المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ في الأدب العربي القديم: - فن المقالة

[محمد يوسف نجم]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌القسم الأول: المحاولات المقالية قبل مونتين

- ‌تمهيد

- ‌ بذور المقالة في الآداب الشرقية القديمة:

- ‌ في أدب الإغريق والرومان:

- ‌ في العصور الوسطى:

- ‌ عصر النهضة:

- ‌ في الأدب العربي القديم:

- ‌القسم الثاني: المقالة في طورها الحديث

- ‌مونتين "1533-1592

- ‌ فرنسيس باكون:

- ‌ بين مونتين وباكون:

- ‌ نهضة المقالة الإنكليزية بعد عودة الملكية:

- ‌ مقالة المجلات في القرن الثامن عشر:

- ‌ خصائص هذه المقالة في المحتوى والصورة:

- ‌ المقالة في القرن التاسع عشر:

- ‌ المقالة الحديثة:

- ‌ المقالة في الأدب العربي الحديث:

- ‌ المجلات وأثرها في تطور المقالة العربية الحديثة:

- ‌أعلام المقالين المحدثين

- ‌القسم الثالث: فن المقالة

- ‌تمهيد وتعريف

- ‌ التمييز بين المقالة الذاتية والمقالة الموضوعية:

- ‌ المقالة الذاتية:

- ‌ ألوانها وأشهر كتابها:

- ‌ تحليل المقالة الذاتية:

- ‌ نحو دراسة المقالة الذاتية:

- ‌ قيمة المقالة الذاتية:

- ‌ المقالة الموضوعية:

- ‌المراجع والمصادر:

- ‌المراجع والمصادر العربية:

- ‌المراجع والمصادر الأجنبية

- ‌الفهارس

- ‌فهرس الأعلام والكتب والصحف

- ‌فهرست:

الفصل: ‌ في الأدب العربي القديم:

6-

‌ في الأدب العربي القديم:

آثرت تأخير الحديث عن بذور المقالة في الأدب العربي، لكي أتناولها في شيء من التفصيل. فقد ظهرت المقالة في أدبنا منذ القرن الثاني للهجرة. وتمثلت على أحسن صورها في الرسائل، وخاصة الإخوانية والعلمية. فلو نحينا جانبا الرسائل الديوانية التي كانت تتحجر في كل عصر، في قوالب معينة يرثها الخلف عن السلف، والتفتنا إلى الإخوانيات، وما تدور عليه من مسامرات ومناظرات وأوصاف وعتاب، وإلى الرسائل التي كانت تتناول الموضوعات التي تفرد بها الشعر كالغزل والمديح والهجاء والفخر والوصف، لوجدنا أنها تعكس خصائص المقالة، لا كما عرفت في طورها الأول الذي استمر حتى القرن السادس عشر، بل كما عرفت عند رائديها في فرنسا وإنكلترا. ولولا أنها تطورت هذا التطور المرذول الذي طبعها بطابع الصنعة الثقيلة الممجوجة، في الأسلوب الإنشائي وفي الصور البديعية والبيانية، لكانت المثل البكر لفن المقالة كما عرفتها الآداب الأوروبية الحديثة. وإذا تصفحنا كتب الأدب ومصادر التاريخ وجدنا أمثلة كثيرة تدعم هذا الرأي الذي نذهب إليه.

فصفة الإمام العادل، للحسن البصري، مثل جيد على المقالة الأخلاقية. وفيها يقول:

"اعلم يا أمير المؤمنين أن الله جعل الإمام العادل قوام كل مائل وقصد كل جائر، وصلاح كل فاسد وقوة كل ضعيف، ونصفة كل مظلوم ومفزع كل ملهوف. والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالراعي الشفيق على إبله الرفيق، الذي يرتاد لها أطيب المراعي ويذودها عن مراتع المهلكة ويحميها من السباع ويكنفها من أذى الحر والقر.

والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالقلب بين الجوانح، تصلح الجوانح بصلاحه وتفسد بفساده. هو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويُسمعهم، وينظر إلى الله ويريهم، وينقاد إلى الله ويقودهم، فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملكك الله كعبد ائتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله،

ص: 17

فبدد المال وشرد العيال فأفقر أهله وفرق ماله. واعلم يا أمير المؤمنين أن الله أنزل الحدود ليزجر بها عن الخبائث والفواحش، فكيف إذا أتاها من يليها. وأن الله أنزل القصاص حياة لعباده، فكيف إذا قتلهم من يقتص لهم. واذكر يا أمير المؤمنين الموت وما بعده. وقلة أشياعك عنده وأنصارك عليه، فتزود له ولما بعده من الفزع الأكبر. واعلم أن لك منزلا غير منزلك الذي أنت فيه، يطول فيه ثواؤك ويفارقك أحباؤك، يسلمونك في قعره فريدا وحيدا، فتزود له ما يصحبك يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه. فالآن يا أمير المؤمنين وأنت في مهل قبل حلول الأجل وانقطاع الأمل، لا تحكم يا أمير المؤمنين في عباد الله بحكم الجاهليين ولا تسلط المستكبرين على المستضعفين فإنهم لا يرقبون في مؤمن إلًّا ولا ذمة، فتبوء بأوزارك وأوزار مع أوزارك. وتحمل أثقالك وأثقالا مع أثقالك".

ففي هذه القطعة صورة دقيقة للإمام العادل كما يراه الحسن البصري، تتصل باتجاه الحسن الأخلاقي الوعظي أشد اتصال، وتعكس لنا حرصه على التشخيص وإخراج الصور من دائرة الرمز إلى دائرة الواقع المشرق لتكون أقوى دلالة وأكثر جدوى في إبراز الموعظة الحسنة.

ورسالة عبد الحميد إلى الكُتَّاب، التي تضع دستورا للكتابة الديوانية ولأخلاق الكُتَّاب، قريبة الشبة بالمقالة النقدية الحديثة، من حيث الموضوع والأسلوب. وكذلك رسالته إلى ولي العهد، التي تدور حول ما يجب أن تكون عليه أخلاقه في سيرته الخاصة وفي علاقاته مع أفراد حاشيته من القواد والموظفين، وحول تنظيم الجيوش، تعتبر مقالة في السياسة وتدبير الحاشية. وكذلك رسالتاه عن الشطرنج والصيد تقتربان، إلى حد ما، من أسلوب المقالة الحديثة، ورسالة سهل بن

ص: 18

هارون إلى بني عمه في مدح البخل وذم الإسراف، مثل على المقالة الفكاهية وهي شديدة الشبه بمقالات أديسون وستيل. ورسالة الصحابة لابن المقفع، مقالة في سياسة الدولة وتدبير الرعية، وفي نقد نظام الحكم ووجوه إصلاحه، ورسائل الجاحظ، وفصول كتبه التي كادت تلم بكل موضوع، وما فيها من فكاهة عذبة، وانطلاق في التعبير وتحرر من القيود، وتدفق في الأفكار وتلوين في الصور، وتنويع في موسيقى العبارات، خير مثل على النموذج المقالي في الأدب القديم. وقد وصفها المسعودي في مروج الذهب، وصفا يدعم هذا الرأي، فقال:

"وكتب الجاحظ مع انحرافه المشهور تجلو صدأ الأذهان وتكشف واضح البرهان لأنه نظمها أحسن نظم ورصفها أحسن رصف وكساها من كلامه أجزل لفظ. وكان إذا تخوف ملل القارئ وسآمة السامع خرج من جد إلى هزل ومن حكمة بليغة إلى نادرة ظريفة1.

وحسبنا مثلا على مقالاته التصويرية، كتاب "البخلاء"، الذي صور فيه حياة البصرة وبغداد في عصره، أحسن تصوير وأدقه، وعرض نماذج رائعة من البخل، في أشخاص بعض معاصريه، وبعض من أبدعتهم مخيلته منهم، على غير نسق موجود، وبأسلوب تفرد به وأصبح علما عليه.

وفي القرن الرابع خطت الرسائل المقالية خطوة ذميمة نحو التكلف والرهق، فغدت، وإن تنوعت موضوعاتها، متحجرة الأسلوب، مما يبعدها في نظر النقد عما يقتضيه أسلوب المقالة الحديثة من تدفق وحرية وانطلاق. ولا نجد في هذا القرن كاتبا يعادل أبا حيان التوحيدي في طلاقة تعبيره وغزارة معانيه وبراعة تصويره. فرسائله -على ما يتسم به

1 مروج الذهب 2: 344.

ص: 19

بعضها من الطول- شديدة الشبه بالمقالات الموضوعية الحديثة. وفي فصول مقابساته مشابه من المقالات التأملية والفلسفية، وفي "الإمتاع والمؤانسة" صور شخصية بارعة، ولعل أصلحها للتمثيل في معرض الحديث عن المقالة، وصف الصاحب بن عباد، فهي مقالة هجائية بارعة، التزم فيها أسلوبا هادئا رصينا، خاليا من التهجم المفضوح والسباب البذيء، حتى لا يفوت على نفسه الغرض الذي رمى إليه. وما أقرب روحها من روح مقالات أديسون وستيل الهجائية الساخرة، التي كانا يصطنعان لها أسلوبا مبطنا لا يتورطان فيه بالتهكم الصارخ والضحك المجلجل، قال:

"إن الرجل كثير المحفوظ حاضر الجواب فصيح اللسان، قد نتف من كل أدب خفيف أشياء وأخذ من كل فن أطرافا. والغالب عليه كلام المتكلمين المعتزلة وكتابته مهجنة بطرائقهم ومناظرته مشوبة بعبارة الكتاب. وهو شديد التعصب على أهل الحكمة والناظرين في أجزائها كالهندسة والطب والتنجيم والموسيقى والمنطق والعدد، وليس عنده بالجزء الإلهي خبر ولا له فيه عين ولا أثر. وهو حسن القيام بالعروض والقوافي ويقول الشعر وليس بذاك. وفي بديهته غزارة، وأما رويته فخوارة، وطالعه الجوزاء والشعرى قريبة منه، ويتشيع لمذهب أبي حنيفة ومقالة الزيدية، ولا يرجع إلى الرقة والرأفة والرحمة. والناس كلهم محجمون عنه لجرأته وسلاطته واقتداره وبسطته. شديد العقاب طفيف الثواب طويل العتاب بذيء اللسان يعطي كثيرا قليلا "أعني يعطي الكثير القليل". مغلوب بحرارة الرأس، سريع الغضب بعيد الفيئة قريب الطيرة حسود حقود حديد، وحسده وقف على أهل الفضل وحقده سار إلى أهل الكفاية. أما الكُتَّاب والمتصرفون فيخافون سطوته، وأما المنتجعون

ص: 20

فيخافون جفوته وقد قتل خلقا وأهلك ناسا ونفى أمة، نخوة وتعنتا وتجبرا وزهوا وهو مع هذا يخدعه الصبي، ويخلبه الغبي؛ لأن المدخل عليه واسع والمأتى إليه سهل، وذلك بأن يقال: مولانا يتقدم بأن أعار شيئا من كلامه ورسائل منثورة ومنظومة، فما جبت الأرض إليه من فرغانة ومصر وتفليس إلا لأستفيد كلامه وأفصح به وأتعلم البلاغة منه. لكأنما رسائل مولانا سور قرآن، وفقره فيها آيات فرقان، واحتجاجه من ابتدائها إلى انتهائها برهان فوق برهان. فسبحان من جمع العالم في واحد، وأبرز جميع قدرته في شخص. فيلين عند ذلك ويذوب ويلهى عن كل مهم له، وينسى كل فريضة عليه، ويتقدم إلى الخازن بأن يخرج إليه رسائله مع الورَق والوَرِق ويسهل له الإذن عليه والوصول إليه والتمكن من مجلسه، فهذا هذا.

ثم يعمل في أوقات كالعيد والفصل شعرا، ويدفعه إلى أبي عيسى بن المنجم ويقول: قد نحلتك هذه القصيدة، امدحني بها في جملة الشعراء، وكن الثالث من الهمج المنشدين. فيفعل أبو عيسى -وهو بغدادي محكك قد شاخ على الخدائع وتحنك- وينشد، فيقول له عند سماعه شعره في نفسه ووصفه بلسانه ومدحه من تحبيره: أعد يا أبا عيسى، فإنك والله مجيد، زه يا أبا عيسى، والله قد صفا ذهنك وزادت قريحتك وتنقحت قوافيك، ليس هذا من الطراز الأول حين أنشدتنا في العيد الماضي، مجالسنا تخرّج الناس وتهب لهم الذكاء، وتزيد لهم الفطنة، وتحول الكودن عتيقا والمحمر جوادا، ثم لا يصرفه عن مجلسه إلا بجائزة سنية وعطية هنية. ويغيظ الجماعة من الشعراء وغيرهم. لأنهم يعلمون أن أبا عيسى لا يقرض مصراعا ولا يزن بيتا ولا يذوق عروضا"1.

1 الإمتاع والمؤانسة ج1 ص54-56.

ص: 21

فأي صورة أبلغ في الإزراء بصاحبها، والغض من شأنه، والإضحاك منه، على شهرته بين معاصريه، من صورة هذا المدعي الذي ينظم الشعر في مدح نفسه ثم ينحله الناس ليقولوه فيه. إنها مقالة رائعة في تصوير المساوئ والكشف عن المعايب، صاغها أبو حيان على غرار صور أستاذه الجاحظ التي ابتدعها في "البخلاء"، وفي "رسالة التربيع والتدوير".

وبعد، فقد عرضت بعض المحاولات المقالية عند العرب، على مقاييس النقد الحديث، في تحديده للمقالة. ولعمري إن الفنون الأدبية تمر في أطوار من النمو والتطور والتنقيح، فينأى اللاحق منها عن السابق، حتى ليتباينان أشد التباين. وفي الأمثلة القليلة التي ذكرتها، دليل على أن العرب، في نطاق فهمهم للتعبير الأدبي، قدموا بعض الرسائل والفصول الأدبية الممتعة، التي يصح أن ندرجها تحت الأدب المقالي، مع شيء من التجاوز والاعتدال في التحديد، شأنهم في ذلك شأن أكثر الأمم التي سبقتهم أو عاصرتهم.

ص: 22