الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
9-
المقالة في الأدب العربي الحديث:
يرتبط تاريخ المقالة في أدبنا الحديث بتاريخ الصحافة ارتباطا وثيقا. فالمقالة بنوعيها الذاتي والموضوعي، لم تظهر في أدبنا، أول ما ظهرت على أنها فن مستقل شأنها في فرنسا وإنكلترا. بل نشأت في حضن الصحافة، واستمدت منها نسمة الحياة منذ ظهورها، وخدمت أغراضها المختلفة، وحملت إلى قرائها آراء محرريها وكتابها. ولذا كان لزاما علينا أن نبحث عن تطور المقالة في الصحف اليومية أولا، ثم في المجلات، مع تقدير الفوارق الهامة بين أنواع المقالات التي تكتب للصحف وتلك التي تكتب للمجلات.
إذا استعرضنا المقالات التي ظهرت في الصحف المصرية، خلال النهضة، نجد أنها مرت في أطوار أربعة:
الطور الأول: طور المدرسة الصحفية الأولى، ويمثلها كتاب الصحف الرسمية، التي أصدرتها الدولة أو أعانت على إصدارها. ويمتد هذا الطور، حتى الثورة العرابية. ومن أشهر الكتاب الذين شاركوا في تحرير صحف هذه الفترة: رفاعة الطهطاوي وعبد الله أبو السعود وميخائيل عبد السيد ومحمد أنسي وسليم عنحوري. وقد نشروا مقالاتهم في الوقائع المصرية ووادي النيل والوطن وروضة الأخبار ومرآة الشرق على التوالي. وقد ظهرت المقالة على أيديهم، بصورة بدائية فجة، وكان أسلوبهم أقرب إلى أساليب عصر الانحطاط، فهو يزهى بالسجع الغث وبالمحسنات البديعية والزخارف المتكلفة الممجوجة. وقد كانت الشئون السياسية هي الموضوع الأول لهذا المقالات، ولكن الكتاب كانوا يعرضون أحيانا لبعض الشئون الاجتماعية والتعليمية.
الطور الثاني: وفيه ظهرت المدرسة الصحفية الثانية، التي تأثرت بدعوة جمال الدين الأفغاني، وبنشأة الحزب الوطني الأول، وبروح الثورة والاندفاع التي سبقت الحركة العرابية. وكان للمدرسة السورية المتمصرة يد لا تنكر على تطوير المقالة في هذه المرحلة من حياتها. وقد برز في هذه المدرسة عدد من الشخصيات التي ارتبط تاريخها بتاريخ الكفاح الوطني في مصر، ومنهم أديب إسحاق وسليم النقاش وسعيد البستاني وعبد الله نديم ومحمد عبده وإبراهيم المويلحي
ومحمد عثمان جلال وعبد الرحمن الكواكبي وبشارة تقلا. وقد تحللت هذه المدرسة من قيود السجع. إلى حد بعيد، وأخذت تقترب من الشعب شيئا فشيئا، وذلك بتأثير الشيخ محمد عبده وحركته الإصلاحية. ومن أهم الصحف التي كتبوا فيها: الأهرام ومصر والتجارة والفلاح والحقوق.
الطور الثالث: وفيه ظهرت طلائع المدرسة الصحفية الحديثة، ومنهم علي يوسف ومصطفى كامل وعبد العزيز جاويش وولي الدين يكن وسليم سركيس ومحمد رشيد رضا وخليل مطران ونجيب الحداد وأمين الحداد ولطفي السيد ومحمد مسعود. وهذه المدرسة نشأت في عهد الاحتلال، وتأثرت بالنزعات الوطنية والإصلاحية التي سبقته وبالنزعات الحزبية التي تلته؛ إذ كان من نتيجة الاحتلال الإنكليزي لمصر أن ظهرت الأحزاب السياسية؛ لتنظم الكفاح ضد الإنكليز والأتراك، وفقا لفلسفتها ومثلها الخاصة. فكان علي يوسف يمثل حزب الإصلاح، ويحمّل جريدة "المؤيد" رسالته. وكان مصطفى كامل يمثل الحزب الوطني وينشر مبادئه على صفحات "اللواء". وكان لطفي السيد يمثل حزب الأمة الذي كان يضم مثقفي ذلك العصر، وينشر أفكاره السياسية والثقافية على صفحات "الجريدة" والحقيقة أن أكثر هذه الصحف اتجه اتجاها سياسيا قويا، فكانت المقالة فيه محدودة بحدود الموضوع، وهي أقرب إلى الخطبة الحماسية منها إلى المقالة الهادئة المتزنة. أما "الجريدة"، فقد تميزت في ذلك الحين بأنها تحمل دعوة التجديد والبعث، على أساس العلم الحديث؛ ولذا عنيت بشئون التربية والتعليم، وبشئون السياسية النظرية، وكانت خير مجال لتمثيل النزعات الأدبية الحديثة -نزعات المطربشين- وقد ربت عددا من الكتاب، الذين قادوا الحركة
الأدبية والاجتماعية فيما بعد، ومنهم: عبد الرحمن شكري وعبد الحميد حمدي وعبد الحميد الزهراوي وعبد العزيز البشري ومحمد السباعي وعبد السلام ذهني وإبراهيم رمزي ومحمد حسين هيكل وطه حسين وإبراهيم عبد القادر المازني وعباس محمود العقاد وعزيز خانكي ومصطفى عبد الرازق وسلامة موسى وتوفيق دياب. ومن السيدات: لبيبة هاشم ونبوية موسى وملك حفني ناصف. وهؤلاء في الحقيقة هم أساطين الحركة الأدبية الحديثة التي ظهرت بين الحربين، وقد توزعوا شئون الكتابة فيما بينهم، فكان منهم الناقد والمؤرخ والمربي والمتفلسف والخطيب والسياسي والقاص. ومن هنا ندرك أهمية الدور الذي لعبه لطفي السيد وجريدته، حتى أصبح الباحثون يدعونه: أستاذ الجيل1.
وقد خطت هذه المدرسة بالأسلوب الأدبي خطوات جبارة، فخلصته من قيود الصنعة والسجع، وأطلقته حرا بسيطا، حمولته من الأفكار والمعاني تفوق حمولته من الزخرف والعبث البديعي.
الطور الرابع: المدرسة الحديثة، وتبدأ بالحرب العظمى الأولى وما تلاها من أحداث جسام، قلبت الحياة المصرية رأسا على عقب، وصفت جوهر الشخصية المصرية حتى ظهرت على حقيقتها. وأهم هذه الأحداث الثورة المصرية الأولى سنة 1919م. وقد ظهر في هذه الفترة من الصحف التي تركت أثرها في الحياة الأدبية عامة، وفي المقالة
1 لقد أتيح لي مراجعة جريدة "الجريدة"، وقراءة أكثر مقالاتها حين كنت أعد مواد الجزء السادس من كتاب "أدب المقالة الصحفية في مصر" للدكتور عبد اللطيف حمزة. وقد قسمتها آنذاك إلى موضوعات واستخرجت أسماء الكتاب والشعراء، فازددت اقتناعا بأهمية الدور الثقافي الذي نهض به أحمد لطفي السيد.
خاصة: جريدة السفور لعبد الحميد حمدي "1915"، وقد اجتذبت إليها أكثر كتاب "الجريدة"، و"الوجديات" لمحمد فريد وجدي "1921" ثم صحف الثورة وما بعدها، وخاصة صحف الأحزاب ومنها "الاستقلال" لمحمود عزمي "1921"، وقد شارك في تحريرها الدكتور طه حسين، و"النهضة المصرية""1922" لعبد الحميد حمدي، و"السياسة""1922" لمحمد حسين هيكل، وكانت لسان حال حزب الأحرار الدستوريين، و"البلاغ""1923" لعبد القادر حمزة، وكانت وفدية، و"كوكب الشرق""1924" لأحمد حافظ عوض، وكانت وفدية أيضا، و"الأخبار""1925" لأمين الرافعي، و"الأسبوع""1926" لإبراهيم عبد القادر المازني. ثم ظهرت الصحف الحزبية والمستقلة الحديثة كـ"المصري" و"صوت الأمة" و"الدستور" و"الأساس" و"أخبار اليوم" و"الأخبار"، وكلها سارت على التقليد الصحفي الذي أرسى قواعده رجال الصحافة الحزبية في طورها الأول، مع بعض التجديد الذي اقتضاه اتساع الثقافة وتدرب الكتاب واستحصاد ملكاتهم بالممارسة، واتساع شئون الحياة السياسية بعد معاهدة 1936.
وكان أثر هذه الصحف في المقالة محصورا في نطاق المقالة السياسية، أو افتتاحية التحرير. أما أثرها الأدبي فقد كان ضعيفا؛ إلا أنها قدمت للقارئ بعض كبار الكتاب، ومنهم محمد تيمور ومحمود تيمور اللذان ظهرا على صفحات "السفور"، والمازني الذي برز في تحرير "الأهرام" و"الأفكار" و"الرجاء" و"البلاغ"، وهيكل محرر "السياسة اليومية" و"السياسة الأسبوعية".
وامتازت المقالة في هذا الطور بالتركيز والدقة العلمية، والميل إلى بث
الثقافة العامة لتربية أذواق الناس وعقولهم. أما أسلوبها فهو الأسلوب الأدبي الحديث الذي عرف به محرر هذه الصحف، وقد كان منهم نفر من أقطاب المدرسة الأدبية الحديثة.
إلا أن الصحف اليومية بطبيعتها، توجه عنايتها في المقام الأول إلى شئون السياسة، ولذا نجد أن المقالة التي ظهرت فيها، اقتصرت على لون خاص؛ ولكن المجلات تعهدت بسد هذه الثلمة.
وشأن المقالة الصحفية في لبنان يختلف عنه في مصر، فقد كان لبنان سباقا إلى التجديد، في مختلف فنون الأدب، بحكم ظروفه الاجتماعية وصلاته الثقافية المبكرة مع الغرب. ولقد اختصرت صحفة تلك المراحل العديدة التي تلكأت فيها الصحافة المصرية، وكان لظهور الصحف الشعبية فيه، في وقت مبكر، أثر كبير في ذلك. وكذلك كان لاضطلاع بعض الأجانب القائمين على شئون الصحف الدينية، بعملية التحرير والتنسيق أثر في تهذيب الذوق الصحفي في لبنان، بعاملي التقليد والتحديد. وكذلك كان للصحف العربية التي صدرت خارج لبنان كـ"عطارد" و"برجيس باريس" و"المشترى" في فرنسا أثر كبير في ذلك.
وأول جريدة سياسية شعبية ظهرت في لبنان هي "حديقة الأخبار""1858" لخليل الخوري. وقد أعانه على تحريرها بعض أدباء العصر ومنهم أخوه سليم الخوري وسليم شحادة وسليم الشلفون وميخائيل المدور. وبعد هذه الصحيفة، ظهرت صحف يوسف الشلفون وهي "الشركة الشهرية" و"الزهرة" و"النجاح" و"التقدم". ولم يخرج في أسلوبه الصحفي عن النهج الذي سار عليه محررو "حديقة الأخبار".
هذه الصحف التي ذكرنا، هي التي وضعت الأسس التي سارت عليها المدرسة الصحفية الأولى، مدرسة القرن التاسع عشر والعقد الأول
من القرن العشرين: وقد تبعتها صحف أخرى، تولى تحريرها كبار كتاب العصر أمثال: بطرس البستاني وسليم البستاني وإبراهيم سركيس والشيخ يوسف الأمير وأنطون الجميل1 والشيخ إسكندر العازار وعبد القادر القباني وسليم سركيس ونقولا نقاش ولويس صابونجي وأديب إسحاق وسواهم من أدباء القرن الماضي في لبنان.
وتطورت الحركة الصحفية بعد إعلان الدستور العثماني وانتشار الحرية الفردية والشعور بالكرامة؛ لتسهم في توطيد أسس هذا العهد الجديد؛ فلمع من الكتاب بشارة الخوري في "البرق" وجرجي شاهين عطية في "المراقب" وفيلكس فارس في "لسان الاتحاد" وعبد الغني العريسي في "المفيد" و"صدى المفيد" و"لسان العرب" و"الفتى العربي"، وكان أول كاتب صحفي درس أصول هذا الفن في أوروبا. وكان أقوى المدافعين عن القضية العربية حجة وأجرأهم لسانا وأمضاهم قلما. كما ظهر طانيوس عبده الشاعر الناثر في "الأيام" و"الراوي"، وقد خصصها للقصة. ومحمد الباقر في "البلاغ" وخليل زينية في "المرأة".
وقد امتازت هذه الطبقة بازدياد حظها من الثقافة والحرية، ولذا تطورت المقالة الصحفية على يدها تطورا كبيرا.
وقد فترت الحركة الصحفية أثناء الحرب العظمى الأولى، لتعود قوية نشطة بعدها. وكان للاحتلال الفرنسي أثر كبير في هذا النشاط؛ إذ إنه في ناحية حرص على نشر ثقافته ولغته بين الناس. ومن ناحية أخرى أخذ يرهق الناس بالضغط السياسي والتفرقة الطائفية واحتكار
1 كان أحد محرري البشير، ثم انتقل إلى مصر وأنشأ مجلة "الزهور" وحرر في الأهرام، حتى غدا رئيسا لتحريرها.