الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يترك كله"، ولهذا فإنني سأقتصر على إيضاح أهم الجوانب الاعتقادية لهذه الطائفة، وأبرز سماتها فيما يلي:
1-
إنكار جميع الأسماء والصفات.
2-
القول بالجبر والإرجاء.
3-
إنكار الصراط.
4-
إنكار الميزان.
5-
القول بفناء الجنة والنار
1 - إنكار الجهمية لجميع الأسماء والصفات:
تنكر الجهمية جميع الأسماء التي سمى الله بها نفسه وجميع الصفات التي وصف بها نفسه بحجج واهية وتأويلات باطلة، وقد عرفنا فيما سبق مصدر هذه الأفكار التي يعتنقها الجهمية القدماء والجدد.
وهذه المسألة كتب عنها العلماء كتابات مستفيضة ومؤلفات عديدة، دحضوا فيها كل ما يتعلق به الجهمية في نفي الأسماء والصفات، وقلما يخلو كتاب من كتب شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وسائر علماء الفرق من رد وخصام وجدال مع هؤلاء.
شبهات الجهمية في نفي الصفات:
لقد أقدم الجهمية علي نفي الأسماء والصفات بمزاعم من أهمها:
1-
أن إثبات الصفات يقتضي أن يكون الله جسماً؛ لأن الصفات لا تقوم إلا بالأجسام، لأنها أعراض والأعراض لا تقوم بنفسها.
2-
إرادة تنزيه الله تعالى.
3-
أن وصف الله تعالي بتلك الصفات التي ذكرت في كتابه الكريم أو في سنة نبيه العظيم يقتضي مشابهة الله بخلقه، فينبغي نفي كل صفة نسبت إلي الله تعالى وتوجد كذلك في المخلوقات لئلا يؤدي إلى تشبيه الله - بزعمهم - بمخلوقاته التي تحمل اسم تلك الصفات.
الرد عليهم:
مما يدركه طلاب العلم أن الله عز وجل وصف نفسه في كتابه الكريم ووصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم بصفات تعرف معانيها ولا تدرك كيفياتها، وهي معروفة في القرآن والحديث.
وقد وقف السلف من الصحابة الكرام إلي وقتنا الحاضر إزاء هذه الصفات موقفاً واضحاً جلياً لا لبس فيه، يتلخص في كلمات يسيرة ومعان واضحة، ألا وهو الإيمان التام بكل ما وصف الله به نفسه ووصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم، كما جاءت به النصوص من غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تكييف.
يقولون عن كل صفة: الصفة معلومة والكيف مجهول والسؤال عنها بدعه، ولم يتنطعوا تنطع المشبهة ولم يسلكوا مسالك المعطلة؛ لأنهم على معرفة تامة أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فلا يصفون ذاتاً غير مدركة الماهية بصفات تكيفها؛ لأن هذا هو القول على الله بغير علم.
إذ كيف تكيف ذاتاً لم تدركها ولم توصف لك أكثر من صفات مجملة قابلة للاشتراك في الأسماء متباينة الحقائق، ومن هنا نجد أنه لم يعرف عن أي شخص من الصحابة أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن كيفية أي صفة من الصفات التي أخبر الله بها في القرآن الكريم أو أخبرهم بها نبيهم صلى الله عليه وسلم.
وهذه دلالة على قوة ذكائهم وصفاء عقولهم لأنهم يعرفون بداهة أن الاشتراك في التسمية لا يوجب الاشتراك والمماثلة في الذات، إذ يقال: رأس الرجل ورأس الجمل ورأس الذرة ورأس الجبل، وبين ذوات هذه الأشياء من الفروق ما لا يخفى على عاقل.
وكذلك بقية الصفات، ولهذا فإن عقلاء الناس حينما آمنوا بصفات الله عز وجل لم يتصورا فيها أي تشبيه، بل كانوا يعتبرون مجرد التفكير في المشابهة من وسواس الشيطان فيذكرون الله تعالي. كما أن إيمانهم بالصفات كان يجري كله على هذا المفهوم، فما كانوا يفرقون بين أن تكون الصفة ذاتية أو فعلية، ولم يحصل بينهم أي نزاع أو جدال في مسائل الأسماء والصفات، كما حصل عند من اتبع هواه ممن عطل أولاً ثم شبه ثانياً ثم زعم أنه ينزه الله تعالي.
ومن العجائب أن يثبت الله لنفسه الصفة وهم ينفونها عنه، ومثلهم في هذا كمثل شخص سأل آخر عن اسمه وهو لا يعرفه فأخبره فقال له: لا، إن اسمك ليس هذا، ذلك أن الله تعالى قال:{الرحمن علي العرش استوى} ، وهم يقولن: لا يجوز إثبات هذه الصفة بل يجب نفيها مطلقاً، أو تأويلها بمعني استولى أو قصد، أو غير ذلك من تأويلاتهم الباطلة.
وحينما قال تعالى عن نفسه: {وهو السميع البصير} ، قالوا: يجب نفي مدلول هذا نفياً تاماً أو تأويله؛ إما أن يكون بمعنى سميع بلا سمع بصير بلا بصر، أو أنه سميع بذاته بصير بذاته، إلي آخر مواقفهم الخاطئة تجاه كل الصفات والأسماء.
لقد عارض الجهمية ومن سار على طريقتهم كتاب الله وسنة نبيه، وقدموا آراءهم وما تراه عقولهم على نصوص الكتاب والسنة فلم يقفوا عند حدود فهم العقل ومدى قدرته، بل تجاوزوا ذلك وظنوا أنهم علي شيء، وزخرفوا
القول في ذلك، وتحذلقوا وتنطعوا فخرجوا من نور العلم إلي ظلمات الجهل، ومن اليقين إلي الشكوك عقاباً من الله لهم لعدم تلقي النصوص ومدلولاتها بالطمأنينة والتسليم، وترك التكلف في البحث عن أمور هي من المغيبات ولم يخبرنا الله بتفاصيلها ولا رسوله صلى الله عليه وسلم فقد أراد الله أن تكون كيفياتها سراً مكتوماً عن العباد وهم يريدون الاطلاع عليها بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
إن تنزيه الله عز وجل لا يمكن أن يكون بسلب صفاته وما تدل عليه من العظمة والكمال، إنه من الإجرام أن ينزه الله عن ما تمدح به:{قل أأنتم أعلم أم الله} (1) .
إن التنزيه الصحيح إنما يكون في إثبات الصفة في أعلى كمالها؛ لأن الكمال المطلق لا يوصف به أحد غير الله تعالي.
وأي تنزيه في أن تقول: إن الله ليس فوق ولا تحت ولا عن يمين ولا عن يسار ولا يحس ولا يشم ولا يري أبداً ولا يكلم أحداً، وإنه في كل مكان بذاته، وإنه لا سمع ولا بصر له، ولا يوصف بالرحمة ولا بالغضب ولا بالمجيء، إلي آخر تلك الأوصاف التي لا تقال إلا للمعدوم.
إنها صفات سلبية نتيجتها أن لا معبود إلا العدم، فليس هناك رب بائن من خلقه مستو على عرشه له كل صفات الكمال والجلال.
ومن هنا وجد الملاحدة ضالتهم المنشودة في تقوية إلحادهم واحتجاجهم على ذلك بما زعموا أنه من كلام المسلمين السابق، وهم يعلمون تمام العلم أن كلام الجهمية السابق ليس له بالإسلام أية صلة، وأنه ليس من كلام المسلمين، وإنما هو من أفكار ملاحدة الفلاسفة.
(1) سورة البقرة 140
إن الجسمية التي يزعمونها حينما يثبتون الصفات لله تعالى، إنما هو من باب تغطية إلحادهم ومروقهم عن الدين، وهم أقل وأذل من أن يجدوا كلاماً ما، لعلماء المسلمين فضلاً عن الصحابة فضلاً عن الكتاب والسنة، يشير إلي هذا المفهوم الذي تنبهوا له بزعمهم ونفوا بموجبه صفات الله وأسمائه.
إن كلمة الجسمية لله تعالي نفياً أو إثباتاً هي من الألفاظ المخترعة التي لم ترد في الشرع لا في الكتاب ولا في السنة، وهي تخفي وراءها هدفا ما، ولو وقف هؤلاء الذين يطلقون على الله إلا ما ثبت له من الأسماء والصفات، وترك ذلك التنطع المذموم؛ لأن لفظ الجسم لفظ عام يحتاج إلي بيان وتوضيح ممن يقول به؛ لأنه لم يرد في الشرع لا بالنفي ولا بالإثبات، ولهذا كان في إطلاقه حق وباطل ويجب على القائل به تفصيل ما يريد.
فهناك من ينفي لفظ الجسم من الجهمية والمعتزلة ليخفي ما يهدف إليه من نفي ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات، وهناك من يثبت الجسم من المشبهة ليخفي ما يهدف إليه من إثبات ما نفاه الله عن نفسه؛ وقد أجاب العلامة ابن القيم رحمة الله عن هذه المسألة وفصلها تفصيلاً شافياً كافياً فقال:
"واعلم أن لفظ الجسم لم ينطق به الوحي إثباتاً فيكون له الإثبات، ولا نفياً فيكون له النفي. فمن أطلقه نفياً أو إثباتاً سئل عما أراد به، فإن قال: أردت بالجسم معناه في لغة العرب وهو البدن الكثيف الذي لا يسمي في اللغة جسم سواه، فلا يقال للهوى: جسم لغة، ولا للنار ولا للماء. فهذه اللغة وكتبها بين أظهرنا، فهذا المعنى منفي عن الله عقلاً وسمعاً، وإن أردتم به المركب من المادة والصورة والمركب من الجواهر الفردة فهذا منفي عن الله قطعاً.
والصواب نفيه عن الممكنات أيضاً، فليس الجسم المخلوق مركباً من هذا ولا من هذا، وإن أردتم بالجسم ما يوصف بالصفات ويري بالأبصار ويتكلم ويكلم ويسمع ويبصر ويرضى ويغضب، فهذه المعاني ثابتة لله تعالي وهو موصوف بها فلا ننفيها عنه بتسميتكم للموصوف بها جسماً، كما أنا لا نسب الصحابة لأجل تسمية الروافض لمن يحبهم ويواليهم نواصباً، ولا ننفي قدر الرب ونكذب به لأجل تسمية القدرية لمن أثبته جبرياً، ولا نرد ما أخبر به الصادق عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله لتسمية أعداء الحديث لنا حشوية، ولا نجحد صفات خالقنا وعلوه على خلقه واستوائه على عرشه لتسمية الفرعونية المعطلة لمن أثبت ذلك مجسماً مشبهاً".
إلي أن قال: "وإن أردتم بالجسم ما يشار إليه إشارة حسية فقد أشار أعرف الخلق به بإصبعه رافعاً بها إلي السماء بمشهد الجمع الأعظم مشهداً له لا للقبلة، وإن أردتم بالجسم ما يقال أين هو؟ فقد سأل أعلم الخلق به بأين، منبهاً على علوه على عرشه وسمع السؤال بأين وأجاب عنه، ولم يقل: هذا السؤال إنما يكون عن الجسم.
وإن أردتم بالجسم ما يلحقه (من وإلى)(1) . فقد نزل جبريل من عنده وعرج برسوله إليه، وإليه يصعد الكلم الطيب، وعبده المسيح رفع إليه، وإن أردتم بالجسم ما يتميز منه أمر غير أمر فهو سبحانه موصوف بصفات الكمال جميعها من السمع والبصر والعلم والقدرة والحياة، وهذه صفات متميزة متغايرة
…
" إلى أن قال:
"وإن أردتم بالجسم ما له وجه ويدان وسمع وبصر فنحن نؤمن بوجه ربنا
(1) هكذا النص في الأصل، وهي عبارة غامضة، ولعل المراد بها ما يمكن أن يقال:(منه وإليه) أي من عنده وإليه، كما يفيده الكلام الذي جاء بعده. والله أعلم.