المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ فرنسيس باكون: - فن المقالة

[محمد يوسف نجم]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌القسم الأول: المحاولات المقالية قبل مونتين

- ‌تمهيد

- ‌ بذور المقالة في الآداب الشرقية القديمة:

- ‌ في أدب الإغريق والرومان:

- ‌ في العصور الوسطى:

- ‌ عصر النهضة:

- ‌ في الأدب العربي القديم:

- ‌القسم الثاني: المقالة في طورها الحديث

- ‌مونتين "1533-1592

- ‌ فرنسيس باكون:

- ‌ بين مونتين وباكون:

- ‌ نهضة المقالة الإنكليزية بعد عودة الملكية:

- ‌ مقالة المجلات في القرن الثامن عشر:

- ‌ خصائص هذه المقالة في المحتوى والصورة:

- ‌ المقالة في القرن التاسع عشر:

- ‌ المقالة الحديثة:

- ‌ المقالة في الأدب العربي الحديث:

- ‌ المجلات وأثرها في تطور المقالة العربية الحديثة:

- ‌أعلام المقالين المحدثين

- ‌القسم الثالث: فن المقالة

- ‌تمهيد وتعريف

- ‌ التمييز بين المقالة الذاتية والمقالة الموضوعية:

- ‌ المقالة الذاتية:

- ‌ ألوانها وأشهر كتابها:

- ‌ تحليل المقالة الذاتية:

- ‌ نحو دراسة المقالة الذاتية:

- ‌ قيمة المقالة الذاتية:

- ‌ المقالة الموضوعية:

- ‌المراجع والمصادر:

- ‌المراجع والمصادر العربية:

- ‌المراجع والمصادر الأجنبية

- ‌الفهارس

- ‌فهرس الأعلام والكتب والصحف

- ‌فهرست:

الفصل: ‌ فرنسيس باكون:

2-

‌ فرنسيس باكون:

لقد طبقت شهرة مونتين ومقالاته أرجاء القارة الأوروبية، ولم يمض غير قليل وقت حتى عبرت المانش إلى إنكلترا، ففي سنة 1595، أي بعد وفاته بثلاث سنوات، ترجم جون فلوريو، أحد نظار المدارس الإنكليزية، هذه المقالات، في صورتها الأخيرة، ولعل هذه الترجمة هي التي امتثلت للطبع سنة 1603. وقد لاقت إقبالا منقطع النظير فطبعت مرات عدة، في أوائل القرن السابع عشر. وغدت بذلك غذاء دسما للقارئ الإنكليزي في عصر الياصبات، وعكف عليها وتأثير بها بعض كبار الأدباء في ذلك العصر.

وأول أثر أدبي في اللغة الإنكليزية، اتسم بميسم هذا الفن الجديد، كان مجموعة من المقالات التي دبجها يراع محام ناشئ كان في خدمة الملكة آنذاك، وهو فرنسيس باكون، وكان ذلك سنة 1597. وكانت عدتها عشرا، لا تحمل منسمات فن مونتين إلا الاسم؛ إذ كانت أقرب إلى الأمثال والحكم منها إلى الفيض الأدبي المتدفق الذي عرفناه عند مونتين. وهي بهذا تنتمي إلى كتابات القرن السادس عشر، خارج الدائرة المونتينية، ففيها من تلك ذلك الحرص على إيراد الأقوال السائرة والأفكار الحكمية المركزة. وينعدم فيها العنصر الشخصي، وصور التجارب الخاصة. وقد أشار الأستاذ العقاد إلى هذا الفرق بينه وبين مونتين فقال:

"فمونتين فياض مسترسل كثير الأغواص متعدد الملامح الشخصية قريب في أسلوبه إلى أساليب المقاليين المحدثين، ولكن باكون -على دابة في جميع محاولاته- كان أقرب إلى الاحتجاز والتركيز ودسومة المادة الفكرية واجتناب الألوان الشخصية والملامح الخاصة التي تنم عليه وعلى الجانب الإنساني فيه"1.

وهذا الفرق الذي لمسناه بينهما، والذي أشار إليه الأستاذ العقاد، ناجم عن تباين مذهبيهما في تلقي الحياة والصدور عنها. أما مونتين فقد اعتزل الناس والحياة ليخلو إلى نفسه يتأملها ويستبطن أغوارها، وهكذا

1 عباس محمود العقاد: فرنسيس باكون، 82.

ص: 30

خرجت مقالاته مزيجا من تجارب الشباب ونزواته وتأملاته الكهولة وما تتسم به من رزانة وتحرج. وأما باكون فقد كان آنذاك في مطلع حياته العملية، وكان الطموح يملأ جانبيه ويملك عليه أقطار نفسه، ويرسم أما عينيه هالة المثل الأعلى في الحكم والرئاسة، ولذا جعل من مقالاته دروسا واضحة مركزة لأولئك الذين يكدون ويجتهدون حتى يبلغوا النجاح في حياتهم العملية.

إلا أن أثر مقالات مونتين، ما لبث أن شق طريقه إلى الأدب الإنكليزي عريضا لاحبا، وكان ذلك على يدي وليم كورنوالس1، صديق بن جونسون، الذي أصدر مجموعة من المقالات في مجلدين ظهرا سنة 1600 و1601 على التوالي. وقد عرض فيها لبعض الموضوعات العامة التي عرض لها مونتين وباكون كالحب والمجد والطموح والشهرة والحزن والغرور والحظ وما إلى ذلك. وكتب أكثرها بضمير المتكلم، وأدارها حول نفسه، شأن مونتين الذي اعترف له كورنوالس بدين لا ينسى، في غير موضع من تلك المقالات. وقد استعان فيها ببعض الأقوال المأثورة التي استقاها من قراءاته، إلا أنه شأن مونتين أيضا، أضاف إليها الكثير من تجاربه الخاصة، وجعل منها معرضا لآرائه وذوقه وأحاسيسه. ونتيجة لذلك كله، لقيت هذه المقالات تقديرا كبيرا في الأوساط الخاصة والعامة، سحابة النصف الأول من القرن السابع عشر.

وإذا عدنا إلى باكون ثانية، نجد أنه يصدر في سنة 1612 طبعة جديدة موسعة من مقالاته، وقد أصبح عددها ثمانيا وثلاثين، بعد أن

1 راجع تفصيل أثر مونتين في كورنوالس في كتاب:

The french influence in English Literature. by A.H Upham pp. 265-307.

ص: 31

كانت في طبعتها الأولى عشرا.

وقد أعاد فيها طبع المقالات القديمة دون ما تعديل، واحتفظت بعض المقالات الجديدة بطابع الوعظ المركز، الذي يتسم بالدسامة والاحتجاز، على غرار المحاولات الأولى. إلا أن الكثرة الغالبة منها تؤرخ بداية اتجاه جديد في القالب والمحتوى. فمن حيث القالب نراه يعمد إلى كثير من التصميم والتنسيق. ومن حيث المحتوى نجد أنه يضرب صفحا عن الحكم المركزة والأقوال المأثورة، ويغادرها إلى شيء من الحديث المرسل المستفيض الذي ينضح بالحيوية والتدفق والألفة.

وهذا التطور الذي بدت مظاهره الأولى في هذه المجموعة، أصبح مذهبا واضح المعالم في المجموعة الأخيرة التي أصدرها سنة 1625، وضمنها ثمانيا وخمسين مقالة، بما فيها مقالاته التي نشرها في مجموعتيه السابقتين. وقد أجال باكون قلمه في المحاولات السابقة منقحا ومهذبا، وخاصة المقالات الجديدة في الطبعة الثانية، فقد فازت بالنصيب الأوفى من عناية الكاتب، فأجرى عليها كثيرا من التعديلات لكي تلحق بمقالاته الجديدة من حيث المادة والصياعة. وقد مثلت هذه المقالات، مفارقة كبيرة بالنسبة إلى مقالاته السابقة، حتى إنها بانت عنها في أكثر من خاصة. إذا ازداد حظها من التصميم والتنسيق والإطالة، كما ازداد نصيب الموضوعات من الإسهاب والتحليل. فضلا عن أن أسلوبه تجلى في حلة قشيبة، فأصبح أمتن أسرا وأدق تعبيرا وأوسع خيالا وأحفل بالبلاغة والزخرف والتشويق، إلا أن الفرق الظاهر الذي يطغى على كل ما عداه، هو كثرة الاستشهادات التاريخية، والاعتماد على الآراء الشخصية والتجارب الخاصة في التفسير والتوضيح والاستدلال.

وقد وصف الأستاذ العقاد مقالات باكون في هذين الطورين وأوضح

ص: 32

ما بينها من فروق فقال:

"فمقالات باكطون في بواكيرها كانت طرائف من المتفرقات الفكرية تجمعها سلسلة الموضوع والعنوان في إيجاز شديد، غير محتفل فيه بالتفصيل والتوضيح، كأنما يكتبها الكاتب لنفسه فهو غني عن تفصيلها وتوضيحها، لعلمه بمقصده منها حين الحاجة إليها. أو كأنما هو يكتبها بلغة الاختزال، ويجهد في شرحها غير المرتاضين عليه.

ثم جنحت في صيغتها الأخيرة إلى التسمح بعد التزمت، والسخاء بعد الضنانة، والتفسير بعد الإيماء والاقتضاب. وازدانت في هذه الصيغة بأجمل ما يزدان به النثر البليغ من براعة التشبيه وطرافة الأمثولة واختيار الشواهد من المأثورات اللاتينية واليونانية في سياقها الملائم وموقعها المنتظر"1.

وقد اجتمعت عوامل عدة، لتؤدي إلى هذا التطور الواضح الذي تم بين عامي 1597 و1625. منها أن باكون كان يطمح دائما إلى تقعيد علم للأخلاق. وقد اقترح في كتابه "ترقية المعارف" الذي أصدره سنة 1623، وسيلة لتحقيق هذا المطلب، وهي أن تكتب مجموعة من الرسائل القصيرة تدور حول الشهوات والفضائل والنماذج الأخلاقية.

ولم يحاول باكون أن ينفذ هذا المشروع وأن يخصه بجزء من نشاطه الأدبي، إلا أن بعض مقالاته الجديدة، التي ظهرت في الطبعة الأخيرة، تدور حول شيء من ذلك، كمقالته عن "الحسد" ومقالته عن "التظاهر والرياء".

1 المرجع المذكور آنفا: 85، 86.

ص: 33

وهنالك عامل آخر أدى إلى هذا التغير الواضح في أسلوبه المقالي وهو "رسائل سنيكا" التي سبقت الإشارة إليها. فقد كان هذا الكتاب الأخلاقي، واسع الانتشار بين القراء آنذاك، وكثيرا ما اقتبس باكون منه في كتاباته. ويذكر مؤرخو الأدبي، أنه في مقدمة لم تنشر لمجموعة المقالات التي طبعت سنة 1612، ذكر في معرض حديثه عن عنوان الكتاب "إن الاسم حديث، مع أن الموضوع قديم؛ إذ إن رسائل سنيكا إلى لوسيليوس -إذا نظر إليها الإنسان بتمعن- ليست إلا مقالات، أي تأملات منثورة، مع أنها مجموعة من الرسائل".

والعامل الأخير، الذي أدى إلى هذا التطور، هو أثر مونتين في باكون. فمما لا شك فيه، أن باكون بعد أن أقبل على هذا الفن واستغرق فيه، أخذ يراجع طريقته البدائية في الكتابة، عاد ثانية إلى مونتين، فقرأه بتمعن وتمحيص، فخرج منه بهذه السمات الجديدة التي وسمت مقالاته الأخيرة؛ فبتأثير مونتين، عني باكون بأسلوبه، فوفر له بعض القيم الجمالية والزخرفية التي لم يعرفها من قبل. وعني بموضوعاته، فمال عن ترصيع الحكم والمواعظ المركزة، إلى الحديث المسهب المتصل الذي يدعمه بالشواهد والإيضاحات، مما استمده من كتب التاريخ ومن تجاربه الخاصة. وأباح لنفسه أخيرا أن يعنى بإبراز العنصر الشخصي، لتتوفر لكتابته جميع مقومات الأدب الرائع.

وقد أشار الأستاذ العقاد إلى هذا التغير الذي طرأ على أسلوب باكون في مرحلته الأخيرة، وحاول أن يعلله فقال:

"وقد لاحظ النقاد بحق أنها كانت في صيغتها الأخيرة أحفل بالبلاغة والزخرف وفنون التخيل والتشويق، منها في صيغتها الأولى. واستطرد بعضهم من هذا إلى ملاحظة عجلى ليس فيها بصائب؛ لأنه حسب أن

ص: 34

هذا الاختلاف بين أسلوب الشباب وأسلوب الشيخوخة ظاهرة متسغربة لا تجري مع المعهود من طبائع القرائح الإنسانية. فإن القرائح في الناس عامة، أخصب بالخيال والرونق أيام الشباب، خلافا لما بدا من أسلوب باكون في حالتيه على رأي أولئك النقاد.

ولا حاجة هنا، على ما نرى، إلى مجاراتهم في اختراع بدعة غريبة من بدع القرائح الإنسانية عامة. إذ المألوف في الواقع، أن يكون الشباب أقرب إلى تكلف الوقار لأنه مظنة الخفة، وأن تكون الشيخوخة أقرب إلى الخفة لأنها مظنة الفتور والجمود.

وثمة سبب آخر نرجع إليه قبل الوثوب إلى البدع والخوارق التي لا تشاهد في جميع الأحوال. فمما لا شك فيه أن باكون قد بدأ تجربته الأولى في فن المقالة، وهو مترفع عنه ناظر إليه نظرة المتحفظ الذي لا يوليه جهده من العناية والاحتفال. وقد كانت له قبل كتابة المقالات فصول تفيض بالتخيل والرونق، كما تفيض بهما مقالاته الأخيرة بعد أن عاودها وهو معني بها محتفل بتنميقها، فليس في قريحته من هذه الناحية ظاهرة جديدة أو غريبة تخالف المعهود والمألوف.

وإنما هو اكتراث بعد تهاون، وإقبال بعد تردد. وما كان هذا التحول من التردد إلى الإقبال بالمستغرب، بعد شيوع المقالات وتسابق الخاصة والعامة إلى مطالعتها والاستزادة منها، وتلاحق ترجماتها بالفرنسية واللاتينية والإيطالية في سنوات قليلة. فقد تغير تقدير باكون لمقالاته تبعا لتقدير القراء والنقاد. وبدا منه الارتياح إلى رواجها والإعجاب بها في معارض شتى، فأشار مغتبطا إلى تكرار طبعها، وقال في خطابه إلى أسقف ونشستر: إنه لا يجهل أن هذا الضرب من الكتابة يضيف إلى اسمه سمعة وسطوعا فوق ما استفاده من الكتب الأخرى مع قلة الغناء فيه. وقال في رسالته إلى دوق بكنغهام: إن المقالات أروج أعماله؛ لأنها على ما يظهر أدنى إلى شواغل الناس وطواياهم"1.

1 المرجع السابق: 83-85.

ص: 35