الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع
التعريف بعنوان هذه النازلة
في هذا أمران:
أحدهما: من حيث الدلالة وشمولها.
الثاني: من جهة تركيبه اللغوي.
أما مبحث دلالته:
فإن هذا المبحث انطلق من قولهم (حقوق الطبع محفوظة للمؤلف)
لكن أصبح لدينا عدة حقوق من هذا القبيل منها: هذه وهي ما تسمى
بحقوق المؤلف الأدبية أو الأدبية والفنية أو الأدبية الفنية العلمية. ومنها: حق
المخترع، وهو ما اصطلح على تسميته باسم:(الملكية الصناعية) وتتضمن
الحق في المخترعات والمكتشفات الصناعية والتقنية والعلامات الفارقة
(الامتياز
…
وغيرها.
وهي من مباحث القانون التجاري لدى القانونيين ومنها: الحق
المتعلق بالرسالة وهو ما اصطلح عليه باسم: (ملكية الرسائل) ويقصد بها
الأخبار الخاصة المرسلة إلى أشخاص معينين، وهذا من كل منتج لأثر
مبتكر. فصار أمام هذا لا بد من المواضعة على اصطلاح يشمل الاحتفاظ
بهذه الحقوق ومن المواضعات الجارية في هذا ما يلي:
1-
حق الإنتاج الذهني:
يقول صاحب الوسيط (1) :
(ويجمع بين هذه الحقوق جميعاً أنها حقوق ذهنية، فهي نتاج الذهن
..... وابتكاره) اهـ.
فمن هنا يصلح أن نطلق على مجموعها اصطلاح (حق الإنتاج
الذهني) وقد ألف بعض المعاصرين كتاباً باسم: (حق الإنتاج الذهني) .
2-
حق الابتكار:
بينما نرى الأستاذ مصطفى الزرقا يرى أن يشملها اسم: (حقوق
الابتكار) (2) .
والابتكار يعني: أن يكون الإنتاج كالتأليف ذا قيمة، بمعنى أن تبرز
مغالبة المؤلف في تأليفه. ويرجع تقدير الابتكار الذي بموجبه يحسب تأليفاً
تحمى حقوقه لمؤلفه إلى القضاء، أما المصنف الذي يكون مجرد ترديد
لمصنف سابق فهذا لا ينسحب عليه حكم الحماية لحقوق المؤلف (3) .
ومنه جمع بعض المعاصرين أبحاثاً باسم: (حق الابتكار في الفقه
الإسلامي) .
3-
الملكية المعنوية:
(1) 8 / 276.
(2)
المدخل 3 / 21 - 22. وانظر: مجلة عالم الكتب ص / 592.
(3)
وانظر: الوسيط 8 / 292.
وفي كتاب (محاضرات في القانون المدني) لعبد المنعم فرج الصده
طبع عام 1967 م.
ذكر اندراج هذه تحت هذا الاسم فقال (1) :
(تندرج تحت الملكية المعنوية أنواع متعددة من الحقوق المعنوية
يمكن ردها إلى طائفتين، تشمل أولاهما: الحقوق التي اصطلح على
تسميتها بالملكية الصناعية، وتشمل الثانية: حقوق المؤلفين، وهي التي
اصطلح على تسميتها بالملكية الأدبية والفنية) اهـ.
4-
الحقوق الواردة على أموال غير عادية.
5-
الحقوق المتعلقة بالعملاء.
(ذكرهما الصده في كتابه المذكور) .
6-
الحقوق الفكرية:
هي في: النظام التركي كما في مقال الأستاذ الناهي (2) .
وكل واحدة من هذه المواضعات تفيد عند مبديها: الشمولية لمفردات
الإنتاج المتحصل من ذوي المواهب المتفتحة والمدارك العميقة بما
نستطيع أيضاً أن نسميه.
7-
حق الإبداع:
وإذا لحظنا أيضاً أن ركيزة الإنتاج هو (العلم) ساغ لنا المواضعة
(1) ص / 5.
(2)
مجلة الهدى الأردنية ص / 38.
باسم: الإنتاج العلمي.
8-
حقوق الإنتاج العلمي:
وقد يكون أكثر وضوحاً، وأوسع شمولاً لجمع أي إنتاج مصدره العلم
النظري أو العملي مع غض النظر عن مستوى هذا الإنتاج في: الإبداع،
والابتكار، وفي إعمال الذهن، وفي أغراض التأليف الثمانية، ولأننا وإن كنا
في عصر تفجر المعلومات فنحن كذلك في عصر المحاكاة وغياب التقوى
من كثير من القلوب.
فهذا طالب يستغل جهل أستاذه في جامعة أوروبية باللغة العربية
فيستل واحداً من المؤلفات العربية ويترجمه أطروحة من تأليفه وصنعه
ويستحق على ذلك لقب (دكتور) .
وعكسه فمن عبث المستشرقين الناطقين بالعربية أن يختار واحداً من
كتب المسلمين ويترجمه إلى لغة أخرى وينسبه لنفسه محرفاً ومشوهاً
لمعلوماته.
ومع هذا يظهر الكل مطبوعاتهم بأن (حقوق الطبع محفوظة
للمؤلف) (أيكذب ويقابل) ؟ فأي حرمة لك يا هذا؟؟ .
فهذا لا نسميه إبداعاً ولا ابتكاراً ولا إنتاجاً علمياً، لكنه إنتاج علمي
مقنع بدعوى كاذبة فالإضافة الوهمية والإنتاج العلمي يعاد إلى نصابه بنسبته
إلى مؤلفه أصلاً. ويكون هذا الاحتفاظ بعد نذير عذاب لمدعيه. فصارت
التسمية إذا بحق (الإنتاج العلمي) فيها شمول لجميع الحقوق.
على أنني بعد هذا، وبعد أن تحررت مالية التأليف، ولكف إبعاد
الأذهان عن مدارك الأحكام تبينت لي تسمية سهلة ميسورة المدرك وهي
أن يقال: ملكية التأليف.
9-
ملكية التأليف:
وهذا في خصوص التأليف وهو أهم أنواع الإنتاج فيقال: (ملكية
التأليف محفوظة للمؤلف) أو (الناشر) . فهذا يعني: رقبة الملك (التأليف)
وماله من حقوق مترتبة عليه شرعاً
…
والله أعلم.
الثاني: في تركيبه اللغوي:
الجملة الجاري رسمها على المؤلفات كالآتي:
(حقوق الطبع محفوظة للمؤلف) أو (الناشر) . وفي كتاب (كبوات
اليراع) لأبي تراب بن أبي محمد عبد الحق قرر أن الصواب: (حقوق
الطبع محفوظة على المؤلف) وهذا نصه بتمامه (1) :
(يقولون: حقوق الطبع محفوظة للمؤلف. أو الناشر وهو غلط
والصواب: حقوق الطبع محفوظة على المؤلف أو على الناشر
…
قال
مصطفى جواد: يقال: حفظ فلان عليه الشيء حفظاً فالشيء محفوظ
عليه) .
وفي شرح نهج البلاغة (ج 4 ص / 371) من كلام علي بن أبي
طالب: فإن نسيت مقالتي حفظها غيرك. فإن الكلام كالشاردة يتقنها هذا
ويخطئها هذا. هذا هو كلام الفصحاء، وكان زين العابدين علي بن
الحسين يقول في دعائه اللهم احفظ علي سمعي وبصري إلى انتهاء أجلي
كما أورده ابن أبي الحديد (ج 3 ص / 29) .
(1) ص / 390 - 391.
وفي سيرة ابن هشام والروض الأنف للسهيلي (ج 2 ص / 241) وتاريخ
الطبري (ج 3 ص 96) . وكتب الحديث: لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
خيبر فكان ببعض الطريق قال من آخر الليل: " من رجل يحفظ علينا الفجر
لعلنا ننام؟ " قال بلال: أنا يا رسول الله أحفظه عليك.
وفي تاريخ اليعقوبي (ج 3 ص 127) قال محمد المهدي ابن أبي
جعفر المنصور يعني أباه: وكان يحفظ عليكم ما لا تحفظون على أنفسكم.
وفي لباب الآداب لأسامة بن منقذ (ص 141) والأغاني لأبي الفرج
(ج 18 ص 10) واللفظ له: قال عمرو بن بانة لمحمد بن جعفر بن موسى
الهادي: أنا أتحمل هذه الرسالة وكرامة على ما فيها حفظ لروحك عليك
فإني لا آمن من أن يتمادى بك هذا الأمر.
وفي اللباب (ص 70) قال أبو الحسن علي بن محمد الصغاني في
كتاب الفرائد والقلائد: ومما يديم لك نصحهم ووفاءهم ويحفظ عليك
ودهم وولاءهم قلة الطمع فيهم وحسن المقابلة لمساعيهم يعني العمال.
وفي تاريخ الطبري (ج 5 ص 97) قال الحجاج بن علاط السلمي
للعباس بن عبد المطلب: احفظ علي حديثي يا أبا الفضل فإني أخشى
الطلب ثلاثاً.
وفي معجم الأدباء لياقوت الحموي (ج 5 ص 351) جاء في رقعة لأبي
الفتح ابن العميد: فإن لم يحفظ علينا النظام بإهداء المدام عدنا كبنات
نعش، والسلام.
وفي الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي (ج 2 ص 11) قال
المقدسي محمد بن معشر: الشريعة طب المرضى، والفلسفة طب
الأصحاء، والأنبياء يطبون للمرضى حتى لا يتزايد مرضهم وحتى يزول
المرض بالعافية فقط. فأما الفلاسفة فإنهم يحفظون الصحة على
أصحابها
…
وقال أبو حيان في (الإمتاع)(ج 2 ص 186) : ولما لم يرد من الإنسان
أن يكون حماراً حفظ عليه ما هو إنسان ودرج إلى كمال الملك الذي هو
شبيه به.
وفي كتاب الأوراق للصولي قول أبي القاسم الأديب الشاعر:
وكم ملك قد خصني بكرامة
…
حفظت عليه أمره وهو ضائع
ولا نود أن نطيل بذكر الشواهد أكثر مما فعلنا. وإنما نذكر أن لقولهم:
حفظ له كذا معنى آخر. كقولك أحسنت إلى فلان فحفظ لي ذلك. أي
ذكر الإحسان ورعى ذكراه فهو كالوفاء والجزاء.
قال أبو تراب:
اختلاق صلات الأفعال يجعل المعنى مختلفاً فما كان من هذا القبيل
يجب التثبت فيه فالمحافظة مثلاً تعدى بعلى، قال الله تعالى: {حَافِظُوا
عَلَى الصَّلَوَاتِ} والاستحفاظ جاءت صلته بمن، قال تعالى: {بِمَا
اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} والاحتفاظ بعلى. قال العجير السلولي:
بعيد من الشيء القليل احتفاظه
…
عليك ومنزور الرضا حين يغضب
ويقال: احتفظ بالشيء وتحفظ به أي عني بحفظه. وعليك بالتحفظ
من الناس وهو التوقي وهو حفيظ عليه أي رقيب.
وفي اللسان: الحفيظ من صفات الله عز وجل لا يعزب عن حفظه
الأشياء كلها مثقال ذرة في السماوات والأرض. وقد حفظ على خلقه وعباده
ما يعملون من خير أو شر.
وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} قال الزجاج - حفظه الله
من الوقوع على الأرض إلا بإذنه، وقيل محفوظاً بالكواكب كما قال
ويقال: احتفظت بالشيء لنفسي واستحفظت فلاناً إذا سألته أن يحفظ لك.
والحفيظ: المحافظ، ومنه قوله تعالي:{وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} .
ماهية التأليف
المقصود هنا التعريف بالتآليف المحمية، والتي لصاحبها الاحتفاظ
بحقوقها وهي بالتتبع على نوعين (1) .
الأول: المحررات:
وهذه تعني أي تأليف مكتوب في أي من العلوم كالتفسير والحديث،
والفقه وأصولها والتوحيد، وعلوم الآلة، والرياضيات، والتاريخ، والجغرافيا،
والطب، والهندسة، وما جرى مجرى ذلك.
الثاني: الشفويات:
كالخطب، والمحاضرات، والمواعظ، والندوات، وما جرى مجرى
ذلك مما يلقى شفاها. فلا يصح في القانون الوضعي تسجيل أي من هذه
ونشره دون سابق إذن المؤلف. لكن العرف في كثير من البلدان الإسلامية
أن هذا حق مشاع لكل مسلم تلقيه وتسجيله ونشره لتأصيل عامل الحسبة
فيه. ولهذا فلا يدخل في ماهية التأليف في بحثنا هذا. والله أعلم.
(1) الوسيط 8 / 293 - 294 فقرة رقم / 171.
المؤلف
يعتبر الشخص مؤلفاً إذا نشر المصنف المبتكر منسوباً إليه سواء بذكر
اسمه على المصنف أو بأي طريقة أخرى ما لم يقم دليل على نفيه (1) .
وهذه النسبة لا يسوغ لصاحبها التنازل عنها لينتحلها شخص آخر،
فكما لا يجوز التنازل عن الإنتاج الذري كذلك لا يجوز التنازل عن الإنتاج
العلمي.
ومن لطيف حفاوة العلماء بمؤلفاتهم أنهم جعلوها بمنزلة أعلى وأغلى
من نسل أصلابهم فقال بعضهم:
ما نسل قلبي كنسل صلبي
…
من قاس رد له قياسه
(أي رد له قياسه في المحبة) .
ولهذا فمن حقه الأدبي فيها أيضاً لا يصح التنازل عنه لأي جهة حكومية
أو غيرها فرداً أو غير فرد بل تبقى له صفته الأدبية في التأليف، ولو فرض
وجود اتفاق على شرط التنازل عن ذلك لما صح، نعم يصح الاتفاق على
شرط إسقاط ما يتعلق بحقوقه المالية في المؤلف. هذا ملخص ما في
الاتفاقيات الدولية وبعض القوانين العربية لحقوق المؤلفين.
وبتنزيله على أصول الشريعة وقواعدها لا يظهر معارضته لها بشيء.
وكيف يصح التنازل عن نسبة التأليف إلى مؤلفه مثلاً في علوم الشريعة التي
تعتمد أبحاثها جلب الأدلة ومناقشتها والترجيح والاختيار، ولهذا يرى الناظر
(1) الوسيط 8 / 325 - 330.
في آداب التأليف عند المسلمين التنويه بلزوم التصريح باسم المؤلف
وللوثوق به، وعند بعضهم أن المؤلف المجهول النسبة كالرواية عن مجهول
الحال، أو العين والحال فالكل لا يحتج به استقلالاً. والله أعلم.
المبحث الخامس
الحقوق الواردة على المؤلفات (1) وحكمها
يرد عليها بالجملة حقان:
الأول: حق خاص: وهو حق للمؤلف نفسه، ومن أتى من طريقه وهو
ما اصطلح عليه بالحقوق الأدبية والمالية
…
الخ. وهذا مخدوم بنظام
الاحتفاظ بحقوق المؤلف ومن أتى من طريقه كالناشر، والوارث.
الثاني: حق عام: وهو حق للأمة لحاجتها إلى ما فيه من علوم ومعارف
سداً لحاجتها وتنمية لمواهبها.
يبقى كيف السبيل إلى أن تكون الحقوق الخاصة لا تقضي على الحق
العام وحتى يتم التوازن بين الحقين.؟
ومن المتعذر أن تملك الأفكار بل هي حق مشاع لكل منتفع وإلا فما
فائدة التفكير والقراءة عنه وتفهمه لولا إعمال الأمة جهدها لإنزاله في ميدان
التنمية والاستفادة.
ولهذا ذكر القرافي رحمه الله تعالى في الفروق (2) أن الاجتهادات لا
(1) المبادئ الأولية لحقوق المؤلف ص / 38 - 41.
(2)
الفروق.
تملك. وعليه فإن الاحتفاظ من المؤلف بحقوق وحماية من بسط الله يده
لهذه الحقوق ليس معنى هذا إهدار (الحق العام) وتعميم نفعه. بل هناك
حقوق عامة ترد على المؤلفات وهي:
(أ) حق الاقتباس.
(ب) حق الترجمة.
(ج) حق الدولة عند ممانعة المؤلف من نشر مؤلفه مع قيام الحاجة
إليه.
وبيانها على ما يلي:
(أ) حق الاقتباس:
إنارة المفاهيم والأفكار بالأسس السليمة وتقويم معوجها وإصلاح ما
فسد منها وبعث الحيوية والنشاط فيها واستصلاحها وعمارتها وظهور الأثر
العملي في ميدان العمل والتطبيق. هذه الإيجابيات من أعظم عوائد
التأليف ومنافعه العملية والاقتباس واحد من هذه الآثار المباركة فهو ثمرة
عملية وصلت إلى حد الإيجاب باعتبارها والاستشهاد بها واتخاذ الكاتب لها
سنداً في موضوعه وبحثه فهو انتفاع شرعي لا يختلف فيه اثنان، وما زال
المسلمون منذ أن عرف التأليف إلى يومنا هذا وهم يجرون على هذا
المنوال في مؤلفاتهم دون نكير.
وعليه فإن منع المؤلف لذلك يعد خرقاً للإجماع، فلا عبرة به حتى
ولو سجله على طرة كتابه كما يفعله البعض - على ندرة الفعلة لذلك في
عصرنا - يرون تسجيل الممانعة من الاقتباس سبباً يعطي دفعة لمزيد من
التيقظ إلى قيمة الكتاب ومؤلفه. وما علم أولئك أن الأمور مرهونة بحقائقها
ويعقلها العالمون وليعلموا كذلك أن المستقبل كشاف.
شرط الاقتباس: لكن الاقتباس مشروط بأداء أمانته وهو نقله بأمانة منسوباً
إلى قائله دونما غموض أو تدليس أو إخلال، ومباحث هذه منتشرة في آداب
التأليف وغيرها. والله أعلم.
حق الترجمة (1) :
الترجمة تعني نقل المؤلف من لغة إلى أخرى ويتصور عندنا في هذا
أمران:
الأول: في مدى أحقية صاحب الكتاب الأصل في المطالب بحماية
حقه مقابل قيام غيره بترجمته إلى لغة أخرى..
وفي مجال الترجمة هذه نلحظ أموراً هي:
1-
إن المترجم يعاني فيها من المشقة ما عاناه مؤلف الأصل. لتصل
إلى غاية المطابقة لمعنى ما يحويه الكتاب مفرغاً للمعاني في مباني اللغة
المترجم إليها مراعياً لخصائصها ومعانيها.
2-
بهذا تستحق أن تسمى تأليفاً مبتكراً.
3-
واجب إبراء العهدة بنشر العلم وإشاعة وإبلاغ الرسالة إلى العالمين
بألسنتهم، وهذا في خصوص العلوم الشرعية.
لهذه الاعتبارات فإنه ليس من حق المؤلف الأصل المطالبة بحماية
حقه المالي في التأليف وعليه فيجوز للمترجم - بكسر الجيم - ترجمة كتاب
ما إلى لغة أخرى من غير إذن مؤلفه لكن مع الاحتفاظ لمؤلفه الأصل
بحقوق أدبية من نسبة مؤلفه إليه والمحافظة على مادته وعنوانه. وينسحب
(1) الدريني ص / 10، 11، 182، 191.
هذا الحكم على ترجمة الترجمة إلى لغة أخرى غير لغة الكتاب الأصلية
ولغة ترجمته الثانية. والله أعلم.
الثاني: مدى احتفاظ المترجم بحقوق الترجمة باعتبار ما يبذله
المترجم من جهود مضنية في سبيل الترجمة تعد عملاً أثبت فيه جدارته
وبروز عمله المبتكر فإن ترجمته تكون محمية ويكون لها من الآثار ما
لمؤلف الأصل. والله أعلم.
(ج) حق الولاية العامة:
كم رأينا من تأليف مبارك نفع الله به أقواماً وهدى به آخرين، فانتشر
بين المسلمين انتشار الشمس، ونرى طبعاته تصل إلى عشرين وثلاثين
طبعة أو أكثر ومنها ما طبع منه ما لا يحصى من الطبعات لكن دون تدوين
لرقم الطبعة، والغالب في هذا يدل مع جزالة ما فيه من علم على حسن
نية مؤلفه وصدقها ولهذا كتب الله له القبول والانتشار.
وقد جرت العادة أن من كانت نيته كذلك فهو لا يمانع من مزيد
الانتفاع بمؤلفه حتى ولو لم ينل أي تعويض عنه. لكن لو فرض أن هذا
الكتاب قل وجوده واحتيج إليه في معاهد التعليم أو لغرض نفعي آخر فمانع
مؤلفه من طبعه فإنه يسوغ للدولة بيعه عليه وحفظ مستحقه في بيت مال
المسلمين، كما في قواعد الملكية للمصالح العامة. وبهذا يجمع بين
الحقين العام والخاص ويكون نزعه بحق. والله أعلم.
الحق الثاني: الحق الخاص للمؤلف ومن أتى من طريقه، وهو
نوعان:
1-
حقوق أدبية.
2-
حقوق مالية.
وبيان كل منهما على ما يلي:
" الحق الأدبي "(1)
وشمل أيضا (الحق المعنوي) يشمل هذا الاصطلاح مسائل ترتبط
بشخص المؤلف لأبوته على مؤلفاته، فهي بمثابة الامتيازات الشخصية
للمؤلف على مؤلفه وهي على ما يلي:
1-
أبوته على مصنفه باستمرار نسبته إليه، فليس له حق التنازل عن
صفته التأليفية فيه لأي فرد أو جهة حكومية أو غيرها، كما أنه لا يسوغ للغير
انتحاله والسطو عليه، فله ولورثته حق دفع الاعتداء عليه.
2-
حق تقرير نشره بمعنى: التحكم في نشر مصنفه.
3-
حق السمعة أي: له سلطة الرقابة بعد النشر لسحبه من التداول
عندما يتضح له مثلاً رجوعه عما قرره فيه من رأي أو أداء، وعندئذ يلزم
بتعويض ناشر ونحوه عما لحقه من خسائر لقاء ذلك السحب.
4-
سلطة التصحيح لما فيه من تطبيعات عند إرادة الناشر إعادة نشره.
5-
استمرار هذه الحقوق له مدة حياته فلا تسقط بالتقادم أو بالوفاة.
6-
سلامة التصنيف وحصانته.
7-
ومن جهة الدولة التي تملك الإذن بالطبع، لها حق أدبي وهو معرفة
(1) الوسيط 8 / 408 - 421، الحقوق على المصنفات لأبي اليزيد ص / 70 - 71،
مجلة عالم الكتب ص / 592، المبادئ الأولية ص / 23 - 24.
ما إذا كان نشره سائغاً أو لا؟ .
ومن هذا يتبين أن هذا الاصطلاح (الحقوق الأدبية) اصطلاح مضلل
لا يعطي تلك المعاني الاعتبارية التي توجب الالتزام بها.
الحق الأدبي في ميزان الشريعة:
إن هذه الفقرات التي تعطي التأليف الحماية من العبث، والصيانة عن
الدخيل عليه وتجعل للمؤلف حرمته والاحتفاظ بقيمته وجهده هي مما علم
من الإسلام بالضرورة وتدل عليه بجلاء نصوص الشريعة وقواعدها وأصولها
مما تجده مسطراً في (آداب المؤلفين) وكتب الاصطلاح ويتجلى هذا في
عدة مظاهر:
1-
مبحث الأمانة العلمية في الأداء والتوثيق.
2-
طرق التحمل والأداء وآداب التلقي.
3-
تحريم الكذب والتدليس.
4-
تحريم السرقة والانتحال المعروف باسم (قرصنة الكتب) .
5-
ذكر المصادر التي يعتمدها المؤلف في تأليفه.
فهذا الحق الأدبي من بدائه العلم عندهم، وإن لم يلقبوه بذلك
ويضعوا له سنناً وأنظمة تحفظية، لأنها أمور فطرية عندهم تقتضيها الديانة
وتحمل الأمانة، وخرقها من نواقض الفطرة فضلاً عن أن تكون خرقاً لسنن
الشريعة وهديها.
ومن اللطيف ما عبر به بعض الكاتبين عن هذا الحق بقوله: (الحق
الأخلاقي) (1) .
(1) مجلة عالم الكتب ص / 675، 694.
وإن هذه المظاهر القانونية والتنظيمية التي نراها اليوم في هذا الصدد
وغيره للحماية والدفاع عن الحقوق - وإن كانت ضرورة ملحة - لكنها من
مظاهر وجود التفلت الديني بضعف الوازع والسلطان الرادع الكامن في
النفوس، ومنه انتشرت أمراض الإغارة والانتحال والسرقة والسطو فأوجدت
للحد منها فالقضاء عليها إنما هو بمنهاج الله القويم: الإسلام وحده وتربية
النفوس عليه.
وفي مجلة عالم الكتب قال بعض الكاتبين (1) :
(أما موقف الإسلام من هذه الأمور ومن هذه السرقات ومن نسبة
الشيء إلى غير قائله فهذا ما لا نعرفه يقيناً، ولكن يخيل إليّ أن الإسلام
الذي شرع من أجل حماية المجتمع من السرقة المادية بطريقة صريحة كل
الصراحة وحاسمة لم يتطرق إلى مثل هذه الأمور بمثل تلك الموضوعية
والوضوح، ولم يصل إلى علمنا أن عوقب أحد ممن اتهم بالسرقة، لأن
إثبات ذلك صعب جداً، ولا سيما إذا احتيج إلى دليل حاسم كما هو
الحال في السرقة المادية، ولكن ذلك لا يعني أن الإسلام يبيح السرقة من
أي نوع أو يسكت عنها. ذلك أن الأخلاق في الإسلام هي لب الدين وهي
العمود الفقري للشريعة الإسلامية، لذلك لا شك أن أي نوع من السرقة
الأدبية هذه محرمة شرعاً. ولكن لم يعين لها عقوبة واضحة كما هو الحال
في سرقة النقود مثلاً. ونعتقد أن القوم اكتفوا آنذاك بالتعزير بسوء السمعة
والتشهير الذي يصيب الشخص السارق لمؤلفات الآخرين. ولكن هذا لا
يمنع من إصدار تشريع يضمن حقوق التأليف ويفرض عقوبات رادعة
للسارقين. وهذا يحتاج إلى تضافر جهود البلاد العربية والقيام بدراسات
(1) مجلة عالم الكتب ص / 711 - 712.
مكثفة لتراثنا الفقهي وللقوانين السارية في العالم حالياً. وتحديد السرقة
الأدبية بوضوح تام حتى لا يكون هناك أي التباس وبعد ذلك تقوم هيئة
موحدة في إصدار مثل هذا التشريع وتطبيقه في جميع أرجاء العالم
العربي) .
وصدر كلامه هذا مما لا يوافق عليه للإجمال فيه إذ أن هذه حقوق
شرعية فحمايتها متوجبة شرعاً بالإرجاع إلى أصول الشرع وقواعده. فعلى
المسلمين إعمال لائحة شرعية فيها الضمانات الشرعية والإدارية لحماية
هذه الحقوق الأدبية الأخلاقية. والله أعلم.
الحقوق المالية (1)
وتسمى أيضاً (الحقوق الاقتصادية) وتسمى أيضاً باسم (الحقوق
المادية) .
وهي بمثابة الامتيازات المالية للمؤلف لقاء مؤلفه وهي حق عيني
أصلي مالي منقول. وهي حق قسيم للحق الأدبي المعنوي الشخصي
المتقدم. وهذا الحق هو: الخيط المتصل الذي ينعقد حوله نسيج الأنظمة
لحقوق المؤلف.
والحقوق المالية ذات فرعين:
الأول: حق مالي في حياة المؤلف يفيد إعطاء المصنف دون سواه حق
الاستئثار بمصنفه لاستغلاله بأي صورة من صور الاستغلال المشروعة
(1) الوسيط 8 / 360 - 408، المبادئ ص / 27، كتاب الحقوق على المصنفات
ص / 79، الحقوق المعنوية ص / 52 - 55. ومجلة عالم الكتب.
بنفسه أو بغيره من قبله مدة معينة. فهذا الحق إذن يتميز بخصيصتين:
1-
أنه حق لمؤلفه طيلة حياته، فعائداته المالية لمؤلفه وهذه العائدات
تعتمد على درجة قبول الناس لهذا المؤلف ومدى انتفاعهم به. وعليه فلا
يسوغ للغير دون إذن مؤلفه.
2-
أنه حق مؤقت غير مؤبد فهو ينتهي بمدة معينة. فالقانون الفرنسي
يعطيه مدة حياته وخمس سنين بعد وفاته، ثم عَدَّلها إلى عشر سنين، ثم
إلى خمسين عاماً بعد وفاته، والقانون الألماني إلى سبعين سنة. وفي
المصري لمدة خمسين عاماً من تاريخ وفاته.
الثاني: الحق المالي بعد وفاة المؤلف: هو حق يعود لورثته شرعاً على
قدر الفريضة الشرعية في الميراث فإن لم يكن له وارث فلشركائه في
التأليف. والقوانين تختلف في تقدير المدة التي تكتسب الحماية كما في
الفقرة (ب) قبل هذا.
الفروق بين الحقين الأدبي والمالي هو:
الأول: جواز تنازل المؤلف عن الحق المالي دون الأدبي.
الثاني: الحقوق الأدبية حقوق مؤبدة أما المالية فهي مؤقتة على
اختلاف القوانين في توقيتها.
الحق المالي في ميزان الشريعة
بعد أن تبينت طبيعة الحق الأدبي وأنه ينبغي أن لا يكون الاحتفاظ
به وبذل الطرق لحمايته محل خلاف، وتبينت طبيعة الحق المالي وأنه حق
عيني أصلي متمول، وما يتميز به هذا الحق، يبقى النظر في التكييف
الفقهي لحق المؤلف المالي هل يجوز أخذ المؤلف للعوض على مؤلفه أم
لا يجوز؟؟ وبيان هذا المبحث الذي هو أساس النظر في هذه النازلة أن
يقال:
هذه النازلة بين الحرمة والجواز:
دارت أقلام الكاتبين في بيان حكم النازلة في خصوص المؤلفات في
العلوم الشرعية بين الحرمة والجواز والخلاف فيها من أثر الخلاف بين أهل
العلم في أخذ العوض على تعليم القرآن وأمور الاعتقاد والحلال والحرام،
إذ ذهب الأكثر إلى الجواز ومنهم الأئمة الثلاثة وبه قال متأخرو الحنفية
معللين بالحاجة لعدم وجود متبرع به، وفريق إلى المنع ومنهم الحنفية.
وبعض إلى الكراهة التنزيهية في رواية أحمد رحمه الله تعالى.
وقد تجاذب الفريقان الاستدلال في هذه النازلة كلٌّ بما وسعه لكن
فات الجميع تشخيص مأخذ الخلاف ومدرك الحكم فيه وتخريجه وإن كان
البعض قد حام لكن ما نهل ولا علَّ، وبعض أغرب في الاستدلال وقصر
عن ضرب المثال فصار ما تحصل مقتطفات في الاستدلال متناثرة وهكذا
الشأن في كل جديدة ونازلة، فلهم فضل السبق وفتق الرتق وتذليل الصعب
ليتعسعس في حماها من أنس من نفسه الرّشد، وأدلى بدلوه لكن بحبل
من مسد ليصنف أدلة كل قول وما حوى، فيجلي ما سلم من المعارض
والمصاب بالتوى.
ويا ليتني كنت هذا، وأنى لي ولم أشتر من العلم إلا وشلاً؟ والعلوم
قسم ومنح لكن وظيفتي هنا جمع أدلة القولين وقسمهما في الكفتين، عسى
أن ينبري لها عالم حفظة فيحررها بنفس من غابت عنا أجسامهم وشهدت
لهم آثارهم وكرائم أقلامهم بعلو شأنهم وسيلان أذهانهم. والله المستعان
وحده دون سواه.
أدلة الجواز:
أدلة المجيزين لأخذ العوض على القُرَب هي أدلة المجيزين لاعتياض
المؤلف عن مؤلفه وهي مع ما يضاف إلى هذه من أدلة كما يلي:
1-
إن هذا الحق (حق عيني أصلي مستحق بحكم التكوين والجبلة
وما تولد عنها) . كالشأن في عامة حقوق المرء في تصرفاته التكوينية
والجبلية ببدنه، وحواسه، ومشاعره، وما تولد عن ذلك مثل: نسله ونسل
نعمه، وثمر بستانه، وهكذا.
والتأليف هنا: حق مملوك لمؤلفه بحكم ملكه لرقبة تصرفه في فكره وتولد
تأليفه منه. وإعمال الفكر في التأليف حق يستوي فيه المتأهلون له، لكن
من سبق إلى الإنتاج بإعمال فكره وقلمه فهو من خالص حقوقه. ولو سبق
إلى مخطوط من التراث فقام بتحقيقه وطبعه ونشره فله حق السبق من جهة
وحق إنتاجه الذهني في تحقيقه من جهة أخرى. قال الله تعالى عن
السيارة في قصة يوسف عليه السلام {قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ} فقد بشر
نفسه بأنه ملكه بالالتقاط. وفي الحديث " من سبق إلى ما لم يسبق إليه
مسلم فهو أحق به ".
ولو سبق إلى مخطوط من التراث فقام بطبعه دون تحقيقه وإعمال فكره
فيه فهو بهذا استحق الملك بالإحياء، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من
أحيا أرضاً ميتة فهي له "، وناله أيضا بطباعته فسبق غيره واختص بملكية
الطبع وآثارها. ولو فرض أنه باعه لناشر ونحوه فالحق على ما شرطاه (إذ
المسلمون على شروطهم) . فالتأليف إذاً (ملك محترم) تنسحب عليه
تصرفات الملاك في أملاكهم وذوي الحقوق في حقوقهم من المعاوضات
والانتقالات ببيع وارث ووقف وهبة ونحوها (وليس لعرق ظالم حق) .
وهذا لا يتنافى مع وجود حق لله تعالى في (المؤلفات في العلوم
الشرعية) من واجب البلاغ إلى الأمة إذ الشرعية كاملة في (الكتاب والسنة)
وفيهما العصمة. والوسائل إليهما من تأليف العلماء محل للخطأ والصواب
على قدر القرائح والفهوم. والله أعلم.
2-
حديث ابن عباس رضي الله عنهما الطويل في الرقية وفيه قول
النبي صلى الله عليه وسلم " أن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله ".. رواه البخاري وغيره.
ويقال: إذا كان جواز العوض في القرآن ففي السنة من باب أولى،
وإذا جاز على الوحيين ففيما تفرع عنهما من الاستنباط والفهوم وتقعيد
القواعد وتأصيل الأصول فهو أولى بالجواز، فصارت دلالة هذا الحديث
على جوار العوض عن التأليف أولى من مورد النص. والله أعلم.
3-
حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه في قصة جعْل
القرآن صداقاً وقال فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم " قد زوجتكها بما معك من القرآن "..
رواه الشيخان وغيرهما.
فيقال إذا جاز تعليم القرآن عوضاً نستحل به الأبضاع، فمن باب أولى
أخذ العوض عليه لتعليمه ونشره، وأولى منهما أخذ العوض على مؤلف
يحمل المفاهيم من الكتاب والسنة، فصارت دلالة هذا الحديث على جواز
العوض على التأليف أولى من مورد النص. والله أعلم.
4-
إن التأليف عمل يد وفكر، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: " أطيب الكسب
عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور " أخرجه أحمد وغيره عن رافع بن خديج.
وعن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: " إن أطيب ما أكلتم من كسبكم فإن
أولادكم من كسبكم " رواه أصحاب السنن وأحمد وغيرهم.
وفقه الحديث الأول - حديث رافع بن خديج - يدل على أن كل عمل
الرجل بيده فهو من أطيب الكسب، فكل عمل مباح يعمله الرجل بيده فهو
من أطيب الكسب.
فإذا كان هذا في المباحات كالاحتطاب والبيع والشراء في الأقوات
وتحصيلها، ونحو ذلك فما بالك بالمسنونات إذا صلحت فيها النية، ثم ما
شأن عمل الرجل بيده في تحصيل فروض الكفاية؟ ثم ما منزلة عمل الرجل
يده في فروض الأعيان كالجهاد العيني وما يرجع به الغازي من مغانم؟
فكل هذا من الكسب الطيب إذا صلحت النية في المشروع، فإذا كانت
اليد تعمل في تحصيل المسنونات، وفروض الكفايات ألا يكون ذلك من
أطيب الكسب، وأنفعه، وأكثره تعدياً؟؟ .
وقد يقال إن المشروعات يجب أن تكون خالصة، والتأليف في علوم
الوحيين يجب أن يخلص من نية الاكتساب أو نحوه.
والجواب: أن النية مصححة العمل في قبوله والإثابة عليه، لا في حل
المال المكتسب أو حرمته، فمن طلب العلم ثم أراد أن ينفع الأمة به،
وقد يتقوى على ذلك بما يكسبه بعلمه، فنيته ليست فاسدة، والمال طيب،
وأصل هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس في الرقية " إن أحق
ما اتخذتم عليه أجراً كتاب الله ".
وفي يوم القيامة أول من تسجر بهم النار ثلاثة: ومنهم قارئ القرآن
فاسد النية. فالنية مفسدة للثواب إذا قارنت العمل من أصله، محبطة له،
لكن الكسب مع صلاح النية كيف يقال أنه خبيث؟ والله أعلم.
وفي الحديث الثاني ما في الأول، وزيادة:" إن أولادكم من كسبكم "،
فإن كان الولد الذي غذاه والده ونشَّأه ورعاه من كسبه وماله، أفلا يقال إن
المصنفات من كسب مؤلفها؟ فهو الذي غذاها بفكره وقلبه، ورعاها حتى
اكتملت، وهجر لأجلها العيش المستريح، والمكاسب الدنيوية.
وهذا ليس من القياس وقد يقال، ولكنه من تنقيح المناط.
وما أحسن ما قيل: المصنفات ذرية العلماء.
5-
دلّ صنيع أهل العلم المتقدمين على أن مصنفاتهم ملك لهم
أصلاً، وقد يخرجون هذا الملك إلى انتفاع الناس به، ولولا أنه ملك لهم
لما استجازوا أخذ مقابل لثمنه.
فهذا الحافظ أبو نعيم الأصبهاني بيع كتابه (الحلية) في حياته بنيسابور
بأربعمائة دينار، وما هذه قيمة ورق ونسخ، وهذا الحافظ ابن حجر
العسقلاني طلب ملوك الأطراف بوساطة علمائهم منه إرسال نسخة (من
كتابه..) فبيع بنحو ثلاث مائة دينار ذكره السخاوي 2 / 38. وما ذلك قيمة
ورق ونسخ، وأمثال هذا معروف مشهور كما تقدمت نظائره مبسوطة ولله
الحمد.
6-
الكتب المصنفة في العلوم الشرعية من الأموال، والمال في الأصل
لصانعه أو مكتسبه، ولا يخصص هذا الأصل إلا بدليل صحيح صريح،
فلا ينتقل عن الأصل إلا بناقل متيقن.
7-
إن القاعدة الشرعية (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح)
يمكن إجراؤها في هذه النازلة باعتبار أن المفسدة الحاصلة من ترك الكتب
الشرعية بلا حفظ لحق طبعها مفسدة في هذا الزمان، من جراء قلة أو عدم
الوازع الديني ومراقبة الله في نشر علوم الشريعة، وبثها للناس.
والناس اليوم تلمذتهم للكتب أكثر من تلمذتهم للشيوخ، بل لا تلمذة
إلا للكتب عند كثيرين فما لم تدرأ مفسدة شيوع حق النشر فيستحكم
الناشرون في إفساد الكتب وترك تصحيحها وتصويبها والاعتناء بالآيات
والأحاديث ونحو ذلك.
وقد يسقطون ما يسقطون جهلاً، ويزيدون ما يريدون.
وهذه الأمور منظورة معلومة والله المستعان.
فدرء هذه المفسدة ينبغي مراعاته، والمصالح قد تكون مع شيوع حق
النشر لا تُقدّم على درء هذه المفسدة، والله أعلم.
8-
فقد أعطى طلبة العلم من بيت المال في البلدان الإسلامية ما
يستغنون به، فإذا طلب العلم طالب فأخذ كسباً على تأليفه والحال هذه
مما يسوغ، كما قالوا في أخذ المؤذن أجراً على إقامته، والإمام أجراً إذا
لم يوجد من يسد الحاجة دون أجر فيفرض له من بيت المال.
ومسألتنا بعكس هذه.
9-
إذا كان المصنف ملك لمصنفه، وثبتت ملكيته فله أن يتصرف في
ملكه بأنواع التصرفات الجائزة أو المشروعة كبيعه أو هبته أو وقفه أو نحو
ذلك، والله أعلم.
10-
إن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ومن فروع هذه القاعدة:
أن ما لا يتم المسنون إلا به فهو مسنون.
فإن قلنا بان التأليف في العلوم الشرعية من الواجبات أو المسنونات
فتمكين المصنف من الانتفاع بكسبه إذا كان لن يصنف إلا بذلك مما لا
يتم الأمر إلا به فهو تابع لحكمه.
فإذا كان المؤلف يرشد الناس ويعلمهم أمر دينهم وكان هذا التعليم
مشروعاً، وانقطاعه للتأليف يفتقر إلى كسب، وتركه التأليف قد يؤدي إلى
نقص وترك للمشروع فما يبقى للمؤلف نشاطه واستمراره من باب ما لا يتم
المسنون إلا به، لا يتم المشروع إلا به.
وإن كان في هذا نظر، يفتقر إلى إعمال فكر وإظهار فكر، وربما يظهر
أشياء.
11-
أن المؤلف بدرجة صانع وتأليفه بمنزلة المصنوع وكل صانع
يملك مصنوعه فكذلك المؤلف يملك تأليفه وحقوقه.
وجه ذلك: أن المؤلف بحكم تحصيله العلمي وابتكاره وإعمال جهوده
بفكره، وبدنه، ووقته وربما ماله فيما يتطلبه ذلك من الرحلة وشراء المصادر
والمراجع وأدوات الكتابة
…
كل ذلك جعله بمنزلة صانع يملك صنعته
فيملك مقتضاها وأثرها بما لها من حقوق وانتفاع شرعي
…
12-
ومنها على أحد وجهي الخلاف في جواز أخذ الأجرة على
التحديث وامتناع بعض المحدثين من الإذن بالرواية إلا لمن يبذل له
العوض ولم يؤثر ذلك على صدقهم في الرواية أو تزيدهم فيها كما أن ذلك
لم يكن مانعاً من انتشار علمهم وبثه وهذا من أسس المقاصد في حمل
العلم.
وعليه: فإذا جاز أخذ العوض على التحديث ففي التأليف في العلوم
الشرعية المزيجة منها ومن كلام المؤلفين واستنباطهم وابتكاراتهم صار ذلك
أولى بالجواز.
13-
أنهم أجازوا أخذ الأجرة على نسخ المصحف، وعن ابن عباس
رضي الله عنهما أنه سئل عن أجرة كتابة المصاحف وقال: لا بأس إنما
هم مصورون وإنما يأكلون من عمل أيديهم. ذكره التبريزي في " مشكاة
المصابيح " (1) .
واختلفوا أيضاً في حكم إجارة المصحف على قولين هما وجهان لدى
الحنابلة أحدهما الجواز: فقرروا جواز العوض على انتساخ الكتاب،
وانتساخه أعظم طريق للاستفادة منه ولولا الانتساخ لكانت المؤلفات لقىً
عند مؤلفها.
وقرروا وجوب المقابلة على النسخ على أصل مقروء، والمقابلة تقتضي
أكثر من شخص ولم يقل أحد بمنع العوض للمقابل وهم قائلون بوجوب
المقابلة على أصل فقط أو أكثر من أصل.
فهذه ضروب من الجواز على أخذ العوض بشأن الوحيين وهما أصل
العلم وأساسه وهو واجب النشر والتعليم فهلا يصح بعد هذا أن يقال بجواز
أخذ العوض على التأليف وقد بذل فيه ما بذل؟؟؟ .
14-
أن تجويز ذلك فيه دفع عظيم للبحث والتحقيق وترويج سوق
العلم ونشره وبثه، وشحذ لهمم العلماء لنشر نتائج أفكارهم وإبداعهم وهذا
من أهم وسائل تقدم الأمة وتصحيح منهجها.
وفي المنع سلب لهذه ووسيلة ركود للحركة العلمية في مجال التأليف
والإبداع. لا سيما مع تغير الزمان والأحوال وندرة المتبرع وشدة الحاجة
وضعف الهمم وقصورها.
(1) بواسطة التراتيب الإدارية 2 / 282.
وهل جوائز الخلفاء والملوك والسلاطين والوجهاء للمؤلفين على
مؤلفاتهم والمبدعين على إبداعهم إلا مظهر من مظاهر الدفع للهمم وقد
جرى بذلك العمل من غير نكير وقاعدته من عهد النبي صلى الله عليه وسلم في إجازة كعب
رضي الله عنه بالبردة لقاء قصيدته العصماء التي دان فيها بالإسلام وفي
عنه. فهي من طرق الكسب المباح من غير نكير.
15-
أن حق التأليف هو من الحقوق المقررة لا المجردة، لأن الحق
المجرد ما شرع لدفع الضرر كحق الشفعة فهو لا يقوم بمال ولا يستعاض
عنه بالمال، أما المقرر فهو ما يثبت لمستحقه أصلاً وابتداء كحق الزوجة
في القسم والمبيت، وحق القصاص لوليه وحق الزوج في استدامة عقد
النكاح، وحق مالك الرقيق في استدامة ملكه. فهذه حقوق يجوز الاعتياض
عليها. فكذلك حق التأليف.
وفي مبحث النجش من البيوع جوزوا صرف بعض الناس عن المزايدة
بعوض.
16-
ما زال الناس منذ مولد التأليف وإلى أيامنا هذه يجرون على
التأليف أنواع التصرفات من بيع وإعارة ووقف وهدية وعطية وهبة ونحو ذلك
من غير نكير، فهل هذا إلا دليل ماليته؟ ولم نر في كلام الأورع أن هذا
يؤثر على المؤلف في صلاح نيته.
17-
في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى:
…
الحديث رواه
البخاري وغيره.
فنحن نرى الغازي ينال من الغنائم ونرى طالب العلم في معاهده
النظامية وفيها المكافآت المالية، وهكذا من وجوه التعبد التي ترتب أموراً
مالية فلا نقول بتأثير هذا على شوب نيته بل الظاهر السلامة، ووجود هذه
الأعواض لا تقدح في النية، لكنهما رجلان: رجل نوى الغنيمة فله ما نوى
كما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"من غزا في سبيل الله ولم ينو إلا عقالاً فله ما نوى " (رواه أحمد والنسائي
والدارمي ومدار سنده على حفيد عبادة وهو يحيى بن الوليد بن عبادة وهو
مقبول) . وآخر نوى من غزاته الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا ونصيبه
من الغنائم حق له لا يجوز بخسه، فهو يطالب به ولو اعتدي عليه لكان
المعتدي ظالماً آثماً.
وانظر كيف أبطل في الشرع ما حرمته الجاهلية من الاتجار في الحج
وكانوا يقولون للمتجر فيه (فلان راج وليس بالحاج) فأبطل الله ذلك بقوله
تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} يعني في أيام
الحج. فلم يؤثر طلب كسب المال على الحج وهو ركن من أركان
الإسلام.
وفي الغزو قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من قتل قتيلاً فله سلبه " وهذا نص في أن
تشريك النية لا يؤثر على صحة العبادة فقد ملك النبي صلى الله عليه وسلم للقاتل وهو قتل
في سبيل الله.
وهكذا في نظائرها. وعليه فالتأليف في العلوم الشرعية مثلاً كالطلب
لها، يتعين أن تكون لله بنية صادقة خالصة ولا يقدح في نيته ما يأتي من
الأعواض على مؤلفه ومطالبته وتأثيم المعتدي عليه كالشأن في الغازي
وطالب العلم ونحوهما..
وإنما لكل امرئ ما نوى فهي بين العبد وربه وبيع المؤلف لمؤلفه
دليلاً على دخل في نيته كالشأن في الغازي وغنيمته.
ولعظم شأن النية لا سيما في طلب العلوم الشرعية أسوق درراً نثرها
الإمام الذهبي رحمه الله تعالى وذلك في كتابه سير أعلام النبلاء
فقال (1) : (قال الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز
وابن جريج لم طلبتم العلم؟ كلهم يقول: لنفسي. غير ابن جريج فإنه
قال: طلبته للناس) قلت: ما أحسن الصدق واليوم تسأل الفقيه الغبي لمن
طلبت العلم؟؟ فيبادر ويقول: طلبته لله ويكذب إنما طلبه للدنيا ويا قلة
ما عرف منه.
وفيه (2) وقال عبد الرازق: أنبأنا معمر قال: إن الرجل يطلب العلم
لغير الله فيأبى عليه العلم حتى يكون لله.
قلت: (نعم يطلبه أولاً والحامل له حب العلم وحب إزالة الجهل عنه
وحب الوظائف ونحو ذلك، ولم يكن علم وجوب الإخلاص فيه ولا صدق
النية فإذا علم حاسب نفسه وخاف من وبال قصده فتجيئه النية الصالحة
كلها أو بعضها وقد يتوب من نيته الفاسدة ويندم، وعلامة ذلك أنه يقصر
من الدعاوى وحب المناظرة ومن قصد التكثر بعلمه ويزري على نفسه، فإن
تكثر بعلمه أو قال: أنا أعلم من فلان فبعداً له) .
وفيه أيضاً (3) : قال عون بن عمارة: سمعت هشاماً الدستوائي يقول:
والله ما أستطيع أن أقول: إني ذهبت يوماً قط أطلب الحديث أريد وجه
(1) السير 6 / 328.
(2)
السير 7 / 17.
(3)
السير 7 / 152.
الله عز وجل. قلت: والله ولا أنا فقد كان السلف يطلبون العلم لله فنبلوا
وصاروا أئمة يقتدى بهم، وطلبه قوم منهم أولاً [لا](*) لله وحصلوه ثم استفاقوا
وحاسبوا أنفسهم فجرهم العلم إلى الإخلاص في أثناء الطريق، كما قال
مجاهد وغيره: طلبنا هذا العلم وما لنا فيه كبير نية ثم رزق الله النية بعد،
وبعضهم يقول طلبنا هذا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله فهذا أيضاً
حسن ثم نشروه بنية صالحة. وقوم طلبوه بنية فاسدة لأجل الدنيا وليثنى
عليهم فلهم ما نووا. قال عليه السلام: "من غزا ينوي عقالاً فله ما نوى "
وترى هذا الضرب لم يستضيئوا بنور العلم ولا لهم وقع في النفوس، ولا
لعلمهم كبير نتيجة من العمل، وإنما العالم من يخشى الله تعالى.
وقوم نالوا العلم وولوا به المناصب فظلموا وتركوا التقيد بالعلم وركبوا
الكبائر والفواحش فتباً لهم فما هؤلاء بعلماء!!
وبعضهم لم يتق الله في علمه بل ركب الحيل وأفتى بالرخص وروى
الشاذ من الأخبار، وبعضهم اجترأ على الله ووضع الأحاديث فهتكه الله
وذهب علمه وصار زاده إلى النار. وهؤلاء الأقسام كلهم رووا من العلم شيئاً
كبيراً وتضلعوا منه في الجملة فخلف من بعدهم خلف بان نقصهم في
العلم والعمل، وتلاهم قوم انتموا إلى العلم في الظاهر ولم يتقنوا منه سوى
نزر يسير أوهموا به أنهم علماء فضلاً ولم يدر في أذهانهم قط أنهم يتقربون
به إلى الله لأنهم ما رأوا شيخاً يقتدى به في العلم فصاروا همجاً رعاعاً
غاية المدرس منهم أن يحصل كتباً مثمنة يخزنها وينظر فيها يوماً فيصحف
ما يورده ولا يقرره فنسأل الله النجاة والعفو. كما قال بعضهم: (ما أنا عالم
ولا رأيت عالماً) .
18-
لو كانت المؤلفات من قبيل السوائب واشتراك المسلمين في الماء
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: الزيادة بين المعكوفين من سير أعلام النبلاء
والكلأ والنار لنقل ذلك إلينا ودوّنه أهل العلم في مدوناتهم، لكن الأمر على
العكس من ذلك، وهل طرق التحمل والأداء إلا واحدة من مظاهر الرعاية
لحرمة المؤلفين في مؤلفاتهم؟ وهل طرق التناقل لها من بيع وشراء ووقف
ونحوه إلا دليل على ملكيتها وماليتها؟
19-
ومن آثار حمايتها دفع تسلط الناشرين من مسلمين وكافرين عليها
حتى لا تكون جواداً رابحاً يغامرون عليه من غير أي عوض. وهل لهذا
نظير في الشريعة أن يعمل الإنسان عملاً يحرم عليه عوضه وينساب
لغيره؟؟
20-
قاعدة القرب أن من تعبد ليأخذ عوضاً فهذا هو الذي لا يجوز
أما من أخذ ليتعبد من جهته فهذا يجوز كما أصّل ذلك ابن تيمية رحمه
الله تعالى في النيابة في الحج فإنه بعد إطالة النفس في أخذ العوض
للنائب حصر المسألة بقوله: إن من حج ليأخذ فهذا لا يجوز أما من أخذ
للحج فهذا الذي يجوز.
وجه ذلك: أن من حج وقصد من النيابة في الحج التكسب والمعاوضة
فهذا لا يجوز، أما من أخذ العوض ليحج بأن كان قصده الشوق إلى البيت
الحرام والمواقف والمشاعر وحضور دعوة المسلمين لكن يريد ما يتبلغ به
ويعينه فهذا يجوز.
ومثله يقال في التأليف: إن من ألّف ليأخذ بأن جرد فيه القربة من
تأليفه في علوم الشريعة وكان قصده اكتساب المال وجعل هذه الصفة وسيلة
لجلب المال لا غير فهذا لا يجوز لما علم من أن النية الصالحة في التقرب
بخدمة العلم أساس له، أما من أخذ ليؤلف بأن كانت المعاوضة غير
مقصده الأساس ولكن مقصده التعبد به ونفع المسلمين وإنما أخذ
المعاوضة للتقوت والتعفف، فهذا الذي يجوز ولا يقدح في نيته كالشأن
في حج النائب والغازي والإمامة ونحوها.
وعليه فيمتنع على هذا القول الاعتداء على مؤلفات الغير بطبعها
ونشرها من غير إذن مؤلفها ومن أتى من طريقه شرعاً. والله أعلم.
القول بالمنع وأدلته:
ومن الباحثين في هذه النازلة من ذهب إلى المنع والتحريم على
المؤلف بأخذ العوض المالي تأليفه في العلوم الشرعية، وما يترتب من
عقود، ومجامع الاستدلال على ما يلي:
1-
أنه لا يجوز التعبد بعوض، والعلم عبادة ليس صناعة أو تجارة،
فالتأليف في العلوم الشرعية: عبادة، وعليه فلا تجوز المعاوضة عليه (1) .
2-
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من كتم
علماً يعلمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار". رواه أبو داود، والترمذي،
وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم.
ووجه الاستدلال: أن حبس المؤلف لكتابه عن الطبع والتداول إلا
بثمن باب من أبواب كتم العلم فيناله الوعيد، فيمتنع ذلك، والله أعلم (2) .
3-
أن نوع حق المؤلف في تأليفه، أكثر ما يقال فيه: حق مجرد
والحق المجرد لا يقوّم بمال، ولا يستعاض عنه بالمال كحق الشفعة،
(1) مجلة الهدي النبوي ص / 59.
(2)
مجلة الهدي النبوي ص / 59، وكتاب الدريني ص / 100.
فكذلك حق المؤلف لذلك (1) .
4-
أن بذله للنشر والانتفاع بمعنى أن حق الطبع لكل مسلم، يحقق
مقصداً من مقاصد الشريعة بتحقيق مصلحة: الانتشار والرواج وإغناء
المكتبة الإسلامية ونشر العلم الشرعي (3) .
هذا ما يمكن تصنيفه من مجامع الاستدلال للخلاف في هذه
المسألة، والناظر يعرف الراجح من الموازنة بين أدلة القولين، ومسلك
الورع تحقيقاً لخلوص النية وتجريدها مما يشوبها من الخلاف:
وإن الأوْرَعَ الخروج من خلافهم فاستبن
هو كما قرره شيخنا محمد الأمين الشنقيطي (م سنة 1393 هـ) رحمه
الله تعالى في شأن التعليم بأجر، فكذلك في شأن التأليف فأقول: الأولى
للعالم المسلم إذا لم تدعُه حاجة أن لا يأخذ عوضاً على مؤلفاته في أمور
الشرع، وإن دعته حاجة أخذ بقدرها، ومن أغناه الله فالأولى له التعفف
قي ذلك. وقد كان جماعة من العلماء المعاصرين لا يأخذون عوضاً عن
مؤلفاتهم منهم شيخنا المذكور رحمه الله تعالى، وكان يزجر عن ذلك لمّا
قلت له لو طبع أضواء البيان طبعة تجارية لكان أكثر لانتشاره، فقال لا
أتاجر في البيان لكتاب الله تعالى، وما أظن أحداً يجترئ على كتابي
فيبيعه فأدعو عليه إلا أن تصيبه الدعوة، هكذا شافهني وأنا بجانبه في
المسجد النبوي الشريف. رحمه الله تعالى. ومنهم الشيخ محمد الحامد
رحمه الله تعالى كما في ترجمته. وقد أدركت عدداً من علماء نجد كذلك.
والله تعالى أعلم.
(1) مجلة الهدي النبوي ص / 62 - 63، وكتاب الدريني ص / 52 - 54.
(2)
كتاب فتحي الدريني ص / 162.