل هذا فليس من الله في شيء لارتداده عن دينه، ولمروقه من ملة المسلمين.
وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء لسعيه في معاداة دينه، وإطفاء نور شريعته، وإظهار شرائع الكفار عليها.
(1) الدرر السنية (8/ 121 - 143).
.............................................................
ــ
وليس من المؤمنين في شيء لسعيه في محاربتهم، والعمل على كسر شوكتهم، ولعلو أهل الكفر عليهم.
«حكم من قاتل في صفوف المشركين ضد المسلمين»
طرح الإمام ابن حزم -رحمه الله تعالى- مسألة ثم قام بالإجابة عليها بالتفصيل، فقال رحمه الله تعالى: «مسألة: من صار مختارًا إلى أرض الحرب، مشاقًا للمسلمين أمرتد هو بذلك أم لا؟ ومن اعتضد بأهل الحرب على أهل الإسلام -وإن لم يفارق دار الإسلام- أمرتد هو بذلك أم لا؟
ثم أخذ يذكر الأدلة على جوابه حتى قال -رحمه الله تعالى-: فصح بهذا أن من لحق بدار الكفر والحرب مختارًا محاربًا لمن يليه من المسلمين، فهو بهذا الفعل مرتد له أحكام المرتد كلها من: وجوب القتل عليه متى قدر عليه، ومن إباحة ماله، وانفساخ نكاحه، وغير ذلك، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبرأ من مسلم (1).
وأما من فر إلى أرض الحرب لظلم خافه، ولم يحارب المسلمين، ولا أعانهم عليهم، ولم يجد في المسلمين من يجيره، فهذا لا شيء عليه، لأنه
(1) يشير بذلك إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين» الحديث. أخرجه الترمذي (1604)، وأبو داود (2274)، والنسائي (4698)، روي مرسلاً وموصولاً ورجح الإمام البخاري إرساله، انظر سنن الترمذي، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2304).
................................................................
ــ
مضطر مكره.
وقد ذكرنا: أن الزهري محمد بن مسلم بن شهاب كان عازمًا على أنه إن مات هشام بن عبد الملك لحق بأرض الروم، لأن الوليد بن زيد كان نذر دمه إن قدر عليه، وهو كان الوالي بعد هشام فمن كان هكذا فهو معذور.
وكذلك: من سكن بأرض الهند، والسند، والصين، والترك، والسودان، والروم، من المسلمين، فإن كان لا يقدر على الخروج من هنالك لثقل ظهر، أو لقلة مال، أو لضعف جسم، أو لامتناع طريق، فهو معذور.
فإن كان هناك محاربًا للمسلمين معينًا للكفار بخدمة، أو كتابة فهو كافر، وإن كان إنما يقيم هنالك لدنيا يصيبها وهو كالذمي لهم، وهو قادر على اللحاق بجمهرة المسلمين وأرضهم، فما يبعد عن الكفر، وما نرى له عذرًا، ونسأل الله العافية.
وليس كذلك: من سكن في طاعة أهل الكفر من الغالية، ومن جرى مجراهم، لأن أرض مصر والقيروان، وغيرهما فالإسلام هو الظاهر، وولاتهم على كل ذلك لا يجاهرون بالبراءة من الإسلام، بل إلى الإسلام ينتمون، وإن كانوا في حقيقة أمرهم كفارًا.
وأما من سكن في أرض القرامطة مختارًا فكافر بلا شك، لأنهم معلنون بالكفر وترك الإسلام - ونعوذ بالله من ذلك.
...............................................................
ــ
وأما من سكن في بلد تظهر فيه بعض الأهواء المخرجة إلى الكفر، فهو ليس بكافر، لأن اسم الإسلام هو الظاهر هنالك على كل حال، من التوحيد، والإقرار برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، والبراءة من كل دين غير الإسلام، وإقامة الصلاة، وصيام رمضان، وسائر الشرائع التي هي الإسلام والإيمان والحمد لله رب العالمين.
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا بريء من كل مسلم أقام بين أظهر المشركين» (1) يبين ما قلناه، وأنه عليه السلام إنما عني بذلك دار الحرب، وإلا فقد استعمل عليه السلام عماله على خيبر، وهم كلهم يهود.
وإذا كان أهل الذمة في مدائنهم لا يمازجهم غيرهم فلا يسمى الساكن فيهم -لإمارة عليهم، أو لتجارة بينهم- كافرًا، ولا مسيئًا، بل هو مسلم حسن، ودارهم دار إسلام لا دار شرك، لأن الدار إنما تنسب للغالب عليها، والحاكم فيها، والمالك لها.
ولو أن كافرًا مجاهدًا غلب على دار من دور الإسلام، وأقر المسلمين بها على حالهم، إلا أنه هو المالك لها، المنفرد بنفسه في ضبطها، وهو معلن بدين غير الإسلام لكفر بالبقاء معه كل من عاونه، وأقام معه - وإن ادعى أنه
(1) سنن أبي داود (2274)، وسنن الترمذي (1604)، ورجح الإمامان أبو داود والترمذي تبعًا لجبل الحفظ الإمام البخاري إرساله، وقد رواه البيهقي موصولاً، انظر السلسلة الصحيحة (636).
...............................................................
ــ
مسلم - لما ذكرنا.
وأما من حملته الحمية من أهل الثغر من المسلمين فاستعان بالمشركين الحربيين، وأطلق أيديهم على قتل من خالفه من المسلمين، أو على أخذ أموالهم، أو سبيهم، فإن كانت يده هي الغالبة وكان الكفار له كأتباع، فهو هالك في غاية الفسوق، ولا يكون بذلك كافرًا، لأنه لم يأت شيئًا أوجب به عليه كفرًا: قرآن أو إجماع، وإن كان حكم الكفار جاريًا عليه فهو بذلك كافر على ما ذكرنا، فإن كانا متساويين، لا يجري حكم أحدهما على الآخر فما نراه بذلك كافرًا -والله أعلم- وإنما الكافر الذي برئ منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو المقيم بين أظهر المشركين. وبالله تعالى التوفيق» (1).
وقال الإمام أبو بكر الجصاص: «قال الحسن بن صالح: من أقام في أرض العدو، وإن انتحل الإسلام، وهو يقدر على التحويل إلى المسلمين، فأحكامه أحكام المشركين.
وإذا أسلم الحربي فأقام ببلادهم، وهو يقدر على الخروج، فليس بمسلم يحكم فيه بما يحكم على أهل الحرب في ماله ونفسه، وقال الحسن إذا لحق الرجل بدار الحرب ولم يرتد عن الإسلام، فهو مرتد بتركه دار الإسلام» (2).
(1) المحلى بالآثار (12/ 122 - 127).
(2)
أحكام القرآن (5/ 26).
..............................................................
ــ
وورد سؤال على علامة الأمة، الإمام ابن تيمية رحمه الله في حكم التتار، الذين امتنعوا عن تحكيم شرائع الإسلام مع إقرارهم بالإسلام ونطقهم للشهادتين، وما حكم من يقاتل مختارًا في صفوفهم من المسلمين، فبين الشيخ رحمه الله أن الرافضة الخبثاء الجبناء يقاتلون دومًا مع المشركين -أيًا كان دينهم- ضد المسلمين، ونص على أن كل من قفز من المسلمين إلى معسكر التتار فحكمه حكمهم في الكفر والقتال بل وأشد، لأنه قد استقر في الشريعة أن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلي، وإليكم نص السؤال:
«ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين، وأعانهم على بيان الحق المبين، وكشف غمرات الجاهلين والزائغين في هؤلاء التتار، الذين يقدمون إلى الشام مرة بعد مرة، وتكلموا بالشهادتين، وانتسبوا إلى الإسلام، ولم يبقوا على الكفر الذي كانوا عليه في أول الأمر فهل يجب قتالهم أم لا؟
وما الحجة على قتالهم، وما مذاهب العلماء في ذلك؟
وما حكم من كان معهم، ممن يفر إليهم من عسكر المسلمين الأمراء وغيرهم؟
وما حكم من قد أخرجوه معهم مكرهًا؟
وما حكم من يكون مع عسكرهم، من المنتسبين إلى العلم والفقه والفقر
................................................................
ــ
والتصوف ونحو ذلك؟
فأجاب رحمه الله بعد أن بين كفر التتار، ووجوب قتالهم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم واتفاق أئمة المسلمين، ثم قال: «والرافضة تحب التتار ودولتهم لأنه يحصل لهم بها من العز ما لا يحصل بدولة المسلمين، والرافضة هم معاونون للمشركين واليهود والنصارى على قتال المسلمين، وهم كانوا من أعظم الأسباب في دخول التتار قبل إسلامهم إلى أرض المشرق بخراسان والعراق والشام، وكانوا من أعظم الناس معاونة لهم على أخذهم لبلاد الإسلام وقتل المسلمين، وسبي حريمهم، وقضية ابن العلقمي وأمثاله مع الخليفة، وقضيتهم في حلب مع صاحب حلب مشهورة، يعرفها عموم الناس، وكذلك في الحروب التي بين المسلمين وبين النصارى بسواحل الشام، قد عرف أهل الخبرة أن الرافضة تكون مع النصارى على المسلمين، وأنهم عاونهم على أخذ البلاد لما جاء التتار. وعز على الرافضة فتح عكة وغيرها من السواحل، وإذا غلب المشركون والنصارى المسلمين، كان ذلك عيدًا ومسرة عند الرافضة.
ودخل في الرافضة: أهل الزندقة والإلحاد من النصيرية والإسماعيلية، وأمثالهم من الملاحدة القرامطة وغيرهم، ممن كان بخراسان والعراق والشام وغير ذلك.
الرافضة جهمية قدرية، وفيهم من الكذب والبدع والافتراء على الله ورسوله أعظم مما في الخوارج المارقين، الذين قاتلهم أمير المؤمنين علي
................................................................
ــ
وسائر الصحابة رضي الله عنهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل فيهم من الردة عن شرائع الدين أعظم مما في مانعي الزكاة، الذين قاتلهم أبو بكر الصديق والصحابة رضي الله عنهم
…
فهؤلاء الخوارج المارقون من أعظم ما ذمهم به النبي صلى الله عليه وسلم: أنهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، وذكر أنهم يخرجون على حين فرقة من الناس. والخوارج مع هذا لم يكونوا يعاونون الكفار على قتال المسلمين، والرافضة يعاونون الكفار على قتال المسلمين؛ فلم يكفهم أنهم لا يقاتلون الكفار مع المسلمين حتى قاتلوا المسلمين مع الكفار، فكانوا أعظم مروقًا عن الدين من أولئك المارقين بكثير كثير.
وقد أجمع المسلمون على وجوب قتال الخوارج والروافض، ونحوهم إذا فارقوا جماعة المسلمين، كما قاتلهم علي رضي الله عنه فكيف إذا ضموا إلى ذلك من أحكام المشركين كنائسًا وجنكسخان ملك المشركين ما هو من أعظم المضادة لدين الإسلام.
وكل من قفز إليهم من أمراء العسكر وغير الأمراء فحكمه حكمهم، وفيهم من الردة عن شرائع الإسلام بقدر ما ارتد عنه من شرائع الإسلام.
وإذا كان السلف قد سموا مانعي الزكاة: مرتدين، مع كونهم يصومون ويصلون، ولم يكونوا يقاتلون جماعة المسلمين، فكيف بمن صار مع أعداء الله ورسوله، قاتلاً للمسلمين.
................................................................
ــ
مع أنه والعياذ بالله لو استولى هؤلاء المحاربون لله ورسوله، المحادون لله ورسوله، المعادون لله ورسوله على أرض الشام ومصر في مثل هذا الوقت لأفضى ذلك إلى زوال دين الإسلام، ودروس شرائعه.
فهذا وغيره مما يبين أن هذه العصابة التي بالشام ومصر في هذا الوقت، هم كتيبة الإسلام، وعزهم عز الإسلام، وذلهم ذل الإسلام، فلو استولى عليهم التتار لم يبق للإسلام عز، ولا كلمة عالية، ولا طائفة ظاهرة عالية يخافها أهل الأرض تقاتل عنه.
فمن قفز عنهم إلى التتار كان أحق بالقتال من كثير من التتار، فإن التتار فيهم المكره وغير المكره، وقد استقرت السنة: بأن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلي من وجوه متعددة.
منها: أن المرتد يقتل بكل حال، ولا يضرب عليه جزية، ولا تعقد له ذمة، بخلاف الكافر الأصلي.
ومنها أن المرتد يقتل وإن كان عاجزًا عن القتال، بخلاف الكافر الأصلي، الذي ليس هو من أهل القتال فإنه لا يقتل عند أكثر العلماء، كأبي حنيفة ومالك وأحمد. ولهذا كان مذهب الجمهور أن المرتد يقتل كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد.
ومنها أن المرتد لا يرث ولا يناكح ولا تؤكل ذبيحته، بخلاف الكافر الأصلي إلى غير ذلك من الأحكام.
...............................................................
ــ
وإذا كانت الردة عن أصل الدين أعظم من الكفر بأصل الدين، فالردة عن شرائعه أعظم من خروج الخارج الأصلي عن شرائعه، ولهذا كان كل مؤمن يعرف أحوال التتار، ويعلم أن المرتدين الذين فيهم من الفرس والعرب وغيرهم شر من الكفار الأصليين، من الترك ونحوهم.
وهم بعد أن تكلموا بالشهادتين، مع تركهم لكثير من شرائع الدين خير من المرتدين من الفرس والعرب وغيرهم.
وبهذا يتبين: أن من كان معهم، ممن كان مسلم الأصل هو شر من الترك، الذي كانوا كفارًا. فإن المسلم الأصلي إذا ارتد عن بعض شرائعه كان أسوأ حالاً ممن لم يدخل بعد في تلك الشرائع، مثل مانعي الزكاة وأمثالهم ممن قتلهم الصديق، وإن كان المرتد عن بعض الشرائع متفقهًا أو متصوفًا أو تاجرًا أو كاتبًا أو غير ذلك. فهؤلاء شر من الترك، الذين لم يدخلوا في تلك الشرائع، وأصروا على الإسلام.
ولهذا يجد المسلمون من ضرر هؤلاء على الدين ما لا يجدونه من ضرر أولئك، وينقادون للإسلام وشرائعه وطاعة الله ورسوله أعظم من انقياد هؤلاء، الذين ارتدوا عن بعض الدين، ونافقوا في بعضه، وإن تظاهروا بالانتساب إلى العلم والدين (1).
(1) مجموع الفتاوى (28/ 426) وما بعدها.
.............................................................
ــ
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: (قال شيخ الإسلام: أي ابن تيمية- في اختياراته: من جمز (1) إلى معسكر التتار، ولحق بهم، ارتد، وحل دمه وماله" (2)
وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب: " إن الأدلة على كفر المسلم إذا أشرك بالله، أو صار مع المشركين على المسلمين ولو لم يشرك، أكثر من أن تحصر، من كلام الله وكلام رسوله وكلام أهل العلم المعتمدين (3).
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله- رحمهما الله- في أثناء رده على سؤال ورد عليه، يريد فيه صاحبه معرفة الحد الفاصل بين الولاء المكفر للمشركين، وغير المكفرِّ، فقال- رحمه الله تعالى-: " فالجواب: إن كانت الموالاة مع مساكنتهم في ديارهم، والخروج معهم في قتالهم، ونحو ذلك، فإنه يحكم على صاحبها بالكفر، كما قال تعالى {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]، وقال تعالى:{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140](4)
(1) جمز: أي ذهب
…
وقد جاء في حديث ماعز رضي الله عنه " فلما أذلقته الحجارة جمز" أي أسرع هاربًا من القتل. انظر لسان العرب، مادة "جمز". والحديث متفق على صحته، صحيح البخاري (5270)، وصحيح مسلم (1691).
(2)
فتاوى الأئمة النجدية (1/ 443).
(3)
الرسائل الشخصية/ 272
(4)
مجموع الرسائل والمسائل (1/ 475)
...............................................................
ــ
وتحدث الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن بعض أنواع أعدائه الذين سل السيف عليهم، فقال رحمه الله:
النوع الثالث: من عرف التوحيد وأحبه واتبعه وعرف الشرك وتركه، لكن يكره من دخل في التوحيد ويحب من بقي على الشرك، فهذا أيضًا كافر وفيه قوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 9].
النوع الرابع: من سلم من هذا كله لكن، أهل بلده يصرحون: بعداوة التوحيد واتباع أهل الشرك ويسعون في قتالهم، وعذره أن ترك وطنه يشق عليه، فيقاتل أهل التوحيد مع أهل بلده ويجاهد بماله ونفسه، فهذا أيضًا كافر، لأنهم لو أمروه بترك صيام رمضان ولا يمكنه ذلك إلا بفراق وطنه فعل، ولو أمروه أن يتزوج امرأة أبيه ولا يمكنه مخالفتهم إلا بذلك فعل.
وأما موافقته على الجهاد معهم بماله ونفسه، مع أنهم يريدون قطع دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فأكبر مما ذكرناه بكثير، فهذا أيضًا كافر ممن قال الله فيهم {سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ} [النساء: 91]
والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم (1).
(1) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 4/ 301.
..............................................................
ــ
وسئل الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان، والشيخ صالح بن عبد العزيز، والشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، وكافة علماء العارض، عن العجمان والدويش ومن تبعهم، حيث خرجوا من بلدان المسلمين، يدعون: أنهم مقتدون بجعفر بن أبي طالب، وأصحابه رضي الله عنهم حيث خرجوا من مكة مهاجرين إلى الحبشة؟
فأجابوا: هؤلاء الذي ذكرهم السائل، وهم العجمان والدويش ومن تبعهم، لا شك في كفرهم وردتهم، لأنهم انحازوا إلى أعداء الله ورسوله، وطلبوا الدخول تحت ولايتهم، واستعانوا بهم.
فجمعوا بين الخروج من ديار المسلمين، واللحوق بأعداء الملة والدين، وتكفيرهم لأهل الإسلام، واستحلال دمائهم وأموالهم.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله تعالى- في الاختيارات: من جمز إلى معسكر التتر ولحق بهم ارتد، وحل دمه وماله.
فإذا كان هذا في مجرد اللحوق بالمشركين، فكيف بمن اعتقد مع ذلك: أن جهادهم وقتالهم لأهل الإسلام دين يدان به، هذا أولى بالكفر والردة.
وأما استدلالهم، بقصة جعفر وأصحابه، لما هاجروا إلى الحبشة فباطل، فإن جعفرًا وأصحابه لم يهاجروا من مكة إلا وهي إذ ذلك بلاد كفر، وقد آذاهم المشركون وامتحنوهم في ذات الله وقد عذبوا من عذبوا من الصحابة، كصهيب، وبلال، وخباب، ومن أجل عبادتهم الله وحده لا شريك له، ومجانبتهم عبادة اللات
...............................................................
ــ
على والعزى، وغيرهما من الأوثان، فلما اشتدت عليهم الأذية أذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة إلى الحبشة، ليأمنوا على دينهم.
وأما هؤلاء: فقد خرجوا من بين ظهراني المسلمين، وانحازوا إلى الكفار والمشركين، وجعلوا بلاد المسلمين بلاد كفر، بمنزلة مكة حين هاجر جعفر وأصحابه منها، ولا يستدل بقصة جعفر والحالة هذه، إلا من أضل الناس وأعماهم وأبعدهم عن سواء السبيل.
وأما قول السائل: إنهم يرون أن جميع المسلمين، وولى أمرهم، وعلماءهم، ليسوا حق، فهذا من ضلالهم، ومن الأسباب الموجبة لكفرهم وخروجهم من الإسلام بعدما انتسبوا إليه، وادعوا أنهم من أنصاره، والمهاجرين إليه، فسبحان من طبع على قلوب أعدائه، فنعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلال بعد الهدى.
وأما قول السائل: إنهم يدعون أنهم رعية الأتراك، ومن الأتراك السابقين، وأنهم لم يدخلوا تحت أمر ابن سعود وطاعته إلا مغصوبين، فهذا أيضاَ من أعظم الأدلة على ردتهم، وكفرهم.
وأما قول السائل: إنهم فعلوا ما فعلوا مع المسلمين، من القتل والنهب، مستحلين لذلك .. إلى آخر السؤال؟
فجوابه: أن من استحل دماء المسلمين وأموالهم، كما نص عليه العلماء في "باب حكم المرتد".
................................................................
ــ
وأما من أجاب دعوتهم، وساعدهم من أهل نجد، فحكمه حكمهم، يجب على جميع المسلمين قتاله وجهاده، وأما من أبى عن جهادهم، يدعي أنهم إخوان له، وأنهم على حق، فهذا حكمه حكمهم، لأنه صوب رأيهم، واعتقدوا ما اعتقدوه، لا سيما بعد علمه بما صدر منهم.
وأما الدهينة، والخضري، وولد فيصل بن حميد، وأتباعهم، الذي قدموا من عند ولد الشريف، يدعون إلى ولايته، فهؤلاء لاشك في ردتهم والحال ما ذكر، لأنهم دعاة الى الدخول تحت ولاية المشركين، فيجب على جميع المسلمين جهادهم وقتالهم، وكذلك من آواهم ونصرهم، فحكمه حكمهم.
فهذا حكم أئمة الدعوة فيمن قاتل مع المشركين ضد المسلمين، وفيمن دعا الناس إلى الدخول تحت ولاية المشركين ونصرتهم.
وقد عدّ بعض علماء نجد ثلاثة أمور، كل واحد منها يوجب الجهاد لمن اتصف بها، جاء فيها:
الأمر الثالث: مما يوجب الجهاد لما اتصف به، مظاهرة المشركين، وإعانتهم على المسلمين، بيد أو بلسان أو بقلب أو بمال، فهذا كفر مخرج من الإسلام اختياراَ منه فقد كفر.
.............................................................
ــ "
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، في نواقض الإسلام، الثامن: مظاهرة المشركين، ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة 51].
فمن اتصف بشئ من هذه الصفات، مما ينقض الإسلام، أو منه شيئاَ من شعائر الإسلام الظاهرة، أو امتنع عن أداء شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة، فإنه يجاهد حتى يقر بذلك ويلتزمه. (1)
ونزيد حكم مسألة القتال في صفوف المشركين وضوحًا، لأنها اليوم ذات شأن عظيم في دنيا المسلمين، فنقول: لما تقابل المسلمون بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين بقيادة أبي سفيان في غزوة أحد، انخزل عبد الله بن أبي بن سلول، ومعه ثلث الجيش، وتولوا مدبرين عن نصرة المسلمين، فنزل قوله تعالى {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا * وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء 88 - 90]، فحكم القرآن بكفرهم، وردهم إلى أحكام أهل الشرك في إباحة دمائهم وأموالهم، ونزل فيهم أيضًا قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا
(1) الدرر السنية (9/ 289 - 292)
..............................................................
ــ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران: 166، 167]، فحكم القرآن بكفرهم ونفاقهم، وأنكر على المسلمين اختلافهم فيهم فرقتين، وكيف لا تجتمع كلمتهم على كفرهم وردتهم.
وهذا في حق من انخزل عن نصرة المسلمين لإضعافهم، فكيف بمن قاتل مع المشركين مختارًا ضد المسلمين، وكان حكم الكفر جاريًا عليه؟!!
فهؤلاء إن لم يكونوا كفارًا فلا نعلم كفارًا على وجه الأرض، وهؤلاء إن لم يكونوا مرتدين عن دين المسلمين فلا نعلم مرتدين على مر التاريخ.
قال الله تعالى في محكم التنزيل: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا} .
قال أبو جعفر الطبري: يعني -جل ثناؤه- بقوله {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} : فما شأنكم أيها المؤمنون في أهل النفاق فئتين مختلفتين؟!! {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} يعني بذلك: والله ردهم إلى أحكام أهل الشرك في إباحة دمائهم وسبي ذراريهم (1).
وقال الإمام الشوكاني- رحمه الله تعالى-: " الاستفهام في قوله تعالى" فَمَا لَكُمْ} للإنكار، واسم الاستفهام مبتدأ، وما بعده خبره.
(1) تفسير الطبري (8/ 8).
..............................................................
ــ
والمعنى: أي شيء كائن لكم {فِي الْمُنَافِقِينَ} أي: في أمرهم وشأنهم حال كونكم {فِئَتَيْنِ} في ذلك.
وحاصله: الإنكار على المخاطبين أن يكون لهم شيء يوجب اختلافهم في شأن المنافقين
…
وقوله: {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ} معناه: ردهم إلى الكفر" (1)
وقال الإمام أبو بكر بن العربي رحمه الله: أخبر الله سبحانه وتعالى أن الله رد المنافقين إلى الكفر، وهو الإركاس، وهو عبارة عن الرجوع إلى الحالة المكروهة، كما قال في الروثة: إنها رجس، أي: رجعت إلى حالة مكروهة؛ فنهى الله سبحانه وتعالى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يتعلقوا فيهم بظاهر الإيمان، إذا كان أمرهم في الباطن على الكفر، وأمرهم بقتلهم حيث وجدوهم، وأينما ثقفوهم؛ وفي هذا دليل على أن الزنديق يقتل، ولا يستتاب لقوله تعالى:{وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء 89].
وقال الإمام أبو بكر الجصاص: وقوله تعالى {أَرْكَسَهُمْ} قال ابن عباس رضي الله عنه ردهم؛ وقال قتادة {أَرْكَسَهُمْ} أهلكهم.
وقال غيرهم {أَرْكَسَهُمْ} نكسهم؛ قال الكسائي: {أَرْكَسَهُمْ} وركسهم بمعنى.
(1) فتح القدير (2/ 186)
..............................................................
ــ
وإنما المعنى في ردهم في حكم الكفار من الصغار والذلة، وقيل من السبي والقتل لأنهم أظهروا الارتداد بعدما كانوا على النفاق، وإنما وصفوا بالنفاق وقد أظهروا الارتداد عن الإسلام لأنهم نسبوا إلى ما كانوا عليه قبل من إضمار الكفر، قاله الحسن (1).
قال الحافظ ابن كثير، في وصفه لغزوة أحد: ((قال ابن إسحاق حتى إذا كان بالشوط بين المدينة وأحد انخزل عنه عبد الله بن أبي بثلث الناس، وقال أطاعهم وعصاني، ما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس، فرجع بمن اتبعه من قومه من أهل النفاق والريب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام السلمي، والد جابر بن عبد الله فقال: يا قوم أذكركم الله أن لا تخذلوا قومكم ونبيكم عندما حضر من عدوهم. قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمانكم، ولكنا لا نرى أن يكون قتال. فلما استعصوا عليه، وأبوا إلا الانصراف قال: أبعدكم الله -أعداء الله- فسيغني الله عنكم نبيه صلى الله عليه وسلم.
قلت: وهؤلاء القوم هم المرادون بقوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران: 167]، يعني: أنهم كاذبون في قولهم: لو نعلم قتالا
(1) أحكام القرآن (4/ 465)
..............................................................
ــ
لاتبعناكم، وذلك لأن وقوع القتال أمره ظاهر بين واضح لا خفاء ولا شك فيه.
وهم الذين أنزل الله فيهم: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} الآية، وذلك أن طائفة قالت نقاتلهم، وقال آخرون: لا نقاتلهم كما ثبت وبين الصحيح (1)(2).
ويبين علامة الأمة، الإمام ابن تيمية: أن الذين انخزلوا مع ابن أُبي- عليه لعنة الله- لم يكونوا كلهم من قبل منافقين، ولكنهم نافقوا وكفروا بهذا الفعل، فقال رحمه الله تعالى: قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران: 166 - 167].
فقوله: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} ظاهر فيمن أحدث نفاقًا، وهو يتناول من لم ينافق قبل، ومن نافق ثم جدد نفاقًا ثانيًا، وقوله {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} ، يبين أنهم لم يكونوا قبل ذلك أقرب منهم، بل إما أن يتساويا، وإما أن يكونوا للإيمان أقرب، وكذلك كان. فإن ابن أبي لما انخزل عن
(1) يشير إلى حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد، فرجع ناس خرجوا معه، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين: فرقة تقول: نقتلهم. وفرقة تقول لا. فأنزل الله {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها طيبة، وإنها تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة» متفق عليه، صحيح البخاري (1884، 4050)، وصحيح مسلم (1384).
(2)
البداية والنهاية (4/ 16).
..............................................................
ــ
النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد انخزل معه ثلث الناس، قيل كانوا نحو ثلاثمائة، وهؤلاء لم يكونوا قبل ذلك كلهم منافقين في الباطن، إذ لم يكن لهم داع إلى النفاق.
فإن ابن أبي كان مظهرًا لطاعة النبي صلى الله عليه وسلم، والإيمان به، وكان كل يوم جمعة يقوم خطيبًا في المسجد يأمر باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن ما في قلبه يظهر إلا لقليل من الناس -إن ظهر- وكان معظمًا في قومه كانوا قد عزموا على أن يتوجوه ويجعلوه مثل الملك عليهم، فلما جاءت النبوة بطل ذلك، فحمله الحسد على النفاق، وإلا فلم يكن له قبل ذلك دين يدعوا إليه، وإنما كان هذا في اليهود.
فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بدينه، وقد أظهر الله حسنه ونوره مالت إليه القلوب، لا سيما لما نصره الله يوم بدر، ونصره على يهود بني قينقاع صار معه الدين والدنيا، فكان المقتضى للإيمان في عامة الأنصار قائماََ، وكان كثير منهم يعظم ابن أُبي تعظيمًا كثيرًا ويواليه، ولم يكن ابن أُبي أظهر مخالفة توجب الامتياز، فلما انخزل يوم أحد، وقال: يدع رأيي ورأيه ويأخذ برأي الصبيان أو كما قال، انخزل معه خلق كثير منهم من لم ينافق قبل ذلك.
وفي الجملة ففي الأخبار عمن نافق بعد إيمانه ما يطول ذكره هنا (1)
(1) مجموع الفتاوى (2/ 120).
............................................................
ــ وقال أيضًا - رحمه الله تعالى-: قوله تعالى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} فقد كان قبل ذلك فيهم نفاق مغلوب، فلما كان يوم أحد غلب نفاقهم فصاروا إلى الكفر أقرب (1).
…
((حادثة حاطب رضي الله عنه، وحكم ما وقع فيه))
لقد حاول كثير من المنهزمين أن يتترسوا بهذه الواقعة، وينفذوا من خلالها إلى أنه لا يوجد ناقض من نواقض الإسلام عنوانه: موالاة الكافرين ونصرتهم على المسلمين. وأرادوا أن يجعلوا هذه الحادثة بفهمهم هم قاعدة كلية ينبغي رد النصوص- التي تفوت الحصر- من الكتاب والسُّنَّة إليها.
ولكن أهل السنة والجماعة تتقرر القواعد الكلية عندهم من نصوص كثيرة من القرآن والسُّنَّة، ثم بعد ذلك ينزلون ويفهمون ما خالف- في الظاهر- مقتضاها على ضوء ما تقرر من معنى القواعد الكلية.
على سبيل المثال: قد تقرر من نصوص الكتاب والسُّنَّة أن الإيمان قول وعمل، وانعقد عليه الإجماع حتى صار معلومًا بالاضطرار من الدين. ثم جاء نص في ظاهره مخالفة ما تقرر من مقتضى هذه القاعدة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم في حق الجهنميين ((فيقبض- أي أرحم الراحمين سبحانه وتعالى قبضة من النار
(1) مجموع الفتاوى (2/ 123).
...............................................................
ــ
فيخرج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قط (1). الحديث
وهنا نحن أمام منهجين:
أ- منهج أهل السُّنَّة والعدل: فيقولون بمقتضى القاعدة المقررة من نصوص تفوق الحصر، من الكتاب والسُّنَّة بفهم سلف الأمة وأئمتها، وهو أن الإيمان قول وعمل، وأن الأعمال من الإيمان، ثم بعد ذلك يحاولون الجمع بين مقضى القاعدة وهذا النص الجزئي، فإن تعذر ذلك، عملوا بمقتضى القاعدة الكلية وتركوا العمل بمقتضى النص الجزئي، لئلا يتركوا العمل بالنصوص الكثيرة المقررة للقاعدة الكلية.
ب- منهج أهل البدع والظلم: يجعلون معنى النص الجزئي قاعدة كلية، ثم يقومون برد النصوص الكثيرة إليها.
فيقولون هنا: هذا الحديث يقطع بخروج الأعمال من الإيمان، ومن ثم فالإيمان هو الاعتقاد والقول فقط دون الأعمال.
وأهل السُّنَّة يقولون هنا: قوله صلى الله عليه وسلم: «لم يعملوا خيرًا قط» يطلق على من عمل أعمالاً من أعمال البر، إلا أنها قليلة تكاد لا تذكر في جانب الأعمال السيئة الأخرى، ولا أدلّ على ذلك من حديث الرجل الذي قتل مائة نفس فعندما اختصمت فيه ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، قالت ملائكة العذاب:
(1) صحيح مسلم (183)
...............................................................
ــ
((لم يعمل خيرًا قط)) (1). مع أن الرجل ذهب إلى الراهب ليسأله عن التوبة، ثم ذهب إلى العالم ليسأله عن التوبة بعد ندمه على قتل الراهب، ثم امتثل وعمل كل ما قاله العالم له من شروط التوبة
…
وكل ذلك من أعمال البر، لكنها بجانب سيئاته ومعاصيه، فكأنه لم يعمل خيرًا قط.
قال الإمام ابن رجب الحنبلي- رحمه الله تعالى- " والمراد بقوله: (لم يعملوا خيرًا قط) من أعمال الجوارح، وإن كان أصل التوحيد معهم"(2).
قلت ولا شك أن التوحيد قول وعمل واعتقاد، وهذا دليل على فعل بعض الأعمال الصالحة.
وقد ساغ في لغة العرب أن يؤتى بلفظ الكل ويكون المراد به البعض لا الكل.
قال الإمام الحافظ ابن عبد البر-رحمه الله تعالى- في بيان هذه القاعدة المهمة، في أثناء شرحه لحديث الرجل الذي أمر بذرّ نفسه، والمعروف بحديث القدرة: «روي من حديث أبي رافع، عن أبي هريرة في هذا الحديث أنه قال: قال رجل (لم يعمل خيرًا قط إلا التوحيد) وهذه اللفظة إن صحت رفعت الإشكال في إيمان هذا الرجل، وإن لم تصح من جهة النقل فهي صحيحة من جهة المعنى، والأصول كلها تعضدها، والنظر يوجبها؛ لأنه محال غير جائز أن يُغفر للذين يموتون وهم كفار، لأن الله عز وجل قد أخبر أنه لا يغفر أن يشرك به لمن
(1) متفق عليه، انظر البخاري (347)، وصحيح مسلم (2766).
(2)
التخويف من النار/259.
...............................................................
ــ
مات كافرً، وهذا ما لا مدفع له، ولا خلاف فيه بين أهل القبلة.
وفي هذا الأصل ما يدلك على أن قوله في هذا الحديث: لم يعمل حسنة قط، أو لم يعمل خيرًا قط لم يعذبه إلا ما عدا التوحيد من الحسنات والخير.
وهذا سائغ في لسان العرب، جائز في لغتها أن يؤتى بلفظ الكل، والمراد البعض» (1).
نعود لحادثة حاطب ابن أبي بلتعة- فنقول بوجوب فهمهما، وردّ معناها إلى ما تقرر من معنى النصوص المستفيضة في مسألة موالاة الكفار، والحكم بالردة على أصحابها، ولو كانوا ما وقعوا في نصرتهم ومظاهرتهم إلا بسبب عرض من الدنيا زائل بعلة الخوف من غائلة دوائر الدهر، ونحو ذلك.
وقد تقدم بعض من هذه النصوص وما سكتنا عنه فهو مثله أو أكثر.
وإليكم قصة حاطب رضي الله عنه، عن عبيد الله بن أبي رافع، وكان كاتبًا لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت عليًّا يقول: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزيير والمقداد، فقال «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ؛ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها» ، فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: هلمي الكتاب، قالت: ما عندي من كتاب، فقلت: لتخرجن
(1) التمهيد (18/ 40)
.............................................................
الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو من حاطب بن أبى بلتعة إلى ناس من المشركين، يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«ما هذا يا حاطب؟» فقال: يا رسول الله لا تعجل عليَّ فإني كنتُ امرأ ملصقًا في قريش، ولم أكن من أنفسها، وإن قريشًا لهم بها قرابات يحمون بها أهليهم بمكة، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ فيهم يدًا يحمون بها قرابتي بها، والله يا رسول الله ما كان بي من كفر ولا ارتداد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«صدقكم» فقال عمر رضي الله عنه: دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد شهد بدرًاَ، ويدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» (1).
وبادئ ذي بدء عند النظر في هذا الحديث نجد فيه ما يلي:
1 -
أن حاطبًا رضي الله عنه قد أراد أن يصنع يد له عند مشركي قريش بفعل لا يعود بالضرر على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فهو يعلم يقينًا أن الله ناصر رسوله- صلى الله عليه وسلم وأنه متم له دينه، وعليه فهذا الفعل لن يستفيد منه المشركون بنصرة على المسلمين، وهذا بخلاف من يصنع يدًا للكفار ليتنصروا بها على المسلمين، وليلحق الضرر بهم.
ففي بعض الروايات لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم حاطباًَ عن سبب صنيعه فقال حاطب رضي الله عنه: يا رسول الله كان أهلي فيهم فخشيت أن يصرموا عليهم،
_________
(1)
متفق عليه: صحيح البخاري (3081)، وصحيح مسلم (2494)، وسنن أبي داود (2279) واللفظ له.
.............................................................
فقلت: أكتب كتابًا لا يضر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم (1).
وفي رواية: فقال أي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا حاطب أفعلت؟)، قال: نعم إني لم أفعله غشًّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نفاقًا، ولقد علمت أن الله سيظهر رسوله، ويتم أمره غير أني كنت غريبًا بين ظهرانيهم فكانت أهلي معهم، فأردت أن أتخذها عندهم يدًا. (3)
وفي رواية أخرجها الإمام أحمد في مسنده، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه «أن حاطب بن أبي بلتعة كتب إلى أهل مكة، يذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد غزوهم فدل رسول الله صلى الله عليه وسلم على المرأة التي معها الكتاب، فأرسل إليها فأخذ»
_________
(1)
أخرجه أبو يعلي والحاكم وصححه، وابن مردويه والضياء في المختارة، قاله السيوطي في الدر المنثور (9/ 478).
(2)
انظر زاد المسير (6/ 16)
(3)
صحيح ابن حبان (4884)
.............................................................
كتابها من رأسها، قال:(يا حاطب أفعلت؟) قال: نعم، قال: أما إني لم أفعله غشًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفاقًا. قد علمت أن الله مظهر رسوله، ومتم له أمره غير أني كنت غريبًا بين ظهرانيه وكانت والدتي معهم فأردت أن أتخذ يدًا) (1).
فهذا عذر حاطب رضي الله عنه واضح جلي، أراد أن يصنع يدًا له عند الكفار ليحمي بها أهله وماله، عن طريق فعل لن يعود منه ضرر على الإسلام وأهله، وتأول أن خوفه على أهله وماله يُجوز له هذا الفعل، لأنه بمثابة المكره على فعل الكفر، ولأن الله قد أجاز للمسلم عند ظهور الكفار وغلبتهم أن يصانعهم في الظاهر بقدر ما يدرأ عنه به شرهم، لكن بشرط أن يكون قلبه مطمئنًاَ بالإيمان في الباطن، ودون أن يقع في سفك دم حرام، أو أخذ مال حرام، ودون أن يعين على ذلك.
قال أبو بكر الجصاص: «ظاهر ما فعله حاطب لا يوجب الردة، وذلك لأنه ظن أن ذلك جائز له ليدفع به عن ولده وماله، كما يدفع عن نفسه بمثله عند التقية، ويستبيح إظهار كلمة الكفر.
ومثل هذا الظن إذا صدر عنه الكتاب الذي كتبه فإنه لا يوجب الإكفار،
_________
(1)
مسند أحمد (14247)، وقال الحافظ ابن كثير: هذا الحديث إسناده على شرط مسلم، انظر البداية والنهاية (4/ 325)، وقال الهيثمي: رواه أحمد وأبو يعلى، ورجال أحمد رجال الصحيح (9/ 303).
.............................................................
ولو كان ذلك يوجب الإكفار لاستتابه النبي صلى الله عليه وسلم، فلمّا لم يستتبه وصدقه على ما قال، عُلم أنه ما كان مرتدًا
…
وفي هذه الآية دلالة على أن: الخوف على المال والولد لا يبيح التقية في إظهار الكفر، وأنه لا يكون بمنزلة الخوف على نفسه لأن الله نهي المؤمنين عن مثل ما فعل حاطب مع خوفه على أهله وماله، وكذلك قال أصحابنا: إنه لو قيل لرجل: لأقتلن ولدك أو لتكفرن. إنه لا يسعه إظهار الكفر.
ومن الناس من يقول فيمن له على رجل مال، فقال: لا أقر لك حتى تطرح عني بعضه، فحط عنه بعضه، أنه لا يصح الحط عنه وجعل خوفه على ذهاب ماله بمنزلة الإكراه على الحط، وهو فيما أظن مذهب ابن أبي ليلي.
وما ذكرناه يدل على صحة قولنا، ويدل على أن الخوف على المال والأهل لا يبيح التقية؛ لأن الله فرض الهجرة على المؤمنين، ولم يعذرهم في التخلف لأجل أموالهم وأهلهم. فقال: ٍٍ {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} الآية [التوبة:24] وقال: {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء:97]. (1)
وقال الحافظ ابن كثير مؤكدًا على هذا المعنى: «فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ
_________
(1)
أحكام القرآن، للجصاص (9/ 49 - 50).
.............................................................
مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1] يعني: المشركين والكفار الذين هم محاربون لله ولرسوله وللمؤمنين، الذين شرع الله عداوتهم ومصارمتهم، ونهى أن يُتخذوا أولياء وأصدقاء وأخلاء، كما قال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:57]، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} } [النساء:144]، وقال تعالى:{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28]؛ ولهذا قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عُذر حاطب لما ذكر أنه إنما فعل ذلك مصانعة لقريش لأجل ما كان له عندهم من الأموال والأولاد (1).
وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
«قال القاضي أبو يعلي: في هذه القصة دلالة على أن الخوف على المال والولد لا يبيح التقية في إظهار الكفر، كما يبيح في الخوف على النفس، ويبين ذلك أن الله تعالى فرض الهجرة، ولم يعذرهم في التخلف لأجل أموالهم وأولادهم. وإنما ظن حاطب أن ذلك يجوز له ليدفع به عن ولده، كما يجوز له أن يدفع عن نفسه بمثل
_________
(1)
تفسير القرآن العظيم (8/ 85 - 86)
.............................................................
ذلك عند التقيَّة» (1)
وقال الشيخ مباركفوري موصفا فعل حاطب رضي الله عنه: «وعذر حاطب ما ذكره فإنه صنع ذلك متأولاً أن لا ضرر فيه» (2).
وقال الإمام ابن مفلح: «قال ابن الجوزي في كشف المشكل: تقرب إلى القوم ليحفظوه في أهله؛ بأن أطلعهم على بعض أسرار رسول الله صلى الله عليه وسلم في كيدهم وقصد قتالهم، وعلم أن ذلك لا يضر رسول الله صلى الله عليه وسلم لنصرة الله إياه، وهذا الذي فعله أمر يحتمل التأويل، ولذلك استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه حسن الظن وقال:(إنه قد صدقكم).
وقد دل الحديث على أن حكم المتأول في استباحة المحظور خلاف حكم المتعمد لاستحلال من غير تأويل، ودل على أن من أتى محظورًا، وادعى في ذلك ما يحتمل التأويل كان القول قوله في ذلك وإن كان غالب الظن بخلافه، وقال عن قول عمر:«وهذا لأنه رأى صورة النفاق، ولما احتمل قول عمر، وكان لتأويله مساغ لم ينكر عليه الرسول صلى الله عليه وسلم» (3)
2 -
وإذا نظرنا إلى محتوى كتاب حاطب رضي الله عنه الى المشركين، الذي
_________
(1)
زاد المسير (6/ 17).
(2)
تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي (8/ 170).
(3)
الفروع لابن مفلح (11/ 218).
.............................................................
يخبرهم فيه بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم فاتحًا لديارهم، إذا نظرنا إليه وجدنا فيه اليقين الكامل بوعد الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، وصدقه التام فيما أدلى به من حجة بين يدي نبي الإسلام عليه السلام.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: «وقد ذكر السهيلي أنه كان في كتاب حاطب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه إليكم بجيش كالليل، يسير كالسيل، وأقسم بالله لو سار إليكم وحده لنصره الله عليكم، فإنه منجز له ما وعده» (1).
وزاد القرطبي: «وأقسم بالله لو لم يسر إليكم إلا وحده لأظفره الله بكم، وأنجز له موعده فيكم، فإن الله وليه وناصره» (2).
فهذا كتاب حاطب للمشركين، ليس فيه محذور إلا مجرد إخباره بسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، ليس فيه ذكر لكشف عوارات المسلمين، وليس فيه ذكر لنقل أية أسرار عسكرية من شأنها أن تمكن الكفار من رقاب المؤمنين، وليس فيه ذكر لشيء من شأنه أن يساعد على كسر شوكة الموحدين .....
…
3 -
ومع كل هذه القرائن التي ذكرناها في النقطة الأولى إلا أن فعل حاطب رضي الله عنه كان في غاية الخطورة، بل وكان مترددًا بين الكفر البواح
_________
(1)
البداية والنهاية (4/ 324).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (20/ 396).
.............................................................
وبين كونه من كبائر الذنوب، بسبب تأويله الذي ذكرناه، ولا أدل على ذلك من اجتهاده في يمينه أنه ما فعل ذلك غشًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نفاقًا، ولا ردة عن دينه ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام، بل وأقسم أنه ناصح لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فقال رضي الله عنه بعد سؤال النبي صلى الله عليه وسلم له: (ما حملك على ما صنعت؟): «مالي أن لاأكون مؤمنًا بالله ورسوله» (1) وفي رواية: «والله ما كفرت، ولا ازددت للإسلام إلا حبًّا (2) وفي رواية: «لم أفعله كفرًا، ولا ارتدادًا عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام» (3)، وفي رواية:«أما إني لم أفعله غشًّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفاقًا قد علمت أن الله مظهر رسوله، ومتم له أمره» (4)
…
وهذه الروايات تدل دلالة واضحة على أن حاطبًا رضي الله عنه كان يعلم خطورة فعله، وأن ظاهره قد يدل على الكفر البواح، ولذلك أخذ يعتذر بكل هذه المعاذير؛ ليبعد شبهة الردة عنه.
…
_________
(1)
صحيح البخاري (6939).
(2)
صحيح البخاري (3081).
(3)
صحيح مسلم (2494).
(4)
قد تقدم تخريجها.
.............................................................
4 - استئذان الفاروق عمر رضي الله عنه في قتل حاطب، ورميه إياه بالنفاق المخرج عن الملة، وهو من أعلم الصحابة بنواقض الإسلام، مع عدم إنكار النبي صلى الله عليه وسلم له في ذلك دليل على أن الأصل في هذا الفعل هو ضرب عنق الفاعل، وإلا لأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على عمر رضي الله عنه، وقال له مثلاً كيف تستبيح دم مسلم بفعل لا علاقة له بنواقض الإسلام، ولا بإباحة الدماء؟
فلو فرضنا أن المسألة كانت في سرقة متاع، ثم استأذن عمر رضي الله عنه في ضرب عنقه، هل يتصور أن النبي صلى الله عليه وسلم يسكت عن استئذانه، ويغض الطرف عنه؟!!
قال الإمام الشافعي- رحمه الله تعالى- في هذا الحديث: طرح الحكم باستعمال الظنون، لأنه لما كان الكتاب يحتمل أن يكون ما قال حاطب، كما قال من أنه لم يفعله شكًا في الإسلام، وأنه فعله ليمنع أهله، ويحتمل أن يكون زلة لا رغبة عن الإسلام، واحتمل المعنى الأقبح كان القول قوله فيما احتمل فعله وبسط الكلام فيه (1).
…
5 -
تعليل النبي صلى الله عليه وسلم لعدم قتل حاطب رضي الله عنه بأنه «قد شهد بدرًا» دليل على ضرب عنق كل من أقدم على هذا الفعل من غير أهل بدر.
فلو كان المانع من قتله إسلامه لعلل به النبي صلى الله عليه وسلم فلما لم يعلل بالعلة
_________
(1)
أحكام القرآن للشافعي (1/ 231)
............................................................
العامة «الإسلام» ، وعلل بالعلة الخاصة «شهود بدر» دل ذلك على إلغاء تأثير وصف العلة العامة، وإبطال كونها الحكمة من عدم قتله، واستباحة دمه (1).
…
6 -
ولا شك أن هذا يكون في رجل عدل ضابط لأصول وقواعد الإيمان والكفر، ويكون عارفًا بشروط وضوابط وموانع التكفيرـ ومتى يقع دون إقامة حجة، ومتى لا يقع إلا بعد إقامتها.
وبعد عرضنا وتحليلنا لقصة حاطب، مع إيراد رواياتها وكلام أهل العلم عليها، بعد ذلك هل تبقى أدنى شبهة لهؤلاء؟
…
الذين لا يرون كفر من قاتل في صفوف الكفار ضد المسلمين بدعوى الاستناد لفقه قصة حاطب «زعموا»
فالله هو الموعد
…
عنده تلتقي الخصوم
_________
(1)
انظر زاد المعاد (3/ 104).
(2)
قاله ابن القيم تعليقاً على رمي عمر لحاطب بالنفاق، انظر: زاد المعاد (3/ 371).
وقال الإمام الحافظ محمد بن وضاح (1): أخبرني غير واحد: أن أسد بن موسى كتب إلى أسد بن الفرات: اعلم يا أخي أن ما حملني على الكتابة إليك ما ذكر أهل بلادك من صالح ما أعطاك الله من إنصافك الناس، وحسن حالك مما أظهرت من السنة، وعيبك لأهل البدع، وكثرة ذكرك لهم وطعنك عليهم، فقمعهم الله بك، وشد بك ظهر أهل السنة، وقواك عليهم بإظهار عيبهم، والطعن عليهم، فأذلهم الله يبدك وصاروا ببدعتهم مستترين، فأبشر يا أخي بثواب ذلك، واعتد به من أفضل حسناتك من الصلاة والصيام والحج والجهاد، وأين تقع هذه الأعمال من إقامة كتاب الله تعالى وإحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من أحيا شيئًا من سنتي كنت أنا وهو في الجنة كهاتين)(2)، وضم بين إصبعيه،
وقال: «أيما داع إلى هدى فاتبع عليه كان له مثل أجر من اتبعه إلى يوم القيامة» (3) فمتى يدرك أجر هذا بشىء من علمه؟ وذكر أيضًا أن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام وليًا لله، يذب عنها وينطق بعلاماتها، فاغتنم يا أخي هذا الفضل وكن من أهله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن
(1) كتاب البدع لابن وضاح (1/ 8)
(2)
بحثت عنه فلم أجده.
(3)
سنن ابن ماجة (205)، قال الإمام السندي في شرحه لسنن ابن ماجة: وفي الزوائد إسناده ضعيف لضعف سعد بن سنان، وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، صححه الترمذي.
وأوصاه: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من كذا وكذا)(1)
وأعظم القول فيه، فاغتنم ذلك وادع إلى السنة حتى يكون لك في ذلك ألفه وجماعه، يقومون مقامك إن حدث بك حدث فيكونون أئمة بعدك (38/ش)، فيكون لك ثواب ذلك إلى يوم القيامة؛ كما جاء في الأثر، فاعمل على بصيرة ونية وحسبة، فيرد الله بك المبتدع المفتون الزائغ ــ
(38/ش) ما أعظم وأعذب هذه النصيحة الجليلة، فينبغي أن يضعها الدعاة إلى التوحيد والسنة نصب أعينهم.
فيجب العمل على إعداد وتربية كوادر من صفوة طلبة العلم على منهج التوحيد، وفهم حقيقة الصراع الأبدي الضروس بين الإسلام والكفر، وبين السنة والبدعة، ومن ثم تتجه هذه الصفوة إلى الأمة بمنهج الإسلام الفريد وتقوم بتحصين أبنائه ضد مخططات الطواغيت والعلمانيين، والحداثيين والمنافقين والمرتدين والزنادقة والملحدين ....
وهذا من شأنه أن يعمل على استمرارية بيان الحق، وظهور الفرقان بين التوحيد والشرك، وأيضًا يعمل على شل مخططات علماء السوء الهادفة إلى تركيع الأمة لأعدائها، وكذلك يعمل على ربط الناس بالحق، وأنه قديم ومستمر حتى يفصل الله بين أهله وأعدائه، ولا يربط الناس بأشخاص، فإذا ذهبوا أو غيبوا ذهب معهم ما قالوه وأصلوه.
(1) المحفوظ في هذا هو لعلي رضي الله عنه حين أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الراية لفتح خيبر، انظر صحيح البخاري (4310)، وصحيح مسلم (2406).
الحائر، فتكون خلفًا لنبيك صلى الله عليه وسلم، فإنك لن تلقى الله بعمل يشبهه وإياك أن يكون لك من أهل البدع أخ أو جليس أو صاحب، فإنه جاء في الأثر:«من جالس صاحب بدعة نزعت منه العصمة، ووكل إلى نفسه، ومن مشى إلى صاحب بدعة، مشى في هدم الإسلام» وجاء: «ما من إله يعبد من دون الله أبغض إلى الله من صاحب هوى» .
وقد وقعت اللعنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل البدع، وأن الله لا يقبل منهم صرفًا ولا عدلا ولا فريضة ولا تطوعًا، وكلما ازدادوا اجتهادًا وصومًا وصلادة ازدادوا من الله بعدًا (1) فارفض مجالسهم وأذلهم وأبعدهم، كما أبعدهم الله وأذلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة الهدى بعدده انتهى كلام أسد - رحمه الله تعالى-.
واعلم - رحمك الله - أن كلامه، ما يأتي من كلام أمثاله من السلف في معاداة أهل البدع والضلالة في ضلالة لا تخرج عن الملة، لكنهم شددوا في ذلك وحذروا منه لأمرين: الأول: غلظ البدعة في الدين في نفسها، فهي عندهم أجلُّ من الكبائر ويعاملون أهلها بأغلظ ما يعاملون به أهل الكبائر، كما تجد في قلوب الناس: أن الرافضي عندهم ولو كان عالمًا عابدًا أبغض
(1) انظر مصداق هذا في الأحاديث الواردة في شأن الخوار، قال النبي صلى الله عليه وسلم في حقهم:(يقرءون القرآن، يحسبون أنه لهم وهو عليهم)، صحيح مسلم (1066)، أبو داود (4139)، ومسند أحمد (668).
وأشد ذنبًا من السني المجاهر بالكبائر (39/ش).
ــ
(39/ش)«الرافضة» : من أخس وأجهل وأكذب الطوائف الداخلة في الإسلام، وأكثرهم قد دخل فيه مستصحبًا للكفر، وبه خرج منه.
«أصل دينهم» من إحداث الزنادقة، وكان مقصودهم به الصد عن سبيل الله، وإبطال ما جاءت به الرسل.
ليس لهم سعي إلا في هدم الإسلام، ونقض عراه، وإفساد قواعده، فأيامهم في الإسلام كلها سود، سود الله وجوههم، ووجوه من تولاهم في الدنيا والآخرة، آمين.
أشبه الناس باليهود، يعادون خيار المؤمنين، من السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، ويوالون المشركين واليهود والنصارى والمنافقين، فهم دائمًا على أعدى أعداء الأمة، والتاريخ قديمًا وحديثًا خير شاهد، ودماء المسلمين التي سفكت على أيديهم في أمس واليوم خير دليل.
منهم دخل على الدين من الفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد، الملاحدة من بابهم ولجوا، والكفار بطريقهم وصلوا الى الاستيلاء على بلاد الإسلام، ولذلك فسيف الموحدين الأطهار عليهم مسلول إلى يوم البعث والنشور.
لا يوجد منافقون ومرتدون في طائفة أكثر مما يوجد فيهم، وديارهم أكثر البلاد منكرًا من الظلم والفواحش والبهتان، ولاؤهم مصروفًا كاملاً لأعداء الإسلام، ومشى بعضهم مع النصارى حاملاً لصليبهم من غير استحياء ساعة نصرهم على أهل الشام، وباعوا لهم بعضًا من المسلمين ببيع العبيد.
..................................................................
ــ
الأمة تشهد على الرافضة بأنها أكذب الطوائف، حتى إن العامة لا تعرف في مقابلة السُّني إلا الرافضي، ولذلك كانوا عند جماهير الأمة نوعًا آخر وجنسًا مختلفًا عن المسلمين، أي ملتهم ملة أخرى منابذة لملة المسلمين.
وإلى الله المشتكى من الذين ينادون بالتقارب بين المسلمين والرافضة، فهذا كحال الذين ينادون بالتقارب بين المسلمين والنصارى، وبين المؤمنين والكافرين، وبين المخلصين والمنافقين.
لا يوثق لهم بتوبة لأن دينهم قائم على التقية، فأبعد الله قومًا يظهرون ما لا يبطنون لجنبهم وخورهم.
قال علامة الأمة ابن تيمية- فاضح الرافضة والملاحدة- في وصف القوم وحكمهم: «فإن الأدلة إما نقلية وإما عقلية، والقوم من أضل الناس في المنقول والمعقول في المذاهب والتقرير، وهم من أشبه الناس بمن قال الله فيهم:{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10].
والقوم من أكذب الناس في النقليات، ومن أجهل الناس في العقليات، يصدقون من المنقول بما يعلم العلماء بالاضطرار أنَّه من الأباطيل، ويكذبون بالمعلوم من الاضطرار المتواتر أعظم تواتر في الأمة جيلاً بعد جيل، ولا يميزون في نقلة العلم ورواة الأحاديث والأخبار بين المعروف بالكذب أو الغلط أو الجهل بما ينقل، وبين العدل الحافظ الضابط المعروف بالعلم بالآثار.
................................................................
ــ
وعمدتهم في نفس الأمر على التقليد، وإن ظنوا إقامته بالبرهانيات. فتارة يتبعون المعتزلة والقدرية، وتارة يتبعون المجسمة والجبرية، وهم من أجهل هذه الطوائف بالنظريات، ولهذا كانوا عند عامة أهل العلم والدين من أجهل الطوائف الداخلين في الإسلام، ومنهم من أدخل على الدين من الفساد مالا يحصيه إلا رب العباد. فملاحدة الإسماعيلية والنصيرية، وغيرهم من الباطنية المنافقين من بابهم دخلوا، وأعداء المسلمين من المشركين وأهل الكتاب بطريقهم وصلوا، واستولوا بهم على بلاد الإسلام، وسبوا الحريم، وأخذوا الأموال، وسفكوا الدم الحرام، وجري على الأمة بمعاونتهم من فساد الدين والدنيا ما لا يعلمه إلا رب العالمين.
إذا كان أصل المذهب من إحداث الزنادقة المنافقين، الذين عاقبهم في حياته على أمير المؤمنين رضي الله عنه، فحرق منهم طائفة بالنار، وطلب قتل بعضهم ففروا من سيفه البتار، وتوعد بالجلد طائفة مفترية فيما عرف عنه من الأخبار.
وذلك أن أول هذه الأمة هم الذين قاموا بالدين تصديقًا وعلمًا وعملا وتبليغًا، فالطعن فيهم طعن في الدين، موجب للإعراض عما بعث الله به النبيين.
وهذا كان مقصود أول من أظهر بدعة التشيع، فإنما كان قصده الصد عن سبيل الله، وإبطال ما جاءت به الرسل عن الله، ولهذا كانوا يظهرون ذلك
...............................................................
ــ
بحسب ضعف الملة، فظهر في الملاحدة حقيقة هذه البدع المضلة، لكن راج كثير منها على من ليس من المنافقين الملحدين لنوع من الشبهة والجهالة، المخلوطة بهوى فقبل معه الضلالة وهذا أصل كل باطل
…
«الرافضة دوما تتبرأ من المسلمين وتتولى الكافرين»
فمن خرج عن الصراط المستقيم كان متبعًا لظنه وما تهواه نفسه، {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50]، وهذا حال أهل البدع المخالفة للكتاب والسنة، فإنهم إن يتبعون إلا الظن وما تهوي الأنفس، ففيهم جهل وظلم، لا سيما الرافضة فإنهم أعظم ذوي الأهواء جهلاً وظلمًا، يعادون خيار أولياء الله تعالى من بعد النبيين، من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوعهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه، ويوالون الكفار والمنافقين من اليهود والنصارى والمشركين، وأصناف الملحدين، كالنصيرية والإسماعيلية، وغيرهم من الضآلين، فتجدهم أو كثيرًا منهم إذا اختصم خصمان في ربهم من المؤمنين والكفار، واختلف الناس فيما جاءت به الأنبياء، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، سواء كان الاختلاف بقول أو عمل، كالحروب التي بين المسلمين وأهل الكتاب والمشركين، تجدهم يعاونون المشركين وأهل الكتاب على المسلمين أهل القرآن
…
..............................................................
ــ
«دخلوا في الإسلام رغبة عنه، ومقتًا لأهله»
روى أبو حفص بن شاهين في كتاب اللطيف السنة، حدثنا محمد بن أبي القاسم بن هارون، حدثنا أحمد بن الوليد الواسطي، حدثني جعفر بن نصير الطوسي الواسطي، عن عبد الرحمن بن مالك بن مغول، عن أبيه قال: قال لي الشعبي: أحذركم هذه الأهواء المضلة، وشرها الرافضة، لم يدخلوا في الإسلام رغبة ولا رهبة، ولكن مقتًا لأهل الإسلام، وبغيًا عليهم. قد حرقهم على رضي الله عنه بالنار، ونفاهم إلى البلدان، منهم عبد الله بن سبأ يهودي من يهود صنعاء، نفاه إلى ساباط، وعبد الله بن ياسر نفاه إلى خازر.
وآية ذلك أن محنة الرافضة محنة اليهود، قالت اليهود: لا يصلح الملك إلا في آل داود، وقالت الرافضة: لا تصلح الإمامة إلا في ولد علي. وقالت اليهود: لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المسيح الدجال، وينزل سيف من السماء، وقالت الرافضة: لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المهدي، وينادي مناد من السماء. واليهود يؤخرون الصلاة إلى اشتباك النجوم، وكذلك الرافضة يؤخرون المغرب إلى اشتباك النجوم
…
وكذلك الرافضة واليهود تبغض جبريل، ويقولون: هو عدونا من الملائكة وكذلك الرافضة يقولون: غلط جبريل بالوحي على محمد صلى الله عليه وسلم.
وكذلك الرافضة وافقوا النصارى في خصلة: النصارى ليس لنسائهم
...............................................................
ــ
صداق إنما يتمتعون بهن تمتعًا، وكذلك الرافضة يتزوجون بالمتعة، ويستحلون المتعة.
وفضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلتين: سئلت اليهود من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب موسى. وسئلت النصارى من خير أهل ملتكم؟ قالوا حواري عيسى. وسئلت الرافضة من شر أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم، فالسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة، لا تقوم لهم راية، ولا يثبت لهم قدم، ولا تجتمع لهم كلمة، ولا تجاب لهم دعوة، دعوتهم مدحوضة، وكلمتهم مختلفة، وجمعهم متفرق، كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله ....
وأما الرافضة فأصل بدعتهم عن زندقة وإلحاد، وتعمد الكذب كثير فيهم، وهم يقرون بذلك حيث يقولون: ديننا التقية. وهو أن يقول أحدهم بلسانه خلاف ما في قلبه. وهذا هو الكذب والنفاق، ويدعون مع هذا أنهم هم المؤمنون دون غيرهم من أهل الملة، ويصفون السابقين الأولين بالردة والنفاق فهم في ذلك كما قيل: رمتني بدائها وانسلت.
إذ ليس في المظهرين للإسلام أقرب إلى النفاق والردة منهم، ولا يوجد المرتدون والمنافقون في طائفة أكثر مما يوجد فيهم، واعتبر ذلك بالغالية من
................................................................
ــ
النصيرية وغيرهم، وبالملاحدة الإسماعيلية وأمثالهم.
وتكلم الشيخ رحمه الله عن اعتقادهم بعصمة الأئمة حتى قال: -
وناهيك بقول لم يوافقهم عليه إلا الملاحدة المنافقون، الذين شيوخهم الكبار، أكفر من اليهود النصارى والمشركين، وهذا دأب الرافضة دائمًا يتجاوزون عن جماعة المسلمين إلى اليهود والنصارى والمشركين في الأقوال والموالاة والمعاونة والقتال وغير ذلك.
«أخس وأضل قوم في الموالاة والمعاداة»
فهل يوجد أضل من قوم يعادون السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ويوالوان الكفار والمنافقين. وقد قال الله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المجادلة: 14، 15]، {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 18، 19]،
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 20، 21]، {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ
...............................................................
ــ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22]
فهذه الآيات نزلت في المنافقين؛ وليس المنافقون في طائفة أكثر منهم في الرافضة، حتى أنه ليس في الروافض إلا من فيه شعبة من شعب النفاق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)(1). أخرجاه في الصحيحين.
{تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 80، 81] وقال تعالى: {* لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [المائدة: 78، 80].
«ديارهم أظلم الديار، وجنسهم مختلف عن جنس المسلمين»
وهم غالبا لا يتناهون عن منكر فعلوه، بل ديارهم أكثر البلاد منكرًا من الظلم والفواحش وغير ذلك، وهم يتولون الكفار الذين غضب الله عليهم، فليسوا مع المؤمنين ولا مع الكفار، كما قال تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا
(1) متفق عليه، صحيح البخاري (934)، صحيح مسلم (58).
..................................................................
ــ
غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ}، ولهذا هم عند جماهير المسلمين نوع آخر، حتى أن المسلمين لما قاتلوهم بالجبل، الذي كانوا عاصين فيه بساحل الشام، يسفكون دماء المسلمين، ويأخذون أموالهم، ويقطعون الطريق استحلالاً لذلك، وتدينا به، فقاتلهم صنف من التركمان، فصاروا يقولون: نحن مسلمون. فيقولون: لا أنتم جنس آخر.
فهم بسلامة قلوبهم علموا أنهم جنس آخر، خارجون عن المسلمين، لامتيازهم عنهم. وقد قال الله تعالى:{وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وهذا حال الرافضة، وكذلك {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} إلى قوله:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 16 - 22]، وكثير منهم يواد الكفار من وسط قلبه أكثر من موادته للمسلمين، ولهذا لما خرج الترك والكفار من جهة المشرق فقاتلوا المسلمين وسفكوا دمائهم ببلاد خراسان والعراق والشام والجزيرة وغيرها، كانت الرافضة معاونة لهم على قتل المسلمين، ووزير بغداد المعروف بالعلقمي هو وأمثاله كانوا من أعظم الناس معاونة لهم على المسلمين، وكذلك الذين كانوا بالشام بحلب وغيرها من الرافضة، كانوا من أشد الناس معاونة لهم على قتل المسلمين، وكذلك النصارى الذين قاتلهم المسلمون بالشام كانت الرافضة من أعظم أعوانهم، وكذلك إذا صار لليهود دولة بالعراق وغيره تكون الرافضة من أعظم أعوانهم، فهم دائمًا يوالون الكفار من
................................................................
ــ
المشركين واليهود والنصارى، ويعاونونهم على قتال المسلمين ومعاداتهم
…
«الرافضة أشهر الطوائف بالبدعة والكذب»
وهذا الذي ذكرناه- أي من كذبهم- معروف عند أهل العلم قديمًا وحديثًا كما قد ذكرنا بعض أقوالهم، حتى قال الإمام عبد الله بن المبارك: الدين لأهل الحديث، والكذب للرافضة، والكلام للمعتزلة، والحيل لأهل الرأي، أصحاب فلان، وسوء التدبير لآل أبي فلان. وهو كما قال: فإن الدين هو ما بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأعلم الناس به أعلمهم بحديثه وسنته، وأما الكلام فأشهر الطوائف به هم المعتزلة، ولهذا كانوا أشهر الطوائف بالبدع عند الخاصة.
وأما الرافضة فهم المعروفون بالبدعة عند الخاصة والعامة، حتى أن أكثر العامة لا تعرف في مقابلة السني إلا الرافضي، لظهور مناقضهم لما جاء به الرسول عليه السلام عند الخاصة والعامة، فهم عين على ما جاء به، حتى الطوائف الذين ليس لهم من الخبرة بدين الرسول ما لغيرهم، إذا قالت لهم الرافضة: نحن مسلمون. يقولون: أنتم جنس آخر.
ولهذا الرافضة يوالون أعداء الدين، الذين يعرف كل أحد معاداتهم، من اليهود والنصارى والمشركين مشركي الترك، ويعادون أولياء الله الذين هم خيار أهل الدين، وسادات المتقين، وهم الذين أقاموه وبلغوه ونصروه.
ولهذا كان الرافضة من أعظم الأسباب في دخول الترك الكفار إلى بلاد
..................................................................
ــ
الإسلام، وأما قصة الوزير ابن العلقمي، وغيره كالنصير الطوسي مع الكفار، وممالأتهم على المسلمين فقد عرفها الخاصة والعامة.
وكذلك من كان منهم بالشام ظاهروا المشركين على المسلمين، وعاونوهم معاونة عرفها الناس.
وكذلك لما أنكسر عسكر المسلمين لما قدم غازان ظاهروا الكفار النصارى، وغيرهم من أعداء المسلمين، وباعوهم أولاد المسلمين، بيع العبيد وأمواله، وحاربوا المسلمين محاربة ظاهرة، وحمل بعضهم راية الصليب!!!
وهم كانوا من أعظم الأسباب في استيلاء النصارى قديمًا على بيت المقدس، حتى استنقذه المسلمون منهم، وقد دخل فيهم أعظم الناس نفاقًا، من النصيرية والإسماعيلية ونحوهم، ممن هو أعظم كفرًا في الباطن ومعاداة لله ورسوله من اليهود والنصارى.
فهذه الأمور وأمثالها مما هي ظاهرة مشهورة، يعرفها الخاصة والعامة، توجب ظهور مباينتهم للمسلمين، ومفارقتهم للدين، ودخولهم في زمرة الكفار والمنافقين، حتى يعدهم من رأي أحوالهم جنسًا آخر غير جنس المسلمين.
فإن المسلمين الذين يقيمون دين الإسلام في الشرق والغرب قديمًا وحديثًا هم الجمهور، والرافضة ليس لهم سعي إلا في هدم الإسلام، ونقض عراه، وإفساد قواعده.
...............................................................
ــ
«أيام الرافضة في الإسلام كلها سوء»
والرافضة من أجهل الناس بدين الإسلام، وليس للإنسان منهم شئ يختص به إلا ما يسر عدو الاسلام، ويسوء وليه، فأيامهم في الإسلام كلها سود، وأعرف الناس بعيوبهم وممادحهم أهل السنة، لا تزال تطلع منهم على أمور غيرها عرفتها كما قال تعالى في اليهود:{وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ} [المائدة: 13] ولو ذكرت بعض ما عرفته منهم بالمباشرة، ونقل الثقات، وما رأيته في كتبهم لاحتاج ذلك إلى كتاب كبير (1).
فهذا بعض يسير من كلام إمام خبير بهذه الطائفة النجسة، ولا يظن ظان أن هذا كان في قوم قد خلوا، ولم يعقبوا وارثا، وإلا فاسألوا المسلمين اليوم في العراق، وأفغانستان، وإيران، وباكستان، ودول الخليج
…
يخبرونكم بما لم تسمعوا وتعلموا: من انتقام وحقد وغل وبغض هذه الطائفة- الملعونة- للمسلمين والمؤمنين.
وما يحصل اليوم من جرائم، وسفك لدماء الموحدين، وهتك لأعراض الطاهرات من نسائنا، واستحلال للأموال، ومعاونة ومؤازرة لأهل الكفر قاطبة
(1) السفر العظيم، منهاج السنة، الكتاب الذي مازال أهل السنة يتوارثونه بينهم لاتقاء شر الرافضة، انظر (10/ 1 - 60)، و (3/ 376) وما بعدها، و (7/ 414) وما قبلها.
..................................................................
ــ
على الاستيلاء على ثغور وبلدان المسلمين
…
لخير شاهد وأعظم دليل على صدق وعدل أئمتنا، العلماء الربانيين، الذين حذروا الأمة من شر هذه الطائفة، وأنه لا تكون بلية على الإسلام وأهله إلا وهم من ورائها ومعبر خصب لها، ومن هؤلاء الأئمة النصحة: الشعبي، وعبد الله بن المبارك، ومالك وأحمد، والشافعي، وابن تيمية، وابن القيم وابن كثير
…
فرحمهم الله من أئمة صادقين، ورحمهم الله من أئمة أن همهم الأكبر الحفاظ على ثغور الأمة، والحفاظ على عقائد العامة، والعمل على صيانة أعراض ودماء وأموال المسلمين
…
ورحمهم الله من أئمة تجردوا للجهاد عن الإسلام وأهله بألسنتهم وأيديهم وأموالهم وقلوبهم، فلم يضيعوا كما ضيع كثير من المتأخرين حدود ومعالم وقواعد الصراع بين الحق والباطل، بسبب صفقة خاسرة عقدها أئمة الضلال مع رؤوس الطغيان والإلحاد.
وأخيرًا أوجه موعظة نصحًا للأمة وبراءة للذمة: عليكم بالحق العتيق، وهدي نبيكم صلى الله عليه وسلم المترجم عمليًا في سيرة العلماء الربانيين، وبه فقط زنوا الناس لتعرفوا علماء الاستقامة من علماء الضلالة.
فنحن أمة ممتدة بحقها إلى آدم عليه السلام، وإلى الأنبياء بعده من ولده، وعلى رأسهم الخليلان، إبراهيم ومحمد، عليهما الصلاة وأزكى التسليم.
الثاني: أن البدع تجر إلى الردة الصريحة كما وجُد من كثير من أهل البدع.
فمثال البدع التي شددوا فيها: مثل تشديد النبي صلى الله عليه وسلم فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح، خوفًا مما وقع من الشرك الصريح، الذي يصير به المسلم مرتدًا، فمن فهم، فهم الفرق بين البدع، وبين ما نحن فيه من الكلام في الردة، ومجاهدة أهلها، أو النفاق الأكبر ومجاهدة أهله، وهذا هو الذي أنزلت فيه الآيات المحكمات مثل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة: 73]، {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ} [التوبة: 74] (40/ش).
ــ
فسيرة أهل الحق واضحة وبينة ومحفوظة، وضاربة بعمق في جذر تاريخ البشرية، ومحفوظة، ليحيا من حي عن بينة
…
ويهلك من هلك عن بينة.
اللهم بلغت
…
اللهم فاشهد
…
اللهم فاشهد .... اللهم فاشهد ....
(40/ش) قوله تعالى: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ} نص قطعي الثبوت والدلالة على أن الكفر والردة عن الإسلام يقع بكلمة، وهذا من أدلة أهل السنة القائلين: بأن الكفر يقع بالقول وبالعمل، وبالاعتقاد.
قال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في أثناء رده على غلاة
.................................................................
ــ المرجئة من المتأخرين: «قال الله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ} [التوبة: 74].
أما سمعت الله كفرهم بكلمة مع كونهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجاهدون معه ويصلون ويزكون ويحجون ويوحدون» (1).
(1) كشف الشبهات/32.
وقال ابن وضَّاح «في كتاب البدع والحوادث» (1) بعد حديث ذكره: أنه سيقع في هذه الأمة فتنة الكفر وفتنة الكفر وفتنة الضلالة.
قال رحمه الله: إن فتنة الكفر هي الردة، يحل فيها السبي والأموال وفتنة الضلالة لا يحل فيها السبي ولا الأموال، وقال رحمه الله أيضًا (2).
أخبرنا أسد، أخبرنا رجل، عن ابن المبارك، قال: قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام وليًّا من أوليائه يذب عنه وينطق بعلامتها، فاغتنموا حضور تلك المواطن، وتوكلوا على الله. قال ابن المبارك: وكفى بالله وكيلاً، ثم ذكر بإسناده عن بعض السلف (3)، قال: لأن أرد رجلاً عن رأي سيئ أحب إلى من اعتكاف شهر.
أخبرنا أسد، عن أبي إسحاق الحذاء، عن الأوزاعي قال: كان بعض أهل العلم يقولون: لا يقبل الله من ذي بدعة صلاة ولا صدقة، ولا صيامًا، ولا جهادًا، ولا حجًا، ولا صرفًا ولا عدلاً، وكانت أسلافكم تشتد عليهم ألسنتهم، وتشمئز منهم قلوبهم، ويحذرون الناس بدعتهم. قال: ولو كانوا مستترين ببدعتهم دون الناس ما كان لأحد أن يهتك عنهم سترًا، ولا يظهر منهم عورة، الله أولى بالأخذ بها أو بالتوبة عليها، فأما إذا جاهروا به، فنشر العلم حياة، والبلاغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة، يعتصم بها على مصرٍّ ملحد.
(1) كتاب البدع (1/ 272).
(2)
كتاب البدع (1/-3 - 181).
(3)
هو عبد الكريم أو أمية.
ثم روى بإسناده قال: جاء رجل إلى حذيفة، وأبو موسى الأشعري قاعد فقال: أرأيت رجلاً ضرب بسيفه غضبًا لله حتى قُتل أفي الجنة أم في النار؟
فقال أبو موسى: في الجنة فقال حذيفة: استفهم الرجل وأفهمه ما تقول حتى فعل ذلك ثلاث مرات، فلما كان في الثالثة قال: والله لا أستفهمه، فدعا به حذيفة فقال: رويدك، وما يدريك أن صاحبك لو ضرب بسيفه حتى ينقطع فأصاب الحق حتى يقتل عليه فهو في الجنة، وإن لم يُصب الحق ولم يوفقه الله للحق فهو في النار، ثم قال: والذي نفسي بيده ليدخلن النار في مثل الذي سألت عنه أكثر من كذا وكذا، ثم ذكر بإسناد عن الحسن قال: لا تجالس صاحب بدعة فإنه يُمرض قلبك.
ثم ذكر بإسناده عن سفيان الثوري قال: من جالس صاحب بدعة لم يسلم من إحدى ثلاث:
إما أن يكون فتنة لغيره، وإما أن يقع في قلبه شيء فيزل به، فيدخله الله النار، وإما أن يقول: والله ما أبالي ما تكلموه وإني واثق بنفسي. فمن أمن الله على دينه طرفة عين سلبه إياه، ثم ذكر بإسناده عن بعض السلف قال: من أتى صاحب بدعة ليوقِّره فقد أعان على هدم الإسلام.
أخبرنا أسد قال: حدثنا كثير أبو سعيد قال: من جلس إلى صاحب بدعة نزعت منه العصمة، ووكل إلى نفسه. أخبرنا أسد بن موسى قال: أخبرنا حماد بن زيد، عن أيوب قال: قال أبو قلابة: لا تجالسوا أهل
الأهواء ولا تجادلوهم، فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون.
قال أيوب- وكان والله من الفقهاء ذوي الألباب.
أخبرنا أسد بن موسى قال: أخبرنا زيد، عن محمد بن طلحة قال: قال إبراهيم: لا تجالسوا أصحاب البدع ولا تكلموهم فإني أخاف أن ترتد قلوبكم. أخبرنا أسد بالإسناد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)(1).
أخبرنا أسد، أخبرنا مؤمل بن إسماعيل، عن حماد بن زيد، عن أيوب قال: دخل على محمد بن سيرين يومًا رجل فقال: يا أبا بكر أقرأ عليك آية من كتاب الله لا أزيد على أن أقرأها ثم أخرج، فوضع أصبعيه في أذنيه ثم قال: أُحَرِّجُ عليك إن كنت مسلمًا لما خرجت من بيتي. قال فقام بإزاره يشده عليه، وتهيأ للقيام، فأقبلنا على الرجل فقلنا: قد حَرَّج عليك إلا خرجت، أفيحل لك أن تخرج رجلاً من بيته؟ قال فخرج. فقلنا يا أبا بكر ما عليك لو قرأ آية ثم خرج.
(1) مسند أحمد (7685)، وأخرجه الحاكم، وقال صحيح إن شاء الله، ووافقه الذهبي على لفظة المستدرك (7230).
وعزاه العجلوني إلى أبي داود والترمذي وقال: حسنه البيهقي.
وتساهل ابن الجوزي فأورده في الموضوعات، وخطأه الزركشي، وحسنه الحافظ،
انظر كشف الخفاء (2/ 1278)، وحسنه الألباني، انظر كتاب الإيمان لابن تيمية بتحقيقه/55.
قال إني والله لو ظننت أن قلبي يثبت على ما هو عليه ما باليت أن يقرأ، ولكنني خفت أن يلقي في قلبي شيئًا، أجهد أن أخرجه من قلبي فلا أستطيع.
أخبرنا أسد قال: أخبرنا ضمرة، عن سودة قال سمعت عبد الله بن القاسم وهو يقول: ما كان عبد على هوى فتركه إلا آل إلى ما هو شر منه قال: فذكرت هذا الحديث لبعض أصحابنا فقال: تصديقه في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية ثم لا يرجعون حتى يرجع السهم إلى فوقه)(1).
أخبرنا أسد قال أخبرنا موسى بن إسماعيل، عن حماد بن زيد، عن زيد، عن أيوب قال كان رجل يرى رأيًا فرجع عنه، فأتيت محمدًا فرحًا بذلك أخبره، فقلت: أشعرت أن فلانًا ترك رأيه الذي كان يَرى.
فقال: انظروا إلى ما يتحوَّل، إن آخر الحديث أشدُّ عليهم (2) من أوله (يمرقون من الإسلام ثم لا يعودون إليه)(3) ثم روى بإسناده عن حذيفة أنه أخذ حصاة بيضاء فوضعها في كفِّه، ثم قال: إن هذا الدين قد استضاء استضاءة هذه الحصاة، ثم أخذ كفًا من تراب فجعل يذره على الحصاة حتى واراها، ثم قال والذي نفسي بيده ليجيئن أقوام يدفنون الِّدين كما دفنت هذه الحصاة.
(1) صحيح البخاري (7562)
(2)
أي على الخوارج، ونحوهم من أهل البدع والأهواء.
(3)
سبق تخريجه.
أخبرنا محمد بن سعيد بإسناد، عن أبي الدرداء قال: لو خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم إليكم ما عرف شيئًا مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة. قال الأوزاعي: فكيف لو كان اليوم.
قال عيسى: يعني الراوي عن الأوزاعي - فكيف لو أدرك الأوزاعي هذا الزمان.
أخبرنا محمد بن سليمان بإسناده، عن علي أنه قال: تعلموا العلم تعرفوا به واعملوا به تكونوا من أهله، فإنه سيأتي بعدكم زمان يُنكر الحق فيه تسعة أعشارهم.
أخبرنا يحيى بن يحيى بإسناده، عن أبي سهل بن مالك، عن أبيه أنه قال: ما أعرف منكم شيئًا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة.
حدثني إبراهيم بن محمد بإسناده، عن أنس قال: ما أعرف منكم شيئًا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة.
حدثني إبراهيم بن محمد بإسناده، عن أنس قال ما أعرف منكم شيئًا كنت أعهده على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس قولكم لا إله إلا الله.
أخبرنا محمد بن سعيد قال: نا أسد بإسناده، عن الحسن قال: لو أن رجلاً أدرك السلف الأول، ثم بُعث اليوم ما عرف من الإسلام شيئًا قال: ووضع يده على خدِّه، ثم قال: إلا هذه الصلاة؛ ثم قال: أما والله لمن عاش في هذه النكرا -ولم يدرك هذا السلف الصالح- فرأى مبتدعًا يدعو إلى بدعته، ورأى صاحب دنيا يدعو إلى
دنياه فعصمه الله عن ذلك، وجعل قلبه يحنُّ إلى ذكر هذا السلف الصالح، يسأل عن سبيلهم ويقتصُّ آثارهم، ويتبع سبيلهم ليعوَّض أجرًا عظيمًا، فكذلك فكونوا إن شاء الله تعالى.
حدثني عبد الله بن محمد بإسناده، عن ميمون بن مهران قال: لو أن رجلاً نُشر فيكم من السلف ما عرف فيكم غير هذه القبلة.
أخبرنا محمد بن قدامة الهاشمي بإسناده، عن أم الدرداء قالت دخل عليَّ أبو الدرداء مغضبا، فقلت له: ما أغضبك؟ فقال: والله ما أعرف فيهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم شيئًا إلا أنهم يصلون جميعًا. وفي لفظ: لو أن رجلاً تعلم الإسلام وأهمه ثم تفقده ما عرف منه شيئًا.
حدثني إبراهيم بإسناده، عن عبد الله بن عمرو قال: لو رجلان من أوائل هذه الأمة خليا بمصحفيهما في بعض هذه الأودية لأتيا الناس اليوم، ولا يعرفان شيئًا مما كانا عليه.
قال مالك: وبلغني أن أبا هريرة رضي الله عنه تلا {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر: 1، 2].
فقال: والذي نفسي بيده إن الناس ليخرجون اليوم من دينهم أفواجًا كما دخلوا فيه أفواجًا.
قف تأمل رحمك الله: إذا كان هذا في زمن التابعين بحضرة أواخر الصحابة، فكيف يغتر المسلم بالكثرة، أو تشكل عليه، أو يستدل بها على الباطل.
ثم روى ابن وضاح (1) بإسناده عن أبي أمية قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت: يا أبا ثعلبة، كيف تصنع في هذه الآية فقال: أية آية؟ قال قول الله تعالى: {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105].
قال: أما والله قد سألت عنها خبيرًا، سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شُحًا مطاعًا وهوى مُتبعًا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك ودع عنك أمر العوام. فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله، قيل يا رسول الله أجر خمسين منهم، قال أجر خمسين منكم» (2) ثم روى بإسناده عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: طوبى للغرباء ثلاثًا، قالوا: يا رسول الله ومن الغرباء؟ قال: ناس صالحون قليل في أناس سوء كثير، من يبغضهم أكثر ممن يحبهم (3).
(1) البدع لابن وضاح.
(2)
سنن أبي داود (4341)، وسنن الترمذي وقال: حسن غريب 358، وصححه ابن حبان (385)، وقال الألباني: صحيح لغيره، انظر صحيح الترغيب والترهيب (3172).
(3)
نسبه الهيثمي في المجمع إلى مسند أحمد، والأوسط للطبراني، وقال: وفيه ابن لهيعة، وفيه ضعف -المجمع (12191).
أخبرنا محمد بن سعيد بإسناده عن المعافري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «طوبى للغرباء الذين يتمسكون بكتاب الله حين ينكر، ويعملون بالسُّنَّة حين تُطفأ» (1).
أخبرنا محمد بن يحيى، أخبرنا أسد بإسناده عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(بدأ الإسلام غريبًا، ولا تقوم الساعة حتى يكون غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء حين يفسد الناس ثم طوبى للغرباء حين يفسد الناس)(2)، نا محمد بن يحيى، نا أسد بإسناده عن عبد الرحمن، أنه سمع رسول الله يقول:(إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس)(3) هذا آخر ما نقلته من كتاب البدع والحوادث للإمام الحافظ محمد بن وضاح رحمه الله (41/ش).
ــ
(41/ش) هذا سبيل أهل السُّنَّة والجماعة في معاملة أهل البدع والشقاق، حتى يظل المنهج القويم الذي تركه لنا رسولنا الأمين صلى الله عليه وسلم ظاهرًا واضحًا نقيًا من شوائب البدع والمحدثات. وحتى يظل الطريق مسدودًا أمام أهل الزندقة
(1) لم أجد له ذكر إلا في كتاب الاعتصام للشاطبي أثناء كلامه على حديث الغربة، ولم يزد على قوله، وفي رواية لابن وهب، ثم ساق هذه الرواية انظر: الاعتصام (1/ 12).
(2)
بحثت عنه فلم أجده بهذا اللفظ.
(3)
مسند أحمد (16736)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1273).
................................................................
ــ
والإلحاد، الذين يريدون نشر البدع والضلالات لتوهين شوكة الأمة، ولفتح باب الشرك والكفر على مصراعيه، لأن البدع تجر أصحابها جرًا إلى الردة والخروج من الملة.
وعليه فينبغي أن يُعامل أهل البدع اليوم، لا سيما الرافضة المارقين من الملة بما هم أهله، حتى يظل التوحيد صافيًا من دَخن الشرك، وتدوم السُّنَّة خالصة من غبار البدعة.
«سئل الشيخ محمد بن عبد اللطيف، أقامه الله مناضلاً عن الدين الحنيف: رجلان تنازعا في السلام على الرافضة والمبتدعين، ومن ضاهاهم من المشركين، وفي مواكلتهم ومجالستهم، فقال أحدهما: هو جائز، لقول عالمي: إن أخذت فقد أخذ الصالحون، وإن رددت فقد رد الصالحون، ووفد على عمر بن عبد العزيز: كثير عزَّة، وهو متَّهم بالتشيُّع، ورسول عمر وفد على جبلة الغساني بعد ردته.
وقال الآخر: لا يجوز لدليل آيات الموالاة، ولقوله تعالى:{وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: 47] والسلام على عباد الله الصالحين، وأن ترك السلام على الفاسق وأهل المعاصي سُنَّة، وهؤلاء أشرُّ حالاً وعقيدة منهم.
فأجاب: الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، كالمبتدعة والمشركين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وإمام المتقين، وقائد الغرِّ المحجَّلين، محمد وآله وصحبه والتابعين.
................................................................
ــ
أما بعد: فقد سألني من لا تسعني مخالفته، عن هذا السؤال المذكور أعلاه، بما عليه أهل التحقيق من أئمة الإسلام، والهداة الأعلام، وما نعتقده في ذلك وندين الله به؟
فنقول: اعلم وفقنا الله وإياك لما يحب ويرضى، أنه لا يستقيم للعبد إسلام ولا دين، إلا بمعاداة أعداء الله ورسوله، وموالاة أولياء الله ورسوله، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ} [التوبة: 23]، وقال تعالى:{الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء: 139]، وقال تعالى:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22]، وقال تعالى:{وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا تميلوا إليهم في المودة ولين الكلام، وقال أبو العالية: لا ترضوا بأعمالهم، وقال بعض العلماء: من مشى غليهم ولم ينكر عليهم، عُدَّ من الراكنين إليهم.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1]، وقال تعالى:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4].
.................................................................
ــ
فالواجب على من أحب نجاة نفسه، وسلامة دينه، أن يعادي من أمره الله ورسوله بعداوته، ولو كان أقرب قريب، فإن الإيمان لا يستقيم إلا بذلك والقيام به، لكنه من أهم المهمات، وآكد الواجبات.
إذا عرفت هذا: فمواكلة الرافضي، والانبساط معه، وتقديمه في المجالس، والسلام عليه، لا يجوز لأنه موالاة وموادة، والله تعالى قد قطع الموالاة بين المسلمين والمشركين، بقوله:{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران: 28] وقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140].
والسلام تحية أهل الإسلام بينهم، فإذا سلَّم على الرافضة، وأهل البدع، والمجاهرين بالمعاصي، وتلقَّاهم بالإكرام والبشاشة، وألان لهم الكلام، كان ذلك موالاة منه لهم، فإذا وادّهم وانبسط لهم مع ما تقدَّم جمع الشر كله، ويزول ما في قلبه من العداوة والبغضاء، لأن إفشاء السلام سبب لجلب المحبة، كما ورد في الحديث:(ألا أدلكم على ما تحابون به)؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال:(أفشوا السلام بينكم)(1)، فإذا سلَّم على الرافضة والمبتدعين وفسَّاق المسلمين، خلصت مودته ومحبته في حق أعداء الله وأعداء رسوله.
(1) صحيح مسلم (54)، وسنن الترمذي (2510) والحديث رواه المصنف بمعناه. والله أعلم.