الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3-
في أدب الإغريق والرومان:
بيد أننا نعثر في آثار الإغريق والرومان الأدبية أيضا، على صورة متطورة لهذه المحاولات البدائية، حيث نقع على تباشير المقالة الحديثة على أنواعها. والأدب الإغريقي قبل الفتح الروماني، لا يقدم لنا الكثير مما نستطيع أن نعتبره نماذج ساذجة للمقالة الحديثة، مع ما بلغه من تقدم في الفنون الأدبية الأخرى كالملاحم والمآسي والملاهي. ولكن تلك الفترة التي تنتهي حوالي منتصف القرن الثاني قبل الميلاد، كانت المعين الثر الذي استقى منه أدباء الإغريق المتأخرون، وكذلك أدباء الرومان، الذين قدموا بين يدي المقالة الحديثة آثارا فذة، أتيح لهم أن يوفقوا إلى إنتاجها بسبب الظروف المواتية التي أحاطت بهم آنذاك. ولعل أجدرها بالذكر، تلك الفترة الطويلة من السلم والازدهار، وما هيأته لهم من الفراغ والدعة والطمأنينة، وما شملهم فيها من رعاية أولى الأمر وحدبهم وتقديرهم.
وهذا لا ينفي أن تباشير المقالة قد ظهرت في آثار بعض كتاب الإغريق أمثال فيثاغورس وهيردوتس وثيوكديدس وأكزينوفون وديموسثنيس وأبيقور وبوليبيوس وديونيزيوس ولوسيان ولونجينوس وأثينايوس وسواهم، ممن عاشوا في الفترة التي امتدت من القرن السابع قبل الميلاد حتى القرن الثالث بعده.
كما أن أساليب بعض الفلاسفة والكتاب أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس وثيوفراسطوس وفلوطارخوس، كانت ذات أثر مباشر في أساليب بعض أنواع المقالة الحديثة. فأسلوب الحوار ظهر مشرقا بارعا في آثار سقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس. وقد امتاز أفلاطون فضلا عن ذلك، بالحرية في التعبير والانطلاق في الحديث، وهاتان الميزتان ظهرتا
فيما بعد بجلاء في مقالات مونتين رائد المقالة الحديثة. كما أن كتابات أرسطوطاليس التي تميزت بالتركيز والشمول ودقة المنطق، كانت ذات أثر بالغ في مقالات باكون. زد على ذلك أنه قدم لنا أول مقالة نقدية تمتاز بعمق في التفكير ودقة في التحليل، وذلك في فصل المأساة من "كتاب الشعر".
ويعتبر ثيوفراسطوس، تلميذ أرسطوطاليس، رائدا لمقالة الشخصيات وقد جال في كتابه "شخصيات"، جولات موفقة في تصوير بعض النماذج البشرية الشريرة، وهو بهذا يعتبر الكاتب الإغريقي الوحيد الذي استطاع أن يشق الطريق لهذا النوع من المقالة، وأن يضع خطوطها الأولى جلية موحية.
أما فلوطارخوس فقد وضع أسس المقالة التأملية في كتابه "أخلاقيات""Moralia" وخاصة في فصله الذي سماه "تأخير الطعام".
وهو أقوى الكتاب القدامى، باستثناء سنيكا، أثرا في رائدي المقالة الحديثة: مونتين وباكون.
وكذلك الشأن في الأدب اللاتيني، فإننا نجد آثار بعض أعلامه بذورا لبعض أنواع المقالة الحديثة، كالمقالة الوصفية والنقدية والتأملية. ونذكر منهم كانوا الأكبر يوليوس قيصر وسالوست وليفي وبليني الأكبر وتاكتوس وديوجينس ومرسيلينوس وكلوديان الشاعر. وهؤلاء جميعا عاشوا في الفترة الممتدة من القرن الثاني قبل الميلاد، إلى القرن الرابع بعده. إلا أن هنالك بعض الكتاب الذين تركوا أثرا أبلغ، ومنهم هوارس الذي تعتبر رسالته "فن الشعر" مقالة نقدية كتبت نظما. وكونتليان "في القرن الأول ب. م" الذي عالج في كتابه "قواعد الخطابة"، ووسائل تدريب الخطيب، وطرفا من تاريخ الأدبين الإغريقي واللاتيني، وكان له بذلك
قيمة تربوية وتاريخية. وكذلك تلميذه بليني الأصغر، الذي تعتبر رسائله نوعا من مقالات الرسائل. ومنهم الإمبراطور ماركوس أوريليوس "في القرن الثاني ب. م" الذي يعكس كتابه "التأملات" صفات المفكر المتأمل الذي يفيض خواطره على القرطاس بأسلوب متدفق حر طليق، وهو الأسلوب الذي كتب به المقالة فيما بعد.
ولكن أهمهم دون شك، وأشدهم اتصالا بموضوعنا، شخصيات ثلاث تألقت في سماء الأدب اللاتيني وهم: شيشرون "106-43 ق. م" وسنيكا "توفي 65 ب. م" وأولوس جيليوس "في القرن الثاني بعد الميلاد". وقد قدم شيشرون لرواد المقالة الحديثة، وخاصة في مقالتيه "الشيخوخة" و"الصداقة"، مثلا يحتذى من حيث الصورة والمضمون. ولكن سنيكا تفوق عليه في ذلك إذ كانت رسائله إلى لوسيليوس، كما قفال باكون، نوعا من المقالات أو "المحاولات". وهي تعكس لنا مدى تحضره وعمق تأملاته الرواقية، وسموه عن مستوى العامة في التفكير، وبراعته في التحليل بأسلوب بليغ يجمع بين القوة والسلالة، وبهذا كانت معينًا ثرًّا نهل منه كتاب المقالة الأول في القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل إن مونتين نفسه نظر إلى أسلوبها في عدد من مقالاته.
و"الليالي الأتيكية" لجيليوس، من أقرب المحاولات الأدبية إلى صورة المقالة الشخصية التي عرف بها مونتين. وهي تحتوي تعليقات موجزة حرة، تتناول بعض الموضوعات التي عبر بها الكاتب أثناء مطالعته.