الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عبد الله، أمير ضرمى أرسل إلى الأمير محمد بن سعود يخبره به، فجهزَّ الأمير ابن سعود من فوره جيشًا من أهل العيينة وأهل الدرعية، وبادروا بالسير إلى قصر ضرمي، وسار معهم محمد بن عبد الله أمير ضرمي وأغلبُ قومه. فلما اقتربوا من البلد كمنوا في زرع ذرة هناك، فلما مضى هزيع من الليل سمعوا وقع حوافر الخيل، فبادروهم بالقتال فانهزموا.
وقتل من أهالي ثرمداء ممن أقبل معهم سبعين رجلا، وأسر أناس منهم: عبد الكريم بن زامل رئيس بلد وثيثية.
ثم
فتح المسلمون حريملا عنوة
، فقد سار إليها عبد العزيز بن محمد بن سعود في نحو ثمانمائة رجل، ومعهم من الخيل عشرون فرسًا فأناخ شرقي البلد ليلاً، وكمن في موضعين، فصار عبد العزيز ومعه عدة من الشجعان في «شعيب عوجا» وكمن مبارك بن عدوان، مع مائتي رجل في «الجزيع» فلما أصبحوا شنُّوا الغارة، فخرج إليهم أهل البلد، فاشتد بينهم القتال، فلما خرج عليهم الكمين الأول صبروا حتى بدا لهم الكمين الثاني فلم يملكوا إلا الفرار فتفرقوا في الشعاب والجبال، وقتل المسلمون منهم مائة رجل، وغنموا كثيرا من الذخائر والأموال، وقُتِل من المسلمين سبعة.
ودخل المسلمون البلدة، وأعطى عبد العزيز بقية الناس الأمان، وصارت البلدة فيئًا من الله، ودورها ونخيلها غنيمة للمسلمين.
وفي هذه الوقعة هرب قاضي البلدة سليمان بن عبد الوهاب - أخو الشيخ
(1)
ماشيًا حتى وصل إلى سدير سالمًا. وولى عبد العزيز مبارك بن عدوان أميرًا على البلد، وأعطاه نفائس الأموال، وخيره ما شاء من البيوت والبساتين ولكنه لم يحفظ نعمة الله، فارتدَّ بعد ذلك على ما سيجيء بيانه.
ثم أقبل عبد العزيز بالأموال والغنائم إلى الدرعية، فقسمها الشيخ محمد بن عبد الوهاب متبعًا بذلك سنة رسول الله، وما كان يصدر عن السلف.
وكان فتح حريملا يوم الجمعة لثمان خلت من جمادى الأولى سنة
1168 هـ» (2).
(3/ش) عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه، كنيته (أبو نجيح) صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، رابع أربعة أو خامس خمسة في الإسلام، أسلم بمكة ثم رجع إلى بلاد قومه بعد أمر النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك. وظل مقيمًا بها حتى مضت بدر وأحد والخندق والحديبية وخيبر، ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد ذلك وكان قبل إسلامه يعتزل عبادة الأصنام ويراها إفكًا وضلالة (3).
(1) صحيح مسلم (832) - كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب إسلام عمرو بن عبسة، وسنن البيهقي الكبرى (4178)، باب ذكر الخبر الذي يجمع النهي عن الصلاة في جميع هذه الساعات.
(2)
تاريخ نجد للشيخ حسين بن غنام - تحقيق د/ ناصر الدين أسد (106 - 110).
(3)
انظر: تهذيب الكمال للحافظ المزي - تحقيق د. بشار عواد (22/ 118 وما بعدها).
(4/ش) قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: «قوله: «فقلت له: ما أنت» هكذا هو في الأصول «ما أنت» ، وإنما قال: ما أنت، ولم يقل: من أنت؟ لأنه سأل عن صفته لا عن ذاته، والصفات مما لا يعقل» (1).
(5/ش) قوله «إني متبعك» ليس المقصود اتباع طاعتك وشريعتك لأن عقد الإسلام لا يثبت إلا بهذا.
فالدخول في الإسلام لا بد فيه من الإقرار مع الالتزام لله بوحدانيته في ربوبيته وألوهيته، ولنبيه رضي الله عنه بوحدانيته في الطاعة والاتباع.
(التزام طاعة النبي صلى الله عليه وسلم شرط في صحة الإسلام وقبوله).
قال العلامة الإمام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - الرجل الميت الحي
(1) صحيح مسلم بشرح النووي (3/ 95).
الذي مازال يقود معركة الصراع الضروس بين المسلمين والمشركين: «ويعلم أنه لو قدر أن قومًا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن نؤمن بما جئتنا به بقلوبنا من غير شك، ونقر بألسنتنا بالشهادتين، إلا أنَّا لا نطيعك في شيء مما أمرت به ونهيت عنه، فلا نصلي، ولا نصوم، ولا نحج، ولا نصدق الحديث، ولا نؤدي الأمانة، ولا نفي بالعهد، ولا نصل الرحم، ولا نفعل شيئًا من الخير الذي أمرت به، ونشرب الخمر، وننكح ذوات المحارم بالزنا الظاهر، ونقتل من قدرنا عليه من أصحابك وأمتك، ونأخذ أموالهم، بل نقتلك أيضًا ونقاتلك مع أعدائك» .
هل كان يتوهم عاقل أن النبي صلى الله عليه وسلم، يقول لهم: أنتم مؤمنون كاملو الإيمان، وأنتم من أهل شفاعتي يوم القيامة، ويرجى لكم أن لا يدخل أحد منكم النار، بل كل مسلم يعلم بالاضطرار أنه يقول لهم: أنتم أكفر الناس بما جئت به ويضرب رقابهم إن لم يتوبوا من ذلك» (1).
وقال أيضًا - رحمه الله تعالى -: «وأيضًا فقد جاء نفر من اليهود إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: نشهد إنك لرسول الله ولم يكونوا مسلمين بذلك، لأنهم قالوا ذلك على سبيل الإخبار عما في أنفسهم أي: نعلم ونجزم أنك رسول الله. قال: فلم لا تتبعوني؟ قالوا: نخاف من يهود.
فعلم أن مجرد العلم والإخبار عنه ليس بإيمان حتى يتكلم بالإيمان على
(1) مجموع الفتاوى (7/ 287).
وجه الإنشاء المتضمن للالتزام والانقياد، مع تضمن ذلك الإخبار عما في أنفسهم. فالمنافقون قالوا مخبرين كاذبين فكانوا كفارًا في الباطن وهؤلاء قالوا غير ملتزمين ولا منقادين فكانوا كفارًا في الظاهر والباطن (1).
وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى- تعليقًا على قصة وفد نصارى نجران: «وفيها أن إقرار الكاهن الكتابي لرسول الله بأنه نبي لم يدخله في الإسلام، ما لم يلتزم طاعته ومتابعته فإذا تمسَّك بدينه بعد هذا الإقرار لا يكون ردة منه، ونظير هذا قول الحبرين
…
قالا: نشهد إنك نبي. قال: فما يمنعكما من اتباعي. قالا: نخاف أن تقتلنا اليهود» (2) ولم يلزمهما بذلك الإسلام، ومن تأمَّل ما في السير والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وأنه صادق فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام، علم أن الإسلام أمر وراء ذلك. وأنه ليس هو المعرفة فقط، ولا المعرفة والإقرار فقط، بل المعرفة، والإقرار، والانقياد، والتزام طاعته، ودينه ظاهرًا، وباطنًا» (3).
وقال أيضًا: رحمه الله: «وعلى هذا فإنما لم يحكم لهؤلاء اليهود الذين شهدوا له بالرسالة بحكم الإسلام، لأنه مجرد الإقرار والإخبار بصحة رسالته
(1) مجموع الفتاوى (7/ 561).
(2)
مصنف ابن أبي شيبة (36543)، والآحاد والمثاني (2465).
(3)
زاد المعاد (3/ 42).
لا يوجب الإسلام إلا أن يلتزم طاعته ومتابعته. وإلا فلو قال: أنا أعلم أنه نبي، ولكن لا أتبعه، ولا أدين بدينه كان من أكفر الكفّار، كحال هؤلاء المذكورين، وغيرهم.
هذا متفق عليه بين الصحابة والتابعين، وأئمة السنة: أن الإيمان لا يكفي فيه قول اللسان بمجرده، ولا معرفة القلب مع ذلك، بل لابد فيه من عمل القلب، وهو حب الله ورسوله، وانقياده لدينه، والتزام طاعته، ومتابعة رسوله وهذا خلاف من زعم: أن الإيمان هو مجرد معرفة القلب، وإقراره» (1).
وقال الحافظ ابن حجر: «وفي قصة أهل نجران من الفوائد: أن إقرار الكافر بالنبوة لا يدخله في الإسلام حتى يلتزم أحكام الإسلام» (2).
من هذه النقول نعلم: أن قول الصحابي الجليل عمرو بن عبسة رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم (إني متبعك) المقصود به: «إني متبعك على إظهار الإسلام في بلد الله الحرام معك، وليس المقصود بـ (إني متبعك) أي الاتباع والطاعة التي لا يثبت عقد الإسلام إلا بالإقرار به، وهذا أمر مجمع عليه بين سلف الأمة وأئمتها، خلافًا للمرجئة الذين يقولون بأن الإيمان هو مجرد الإقرار والتصديق، دون الطاعة والاتباع.
قال الإمام النووي - رحمه الله تعالى - تأكيدًا على هذا المعنى: «قوله:
(1) مفتاح دار السعادة (1/ 94).
(2)
فتح الباري (7/ 697).
فقلت إني متبعك قال: «إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا ألا ترى حالي وحال الناس؟ ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني» معناه: قلت له إني متبعك على إظهار الإسلام هنا وإقامتي معك، فقال لا تستطيع ذلك لضعف شوكة المسلمين، ونخاف عليك من أذى كفار قريش، ولكن قد حصل أجرك فابق على إسلامك، وارجع إلى قومك، واستمر على الإسلام في موضعك حتى تعلمني ظهرت فأتني، وفيه معجزة للنبوة، وهي إعلامه بأنه سيظهر (1).
(1) صحيح مسلم بشرح النووي (3/ 96).
(6/ش)«حرمة مشابهة المشركين وعاقبتها الوخيمة» .
من المعلوم من الدين بالضرورة حرمة مشابهة المشركين والزنادقة والمبتدعة والمتفلسفة .. فالمشابهة في الأقوال والأعمال والعادات في الظاهر مظنة المحبة والموالاة والنصرة في الباطن.
ولمّا كان أوائل هذه الأمة قد باينوا سبيل المجرمين بكليتهم، باينوها بأقوالهم وأعمالهم ومعتقداتهم، حتى غدت البراءة من الشرك وأهله سمة بارزة لهم في واقعهم وسلوكهم، ومن ثم كانت سبيلهم هي السُّنة المحضة، وصراطهم هو الحق الفاصل، وهديهم هو الترجمة الحرفية العملية لنصوص القرآن والسُّنة.
وسار أبناء المسلمين على هذا فترة من تاريخ الأمة، كانت فترة نقية ناصعة البياض، تملكوا فيها البلاد والعباد، البلاد بالقرآن والعباد بالإيمان، هذه صفحة من صفحات تاريخ المسلمين.
وسطرت صفحة أخرى عندما بدأ فرقان المفاصلة بين المسلمين والمشركين يضعف، وباطل المشابهة بينهما ينبت وينمو ويقوى.
بدأ أعداء الإسلام من بني جلدتنا يشككون في قوة الأمة على منازلة خصومها، ثم طرحوا حلاً خلاصته: هو العمل الدؤوب على ذوبان الحد الفاصل بين أولياء الله وأعدائه، عن طريق فتح باب المشابهة لأعداء الدين في
الأقوال والأعمال والمعتقدات والعادات .. ومن بلاء الله لهذه الأمة - وله سبحانه الحكمة البالغة - فقد كان الجو مهيئًا والتربة معدة لسريان هذا المخطط الخبيث في مفاصل جسدها، وذلك بسبب ضعف الوازع العقدي لدى كثير من أبناء الأمة.
وكنا ننتظر انتفاضة مباركة من العلماء والدعاة والكُتّاب
…
للوقوف صفًا واحدًا كالبنيان المرصوص، ليقي المسلمين من لسعات هذا المخطط المسموم، ولكن رأينا كثيرًا منهم يتسابقون في إضفاء الشرعية، وتكريس المصيبة العظمى على رؤوس العباد، وفي جنبات البلاد.
ونسي بعضهم، وتناسى أكثرهم نصوص القرآن والسُّنة المحرمة لمشابهة الكفار والمرتدين، والقاضية بردة من والاهم ونصرهم على المسلمين، ولو كان من أجل دنيا فانية أو متاع زائل
…
قال الله تعالى -وسيظل هذا النص يتلى إلى قيام الساعة على رغم أنف أعداء الله وعلماء السوء -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى
مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا
بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ}
[المائدة: 51 - 53]، وهذه الآيات وما في معناها، قراءتها
تفسيرها، لأنها ليست في حاجة إلى بيان.
فوالذي نفسي بيده لو تليت هذه الآيات على أعجمي لا يعرف من العربية إلا معاني ألفاظها لعلم المراد بها.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من تشبه بقوم فهو منهم» (1).
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى - معلقًا عليه: «ففيه دلالة على: النهي الشديد، والتهديد والوعيد على التشبه بالكفار في أقوالهم وأفعالهم ولباسهم وأعيادهم وعباداتهم، وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا، ولا نقر
عليها» (2).
وقال الإمام الصنعاني - رحمه الله تعالى -: «والحديث دال على أن من تشبه بالفساق كان منهم، أو بالكفار، أو المبتدعة في أي شيء مما يختصون
(1) سنن أبي داود (4031) وهو حديث صحيح، حسنه الحافظ في الفتح (10/ 271)، وقال في موضع آخر، «وقد ثبت أنه قال: من تشبه بقوم فهو منهم. كما تقدم معلقًا في كتاب الجهاد، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصله أبو داود» الفتح (10/ 274) وجود إسناده ابن تيمية في مجموع الفتاوى (25/ 231) وصححه الألباني في مختصر إرواء الغليل/ 248 برقم (1269).
(2)
تفسير ابن كثير (1/ 206) عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} الآية [البقرة 104].
به، من ملبوس أو مركوب أو هيئة، قالوا: فإذا تشبه بالكفار في زي، واعتقد أن يكون بذلك مثله كفر؛ فإن لم يعتقد ففيه خلاف بين الفقهاء، منهم من قال: يكفر، وهو ظاهر الحديث، ومنهم من قال: لا يكفر ولكن يؤدب» (1).
وقال علامة الأئمة ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «وهذا الحديث أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم - أي الكفار -؛ وإن كان ظاهره يقتضي: كفر المتشبه بهم؛ كما في قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] (2)» .
وقال أيضًا في النهي عن مشابهة الظلمة، فكيف بالكفرة: «وقد كره أحمد رضي الله عنه: لبس السواد في الوقت الذي كان شعار الصلاة والجند، واستعفى الخليفة المتوكل من لبسه لما أراد الاجتماع به فأعفاه بعد مراجعة، وكان هذا الزي إذ ذاك شعار أهل طاعة السلطان في إمارة ولد العباس رضي الله عنه.
وكان من لم يلبسه ربما أُتهم بمعصية السلطان، والخروج عليه
…
وسأله رجل - أي: الإمام أحمد - عن خياطة الخز الأسود؟
فقال: إذا علمت أنه لجندي فلا تخطه.
وسأله رجل أخيط السواد؟
قال: لا.
(1) سبل السلام (1/ 234).
(2)
اقتضاء الصراط المستقيم - تحقيق محمد حامد الفقي/ 83.
وسئل عن المرأة تأمر زوجها أن يشتري لها ثوب خز أسود؟
فقال: هو للمرأة أسهل.
قيل له: فأي شيء ترى للرجل؟
قال: لا يروع به.
قيل: فترى للخياط أن يخيط له؟
قال: إذا خاطه فأيش قد بقي؟!! قد أعانه.
«قال ابن تيمية معلقًا على نصوص الإمام أحمد» .
وهذا لأنه كان لباس الولاة والأمراء وأعوانهم، مع ما كانوا فيه من الظلم والكبرياء، وإخافة الناس وترويعهم، ولم يكن يلبسه إلا أعوان السلطان.
فلما كان - أي لباس السواد آنذاك - معونة على الظلم والشر وإيذاء المسلمين، صارت خياطته وبيعه بمنزلة، بيع السلاح في الفتنة، وكره أن يلبسه الرجل إذ ذاك لأنه من تشبه بقوم فهو منهم، ولأنه يصير بذلك من أعوان الظلمة.
أو يخاف عليه أن يدخل في أعوانهم.
وفي معنى هذا: كل شعار وعلامة يدخل بها المرء في زمرة من تكره طريقته، بحيث يبقى كالسيما عليه، فإنه ينبغي اجتنابها وإبعادها» (1).
(1) شرح العمدة في الفقه - لابن تيمية - تحقيق د/ سعود صالح العطيشان (4/ 385 - 386).
مشابهة الكفار والمشركين أصل كل بلاء ومصيبة حلت على أتباع الرسل والنبيين - صلوات ربي وسلامه عليهم -، ولا يستفحل هذا الداء العضال في أمة إلا ويردها على أعقابها، ويركسها في حمئة الجاهلية، ومن ثم ينفتح باب الردة عن التوحيد والملة الحنيفية.
يقول فذّ العلماء، العالم الرباني ابن تيمية في بيان أن مشابهة الكفار قد آلت بالعرب إلى الوقوع في الشرك، والردة عن الملة الحنيفية، دين إبراهيم الخليل عليه السلام، وأن أصل دروس دين الله وشرائعه، وظهور الكفر والمعاصي هو بسبب الوقوع في مشابهة الكفار والمرتدين، وأيضا: ففي الصحيحين: عن الزهري عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه قال: «البحيرة: التي يُمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس، والسائبة: كانوا يسيبونها لآلهتهم، لا يُحمل
عليها شيء».
وقال: قال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يَجُرُّ قُصْبَه في النار، كان أولَ من سَيَّب السوائب» (1).
وروى مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت عمرو بن لُحّيِّ بن قمعة بن خندف، أخا بني كعب، وهو يجر قُصْبَه في النار» (2).
(1) صحيح البخاري (3333) باب قصة خزاعة.
(2)
صحيح مسلم (50).
والبخاري من حديث أبي صالح عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أبو خزاعة» (1).
هذا من العلم المشهور: أن عمرو بن لحي هو أول من نَصَب الأنصاب حول البيت. ويقال: إن جلبها من البلقاء من أرض الشام، متشبهًا بأهل البلقاء. وهو أول من سَيَّب السائبة. ووصل الوصيلة. وحم الحامي. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه «رآه يجر قصبه في النار» وهي الأمعاء، ومنه سمي القَصَّاب بذلك، لأنها تشبه القَصَب.
ومعلوم أن العرب قبله كانوا على ملة أبيهم إبراهيم، على شريعة التوحيد والحنيفية السمحة، دين أبيهم إبراهيم فتشبهوا بعمرو بن لحي، وكان عظيم أهل مكة يومئذ، لأن خزاعة كانوا ولاة البيت قبل قريش، وكان سائر العرب متشبهين بأهل مكة لأن فيها بيت الله، وإليها الحج، ما زالوا معظَّمين من زمن إبراهيم عليه السلام. فتشبه عمرو بمن رآه في الشام. واستحسن بعقله ما كانوا عليه، ورأى أن في تحريم ما حرمه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي تعظيمًا لله ودينًا (2).
(1) صحيح البخاري (3332).
(2)
لم يكن عمرو بن لحي حرم هذه الأنعام والحرث تحريمًا مطلقًا على كل أحد ولكنه جعلها وقفًا وحبسًا على أوليائهم وأوثانهم، وعلى سدنتها والعاكفين عندها. «والبحيرة» و «السائبة» ، و «الوصيلة» و «الحامي» أسماء لكل نوع منها.
فالبحيرة: التي بحرت أذنها، أي شقت وسمة لها وتخصيصها من غيرها من بقية الأنعام، حتى تعرف بذلك أنها خاصة بفلان من آلهتهم.
والسائبة: المسيبة. ترعي حيث تشاء لا تمنع. لأن لها حقًّا في كلأ كل أحد، كما لمن سميت باسمه وحبست له من هذا الحق في مال الجميع.
والوصيلة: التي وصلت بولادتها الإناث متتابعات.
والحامي: الذي حمى ظهره لأنه نسل من ضرابه عشرة أبطن.
والحرث: من أنواع الطعام الذي يصنع في أعياد الآلهة وموالدها.
وهذا كله موجود اليوم فيمن يتسمون المسلمين: يحرمون الشاة على أهليهم وأنفسهم إلا إذا جاء موعد نذرها لفلان من الأولياء، أو في مولده. وكذلك بقية ما يصنعون من الأطعمة؛ قاله الشيخ محمد حامد الفقي -رحمه الله تعالى- في تعليقه على الكتاب محل النقل.
فكان ما فعله أصل الشرك في العرب أهل دين إبراهيم، وأصل تحريم الحلال، وإنما فعله متشبهًا فيه بغيره من أهل الأرض. فلم يزل الأمر يتزايد ويتفاقم حتى غلب على أفضل الأرض الشركُ بالله عز وجل، وتغير دينه الحنيف إلى أن بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم، فأحيا ملة إبراهيم عليه السلام، وأقام التوحيد، وحلل ما كانوا يحرمونه.
وفي سورة الأنعام من عند قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ
مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا} إلى قوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ
سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} إلى آخر السورة، خطاب مع هؤلاء الضرب.
ولهذا يقول تعالى في أثنائها: {وَقَالَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل: 35].
ومعلوم أن مبدأ هذا التحريم ترك الأمور المباحة تدينا، وأصل هذا التدين: هو من التشبه بالكفار، وإن لم يقصد المتدين التشبه بهم.
فقد تبين لك: أن من أصل دروس دين الله وشرائعه، وظهور الكفر والمعاصي: التشبه بالكافرين، كما أن من أصل كل خير: المحافظة على سنن الأنبياء وشرائعهم. ولهذا عظم وقعُ البدع في الدين، وإن لم يكن فيها تشبه بالكفار فكيف إذا جمعت الوصفين؟ ولهذا جاء في الحديث:«ما ابتدع قوم بدعة إلا نزع عنهم من السنة مثلها» (1)، (2).
والآن قد ظهر للأمة على عجالة خطورة مشابهة الكفار والمرتدين، وتبين عظم المآل الخبيث الذي ينتظر أصحاب هذه المعصية الشنيعة.
ومن ثم ينبغي على كل الموحدين من أبناء أمتنا أن يقفوا متيقظين ومتربصين بدعاة الفتنة، الذين يحاولون جاهدين العمل على ذوبان الحد
(1) أخرجه أحمد في مسنده عن غضيف بن الحارث الثماني (17011)، وجود إسناده الحافظ في الفتح (13/ 253)، وحسنه السيوطي، في الجامع الصغير (7790)، وعزاه الهيثمي إلى أحمد والبزار، وقال فيه أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم وهو منكر الحديث، مجمع الزوائد (1/ 447).
(2)
اقتضاء الصراط المستقيم.
الفاصل بين المسلمين والمشركين، وبين أهل السُّنة والرافضة، وبين دعاة الحق، ودعاة الضلالة
…
وأخيرًا أذكر: باستحالة استواء منازل الأبرار مع منازل الفجَّار فيا أيها الناس سيروا في أي طريق شئتم، فأي طريق سلكتم وردتم على أهله.
فمن سلك طريق أهل الله ورد عليهم ففاز وصار من السعداء. ومن سلك طريق الفجَّار ورد عليهم فخسر وصار من الأشقياء.
والمرء مع من أحب، ومن تشبه بقوم فهو منهم، والعبد يبعث على ما مات عليه
…
(1)
(7/ش) قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 20 - 23].
(1) اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم/ 63 - 64.
قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله تعالى -: «يأمر تعالى عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله، ويزجرهم عن مخالفته والتشبه بالكافرين به المعاندين له؛ ولهذا قال:{وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ} أي: تتركوا طاعته وامتثال أوامره وترك زواجره، {وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} أي: بعد ما علمتم مما دعاكم إليه
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} قيل: المراد: المشركون. واختاره ابن جرير.
وقال ابن إسحاق: هم المنافقون؛ فإنهم يُظهرون أنهم قد سمعوا واستجابوا وليسوا كذلك.
ثم أخبر تعالى أن هذا الضرب من بني آدم شر الخلق والخليقة، فقال {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ} أي: عن سماع الحق {الْبُكْمُ} عن فهمه، ولهذا قال:{الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} فهؤلاء شر البرية لأن كل دابة مما سواهم مطيعة لله عز وجل فيما خلقها له وهؤلاء خلقوا للعبادة فكفروا ولهذا شبههم بالأنعام في قوله: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَاّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171]. وقال في الآية الأخرى: {أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].
وقيل: المراد بهؤلاء المذكورين نفر من بني عبد الدار من قريش روي عن ابن عباس ومجاهد، واختاره ابن جرير، وقال محمد بن إسحاق: هم
المنافقون.
قلت: ولا منافاة بين المشركين والمنافقين في هذا؛ لأن كلاً منهم مسلوب الفهم الصحيح، والقصد إلى العمل الصالح.
ثم أخبر تعالى بأنهم لا فهم لهم صحيح، ولا قصد لهم صحيح، لو فرض أن لهم فهمًا، فقال:{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} أي: لأفهمهم وتقدير الكلام: ولكن لا خير فيهم فلم يفهمهم؛ لأنه يعلم أنه {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} أي: أفهمهم {لَتَوَلَّوْا} عن ذلك قصدًا وعنادًا بعد فهمهم ذلك، {وَهُمْ مُعْرِضُونَ} عنه» (1).
(1) تفسير ابن كثير (4/ 33 - 34).
(1)
(8/ش) صدق رحمه الله ما أفقهه من إمام.
فإن سيف المسلمين لا يجرد إلا من أجل إفراد الله بالعبادة ولوازم ذلك، وكذا لا يجرد إلا لتكون كلمة الله هي العليا، وليكون الدين كله لله. فإذا كان
(1) المقصود بـ «لأفهمهم» أي: لأفهم المراد عن الله، وليس المقصود لأفهمهم معاني دلالات النصوص.
بعض الدين لله، وبعضه لغير الله وجب تجريد السيف البتار ليكون الدين كله لله.
وأيضا يجب القتال حتى تكسر شوكة المشركين، ويأمن المسلمون على دمائهم وأعراضهم.
قال الإمام السرخسي - رحمه الله تعالى - بعد حديثه عن مراحل تشريع الجهاد: «فاستقر الأمر على فرضية الجهاد مع المشركين، وهو فرض قائم إلى قيام الساعة.
وعن سفيان بن عيينة - رحمه الله تعالى - قال: بعث الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأربعة سيوف.
سيف قاتل به بنفسه عبدة الأوثان.
وسيف قاتل به أبو بكر رضي الله عنه أهل الردة، قال تعالى:{تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16].
وسيف قاتل به عمر رضي الله عنه المجوس وأهل الكتاب. قال الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29] الآية.
وسيف قاتل به علي رضي الله عنه المارقين والناكثين والقاسطين» (1).
وقال الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - ومتع الأمة بآثاره:
«قال الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ
(1) المبسوط (6/ 123).
وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، وقال الله عز وجل في غير أهل الكتاب:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] فحقن الله دماء من لم يدن دين أهل الكتاب من المشركين بالإيمان لا غيره.
وحقن دماء من دان دين أهل الكتاب بالإيمان، أو إعطاء الجزية عن يد وهم صاغرون. والصغار أن يجري عليهم الحكم لا أعرف منهم خارجًا عن هذا» (1).
وقال الإمام ابن تيمية في وجوب القتال حتى يكون الدين كله لله.
«فإن التتار يتكلمون بالشهادتين، ومع هذا فقتالهم واجب بإجماع المسلمين.
وكذلك كل طائفة ممتنعة عن شريعة واحدة من شرائع الإسلام الظاهرة أو الباطنة المعلومة، فإنه يجب قتالها
فلو قالوا: نشهد ولا نصلي قوتلوا حتى يصلوا. ولو قالوا: نصلي ولا نزكي قوتلوا حتى يزكوا. ولو قالوا: نزكي ولا نصوم ولا نحج قوتلوا حتى يصوموا رمضان ويحجوا البيت. ولو قالوا: نفعل هذا لكن لا ندع الربا، ولا شرب الخمر، ولا الفواحش، ولا نجاهد في سبيل الله، ولا نضرب الجزية على اليهود والنصارى، ونحو ذلك قوتلوا حتى يفعلوا ذلك كما قال تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّه لِلَّهِ} (2)».
(1) الأم (4/ 405).
(2)
مجموع الفتاوى (22/ 51).
(1)
(2)
(1) صحيح البخاري (3170)، (4464)، وصحيح مسلم (379) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2)
سنن الترمذي (3168) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه وقال: هذا حديث حسن صحيح، قد روي من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم (5/ 322).
(1)
(8/ش) لا شك أن كل داع للتوحيد عندما يواجه أهل الباطل من المشركين يحتجون عليه بقلة أتباعه، وبكثره أتباعهم، وأن ما يقوله ويقرره من وجوب إخلاص التوحيد، ووجوب إفراد الخالق سبحانه بأعمال القلب والجوارح، وبأعمال الظاهر والباطن
…
يحتج المشركون على بطلان دعوة التوحيد - بزعمهم - بأنهم لم يسمعوا بهذا من آبائهم، الذين هم محل الثقة لديهم، ويتبجحون بأن دينهم - الباطل - قد ورثوه كابرًا عن كابر، وأنه لو كان باطلاً لصرح بهذا علماؤهم وعبادهم
…
، فلما لم يفعلوا دلّ ذلك على استحسانهم له، وأنه الحق الذي لا ينبغي العدول عنه!!
وكم احتج المشركون على إمام الدعوة بهذه الحجج الزائفة، وذلك بسبب إفلاسهم وخلوهم من الحجج الصادقة والبينات الدامغة.
فالشرك ليس له أي دليل صحيح صريح من عقل ولا نقل، وفي الفطر
(1) صحيح مسلم (232)، ومسند أحمد (16736).
السليمة البراهين الباهرة على إفكه وبطلانه.
فكان الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى - يحشد ويسوق براهين دعوته من نصوص الكتاب والسُّنة، ويؤكد على أن التوحيد هو الدين الموروث من ملل الأنبياء جميعًا، وأن الله ما خلق السموات والأرض، ولا أنزل الكتب، وأرسل الرسل، إلا ليعبد جل جلاله وحده ولا يشرك به شيئًا.
وعلى ذلك قامت ساق العداوة بين الإمام وقومه من المشركين، كما قامت من قبل، وستقوم بين كل داع للتوحيد، وأعداء الحق من المشركين والطواغيت.
وعلينا أن نَعْلم، ونُعلِّم أن الأسوة في هذه المعركة قد نص القرآن عليها. فقال سبحانه في محكم التنزيل:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4].
وقد نص الإمام الطبري إمام المفسرين على الإطلاق: على أن (الذين معه) هم: الأنبياء.
فملة الأنبياء جميعًا: هي البراءة من المشركين، ومباينة الكافرين، ومعاداتهم مع ترك موالاتهم.
وأن هذه العداوة والبغضاء والمفاصلة بيننا وبينكم مستمرة أبدًا حتى توحدوا الله فتعبدوه وحده لا شريك له، وتخلعوا معا تعبدون معه من الآلهة
والأرباب والطواغيت والأنداد
…
قال الإمام الطبري - رحمه الله تعالى -: «قال ابن زيد في قول الله عز وجل: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} ، قال: الذين معه الأنبياء
…
وقوله: {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} .
يقول: حين قالوا لقومهم، الذين كفروا بالله وعبدوا الطاغوت. يا أيها القوم إنا برآء منكم، ومن الذين تعبدون من دون الله من الآلهة والأنداد.
وقوله: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} يقول جل ثناؤه، مخبرًا عن قول أنبيائه لقومهم الكفرة:{كَفَرْنَا بِكُمْ} : أنكرنا ما كنتم عليه من الكفر بالله، وجحدنا عبادتكم وما تعبدون من دون الله أن تكون حقا، وظهر بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدًا على كفركم وعبادتكم ما سواه، ولا صلح بيننا، ولا هوادة {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} .
حتى يقول: تصدقوا بالله وحده فتوحدوه وتفردوه بالعبادة (1).
ألا إن معالم الطريق قد بانت، فهل من مشمر عن ساق الجد، فالطريق طويل، والدرب موحش، والأعداء متربصون، والعاقبة كؤود
…
فلابد من زاد فيا الله «أفرغ علينا صبرًا وتوفنا مسلمين» .
(1) تفسير الطبري (12/ 259).
ويا الله «لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب» .
ويا ربنا تول أمرنا، واسلل سخيمة صدورنا، وثبت أقدامنا، واجعلنا مطمئنين بوعدك، مجاهدين في سبيلك، ندور مع كتابك حيث دار، غير آبهين بكيد الفجَّار، وظلم الطواغيت
…
(1)
(1) اقتضاء الصراط المستقيم/ 259.
(9/ش) أخي القارئ -رحمني الله وإياك - انظر إلى تعليق الشيخ رحمه الله على قول العالم ابن تيمية، وأمعن فيه النظر. «وهو الذي ينسب إليه أعداء الدين أنه لا يكفر المعين» .
التهمة المعدة سلفًا لدعاة التوحيد من قبل أعداء الدين: أنتم تكفرون المعين، أنتم تكفرون المسلمين، أنتم خوارج، أنتم غلاة
…
بعد أن يضيق دعاة الفتنة والضلالة ذرعًا بدعاة التوحيد والهداية، يبدأون بكيل التهم جزافًا لأنهم يشعرون بأن البساط بدأ يسحب من تحت أقدامهم.
فأعداء التوحيد دائمًا يقفون بالمرصاد لدعاته من أجل أن يشوشوا عليه.
فبعض هؤلاء ينزعج كثيرا من دراسة كتب التوحيد دراسة تطبيقية عملية، ويصرخ قائلا لماذا تسمعون الناس هذه النصوص من القرآن والسُّنة التي واجه بها النبي صلى الله عليه وسلم مشركي قريش؟!!
الناس اليوم مسلمون لأنهم نطقوا بالشهادتين، وهو -بزعمه- زبدة المراد، والمراد فقط من القيام بالتوحيد.
وطالما أن الناس قد نطقوا بالشهادتين فلا سبيل البتة لخروجهم من هذا الدين لأن تكفير المعين له شروط لا بد أن تتحقق، وموانع لا بد أن تنتفي، ولا يمكن أبدًا أن تتوفر هذه الشروط في معين، كما أنه لا يمكن أن تنتفي موانع التكفير عن معين أيضا.
وأبسط ما يواجه به هذا الحزب من أعداء الله الآتي ذكرهم:
* أن المنافقين قد نطقوا بالشهادتين، والتزموا في الظاهر شرائع الإسلام إلا أنهم مع ذلك في الدرك الأسفل من النار خالدين فيها أبدًا.
* ألم تنطق جماهير أهل الكتاب يومًا بما تعصم به دماؤهم وأموالهم وكانوا عندئذ مسلمين.
ثم بعد ذلك خرجوا من دين الله، وصاروا مرتدين عن أصل ملتهم.
* ألم يترك إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام يومًا ما العرب على التوحيد الخالص حنفاء عن الشرك، وكانوا يعبدون الله مخلصين له الدين.
ثم بعد ذلك انتكسوا على أعقابهم، وخرجوا من دينهم إلى الشرك البواح بسبب التقليد والاتباع لإمام الكفر في وقته عمرو بن لحي - عليه لعنة الله - الذي ضل بدوره بسبب تقليده لأئمة الشرك في الشام، ذلك المحل الذي كان يفترض فيه أنه محل العلم الإلهي، وتراث الأنبياء آنذاك!!
* ألم يترك آدم أبو البشر عليه السلام ذريته على التوحيد الخالص، وكانوا مستسلمين لله بالطاعة والعبادة.
ثم ارتد جيل منهم في وقت ما إلى الشرك الصراح بسبب التقليد والجهل والاتباع لأئمة الكفر.
فأرسل الله نوحًا عليه السلام لينذر المشركين من قومه من قبل أن يحل بهم العذاب الأليم.