المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ألوانها وأشهر كتابها: - فن المقالة

[محمد يوسف نجم]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌القسم الأول: المحاولات المقالية قبل مونتين

- ‌تمهيد

- ‌ بذور المقالة في الآداب الشرقية القديمة:

- ‌ في أدب الإغريق والرومان:

- ‌ في العصور الوسطى:

- ‌ عصر النهضة:

- ‌ في الأدب العربي القديم:

- ‌القسم الثاني: المقالة في طورها الحديث

- ‌مونتين "1533-1592

- ‌ فرنسيس باكون:

- ‌ بين مونتين وباكون:

- ‌ نهضة المقالة الإنكليزية بعد عودة الملكية:

- ‌ مقالة المجلات في القرن الثامن عشر:

- ‌ خصائص هذه المقالة في المحتوى والصورة:

- ‌ المقالة في القرن التاسع عشر:

- ‌ المقالة الحديثة:

- ‌ المقالة في الأدب العربي الحديث:

- ‌ المجلات وأثرها في تطور المقالة العربية الحديثة:

- ‌أعلام المقالين المحدثين

- ‌القسم الثالث: فن المقالة

- ‌تمهيد وتعريف

- ‌ التمييز بين المقالة الذاتية والمقالة الموضوعية:

- ‌ المقالة الذاتية:

- ‌ ألوانها وأشهر كتابها:

- ‌ تحليل المقالة الذاتية:

- ‌ نحو دراسة المقالة الذاتية:

- ‌ قيمة المقالة الذاتية:

- ‌ المقالة الموضوعية:

- ‌المراجع والمصادر:

- ‌المراجع والمصادر العربية:

- ‌المراجع والمصادر الأجنبية

- ‌الفهارس

- ‌فهرس الأعلام والكتب والصحف

- ‌فهرست:

الفصل: ‌ ألوانها وأشهر كتابها:

4-

‌ ألوانها وأشهر كتابها:

ليس من اليسير تحديد الموضوعات التي يتاح لكتاب المقالة الذاتية، أن يديروا حولها مقالاتهم. فهي متنوعة تنوع التجارب الإنسانية، متباينة تباين شخصيات الكتاب، فكل كاتب من الكتاب، صورة متميزة بألوانها وخطوطها. وقد تتقارب الألوان وتتلاقى الخطوط، إلا أن كل شخصية تحتفظ بطابعها الخاص وقسماتها الفارقة. وقد رأينا تسهيلا للبحث أن نعرض أهم ألوان هذا النوع من المقالة، كما ظهرت على أقلام أشهر كتابها:

1-

الصورة الشخصية: وهي خير ما يمثل هذا النوع؛ إذ إنها تعبير فني صادق عن تجارب الكاتب الخاصة والوراسب التي تتركها انعكاسها الحياة في نفسه. وهي في أحسن حالاتها ضرب من الحديث الشخصي الأليف، والثرثرة والمسامرة، والاعتراف والبوح. ولكنها تمتاز إلى جانب ذلك بروعة المفاجأة وتوقد الذكاء وتألق الفكاهة. ولا تخلو من السخرية الناعمة أو الحادة، تبعا لاتجاه الكاتب وألوان شخصيته. وقد حدد الدكتور زكي نجيب محمود شروط هذا النوع من المقالة واتجاه الكتاب فيها بقوله:

"شروط المقالة الأدبية أن يكون الأديب ناقما، وإن تكون النقمة خفيفة يشيع منها لون باهت من التفكه الجميل. فإن التمست في مقالة الأديب نقمة على وضع من أوضاع الناس فلم تجدها، وإن افتقدت في مقالة الأديب هذا اللون من الفكاهة الحلوة المستساغة فلم تصبه، فاعلم أن المقالة ليست من الأدب الرفيع في كثير أو قليل، مهما تكن بارعة الأسلوب رائعة الفكرة. وإن شئت فاقرأ لرب المقالة الإنكليزية "أديسون" ما كتب، فلن تجده إلا مازجا سخطه بفكاهته، فكان ذلك أفعل أدوات الإصلاح.

نريد من كاتب المقالة الأدبية أن يكون لقارئه محدثا لا معلما، بحيث يجد القارئ نفسه إلى جانب صديق يسامره لا أمام معلم يعنفه. نريد من كاتب المقالة الأدبية أن يكون لقارئه زميلا مخلصا، يحدثه عن تجاربه ووجهة نظره، لا أن يقف منه موقف الواعظ فوق منبره، يميل صلفا وتيها بورعه وتقواه، أو موقف المؤدب يصطنع الوقار حين يصب في أذن

ص: 82

سامعه الحكمة صبا ثقيلا. نريد للقارئ أن يشعر وهو يقرأ المقالة الأدبية أنه ضيف قد استقبله الكاتب في حديقته ليمتعه بحلو الحديث. لا أن يحس كأنما الكاتب قد دفعه دفعا عنيفا إلى مكتبته ليقرأ له فصلا من كتاب"1.

وخير من يمثل هذا النوع من المقالات في الأدب الأوروبي، مونتين وشارلس لام وأولفر وندل هولمس. وقد كان لكل منهم طريقة خاصة، غدت بين الكتاب عرفا شائعا، ونبراسا تعشو إليه أبصارهم.

فطريقة مونتين ومن اهتدى بهديه من الكتاب تقوم على الموضوع والتألق، وتعكس كبيرا من الفكاهة الحلوة والسخرية الناعمة. ويبدو لنا الكاتب من خلالها، رجلا اختبر الحياة وتمرس بآفاقها وتجرع كأس الشقاء حتى الثمالة، وخرج من كل ذلك بابتسامة المدرك الواعي، الذي اطلع على صغار الناس، وعرف دواعيه ونتائجه، فوقف منه موقف المشفق المتسامح. وقد أدرك أن طموح الإنسان وآماله العريضة في الحياة، إن هي إلا سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا أتاه لم يجده شيئا، فأحر به أذن أن يزور عن الحياة أو أن ينظر إليها بعين مستخفة ساخرة انبثاق بعض الحقائق التي تمثل أمام ناظريه وتحمله على أن يتدبرها، أو يلقاها بالجد الصارم بادئ ذي بدء، ثم يحدب عليها بعطفه، أو يذرف عليها دمعة رثاء.

وهو رضي النفس دمث الخلق لا يشمخ بآنفه، أنفة وكبرياء، ولا يتصرف تصرف الجلف الجافي الطباع، بل يحتفظ باتزانه وهدوئه دوما. ثم إنه يقف إلى جانب الحق دائما، ويعليه على كل اعتبار، بيد أنه لا

1 المرجع المذكور آنفا: ص5، 6.

ص: 83

يندفع في ذلك متحمسا طائشا، بل يكبح جماح أهوائه، ويكفكف من غرب نزواته.

وأسلوبه بسيط رخي، فهو لا يسهب مثرثرا، ولا يبيح لقلمه أن يجول على وجه القرطاس ويصول، دون ما رادع أو زاجر. وهو أخيرا رجل متحضر مثقف. صقلت أخلاقه المدنية، وهذبت ميوله اختباراته الواسعة في الحياة.

أما شارلس لام ورجال مدرسته، فإنهم يؤثرون المبالغة ويشقون على أنفسهم في التهويل ويسرفون في عواطفهم إلى غير غاية. والكاتب من هؤلاء يمتاز بتأثره الشديد بالجمال، ويكون عبدا للحالات النفسية التي تنتابه، فهو تارة حزين مسرف في الحزن، والفرح في نفسه مدثرة أو مائعة، فهو هوائي المزاج، يضحك حتى تطفر من عينيه دمعة الرضا والبهجة، ولكنها سرعان ما تنقلب إلى دمعة حرّى سخينة، هي دمعة الحزن العميق، والألم العاصف. وهو لا يرمي بضحكه إلى تهذيب، ولا يستهدف به إصلاحا، بل يجد في البحث عن النكتة، ويجعلها وكده، حتى ولو أقام نفسه محورا للتفكه والتندر.

وهو شارد اللب موزع الخاطر في بعض الأحيان قد يركب رأسه وتجمع به نزوات الغضب. ولكنه يحتفظ دوما بصفته الأساسية وهي الوداعة والتسامح وصفاء النفس. وهو يحب الأطفال ويحدب عليهم، ويحترم السيدات ويقف لهن إجلالا ويركع أمامهن متعبدا. وله في اختيار أنواع الطعام وتمييز ألوان الشراب ذوق صادق لا يخطئ، ولكنه إذا طولب بتعليل لهذا الاختيار أو ببرهان على إيثار هذا اللون على ذاك، لجأ إلى المداورة والتحيل، وتورط في بعض الأدلة المضحكة والآراء المستهجنة

ص: 84

وخبرته في الآثار والعادات، لا تقل عن خبرته في تمييز المآكل والمشارب، فإذا ما دخل بيتا من البيوت، أخذ يتلفت يمنه ويسره باحثا عن خزانة الصيني، ليجلو عينيه بمرأى قطعها النفيسة. فإذا افتقدها، بحث عن الكتب القديمة والمخطوطات النادرة، أو حدق في قطع الأثاث التاريخية والرياش النفسية، يتأملها تأمل الهاوي الخبير.

أما أولفر وندل هولمس، فإنه يتميز بالنوادر العملية التي تنضح بالذكاء وتشي بالمهارة وخفة اليد. وله عين لاقطة تلمح المفارقات المستغربة والصور العجيبة في الحياة. ولا يذهب به التطرف إلى أن يجعل من مقالته مكرضا للغو والهذر، بل يحرص أشد الحرص على أن يوفر لكتابته الكثير من القيم الاجتماعية التي تمس المشكلات الأساسية في بيئته. ولا يفهم من هذا أنه كان يترخص في كتابته، فقد كان الرجل واسع الاطلاع محيط الثقافة، لا يعجزه أن يستغل علمه الغزير فيما يكتب، وذلك لكي يبرز الأشياء المألوفة في حلة قشيبة من البداهة والذوق وحسن التعليل، يبطنها بفكاهة خبيثة ذكية.

وقد كان لوراثته البيوريتانية أثر في اتجاهه الوعظي، فقد كان يلتزم الدفاع عن تقاليد بيئته الموروثة؛ لأنه كان يشعر بأنه يعيش في عصر يميل أهله إلى التحرير، بل إلى الإباحية في كثير من الأحيان. وكان يتجنب الألفاظ التافهة الخاوية التي لا تنطوي على مدلول اجتماعي قوي واضح. وكان لخبرته التي اجتناها من احتكاكه ببعض الشخصيات، ومن تمرسه بمختلف ضروب النشاط الحيوي، فضل في ما امتازت به مقالته من النظر الاجتماعي والتحليل الخلقي.

وهذه الأساليب جميعا موجودة في أدبنا المقالي عند الكتاب المشاهير، أمثال محمد السباعي والمازني والعقاد وأحمد أمين ومي زيادة

ص: 85

وميخائيل نعيمة.

2-

مقالة النقد الاجتماعي:

وقوامها نقد العادات الناخرة والتقاليد البالية التي ترسبت في المجتمع، على مدى الدهور. ولا تعفي الأزياء الطارئة والبدع المستحدثة من سخريتها وعبثها. ويعزى فضل إدخالها إلى الأدب الإنكليزي إلى أديسون وستيل كما ذكرنا سابقا. والمبرر الطبيعي لذيوع مثل هذا النوع من المقالات، في مجتمع ما، هو ما يطرأ عليه من مستحدثات الحضارة في الأزياء والعادات والأخلاق ووسائل اللهو والتسلية. أو ما يحتدم فيه عادة من صراع بين القديم والجديد، في فترات الانتقال. يتمثل في أكثر الأحيان في ذلك التباين الذي نلمحه بين ما يتمسك به الآباء من تقاليد، وبين ما ينزع إليه الأبناء من تجدد وتغيير. وعدة الكاتب في هذه المقالات ملاحظة دقيقة وقدرة على إحكام الوصف وإجادة التحليل، واتزان في الحكم وعمق في التأمل، وبراعة في التهكم والسخرية، حتى لا تخرج المقالة من بين يديه جثة هامدة، لا تسمع لها نأمة ولا تبدو لها حركة، فتزول قيمتها بزوال المؤثرات الطارئة التي دعت إلى كتابتها.

وفي زمن أديسون وستيل كان "للموضة" أهمية خاصة؛ إذ كان الإنسان يدرك قيمة السيدة ويقدر منزلتها الاجتماعية عندما يلحظ طريقتها في اللبس ونوع الملابس التي ترتديها والحلي التي تتزين بها. ولذا كان لمقالات الأزياء والعادات متعة خاصة عند قراء القرن الثامن عشر. وقد احتدم الصراع في مصر بين القديم والجديد في فترة ما بين الحربين، وتجلى هذا الصراع واضحا في العادات والأزياء، وفي الأدب بمختلف فنونه وأساليبه. فلا عجب إذا رأينا أكثر كتاب المقالة عندنا، كأحمد أمين والمازني وطه حسين والرافعي والعقاد، يخوضون هذه المعركة في مختلف

ص: 86

ميادينها، فيتحيز أحدهم للقديم، ويتصدى له الآخر، يرد دعواه ويبطل آراءه، وتمثلث هذه المعركة على صفحات الرسالة والثقافة في ميدان الأدب. وخير ما يمثلها في الميدان الاجتماعي مقالة "سلطة الآباء" لأحمد أمين. وهو يتحدث فيها أولا عن ذلك الزمان الذي كان فيه الأب هو الآمر الناهي في الأسرة، والحاكم المطلق في جميع شئون أفرادها، من دينية ودنيوية. ثم ينتقل إلى الحديث عن هذا الزمان الذي صار فيه الأبناء آباء والمرءوس رئيسا والرئيس مرءوسا. وعرض لمشكلة لا بد من أن تحدث في كل أسرة، وهي مشكلة زواج الفتى والفتاة، وشرح المطالب الفادحة والشروط القاسية التي تتقدم بها الزوجة، بأسلوب ساخر فكه، يبين مدى الفرق بين الزواج العصري، والزواج القديم. ثم تحدث عن حياة هذه الأسرة الجديدة، حين عمر بيتها البنون والبنات، فقال:

وشاء الله أن يرزقا بنين وبنات.

وقد رأوا أن الأم لا تجل الأب فلم يجلوه، ولم تعره كبيرة التفات فلم يعيروه، ورأوها تبذر في مال الأب فبذروا، ورأوها حرة التصرف فتحرروا، ورأوها تخرج من البيت من غير أذان الأب فخرجوا خروجها، وتعود متى شاءت ففعلوا فعلها، ورأوها لا تتدين فلم يتدينوا، ورأوها تطالب الأب ألا يفتح رسائلها فطالبوا، ورأوها تتكلم في المسائل الدقيقة أمام أبنائها وبناتها في صراحة فتفتحت شهواتهم، وتحركت رغباتهم، وجمحت تخيلاتهم.

وقال الأبناء لأبيهم: إنا مخلوقون لزمان غير زمانك فاخضع لحكم الزمان، وقد نشأنا في زمن حرية في الآراء، وحرية في الأعمال، وحرية في التصرف، لا كما نشأت في جو من الطاعة والقيد والأسر والتقاليد، فمحال أن يسع ثوبك الضيق أبداننا، وتقاليدك العتيقة البالية

ص: 87

نفوسنا، فإن حاولت ذلك فإنما تحاول إدخال الثور في قارورة، أو لف القصر الكبير بمنديل صغير! قال: نعم. قالوا: وأنت الذي سمح لنا بادئ ذي بدء أن نغشى دور السينما والتمثيل، وأن نسمع الأغاني البلدية، ونشاهد المراقص الأوروبية، فإذا أقررت المقدمة فلا تهرب من النتيجة. وأنت الذي عودنا ألا نضع للبيت ميزانية، فأنت تعطي "ماهيتك" لأمنا تنفق من غير حساب فإن انتهت في نصف الشهر طلبت منك أن تقترض فاقترضت، وأن تشتري ما لا حاجة لنا به فاشتريت، وإن تقدم الكمالي على الضروري فأطعت، فليس لك أن تطالبنا بالاقتصاد في الجدول الصغير والنهر الكبير ليس له ضابط.

وخرق أن تحاول أن تضع ميزانية دقيقة لمصلحة وميزانية الدولة مبعثرة! قال: نعم. قالوا: وقد أضعت سيادتك على أمنا فلمَ تفرض سيادتك علينا؟. ورضيت بالخضوع لها فلمَ تأباه علينا وهي أم الحاضر وأنت أبو الماضي ونحن رجال المستقبل؟ قال: نعم. قالوا: وأنت نشأت في زمن خضوع تام: خضعت لأبيك في المهد صبيا، وخضعت للفقيه في المكتب، وللمدرس في المدرسة، فإذا قلت برأسك هكذا، قال الأستاذ بعصاه هكذا، فنكست رأسك وغضضت بصرك. واسعفتك عينك بالبكاء، ولم يسعفك لسانك بالقول. فلما صرت "موظفا" وقفت من رئيسك موقفك من أبيك وأستاذك، تنفذ دائما وتطيع دائما، ولم يجر على ذهنك يوما تفكير في استقلال، ولا على لسانك نداء بحرية. أما نحن فحريتنا في بيتنا حررتنا على أساتذتنا، ونادينا بالحرية القومية فتبعتمونا في شيء من الرياء، تظهرون الطاعة لرؤسائكم، وتبطنون الرضا عن حركاتنا، وتريدون أن تجمعوا بين الحرص على ماهيتكم والحرص على وطنيتكم المكبوتة، قال: نعم. قالوا: فلما قدناك وقدنا رجالنا في السياسة فلنقدكم جميعا في كل شيء: في البيت

ص: 88

وفي المال وفي العلم وفي رسم الخطط، ولنقلب الوضع فنكون قادة وتكونوا جنودا وإلا لم نرض عنكم جنودا ولا قادة.

وقالت البنات لأبيهن:

يا أبانا الذي ليس في السماء! رقصت أمنا فرقصنا، وشربت أمنا فشربنا، وشربت سرا فلتسمح لنا بحكم تقدم الزمان أن نشرب جهرا، ورأينا في روايات السينما والتمثيل حبا فأحببنا، ورأينا عريا على الشواطئ فتعرينا، وتزوجت أمنا بإذن أبيها فلنتزوج نحن بإذننا، قال: نعم. قلن: وقد أوصتنا أمنا أن نركب الزوج ولكننا أمام مشكلة يشغلنا حلها. فإنا نرى شبان اليوم متمردين لا يخضعون خضوعك ولا يستسلمون استسلامك، فإرادتهم قوية كإرادتنا، وهم يحبون السلطة حبنا. فهم أحرار ونحن أحرار، وهم مستبدون ونحن مستبدات، فكيف نتفق؟ هل يمكن أن يبقى البيت بعدة استبدادات؟ ولكن لا بأس يا أبانا! هل البيت ضرورة من ضرورات الحياة؟ أو ليس نظام الأسرة نظاما عتيقا من آثار القرون الوسطى؟ قال: نعم. قلن: على كل حال فيصح أن يجرب جيل النساء الجديد مع جيل الرجال الجديد، فإن وقع ما خشينا عشنا أحرارات وعاشوا أحرارا، وطالبنا بتسهيل الطلاق وبهدم المحاكم الشرعية على رءوس أصحابها، وتعاقدنا تعاقدا مدنيا. قال الأب: وما تفعلن بما ترزقن من أبناء وبنات؟ قلن: لك الله يا أبانا! إنك لا تزال تفكر بعقل جدنا وجدتنا! لقد كنت أنت وأبوك وجدك تحملون أنفسكم عناء كبيرا في التفكير في الأولاد، وتضحون بأنفسكم وأموالكم في سبيلهم، وتعيشون لهم لا لكم. أما عقليتنا أهل الجيل الحاضر فأن نعيش لأنفسنا لا لغيرنا. لقد ضحك عليكم الدين والأخلاق ففهمتم أن الواجب كل شيء، وكشفنا اللعبة ففهمنا أن اللذة كل شيء، فنحن نمنع النسل، فإذا جاء قسرا فليعش كما شاء القدر،

ص: 89

ولنقدم حظنا على حظه، وسعادتنا على سعادته، ولا نفكر فيه طولا، ولا يتدخل في شئوننا كثيرا ولا قليلا.

قال الأب: وأمر المال كيف يدبر؟ كيف تعشن أنتن وأولادكن إذا كان طلاق وكان فراق؟ قلن: هذا ظل آخر ظريف من ظلال تفكيرك. دع هذا يا أبانا والبركة أخيرا فيك.

أما بعد فقد خلا الأب يوما إلى نفسه، وأجال النظر في يومه وأمسه، فبكى على أطلال سلطته المنهارة، وعزته الزائلة، ورأى أنهم خدعوه بنظرياتهم الحديثة، وتعاليمهم الجديدة قال: لقد قالوا إن زمان الاستبداد قد فات ومات، فلا استبداد في الحكومة ولا استبداد في المدرسة، فيجب ألا يكون استبداد في البيت، إنما هناك ديمقراطية في كل شيء، فيجب أن يكون البيت برلمانا صغيرا يسمع فيه الأب رأي ابنه ورأي زوجته، وتؤخذ الأصوات بالأغلبية في العمل وفي المال وفي كل شيء. وقالوا تنازل عن سلطتك طوعا وإلا تنازلت عنها كرها، وقالوا إن هذا أسعد للبيت، وأبعث للراحة والطمأنينة. وقالوا إن هذا يخفف العبء عنك، فنحن نقسم البيت إلى مناطق نفوذ، فمنطقة نفوذ للمرأة، وأخرى للرجل، وثالثة للأولاد، وكلهم يتعاونون في الرأي ويتبادلون المشورة. سمعت وأطعت فماذا رأيت؟ رأيت كل إنسان في البيت له منطقة نفوذ إلا شخصي، ولم أر البيت برلمانا، بل رأيته حماما بلا ماء وسوقا بلا نظام، إن حصلت على مال أرادته المرأة فستانا، وأرادته البنت بيانو، وأراده الابن سيارة، ولا تسل عما يحدث بعد ذلك من نزاع وخصام. وإن أردنا راحة في الصيف أردت رأس البر لأستريح، وأرادت الأم والبنت الإسكندرية قريبا من ستانلي باي، وأراد الابن أروربا، إلى ما لا يحصى، ولا يمكن أن يستقصى. وأخيرا يتفقون على كل شيء إلا على

ص: 90

رأيي. فوالله لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما تزوجت، فإن كان ولا بد ففلاحة صعيدية، لم تسمع يوما بمدينة، ولم تركب يوما قطارا إلى القاهرة والإسكندرية لها يد صناع في عمل "الأقراص" ورأس صناع في حمل "البلاص".

أيتها الزوجة! ويا أيها الأبناء والبنات! ارحموا عزيز قوم ذل.

3-

المقالة الوصفية:

وتعتمد قيمتها الحقيقية على دقة الملاحظة وعلى التعاطف العميق مع الطبيعة الذي لا يحور إلا عاطفية مسرفة. ثم على الوصف الرشيق المعبر الي ينقل أحاسيس الكاتب وصورة الطبيعة كما تنعكس على مرآة نفسه، بصدق وإخلاص. والغاية الأولى في مثل هذه المقالات هي تصوير البيئة المكانية التي يعيش فيها الكاتب كما تتراءى لإنسان عميق الإحساس حاد البصر نافد البصيرة. وهذا الامتزاج مع الطبيعة، والتعبير الإنساني عنه، هو ما يميز مثل هذه المقالة عن مقالات العلماء وأبحاثهم في عالمي النبات والحيوان. ولعل مما يفسد هذه المقالة، ويعصف بقيمتها الفنية، اتجاه الكاتب إلى السفسطة والتفلسف والتحليل والتعليل. فالتصوير الساذج البسيط، هو الخاصة الأولى للمقالة الفنية، كما أنه الخاصة الأولى للقصيدة الغنائية. ومن خير أمثلتها في أدبنا "وحي البحر" و"بجوار شجرة ورد" و"مع الطير" لأحمد أمين1 و"الصخور" لميخائيل نعيمة2 و"جمال الطبيعة" للعقاد3 و"الربيع" للرافعي4.

1 فيض الخاطر ج1: 2، وج3: 259، وج4: 6 على التوالي.

2 البيادر: 173.

3 الفصول: 128.

4 وحي القلم ج1: 22.

ص: 91

4-

وصف الرحلات: وقيمتها متأتية من أنها تصور لنا تأثر الكاتب بعالم جديد لم يألفه، والانطباعات التي تركها في نفسه، ناسه وحيوانه ومشاهده الطبيعية وآثاره، فهي بهذا مغامرة ممتعة تقوم بها روح حساسة في أمكنة جديدة وبين أناس لم يكن لها بهم سابق عهد. والرحالة العابر الذي يكتفي بحسو الطائر لا يستطيع أن يقدم لنا صورة حية عن رحلته، بوسعنا أن نألفها ونتعاطف معها ونعيد تجربته فيها بأنفسنا. بينما الرحالة المتبصر المتأمل، يسحب صفاته العقلية والنفسية على تلك المشاهد التي تقع عليها عينه، ويجمع الملاحظات ويقارن بينها ويتناولها بالنخل والاصطفاء، ويحاول أن يفهم المعاني الحقيقية التي تكمن وراء المرئيات التي تقع عليها عينه. فالرحلة إذن في نظره، ليست سوى تجربة إنسانية حية يتمرس بها ويجعل التعرف إلى دقائقها واستكناه خفاياها وكده، فيخرج منها أكثر فهما وأصدق ملاحظة وأغنى ثقافة وأعمق تأملا. وهي تتطلب منه عقلا حساسا مرنا سريع التأثر والتكيف والاستجابة، بوسعه أن يدرك معاني المرئيات وأن يحللها إلى خصائصها الأساسية ويقدر قيمتها حق قدرها. وشر ما يعتري هذه المقالة تدنى الكاتب إلى العاطفية المسرفة، وتكلفه المواقف التي وقفها غيره أمام المشاهد التي يستوعبها بصره وبصيرته. فهنا التزييف والتصوير والتمويه. ثم إن كتب الجغرافيا وخرائط البلدان، تستطيع أن تقدم للقارئ مادة علمية تتسم بميسم الصدق والدقة، إلا أن هذه الحقائق التي تعرضها على القارئ هي الحقائق العلمية الجافة، التي كثيرا ما تكون عرضة للهدر والتجاوز إذا ما اتسع نطاق الاكتشافات أو ازدادت معرفة العلماء بحقائق هذا الكوكب الذي نعيش عليه. والقارئ الذواقة لا يبحث عن شيء من ذلك، بل يعنيه أن يرى التفسير الذي تجود به شخصية إنسانية ملهمة، دقيقة الإحساس بارعة

ص: 92

التصوير لما تجول فيه عيناها من مشاهد المدن والبلدان. وكلما كان الكاتب عميقا في إحساسه دقيقا في تصويره، ازدادت متعة القارئ بما يقرأ ومحاولته أعادة تشكيل التجربة التي مر بها الكاتب في نفسه.

ويمثلها في أدبنا "رحلة" لأحمد أمين1 و"رغيف وإبريق ماء" و"غدا تنتهي الحرب" لميخائيل نعيمة2 و"في الزورق" للعقاد3.

5-

مقالة السيرة: وهي صورة حية لإنسان حي. تختلف عن الترجمة في النوع والدرجة الفنية. فكاتب التراجم يعنى بجمع المعلومات وتنسيقها وعرضها عرضا علميا واضحا، ولكنه يتوارى خلف موضوعه، ولا يحاول أن يكشف الغطاء عن شخصيته في كثير أو قليل. أما كاتب السيرة المقالية، فإنه يصور لنا موقفا إنسانيا خاصا من شخصية إنسانية، فيعكس لنا تأثره بها وانطباعاته الخاصة عنها ويحاول أن يخطط معالمها الإنسانية تخطيطا فنيا واضحا، معتمدا على التنسيق والاختيار، بحيث تتراءى لنا الشخصية الموصوفة، وكأنها حية متحركة تحدثنا ونصغي لها وتروقنا بعض صفاتها فنعجب بها أو تسوءنا فننفر منها، ومقالة السيرة بالنسبة إلى السيرة الكبيرة، كالأقصوصة بالنسبة إلى القصة. الأولى تصور شريحة من الحياة أو قطاعا من الشخصية بلمسات سريعة موحية، والثانية تعرض حياة متكاملة، بريشة متأنية بطيئة تعنى بجزئيات الخطوط، وتبرز مختلف الملامح والقسمات بألوان قد تكون فائقة قوية هنا، وباهتة ضعيفة هناك. ومن أمثلتها في أدبنا "شخصية عرفتها" و"الشيخ مصطفى عبد

1 قبض الخاطر ج2: 100، ج3:178.

2 البيادر: 166، 195.

3 الفصول: 251.

ص: 93

الزراق" لأحمد أمين1 و"حافظ" للبشري2 و"القاسم أمين الفنان" للعقاد3 و"طه حسين" و"العقاد والمازني" لتيمور4.

6-

المقالة التأملية: وهي تعرض لمشكلات الحياة والكون والنفس الإنسانية، وتحاول أن تدرسها درسا لا يتقيد بمنهج الفلسفة ونظامها المنطقي الخاص، بل تكتفي بوجة نظر الكاتب وتفسيره الخاص للظواهر التي تحيط به. وخير ما يمثلها في أدبنا الأستاذ ميخائيل نعيمة الذي جعل وكده في مقالاته، الكشف عن روح الشرق وصوفيته العميقة، والتنبيه إلى خصائصه الروحية والفكرية، والتنويه بطاقاته والأخذ بضبع أبنائه حتى يبلغ بهم إلى ميدانهم الأصيل الذي يناسب طبعائهم ويفتح مواهبهم. ومقالاته في "البيادر"5 تعكس هذه المعاني جميعا. وقد اشتهرت المدرسة المصرية في كتابة المقالة، بتلوين المشكلات الاجتماعية تلوينا تأمليا، لا يبلغ في عمقه مبلغ مقالات نعيمه، وهذا واضح في مقالات أحمد أمين ومنها:"فلسفة المصائب" و"نظرة في الكون" و"الحظ"6.

1 فيض الخاطر ج5: 265، ج7:312.

2 في المرآة: 13.

3 بين الكتب والناس: 277.

4 ملامح وغضون: 54، 99.

5 راجع في هذا الشأن كتاب "كتاب وشخصيات" للأستاذ سيد قطب ص212-224.

6 فيض الخاطر ج2: 117، ج3: 36 وج6: 141.

ص: 94