الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5-
تحليل المقالة الذاتية:
دراسة المقالة وتحليلها إلى أجزائها، تجربة هامة وافرة النفع كبيرة الجدوى؛ لأنها تظهر لنا كيف يعمل عقل الكاتب، حين يتمخض بالعمل الأدبي. والغاية الأخيرة لهذه الدراسة هي تذوق العمل الأدبي ثم تقدير حظه من البراعة والاتقان. وبوسعنا، تسهيلا للدراسة، أن نقسم المقالة إلى عنصرين اثنين، هما: المضمون والقالب. والقالب بدوره ينقسم إلى قسمين هما: التصميم والأسلوب.
أول سؤال نلقيه على أنفسنا بعد الفراغ من قراءة المقالة هو: ما الذي أراد الكاتب أن يقوله؟ والجواب على هذا التساؤل أصعب مما يبدو لنا في الظاهر؛ لأن كاتب المقالة ليس واعظا ولا خطيبا ولا معلما. وإنما هو أديب يتأمل الحياة ويصور انعكاساتها في نفسه وأثر وقوعها على وجدانه. وعمل الدارس أن يكشف طريقة الكاتب في تفسير المادة التي وقع عليها نظره واستوعبتها عين بصيرته، ثم طريقته في عرض هذا التفسير ونشره على الناس. وعليه أن يستبين الخطوات المنطقية الخفية، التي كانت سدى العمل الأدبي، وهي أكثرها تقوم على المقارنة والمعارضة والتقسيم وتحليل العلاقات وملاحظة أوجه الشبه إذ ليست المقالة الأدبية رايا جامعا مانعا، وليست هي حكمة موجزة أو مثلا سائرا أو جامعة من جوامع الكلم. وإنما هي تجربة عقلية ووجدانية مر بها الكاتب وتمثل خطوطها وألوانها وعبر عنها بأسلوبه الخاص الذي يحمل طابع شخصيته. فهي بهذا تنضح بالذاتية، وتمثل شخصية الكاتب أصدق تمثيل.
وليس من الطبيعي أن يتناسى الدارس الشق الثاني من البناء المقالي
-وهو ناحيتها الشكلية التي تنهض على تكأتي التصميم والأسلوب- أثناء تحليله للشق الأول. فالمضمون والصورة لا ينفصلان في العمل الأدبي الذي يتمثل كما قال عبد القاهر الجرجاني في عملية النظم. ولكن تسهيلا للدراسة، كما أسلفنا، لا بد لنا من أن نعالج كلا منهما على حدة.
وقد عرف والتر باتر تصميم المقالة، في مقالته المعروفة عن الأسلوب بقوله:
"هو ذلك التصور البنائي للموضوع الذي يرهص بالنهاية منذ البداية ولا يرفع عينه عنها. وهو في أي جزء من الأجزاء، يلتفت إلى الأجزاء الأخرى، إلى أن تكشف العبارة الأخيرة عن كنه العبارة الأولى وتبرر وجودها دون أن تحس بأي فتور"1.
وإذا اتخذنا مقاله "فن السرور" لأحمد أمين2 مثلا، وحاولنا أن نكشف التصميم الذي وضعه الكاتب في نفسه لها، وجدنا أولا تلك المقدمة التي يتحدث فيها عن هذه النعمة الكبرى التي منحها الله الإنسان وعن مظاهرها في مشاهد الطبيعة وفي حياة الإنسان، ويقرر أن السرور لا يعتمد على الظروف الخارجية، بل يعتمد على النفس وقدرتها على اجتلاب السرور، فيقول:
"نعمة كبرى أن يمنح الإنسان القدرة على السرور، يستمتع به إن كان أسبابه، ويخلقها إن لم تكن. يعجبني القمر في تقلده هالة جميلة تشع فنًّا وسرورا وبهاء ونورا. ويعجبني الرجل أو المرأة، يخلق حوله جوا مشبعا بالغبطة والسرور، ثم يتشربه فيشرق في محياه ويلمع في عينيه.
1 A.R.W. Pater. "Style""Theories of Style in Literature". p. 399".
2 فيض الخاطر ج2: 200.
ويتألق في جبينه ويتدفق في وجهه.
يخطئ من يظن أن أسباب السرور كلها في الظروف الخارجية فيشترط ليسر مالا وبنين وصحة؛ فالسرور يعتمد على النفس أكثر مما يعتمد على الظروف، وفي الناس من يشقى في النعيم، ومنهم من ينعم في الشقاء. وفي الناس من لا يستطيع أن يشتري ضحكات عالية عميقة واسعة بأتفه الأثمان، وبلا ثمن".
ونجد ثانيا ذلك العرض الموجز لأسباب قلة السرور في مصر والشرق عامة ومحاولته تعليله ورده إلى أسبابه النفسية في أمم الشرق، ثم تلك المقارنة التي عقدها بين أمم الشرق وأمم الغرب من حيث تكوين النفسيات والظروف الخارجية والداخلية التي تترك أثرها في ذلك.
وثالثا: تلك الخاتمة التي بسط فيها الوسائل التي يستطيع بها الإنسان أن يتغلب على مصاعبه، فيخلق هالة من السرور تحيط به، وقد جعلها على صورة دروس، يلقنها الإنسان لكي يجعل من حياته سرورا دائما ومرحا مقيما.
والأسلوب هو الشق الآخر من الصورة الفنية الظاهرة للمقالة. وإذا لجأنا ثانية إلى والتر باتر، في مقالته تلك، وجدناه يصف التصميم بأنه "العقل في الأسلوب" أما الصورة الفنية للعمل الأدبي فهي على حد قوله "الروح في الأسلوب". ويعني بها الطريقة التي يعمد إليها بعض الكتاب في اصطناع اللغة واستغلال طاقاتها التعبيرية، بحيث تستطيع أن تعبر عن تلك الروح التي ترفرف في نفوسهم، قلقة حائرة تريد الانطلاق تعبيرا كأنه الوحي المنزل.
وقد عرف الناقد و. س. برونل. الأسلوب، بأنه "ذلك الركن من
أركان العمل الأدبي، الذي يحتفظ في كل جزء من أجزائه بروح الصورة العامة للأثر الأدبي بأجمعه. وهو روح دالة، تنتظم العمل الإنشائي، وفكرة تتجلى في صور مختلفة. وهو يكشف عن العلاقات، ويدلي بالآراء، وينظم التنوع في الوحدة". وهو يعني بذلك أن الاسلوب هو طريقة التفكير والتصوير والتعبير مجتمعة.
إذًا ينبغي للدارس أن ينظر إلى الأسلوب من ناحيتين، هما شخصية الكاتب ثم طريقته في التعبير عن هذه الشخصية. أما الناحية الأولى، فإنها تتطلب تمعنا ونفاذ بصيرة ودقة في التحديد. وعلى الدارس حين يفرغ من قراءة المقالة، أن يحاول الإجابة على هذا السؤال: أي نوع من الناس هذا الذي قرأت مقالته؟ ومن اليسير عليه أن يجيب على هذا السؤال إذا تمعن في دراسة مادة المقالة، وتناولها بتؤدة وتأن.
وطريقة الكاتب في التعبير عن شخصيته تقودنا حتما إلى دراسة بلاغية، تكشف لنا عن خصائص أسلوبه، وترشدنا إلى اتجاهه في تناول المادة، واصطناع اللغة: مفرداتها وتراكيبها، بيانها وبديعها، للتعبير عن فكرته. ولعل من المفيد هنا أن نوجز ما قاله الكاتب المقالي العظيم، روبرت لويس ستيفسون، عن هذا الموضوع في مقاله له عن العناصر الفنية للأسلوب1؛ لأنه يكشف لنا، بطريقة غير مباشرة، عن طريقته الخاصة في كتابة المقالات.
يذهب ستيفنسون في هذا المقال إلى أن الأسلوب الأدبي يقوم على العناصر التالية:
1 R.L. Stevenson. "On Some Technical Elements of Style in Literature"
"Theories Of Style in Literature PP. 365 - 385".
1-
اختيار الجمل وتنسيقها.
2-
تركيب الجمل.
3-
إيقاع العبارات.
4-
مضمونها.
وهو يرى أن العنصر الأول، هو أقل هذه العناصر شأنا، وأهم منه، في نظره، تركيب الجمل، أو نسجها على حد تعبيره؛ لأنه يرى أن الغاية الأولى والأخيرة في كل فن من الفنون، هي إبداع الصورة الفنية. ويرى أيضا أن المهمة الحقيقية للكاتب، هي تضفير معانيه، وتنسيقها في نسيج محكم السرد، بحيث تتوالى الجمل والعبارات في سلسلة واحدة مستمرة، ثم تأخذ في التكشف والانجلاء. فالأسلوب في نظره إذًا هو نسيج حسي منطقي في آن واحد.
ومهما يكن من أمر، فإن الأسلوب المقالة لا يحتمل الصنعة والتشذيب والتهذيب؛ لأن اتجاه الكاتب وحرصه على مثل هذا، يخرج به عن حدود الطبيعة والألفة والمسامرة التي يجب أن تتسم بها المقالة، إلى حدود الصنعة المرهقة والافتعال الممجوج.