الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2-
بذور المقالة في الآداب الشرقية القديمة:
ظهرت بذور الأدب المقالي، بأنواعه المختلفة، في الآداب القديمة قبل القرن السادس عشر. وهذا الأمر ليس مظنة الاستغراب، فالمقالة في حقيقتها، شأن سائر فنون الأدب الأخرى، تقوم على ملاحظة الحياة وتدبر ظواهرها وتأمل معانيها. وهذه ظاهرة نفسية رافقت الانسان منذ ظهوره على وجه الأرض؛ إذ هي مركبة في طبيعته، بل هي جوهر جبلته التي فطر عليها. وقد عبر عنها منذ فجر التاريخه في تهاويل السحر ورسوم الكهوف، ووجدت في أحاديثه ومسامراته قبل عهد التدوين متنفسا ومراحا، وأصبح من عادة هذا الإنسان المتأمل فيما بعد، أن يدون نتيجة تأملاته وخاطراته على صورة ساذجة تتسم بالبساطة والعفوية دون أن يشق على نفسه في خلق قالب فني محدد، أو لعله لم يكن من الفطنة والحذق بحيث يتيسر له ذلك. وهذا ما نجده في أمثال الأمم وجوامع كلمها وللعرب حظ عظيم منها يرجع إلى عهود موغلة في القدم، وعليها يعتمد الباحثون في دراسة تطورهم العقلي، والمرتبة التي بلغوها في تمرسهم بالحياة واختيارهم لها وتأملهم معانيها. ثم إن لها فائدة أخرى في نظر الباحثين، فهي تختلف عن الشعر بصدورها في الأكثر عن عامة أبناء الشعب وأوشابهم، بينما يصدر الشعر عن طبقة ترتفع بعقليتها عن مستوى العوام، وتلتمس لفنها ألوانا من الصقل والتهذيب، لا يأبه لها أصحاب الأمثال الذين اعتادوا أن يلقوا بها في المناسبات التي تعرض لهم، تعبيرا ساذجا سريعا عن إحساس فطري تلقائي. وهذا هو شأن الأمم جمعاء في أطوار بداوتها. والمثل قريب بطبيعة وضعه وصياغته من فن المقالة، التي أراد لها مونتين أن تكون صورة صادقة عن إحساسه بالحياة وتأمله لها، لا يلحقها أي تشذيب أو تصنع.
وخير صورة نقع عليها لمثل هذه الحكم الشعبية، ما نجده في بعض أسفار العهد القديم، وخاصة في أسفار الحكمة وهي "الأمثال" و"الجامعة" و"سفر يشوع بن سيراخ". فهذه الأسفار الثلاثة، توضح لنا المراحل الثلاث، التي تجتازها الملاحظات العابرة، حتى تغدو نوعا من الأدب المقالي. ففي المرحلة الأولى تظهر على صورة الأمثال والأقوال
السائرة، وجوامع الكلم التي لا تنتظمها وحدة شاملة1..وفي المرحلة الثانية تستقطب هذه الأمثال والأقوال الحكمية، حول فكرة واحدة، هي فكرة الملك والجاهل، وهذه الفكرة الموحدة، أو الموضوع العام، هي البداية الحقيقية لفكرة وضع عنوان لكل مقالة2. وفي المرحلة الثالثة، نجد أن هذه الأمثال التي دارت حول فكرة واحدة، قد اتسع نطاقها حتى شملت مجموعة من الأفكار التي تنتظمها وحدة موضوعية. فأصبح المثل الموجز المركز موضوعا عاما يتيح للكاتب أن يحيل قلمه في حديث مسهب، وأن يفيض في عرض أفكاره وبسط نظراته، وهنا نقع على الصورة الموجزة للمقالة الحديثة3.
ويعكس لنا الأدب الصيني القديم الذي يدور حول الموضوعات الدينية والفلسفية مثل هذه المراحل أيضا، وخاصة في الأقوال المأثورة التي تنسب إلى كونفوشيوس "حوالي 500 ق. م"، وكذلك في آثار تسي زي في ذلك العهد، ثم في كتابات منشيوس "حوالي 300 ق. م"، أكبر أتباع كونفوشيوسي، وخاصة في تلك الفصول التي كتبها عن الحب الكوني. ثم في تعاليم لاووتس، في أوائل القرن السابع ب. م. التي ضمنها كتابه "الطريق".
1 سفر الأمثال: الإصحاح 10-22، وسفر الجامعة، الإصحاح العاشر.
2 سفر الجامعة: من الآية التاسعة من الإصحاح الرابع حتى الآية التاسعة من الإصحاح الخامس.
3 سفر يشوع بن سيراخ الإصحاح الثالث، الآية 1-16 والإصحاح الثاني عشر "باطل الأباطيل" من سفر الجامعة.