المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الخامسالقواعد والأصول الشرعية التي تخرج عليها هذه النوازلالطبية - فقه النوازل - جـ ٢

[بكر أبو زيد]

فهرس الكتاب

- ‌التشريح الجثماني والنقلوالتعويض الإنساني

- ‌المبحث الأولوفيه بيان ما كتب في هذه النازلة من:

- ‌المبحث الثانيفي حكم التداوي

- ‌المبحث الثالثالتاريخ القديم لعمليات النقل والتعويض

- ‌المبحث الرابعحصر التصرفات الطبية الفاعلة على بدن الإنسان

- ‌المبحث الخامسالقواعد والأصول الشرعية التي تخَُرَّجُ عليها هذه النوازلالطبية

- ‌المبحث السادستخريج وتنزيل الإجراءات الطبية المعاصرةعلى المدارك الشرعية

- ‌المبحث السابعفي الشروط العامة

- ‌المبحث الثامنفي حكم بيع الآدمي لدم أو عضو منه

- ‌بيع المواعدةالمرابحة في المصارف الإسلامية

- ‌المبحث الأولبيع المرابحة عند متقدمي الفقهاء

- ‌المبحث الثانيفي مدى لزوم الوفاء بالوعد ديانة وقضاء

- ‌المبحث الثالثالبحوث والمؤلفات في هذه النازلة

- ‌المبحث الرابعصور بيع المواعدة

- ‌المبحث الخامسسبب وجودها

- ‌المبحث السادسحكمها

- ‌المبحث السابعفي الضوابط الكلية

- ‌حق التأليف تاريخاً وحكماً

- ‌المبحث الأولفي فن الطباعةتاريخ اختراعها، وتدرج انتشارها في الديار الإسلامية

- ‌المبحث الثانيالاحتفاظ بحق المؤلففي المجالات الدولية والحكومية والفردية

- ‌المبحث الثالثالتاريخ القديم لملكية التأليف

- ‌المبحث الرابعالتعريف بعنوان هذه النازلة

- ‌المبحث السادسفي حق النشر والتوزيع

- ‌بيان مسألتين في أوائل الشهور العربية

- ‌[المسألة الأولى: في حكم إثباته بالحساب]

- ‌المبحث الأولفي سياق النصوص

- ‌المبحث الثانيفي فقه هذه النصوص

- ‌المبحث الثالثإجماع المسلمين على موجب هذه النصوص

- ‌المبحث الرابعتفنيد الخلاف الحادث في هذه المسألة

- ‌المبحث الخامسما استدل به المتأخرون

- ‌المبحث السادسفي نقضها

- ‌المبحث السابعفي ظنية الحساب

- ‌المبحث الثامنفي منابذته للشرع

- ‌المسألة الثانية: في توحيد الرؤية

- ‌دلالة البوصلة على القبلة

- ‌المبحث الأول: في حكم إعمال الآلات في الدلالة على القبلة

- ‌المبحث الثانيفيما تم الوقوف عليه في خصوص البوصلة

الفصل: ‌المبحث الخامسالقواعد والأصول الشرعية التي تخرج عليها هذه النوازلالطبية

‌المبحث الخامس

القواعد والأصول الشرعية التي تخَُرَّجُ عليها هذه النوازل

الطبية

يمكن إجمال القول في تصنيف مهماتها إلى ما يلي:

1-

طهارة الآدمي:

القاعدة الفقهية أن (ما أُبين من حي فهو كميتته) . للحديث في

ذلك، - ويأتي - أي: كميتته طهارة ونجاسةً فما أُبين من بهيمة الأنعام وهي

حية فله حكم الميتة منها حتف أنفها (النجاسة) أي فهو نجس.

وما أبين من السمك والجراد وهو حي فله حكم الميتة منها (الطهارة)

أي: فهو طاهر.

قالوا: والكافر نجس، فما أبين منه حياً أو ميتاً فهو نجس، لقوله

تعالى {إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ} ، وللأمر باغتساله إذا أسلم.

والآدمي المسلم ميتته نجسة، فما أبين منه وهو حي فله حكم

ميتته " النجاسة " فهو نجس. وبدليل تغسيله بعد موته.

وعليه: فإن ترقيع المسلم بما هو نجس فيه إخلال بواجبات الشريعة

كصحة الصلاة. لكن هذا التقعيد يرد عليه أمور:

أولاً: أن تعلم أن أصل قول الفقهاء رحمهم الله تعالى ما أبين من

ص: 25

حي فهو كميتته) يذكرونه في بابي الطهارة، والصيد، ويريدون ما أبين من

حيوان مأكول.

وأصل هذا قد ورد مقيداً بالبهيمة في حديث أبي واقد الليثي رضي

الله عنه، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما، وحديث أبي سعيد الخدري

رضي الله عنه، وحديث تميم الداري رضي الله عنه.

وهذا الحديث له قصة وهي كما في رواية أبي واقد رضي الله عنه

قال:

(كان الناس في الجاهلية قبل الإسلام يجبُّونَ أسنمة الإبل ويقطعون

إليات الغنم، فيأكلونها، ويحملون منها الوَدَك، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم سألوه

عن ذلك، فقال:

" ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت " رواه أحمد، وابن الجعد،

وأبو يعلى، وأبو داود، والترمذي، والدارمي، والدارقطني، والطبراني، وابن

عدي، والحاكم، والبيهقي.

ترجم عليه أبو داود في الصيد بقوله: باب في صيد قُطِعَ منه قطعة.

وترجم عليه الترمذي في الصيد بقوله: باب ما جاء: ما قطع من الحي

فهو ميت.

وترجم له البيهقي ترجمتين في الطهارة بقوله: باب المنع من الانتفاع

بشعر الميتة، وفي الصيد بقوله: ما قطع من الحي فهو ميتة.

وأما حديث ابن عمر فهو بلفظ: ما قطع من البهيمة وهي حية فهو

ميت، رواه ابن ماجه، والبزار، والدارقطني.

وحديث أبي سعيد: " ما قطع من حي فهو ميت " رواه الحاكم.

ص: 26

ورواه أبو نعيم في الحلية وابن عدي في الكامل: كل شيء قطع من

الحي فهو ميت.

وحديث تميم الداري رضي الله عنه بلفظ: " ما أخذ من البهيمة وهي

حية فهو ميت ". رواه الطبراني. وابن عدي.

ورواه ابن ماجه بسنده عنه بلفظ: " يكون في آخر الزمان قوم يجبون

أسنام الإبل، ويقطعون إليات الغنم، ألا فما قطع من حي فهو ميت ".

وهذا اللفظ فيه: الهذلي وهو متروك.

هذا الحديث مقيد بسببه ولفظه بالبهيمة، فلا يتجاوزها إلى غيرها والله

أعلم.

وقد قال المناوي في شرحه له 5 / 461: (فإن كان طاهراً فطاهر، أو

نجساً فنجس، فيد الآدمي طاهرة، وإلية الخروف نجسة، ما خرج عن ذلك

إلا نحو شعر المأكول وصوفه وريشه ووبره ومسك فأرته فإنه طاهر لعموم

الاحتياج له) اهـ.

ثانياً: وأما آية التوبة / 28 {إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ} فقد علم أن النجاسة

أنواع:

نجاسة خبث وحدث، ونجاسة عينية وحكمية.

والمراد بنجاسة المشركين في هذه الآية هي النجاسة الحكمية. وعلى

هذا المحققون من المفسرين بدليل: أن سؤر اليهودي والنصراني طاهر،

وآنيتهم التي يضعون فيها المائعات ويغمسون فيها أيديهم طاهرة، وقد أباح

الله للمسلمين التزوج بالكتابيات ولم يوجب عليهم غسل الأيدي عند

ص: 27

ملامستهم أو غسل ما لامسوه وهكذا - (21 / 67 الفتاوى) . وأما غُسل الكافر

عند إسلامه، فليس لنجاسته ولكن لما عسى أن يكون عليه من جنابة،

وإعلاناً بغسل الكفر وحبه للإسلام.

وأما تغسيل المسلم بعد وفاته فهو أمر تعبدي، لم يعلله أحد

بالنجاسة، إذ لو كان نجساً ويطهر بالغسل لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على قتلى

أحد وغيرهم من الشهداء، بلا غسل لهم. فغسل المسلم الميت، لأنه

قادم على ربه فيكون في طهارة من الحدث متيقنة، والله أعلم.

وبناء على ما تقدم، فلم يظهر دليل يفيد نجاسة بدن الآدمي مسلماً

كان أو كافراً، فالكافر طاهر طهارة نسبية، والمسلم طاهر البدن طهارة

كاملة، ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي

صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض طرق المدينة وهو جُنُب، قال: فانخنست منه، فذهبت

فاغتسلت ثم جئت، فقال أين كنت يا أبا هريرة قال: كنت جنباً فكرهت

أن أجالسك وأنا على غير طهارة، فقال صلى الله عليه وسلم: " سبحان الله إن المؤمن لا

ينجس ".

وقال البخاري: قال ابن عباس: المسلم لا ينجس حياً أو ميتاً.

2-

بدن الإنسان (1) :

يتردد البحث في بدن الإنسان، قولاً، وتخريجاً على بعض القواعد

الأصولية، والقواعد الفقهية الكلية - بعبارات كلها بمعنىً:

(1) بحوث دار الإفتاء بالرياض 1 / 25 - 26، 2 / 18 - 19، 3 / 2 - 4، 24. مجلة

البعث الإسلامي جـ / 432 / 2 ص / 45 - 55. تعريف أهل الإسلام

ص / 4، 13، 19.

ص: 28

فيقال: بدن الإنسان مملوك له أو لا.؟

ويقال: بدن الإنسان مملوك له أم هو أمين ووصي عليه.؟

ويقال: بدن الإنسان حق لله، أو حق للعبد، أو فيه الحقان وأي:

الحقين أغلب.؟

ثم إذا قيل بملكية الآدمي لبدنه، وأحقيته له، فهل هي مثل تملكه

للمال والمتاع، تدخل عليه مطلق التصرفات من بيع، وهبة، وتبرع

وإسقاط، ونحو ذلك مما يدور في محيط المصلحة، وتحقيقها كالشأن في

التصرف في الأموال لا يكون إلا بدائرة المصالح، فلو كان مبذراً سفيهاً،

حُجر عليه، ومُنع من التصرف في ماله، وأُقيم عليه وصي لإدارة شؤونه

على ضوء المصلحة.

وإذا قيل بأنه حق لله تعالى، فهل حق الله سبحانه: هو الاستعباد.

وحق العباد: الاستعمال والاستمتاع، والانتفاع؟ فكما أن له في حال

الجناية عليه: حق الإسقاط وأخذ العوض، والمجازاة في العمد عليه، فله

حق التصرف ابتداء في عضو ونحوه تبرعاً كما أن له بنص الشرع الخوض

في معارك الجهاد الشرعي، وإلقاء نفسه حال المسايفة والمبارزة ومقاتلة

المشرك لينال سلبه.

كل هذا محل تجاذب ونظر، ولم ينفصل عن راقموه بكبير شأن، وإن

كان أظهرها اجتماع الحقين: حق الله، وحق عبده، والأخذ بأحدهما

يختلف باختلاف الأحوال والتصرفات ومعلوم أن ما اجتمع فيه الحقان فإن

إسقاط العبد لحقه مشروط بعدم إسقاط حق الله تعالى، وحق الله تعالى

هو الغاية من خلق الآدميين {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}

فليس له حق التصرف في بدنه بما يضر في الغاية من خلقه ولا بما

ص: 29

يخدشها. والله أعلم.

3-

قاعدة الشريعة في حفظ " الضروريات الخمس " والمعروفة أيضاً باسم:

مقاصد الإسلام الخمسة وهي:

حفظ الدين.

فحفظ النفس.

فحفظ العقل.

فحفظ النسل " والعرض ".

فحفظ المال.

ومسائلها في الشرع معلومة. والقصد هنا ما يتعلق بثانيها رتبة " حفظ

النفس " وعليه:

فاعلم أن " حفظ النفس " بما أنه من مقاصد الشرع الكلية ومقاصده

الضرورية، فقد أحاطته الشريعة بكل ما يمنع النيل من هذه الصيانة،

والحفظ في إطارات كلية وجزئية، منها ما يلي:

أ - أن حرمة دم المسلم أو أي عضو منه، وعصمته. ذلك مما عُلم من

الدين بالضرورة، والنصوص بهذا متظاهرة فلا يجوز الاعتداء عليه

بقتل، أو خدش فأكثر، ولا قتل نفسه ولا العبث ببدنه، والتصرف فيه

بما يضره ولا ينفعه كالخصاء، والوسم، والوشم، ونحوه. سوى ما كان

لموجب شرعي من حد أو قود في نفسه أو طرف، أو بتر عضو من

مريض لمرضه حتى لا يسري إلى بدنه.

ب - أن الشرع رتب التدابير الجزائية الرادعة عن الاعتداء عليه من

قصاص، ودية، وكفارة، وإثم.

ص: 30

ج - أنه لا يباح شيء من بدنه بالإباحة، فكما يحرم على الإنسان: قتل

نفسه، أو قطع عضو منه، فيحرم عليه إباحة شيء من ذلك لغيره.

قال القرافي في " الفروق ": " وحرم الله القتل والجرح، صوناً لمهجته،

وأعضائه، ومنافعها عليه، ولو رضي العبد بإسقاط حقه من ذلك، لم يعتبر

رضاه، ولم ينفذ إسقاطه ".

ونحوه في (الموافقات) للشاطبي، وفي (كشاف القناع) .

د - وإلى أبعد من هذا ذهب بعض أهل العلم فقالوا بوجوب القصاص على

من جرح ميتاً أو كسر عظمه، لعموم آيات القصاص.

وممن قال بذلك ابن حزم رحمه الله تعالى (1) .

هـ - حماية الشرع له قبل ولادته، فأوجبت الدية في الجناية على الجنين،

مع الإثم (2) .

و تحريم الإجهاض، فلو أجهضت أمه لوجبت عقوبتها بديته لورثته (3) .

ز - النهي عن تمني الموت لضر نزل به، والأحاديث في هذا في الصحاح

من حديث أنس، وأبي هريرة وغيرهما كحديث خباب رضي الله عنه " لا

تتمنوا الموت " رواه أحمد وابن ماجه وغيرهما.

ح - حث المسلم على إنقاذ الأنفس من الهلكة، وأن ذلك من أعظم

(1) المحلى 11 / 39. المجموع 5 / 283، 303.

(2)

المغني 7 / 799، زاد المعاد 3 / 200.

(3)

المغني 7 / 816.

ص: 31

القربات، وأجل الطاعات، قال الله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى

بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا

قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} .

ومن أسباب الهلاك (المرض) فبذل السبب من المسلم لأخيه في إنقاذه

من مرضه، إنقاذ له من الهلاك بأي سبب من علاج، أو تغذيته بدم مضطر

إليه

ط - تحريم التمثيل به تشفياً وانتقاماً، وإهانة وإيذاء، وإهداراً لحرمته

وكرامته، وتغييراً لخلق الله كالتمثيل في الحروب والمعارك وكتغيير خلق

الله مثل: خصاء الآدمي، والوسم، والوشم، والتنمص، والتفلج، ووصل

شعر الرأس من آدمي بآخر.

والنصوص في هذا متظاهرة من الكتاب والسنة، قال الله تعالى عن

عدوه إبليس: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ

اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} [النساء: 119] .

فهذه الآية: تشمل ما ذكر، وتشمل نقل عضو من عين ونحوها، حتى

ولو كان لا يضر المنقول منه مطلقاً مثل نقل شعر من آدمي لوصله في رأس

آخر.

وقد كان نزول هذه الآية في " فقء عيون الأنعام، وشق آذانها " والعبرة

بعموم ألألفاظ لا بخصوص الأسباب، ويشهد لهذا العموم، حديث ابن

مسعود رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لعن الله الواشمات،

والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله

تعالى. مالي لا ألعن ما لعن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله تعالى".

ص: 32

وفي الصحيحين عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، قالت:

جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن لي ابنة عريساً

أصابها حصبة، فتمزق شعرها أفأصله؟ فقال: " لعن الله الواصلة

والمستوصلة ".

فهذا يدل على أمرين:

1-

أن العلاج بنقل عضو لا يجوز، للوعيد المذكور، فهو مثله.

2-

أن من أصيب بداء من ذلك لا يجوز التعالج بتعويضه من بدن إنسان

آخر. وهذا تغيير لخلق الله.

ولهذا قال النووي رحمه الله تعالى في وجه الدلالة من هذه

الأحاديث (1) : إن وصلت بشعر رجل أو امرأة، وسواء شعر المحرم والزوج،

وغيرهما بلا خلاف، لعموم الأحاديث، ولأنه يحرم الانتفاع بشعر الآدمي

وسائر أجزائه، لكرامته، بل يدفن (2) شعره وظفره، وسائر أجزائه. اهـ.

وفي تفسير هذه الآية تكلم القرطبي على حرمة خصاء الآدمي ونقل

عن ابن عبد البر قوله: (لا يختلف فقهاء الحجاز، وفقهاء الكوفة، أن خصاء

بني آدم لا يحل، ولا يجوز لأنه مُثْلَة، وتغيير لخلق الله تعالى وكذلك قطع

سائر أعضائهم في غير حد ولا قود) اهـ.

وقال النووي - رحمه الله تعالى - أيضاً: (ولا يجوز أن يقطع - أي

الآدمي - لنفسه من معصوم غيره بلا خلاف، وليس للغير أن يقطع من

(1) المجموع للنووي: 2 / ص 23.

(2)

انظر في دفن ما تساقط من بدن الآدمي: تفسير القرطبي 2 / 102، المحلى

1 / 1118، مغني المحتاج 10 / 348 بحاشية الشربيني.

ص: 33

أعضائه شيئاً ليدفعه إلى المضطر بلا خلاف) اهـ.

لكن هذا الوجه من الاستدلال في حرمة التمثيل على حرمة النقل

والتعويض والتشريح فيه نظر لما يلي: وهو أن الأمور بمقاصدها، فالتمثيل

المحرم هو المبني على التشفي والحقد والانتقام والإيذاء. لهذا جاز

القصاص في النفس وما دونها: " العين بالعين، والسن بالسن، والبادئ

أظلم " ولم يعد مثلة محرمة، فتلحق بالتمثيل المحرم، بل هذا عين العدل

لأنه مبني على العقوبة بالمثل.

وهكذا يمكن أن يقال في التشريح لجثة الميت لكشف الجريمة مثلاً

لمصلحته ومصلحة وارثه، ومصلحة أمن الجماعة.

وهكذا في النقل والتعويض الإنساني فهذا والله أعلم يعد من باب

الإحسان والإيثار. فالصورة في قلع العين كما ترى واحدة، والنتيجة

الحكمية مختلفة. فقلع العين كفعل العرنييْن مثلة محرمة، وقلع القرنية من

العين لمصلحة حي لا يحتسب مثلة بل يحتسب إحساناً، وقلع العين

قصاصاً يعتبر عدلاً. والله أعلم.

ي - رعاية حرمة المسلم ميتاً كرعاية حرمته حياً.

وقد جاءت النصوص بتحريم كسر عظم الميت والنهي عن إيذائه،

والنهي عن وطء قبره..

عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كسر عظم الميت ككسر

عظم الحي " رواه أبو داود، وابن ماجه، والدارقطني، ولفظه: " كسر عظم

الميت ككسر عظم الحي في الإثم ".

ورواه ابن أبي شيبة بلفظ: " أذى المؤمن في موته كأذاه في حياته ".

ص: 34

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لأن يجلس

أحدكم على جمرة، فتحرق ثيابه، فتخلص إلى جلده، خير له من أن

يجلس على قبر " رواه مسلم والأربعة.

وجه الاستدلال:

إذا كانت حرمة المسلم ميتاً مساوية لحرمته حياً فكيف تكون الجرأة

بهتك حرمته، من تمزيق بدنه بتشريحه، وانتزاع عضو بل أعضاء منه.

قال الحافظ ابن حجر: (يستفاد منه أن حرمة المؤمن بعد الموت باقية

كما كانت في حياته) اهـ.

ك - الحجر والمنع للمتطبب الجاهل رعاية للنوع البشري من العبث،

وتضمينه (1)" من تطبب ولم يُعلم منه طب فهو ضامن " رواه أبو داود،

والنسائي، وابن ماجه، والحاكم.

4-

الموازنة بين المصالح والمفاسد، والمنافع والمضار. ثم هذه القاعدة

العظيمة التي تعني الحفظ العام، والرعاية الشاملة لهذه المقاصد الخمسة

بجزئياتها، تدور مفرداتها في قاعدة الشريعة الأخرى وهي: (الموازنة

الخ) . فإن تغالبتا فالحكم للغالبة منهما، وإن تساوتا قُدّم الحظر درءاً

للمفسدة.

5-

اعتبار المصالح. ثم إن (المصلحة في الشرع)، وهي مفسرة بما يعني:

جلب المنفعة، ودفع المضرة، تحقيقاً لأي من المقاصد الخمسة المذكورة

- هي بالاعتبار لا تخلو من واحدة من ثلاث:

(1) المغني 6 / 120 حاشية ابن عابدين 8 / 183. الطب النبوي ص / 109، بداية

المجتهد 2 / 346.

ص: 35

1-

مصلحة شهد الشرع باعتبارها، كالحدود.

2-

مصلحة لم يشهد الشرع لها بالاعتبار، بل هي منحطة عن مصالحه

المعتبرة. وهي ما شهد النص بإلغائها. كقول من قال من العلماء:

بوجوب كفارة الصيام دون الإعتاق على من جامع من الملوك في نهار

رمضان، وهو صائم.

3-

وثالثة لم يشهد لها الشرع نصاً بأي من هذين الاعتبارين، وهذه

تسمى (المصلحة المرسلة) . وسميت مرسلة لعدم ورود النص بها.

6-

مراتب المصالح:

ثم هذه المصالح المرسلة تدور بين رتب ثلاث:

1-

مرتبة الضرورة.

2-

مرتبة الحاجة.

3-

مرتبة التحسين.

فما يتطلبه بدن الآدمي الحي من بدن إنسان آخر لا يخلو أن يكون

أمراً تحسينيا تجميلياً فهل تنتهك حرمة بدن الميت مثلاً لغرض

تحسيني.؟ ومثله في غير الآدمي: يسير الذهب في الإناء كالضبة.

وإما أن يكون حاجياً بمعنى أن يكون مكملاً لعمل كفائي في بدن

الإنسان، دون منزلة الضرورة. فهل تنتهك حرمة الانتهاك لغرض

حاجي..؟ ومثل الحاجة في غير الآدمي: يسير الفضة التابع كما في

حديث أنس رضي الله عنه: " إن قدح رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انكسر شعب

بالفضة "، وإما أن يكون ضرورياً بمعنى توقف حياته عليه. فهذا انتهاك

حرمة بدن ميت بجانب العمل على حياة آدمي معصوم، فما الحكم.؟

ص: 36

7-

قواعد دفع الضرر ورفع المشقة:

1-

الضرر يزال.

2-

والضرورات تبيح المحظورات.

3-

ويرتكب أخف الضررين لدفع أعظمهما.

4-

ويتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام.

5-

والضرورة تقدر بقدرها.

6-

والمشقة تجلب التيسير.

7-

والأمر إذا ضاق اتسع.

ثم الضرورات إذا حصلت، فإن: الضرر يزال، والضرورة تبيح

المحظور، والمشقة تجلب التيسير.

وتأسيساً على هذه القواعد المترابطة الآخذ بعضها بحجز بعض،

جالت أنظار العلماء المتقدمين في عدد من الفروع الفقهية في غذاء

الآدمي عند الاضطرار أو دوائه وأشياء أخرى كلها واردة على مقصد الشرع

في ضرورة (حفظ النفس) - بين الجواز والمنع، والقبول والكراهة، أسوق

رؤوس المسائل فيها دون التعرض لذكر الخلاف فضلاً عن تحريره، لأن

هذا مما يطول، ولا يعنينا هنا تحرير الحكم البات في كل مسألة بعينها،

أكثر مما يعنينا ذكرها وإن أنظار العلماء جالت فيها، وإن كان الأكثر على

جواز أكثرها وقلَّ كتاب من كتب المذاهب المعتبرة إلا ويذكرها أو بعضها

لعموم البلوى، وقد ذكر أكثرها:

العز بن عبد السلام في (قواعد الأحكام 1 / 86 - 98) في مبحث: (ما لا

يمكن تحصيل مصلحته إلا بإفساد بعضه) .

ص: 37

وابن قدامه في (المغني 9 / 417 - 419، 11 / 78 - 80) وأتى على عامة

النقول من المذاهب الأربعة

اليعقوبي في: (شفاء التباريح والأدواء ص / 45 - 74) وإلى رؤوس

المسائل فيها.

1-

شق بطن المرأة الميتة التي في بطنها حمل متحرك يضطرب، وفي هذا

إنقاذ لحياة معصوم، وهي مصلحة أعظم من مفسدة انتهاك حرمة الميت (1) .

لكن هذا الشق يطابق وظيفة الأم الطبيعية، وقد توصل الطب الحديث

إلى عمله في المرأة الحية، إذا تعسرت ولادتها، فهو عملية مجردة في

محل واحد، هو: الميت متصلاً به حي أو حي متصل به ميت أو حي،

ولا سبيل إلى إنقاذ الحي إلا بهتك حرمة وعائه (الحي المتلبس به) بخلاف

المفارق كأخذ عضو من ميت إلى حي آخر فلا مماسة، فافترقا، فبطل إذاً

التنظير والقياس للاستدلال بها في النقل من ميت إلى حي. والله أعلم.

(1) حاشية ابن عابدين 2 / 602، 628. الفتاوى الهندية 5 / 360، عيون المسائل

للسمرقندي ص / 384. الأشباه والنظائر لابن نجيم ص / 88. شرح المواق على

خليل 2 / 274. المدونة 1 / 190 - 191. فتاوى عليش 1 / 319، 320. شرح

الدردير على خليل 1 / 192، حاشية الصاوي على الشرح الصغير 1 / 192.

الروضة للنووي 2 / 140، المجموع 5 / 301. مغني المحتاج 1 / 207. الإنصاف

للمرداوي 2 / 556. الإقناع 1 / 235 - 236. الفروع وتصحيحه 1 / 961.

المغني 2 / 413 - 415. المحلى 5 / 166، 167. قواعد الأحكام للعز بن عبد

السلام 1 / 79، 86 - 98. شفاء التباريح ص / 45 - 74.

ص: 38

2-

رمي من تترس به الكفار من أسارى المسلمين في الحرب (1) .

3-

رمي الكفار بالمنجنيق إذا تترسوا بالحصون، وإن كان فيهم النساء

والأطفال (1) .

4-

أكل المضطر لحم آدمي ميت إذا لم يجد غيره مما يؤكل لسد رمقه (2) :

قال الحنابلة لا يجوز، وقال الشافعية والحنفية يجوز، لأن حرمة الحي

أعظم.

5-

بقر بطن الميت إذا ابتلع دنانير للغير (3) .

لكن هذا جاز شق بطنه لأنه هتك حرمة نفسه بتعديه على مال الغير

كالسارق إذا سرق قطعت يده. والله أعلم.

6-

استهام ركاب السفينة لإلقاء بعضهم في حال مشاهدة العطب تلافياً

للغرق (4) .

(1) الأم 4 / 287، المغني 4 / 276 - 1277. الإنصاف 4 / 129.

(2)

شرح المواق على خليل 2 / 71، كتاب الجنائز، شرح الدردير على خليل

1 / 301، فتاوى عليش 1 / 596، وبداية المجتهد. الروضة للنووي 2/ 284 -

285.

المغني 11 / 79. الإنصاف للمرداوي 10 / 276. والشرح الكبير

11 / 106، والمحلى 5 / 426. المجموع 9 / 33، 36. القواعد للعز بن عبد

السلام 1 / 89. مغني المحتاج 1 / 359، 4 / 282 - 284. حاشية الباجوري على

ابن قاسم 2 / 302. فتح الوهاب شرح منهج الطلاب 2 / 193.

(3)

قواعد الأحكام 1 / 97. المغني 2 / 414 - 415. المحلى 5 / 166 - 167 الأشباه

والنظائر لابن نجيم ص / 88، 1 / 113، 2 / 360، الفتاوى الهندية، ومجلة

البعث الإسلامي عدد / 2 مجلد / 32 لعام 1407 هـ ص / 49. المجموع 5 / 300.

نهاية المحتاج للرملي 3 / 39. مغني المحتاج للشربيني 1 / 207.

(4)

قواعد الأحكام لابن عبد السلام 1 / 89.

ص: 39

7-

وصل عظم الرجل بعظم أنثى وعكسه.

قال عبد الحميد الشرواني في حاشيته على تحفة المحتاج شرح

المنهاج (1) : " يجوز للذكر الوصل بعظم الأنثى وعكسه، ثم قال: وينبغي

أن لا ينقض وضوءه، ووضوء غيره به، وإن كان طاهراً، ولم تحلّه

الحياة، لأن العضو المبان لا ينقض الوضوء بمسه إلا إذا كان من الفرج

وأطلق عليه اسمه " اهـ.

8-

قال بعض أصحاب الشافعي: للمضطر إذا لم يجد شيئاً أن يأكل بعض

أعضائه، لأن له أن يحفظ الجملة بقطع عضو كما لو وقعت فيه

الأكَلَةُ (2) .

9-

إذا لم يجد المضطر آدمياً، فإن كان معصوماً محقون الدم فليس له

قتله ليسد به رمقه إجماعاً ولا إتلاف عضو منه مسلماً كان أو كافراً. وإن

كان مباح الدم كالحربي والمرتد، فذكر القاضي أن له ذلك، وبه قال

أصحاب الشافعي (3) .

(1) انظر: منهج الطالبين للنووي، وشرحه مغني المحتاج 1 / 190 - 192. المجموع

3 / 138، تحفة المحتاج 2 / 125 - 128 الفتاوى الهندية 5 / 254.

(2)

الإقناع 4 / 313. وغاية المنتهى 3 / 369. المغني 9 / 417. مغني المحتاج

4 / 285، قتل الوهاب شرح منهج الطلاب للشيخ زكريا الأنصاري

2 / 193 - 194.

(3)

المغني 9 / 417، 11 / 78 - 80. البدائع للكاساني 7 / 177. وغاية المنتهى

3 / 369. الأشباه والنظائر لابن نجيم ص / 124. رد المحتار 5 / 215، طبعة

الهند عمدة القاري 8 / 296.

ص: 40

10-

نبش القبر لمصلحة، وله وقائع متعددة (1) .

11-

قطع اليد المتآكلة حتى لا تسري إلى البدن (2) .

12-

شرب لبن الميتة للمضطر، وانتشار المحرمية به (3) .

13-

إجراء العمليات الجراحية إن غلب على الظن نجاحها (4) . مثل بطّ

القرحة بالكي، وقطع الأصبع الزائدة، وشق المثانة إذا كانت فيها حصاة.

14-

تنبيه: في المغني وغيره ما نصه (5)

" قال أبو بكر بن داود: أباح الشافعي أكل لحوم الأنبياء

" اهـ.

وقال الباجوري (6) : " وللمضطر أكل ميتة الآدمي إذا لم يجد ميتة غيره

لأن حرمة الحي أعظم من حرمة الميت، إلا إن كان الميت نبياً فلا

يجوز الأكل منه جزماً، لشرفه على غيره بالنبوة " اهـ.

وقال التاج ابن السبكي في ترجمة المزني (7) ، بعد جزمه بأن

(1) القواعد لابن عبد السلام 1 / 96. تحفة المحتاج 3 / 205 - 206. حاشية

الباجوري على شرح ابن قاسم 1 / 268. المجموع 5 / 301 - 302 الإقناع

1 / 235 - 236. مغني المحتاج للشربيني 1 / 367 نهاية المحتاج للرملي 3 / 40.

(2)

قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 1 / 87. المغني 11 / 78، 79. الفتاوى

الهندية 5 / 360.

(3)

المغني 9 / 198 - 199. شفاء التباريح ص / 71 وفيه نقول عن الشافعية

والحنفية.

(4)

شفاء التباريح ص / 72 عن: الدر المختار 5 / 479. الفتاوى الهندية 5 /360.

(5)

المغني 9 / 417.

(6)

حاشية الباجوري على شرح أبي القاسم 2 / 302.

(7)

طبقات الشافعية 2 /105 ط الحلبي.

ص: 41

الصحيح في المذهب أن المضطر يأكل لحم الآدمي الميت

وقال التاج: " إبراهيم المروزي: إلا أن يكون الميت نبياً " اهـ.

وقال النووي (1) : " قال الشيخ إبراهيم المروزي: إلا إذا كان

الميت نبياً فلا يجوز الأكل منه بلا خلاف لكمال حرمته، ومزيته على

غير الأنبياء " اهـ.

وقال القرطبي (2) " ولا يأكل - أي المضطر - ابن آدم ولو مات، قاله

علماؤنا، وبه قال أحمد وداود، احتج أحمد بقوله عليه السلام: " كسر

عظم الميت ككسره حياً "، وقال الشافعي: يأكل لحم ابن آدم، ولا

يجوز أن يقتل ذمّياً لأنه محترم الدم، ولا مسلماً، ولا أسيراً، لأنه مال

الغير، فإن كان حربياً، أو زانياً محصناً: جاز قتله والأكل منه " اهـ.

وهذا كله يدل على أن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى لم يقل

بإباحة أكل لحوم الأنبياء، إضافة إلى أنه لا سند لذلك إليه، وعلى

فرض أنه قال ذلك - وحاشاه من أن يقوله - يكون ذلك من قبيل ما نقله

شيخ الإسلام ابن تيمية في الاستقامة 1 / 219 عن ابن المبارك أنه

قال: " رب رجل في الإسلام له قدم حسن وآثار صالحة كانت منه

الهفوة، والزلة لا يقتدى به في هفوته وزلته " اهـ.

15-

وقد بلغ الحال إلى اتخاذ أعضاء مصطنعة من الذهب والخشب.

ونحوهما. وحصل بالتتبع عدد من الواقعات من عصر النبي صلى الله عليه وسلم إلى

القرن السادس. ومنه اتخاذ عرفجة رضي الله عنه أنفاً من فضة لما

(1) المجموع 9 / 36.

(2)

الجامع 2 / 211 - 212.

ص: 42

أصيبت أنفه يوم كلاب.

والنبي صلى الله عليه وسلم رد عين قتادة بن النعمان لما أصيبت يوم بدر. ورد صلى الله عليه وسلم

عين أبي سفيان لما أصيبت يوم حنين. وهكذا في وقائع على تعاقب

العصور.

ومنها اتخاذ الزمخشري سنة 538 هـ رجْلاً من خشب. والله أعلم.

ص: 43