الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"
يا نفس" لنسيب عريضة:
حاولنا أن ندل على ما في قصيدة ميخائيل نعيمة "أخي" من عناصر إنسانية نعتقد أنها كفيلة بأن تضمن لها الخلود بين الناس كافة رغم ما قيلت من ملابسات خاصة، وها هي قصيدة أخرى لنسيب عريضة تخللها؛ لأنها تحرك عدة مسائل لا بد من أن نجلوها بضرب المثل: منها الغموض والوضوح، ومنها مشكلة العبارة وما يأخذه البعض ظلما على شعراء المهجر من هلهلة النسيج، ثم إن فيها إشارات كثيرة إلى نظريات فلسفية معروفة، ومع ذلك استطاع الشاعر بقوة إحساسه وروعة صوره أن ينجو بها عن استواء الأفكار المجردة، وأخيرا فيها ما يمكننا من معالجة العناصر الموسيقية في الشعر العربي وكيفية استخدامها.
القصيدة حديث يخاطب به الشاعر نفسه:
يانفس ما لك والأنين؟
…
تتألمين وتؤلمين؟!!
عذبت قلبي بالحنين
…
وكتمته ما تقصدين
وها نحن منذ المقطوعة الأولى في جو شعري. وننظر في السؤال "يا نفس مالك والأنين؟ " فلا ندري أهو عتاب أم لوم أم شفقة؟! وهي تتألم وتؤلم على نحو لا نعلمه، ولكننا نحس بصدق الشاعر، وهي تعذب القلب بالحنين وتكتمه ما تقصد، حنين إلى المجهول. ومن عجب أن تكتم النفس ما تجهل! ثم هل هي غير القلب؟ هل هي تعارضه؟ أسئلة لا محل لإلقائها، وما يجوز أن نبحث لها عن حلول توضحها، وإلا ضاع جمال الشعر، حالة نفسية غامضة لا نستطيع إداركها بعقولنا؛ لأنها أعمق من أن تجتلى وأغنى من أن تنثر، نفس تشع.
قد نام أرباب الغرام
…
وتدثروا لحف السلام
وأبيت يا نفس المنام
…
أفأنت وحدك تشعرين!
الليل مر على سواك
…
أفما دهاهم ما دهاك!
فلمَ التمرد والعراك؟
…
ما سور جسمي بالمتين
وبذا نسير إلى قلب الفكرة الفلسفية التي ترى الجسم سجنا للنفس: فكرة إغريقية قديمة، ومع هذا تكسبها الحركة خفة الشعر، "الليل مر على سواك" تقرير يعقبه "أفما دهاهم ما دهاك؟ " استفهام لا نستطيع أن ندرك معناه، وإن كان في السؤال الآخر:"فلم التمرد والعراك؟ " ما يشعر بأنه إنكاري، وأخيرا تأتي القافلة "ما سور جسمي بالمتين" منفية مؤكدة في قمة يقف عندها النفس ويطمئن السيل الموسيقي، وهكذا بالمرور من الخبر إلى الإنشاء ثم العودة إلى الخبر، قد استطاع الشاعر أن يخلق تلك الحركة التي تحاكي ما بنفسه من اضطراب.
وتنصت إلى الموسيقى، فإذا هي أجمل ما في القصيدة، وفي الحق أن شعراء المهجر قد جددوا موسيقى الشعر العربي تجديدا يستحق أن نطيل فيه النظر، نحن الآن إزاء بحر تقليدي "مجزوء الكامل"، ولكن انظر كيف استخدمه الشاعر. فالوحدة لم تعد البيت بل المقطوعة "قد نام
…
تشعرين"، وفي كل مقطوعة نجد أربعة أشطر، الثلاثة الأول يقفي بعضها البعض، وأما الشطر الرابع الذي نسميه "القافلة" فيقفي القوافل الأخرى، وعلى هذا النحو تطرد القصيدة، كل وحدة تتكون إذن من ثماني تفاعيل تسيل إلى أن توقفها القافلة النونية الساكنة، ثم تعود فتستأنف سيرها في المقطوعة التالية إلى أن تقف. وكان من دقة إحساس الشاعر أن وقع على الكامل المتساوي التفاعيل؛ وذلك لأن الإضمار "إسكان الثاني المتحرك"، ليس في الحقيقة زحافا، وهو لا ينقص شيئا من كم التفعيلة، وإنما يستبدل مقطعين قصيرين "متفاعلن" بمقطع واحد مغلق "متفاعلن" يبلغ في الكم مبلغ المقطعين الآخرين، وبهذا لا يتغير في التفعيلة المزحفة غير الإيقاع بسبب التسكين، وأما طول التفعيلة فيظل ثابتا. وإذا ذكرنا أن الإضمار هو الزحاف الكثير الدخول على الكامل. وأن الطي "حذف الرابع الساكن" لا يكاد يجتمع إلى الإضمار إلا في التفعيلة الأولى من الشطر الثاني. وأنه في تلك الحالة يغلب أن يعوضه الترفيل "زيادة مقطع في تفعيلة القافية" إذا ذكرنا كل ذلك أدركنا أن هذا البحر من البحور المتساوية التفاعيل على نحو مطرد. والكامل والوافر هما البحران الوحيدان اللذان تنطبق عليهما تلك الصفة، ولربما كان في
ذلك سبب لتسمية الخليل لهما بهذين الاسمين، ونضيف أننا لم نعثر بطي في القصيدة التي ندرسها الآن، وإذا صحت ملاحظتنا وضح السر في إيحاء هذا الوزن بالاطراد، وكل اطراد يلائم الإضناء والحيرة اللذين يزيدهما وضوحا طول المقطوعة، وهي لا تقف عند سكون القافلة إلا لتعود من جديد، كأمواج البحر التي تتحطم تباعا مرتدة عند صخر الشاطئ، وهذا يماشي بناء القصيدة المكونة من فروض متتابعة وموجات نفسية متجددة. وهذه وتلك يطول نفسها ويطرد، ثم تفنى ليعود غيرها إلى الظهور. توفيق رائع إلى الملائمة بين موسيقى الشعر وموسيقى الإحساس، بين الصياغة ونفس الشاعر ثم إن الاطراد هنا لا ينتهي إلى الفقر والإملال كما يحدث أحيانًا، فقد عرف الشاعر كيف يتجنبه بالحركة الشعرية، ثم بتقسيمه لتفاعيله الثمانية إلى أربع وحدات، ثلاث منها تفصل وتجمع بينها القوافي، ثم يأتي سكون القافلة فيفصل ويجمع بين وحدات القصيدة كلها.
وننظر في اللفظ فتعرض لنا مشكلة طالما أثرناها في مصر هي أخذنا على شعراء المهجر ما نسميه ضعف العربية في الأسلوب، وهذه تهمة يجب أن نقلع عنها؛ لأنني كلما أمعنت النظر في ألفاظهم وتراكيبهم لم أجد لها مثيلا في شعرنا الحديث، من حيث الدقة والقدرة على إثارة الإحساس، نعم قد يخطئون في النحو أو الصرف، ولكن هذه في نظري أشياء نادرة لها نظائرها عند أكبر الكُتَّاب، وإلى اليوم لا يزال الفرنسيون يضربون المثل بفولتير في الخطأ في الإملاء، وإنما يعيب الأسلوب عدم التحديد أو العجز عن الإيحاء، وتلك عيوب لا وجود لها في شعرهم، أما استخدامهم للألفاظ المألوفة فلست أرى فيه موضع ضعف بل قوة؛ وذلك لأن الألفاظ المألوفة -ولا أقول المبتذلة- هي التي تستطيع في الغالب أن تستنفد إحساس الشاعر، كما أنها أقدر من الألفاظ المهجورة على دفع مشاعرنا إلى التداعي، وقد كثر استعمالنا لها في الحياة، فتحددت معانيها، وتلونت بلون نفوسنا، فحملت شحنة عاطفية، وهذه صفات من أولى خصائص الأسلوب الشعري، بل أسلوب الأدب بوجه عام، وها نحن نسمع عريضة يقول:"أفما دهاهم ما دهاك؟ " فندرك "الداهية" التي لها وقع متميز في نفوسنا:
أطلقت نوحك للظلام
…
إياك يسمعك الأنام
فيظن زفرتك النيام
…
بوق النشور ليوم دين
وهذا بلا ريب إسراف في الصور، لا ننكر أنه قلق، وأن نغماته أقوى من الهمس،
فيه مبالغة تخرجنا عن الألفة، ونحن لا نكاد نتصور كيف يصف نوح النفس إلى أن يكون "بوق النشور ليوم الدين"، ولا نرى ضرورة لهذا العنف في التعبير، ولكن هذا قليل.
يا نفس ما لك في اضطراب
…
كفريسة بين الذئاب
هلا رجعت إلى الصواب
…
وبدلت ريبك باليقين؟
أحمامة بين الرياح
…
قد ساقها القدر المتاح
فابتل بالمطر الجناح
…
يا نفس ما لك ترجفين
أسئلة متدفقة توحي بما في نفس الشاعر من حيرة، وصور جميلة دالة. النفس المضطربة كفريسة بين الذئاب، النفس التي ترجف كحمامة بين الرياح قد بل المطر جناحها. وفي اختيار الألفاظ ذوق دقيق ودليل واضح على أن الشاعر يرى ما يقول. وهل أدل على تلك الرؤية الشعرية من أن نراه بعد أن يصف حالات النفس يلتفت إليها فجأة فيخاطبها وكأنها قد تجسمت أمامه فريسة تضطرب بين الذئاب أو حمامة بللها المطر وسط الرياح:
أوما لحزنك من براح
…
حتى ولو أزف الصباح
يا ليت سرك لي مباح
…
لأعي صدى ما قد تعين
والشاعر لا يحس في وضوح بغير حزنه، وأما السر في ذلك فتراه يتساءل عنه وهو بعد لا يعلم أتعرفه نفسه أم لا، أولا تراه يقول:"لأعي صدى ما قد تعين"؟ فهي قد تعي شيئا وهو -إذا أباحت له سرها- لن يتسطيع أن يعي منه غير الصدى:
أسبتك أرواح القتام
…
فأرتك ما خلف اللثام
فطمعت فيما لا يرام
…
يا نفس كم ذا تطمحين؟!!
وهنا ندخل في سلسلة من الفروض الشعرية، يريد بها الشاعر أن يحاول الفهم، وهو في الحق يكاد يكون يائسا منه، وإنما هو إحساس نفس قلقة تطمع فيما لا يرام، وكأني بها قد استشرفت يوما أسرار الوجود. ثم كم في التفاته "يا نفس كم ذا تطمحين؟!! " من نفاذ يصل إلى القلوب:
أصعدت في ركب النزوع
…
حتى وصلت إلى الربوع
فأتاك أمر بالرجوع
…
أعلى هبوطك تأسفين؟!
وتلك نغمات أفلاطون الشعرية الجميلة يوم حدثنا عن هبوط النفس من عالم المثل الذي لن تستطيع أن تغالب الحنين إليه. ولكم جرت بذلك أنفاس الشعراء منذ
"هبطت إليك من المحل الأرفع" إلى "الإنسان ملك هوى، فما يزال يذكر السماء". منذ ابن سينا إلى لامرتين:
أم شاقك الذكر القديم
…
ذكر الحمى قبل السديم
فوقفت في سجن الأديم
…
نحو الحمى تتلفتين
أأضعت فكرا في الفضاء
…
فتبعته فوق الهواء
فنأى وغلغل في العلاء
…
فرجعت ثكلى تندبين
أسلكت في طرق الخيال
…
دربا يقود إلى المحال
فحطمت رحلك عند آل
…
يمتص ري الصادرين
فروض لا شك من تصورات العقل، ومع ذلك تنجو بها الصور من البرود. فالنفس تطل من سجنها نحو الحمى "متلفتة" في لهفة، وهي تحلق في الهواء، كمن يبحث عن مفقود لا يجده، فتعود حزينة ""ثكلى تندب" مسرفة مبتذلة" وهي تسلك في عالم الخيال "طرق لفظة نثرية" دربا يقود إلى المحال، ثم تحط رحالها عند سراب "يمتص ري الصادرين"، وهذه صورة بالغة الجمال والقوة، فالسراب الذي وصلت إليه لم يكتف بأن أسفر عن خلاء، بل سلبها ما تملك وامتص ريها، فصدرت عنه أشد ظمأ منها عند الورود:
فنسيت قصدك والطلاب
…
ووقفت يذهلك السراب
وهرقت فضلات الوطاب
…
طمعا بماء تأملين
استقصاء للصورة واستمرار فيها، وهو مذهب قديم عند كبار الشعراء؛ إذ نراه من أهم خصائص شعر هوميروس الذي يشبه البشر بأوراق الخريف في إحدى أغانيه، فيرى في تساقطها ما يحكي فناءنا، ثم يتابع التشبيه، فيذكر نهوض الأجيال بعضها في أعقاب بعض، كما تخلف الأوراق غيرها.. وهو واضح عند بعض شعرائنا كذي الرمة الذي يصف إشعال النار، فيستقصي المراحل ويتابع الصورة، وكابن الرومي الذي يضرب المثل بوصفه لصانع الرقاقة. ومع ذلك فثمة مفارقات، فوصف ذي الرمة لإشعال النار، ووصف ابن الرومي لدحو الرقاقة حرص على التفاصيل التي تتمم اللوحة وتكسبها غنى الواقع، وأما استمرار هوميروس أو استمرار عريضة الآن فهو في خدمة الفكرة أو الإحساس، وهذا أسلوب في الكتابة له جماله:
حتى إذا اشتد الأوام
…
والآل أسفر عن ركام
غيبت رأسك كالنعام
…
في رمل قلبي تحفرين
وهكذا تأتي الصورة الجميلة الدالة، ينتزعها الشاعر من معطيات حواسه المباشرة، فتكسو الفكرة بأغشية الشعر، وتنشر أمامنا مناظر يدركها الخيال؛ بل تهتز لها النفس.
وتنتقل إلى فرض آخر يودعه الشاعر صورًا جديدة:
أعشقت مثلك في السماء
…
أختا تحن إلى اللقاء
فجلست في سجن الرجاء
…
نحو الأعالي تنظرين
وهنا نلمس الإغراب ونلمس المعاني البعيدة والصورة المقتسرة "فالجلوس في سجن الرجاء" ليس من الشعر القريب الحبيب إلى النفس، ولكن لنعد عن ذلك إلى ما يليه:
لوحت باليد والرداء
…
لتراك لكن لا رجاء
لم تدر أنك في كساء
…
قد حيك من ماء وطين
وننظر فإذا بالصورة الجميلة المألوفة "لوحت باليد والرداء" تتجسم أمام أبصارنا، وبذلك ترفع من سقطة البيت السابق، وأما الكساء الذي يحاك من ماء وطين فصورة بعيدة، وأصدق الصور ما كانت ممكنة في الواقع إن لم تنتزع منه فعلا:
أتحول دونكما حياة
…
لو كان يبلوها الإله
لبكى على بشر براه
…
رحما يصارعها الجنين
وهذا استمرار لفكرة النفس السجينة التي لو بلا الله أمرها لأخذته بأصحابها الشفقة فبكى. النفس في الجسم تصارعه كالجنين في الرحم، معنى بعيد وصورة بعيدة وإن لم تخلُ من قوة.
يا نفس أنت لك الخلود
…
ومصير جسمي للحود
سيعيث عيثك فيه دود
…
فعلامَ لا تترفقين؟
والآن تنتهي الأفكار الفلسفية وما جرَّت الشاعر إليه من صور بعضها قوي موفق وبعضها مقتسر بعيد؛ وذلك لما في طبيعة شعر الفكرة من مجازفة خطرة لم يسلم منها أحد من الشعراء فيما أعتقد، حتى ولو كان الشاعر شيلي أو فليري.
ولكننا لا نكاد نصل إلى الإحساس الخالص والصور التي تصاغ للعبارة عنه حتى نرى في نسيب عريضة شاعرًا كبيرًا.
يا نفس هل لك في النضال
…
فالجسم أعياه الوصال
حملته ثقل الجبال
…
ورذلته لا تحفلين
عطش وجوع واشتياق
…
أسف وحزن واحتراق
يا ويح عيشي هل تطاق
…
نزعات نفس لا تلين
ونمر من الإحساس إلى الصور العاطفية فيبلغ الشاعر قمة المجد.
والقلب واأسفى عليه
…
كالطفل يبسط لي يديه
هلا مددت يدا إليه
…
كالأمهات إلى البنين؟
ها هو الشاعر قد انطلقت نفسه وتحركت حياته كلها، ونسيب عريضة من أولئك المجاهدين الذين نزحوا إلى العالم الجديد يجالدون في سبيل الحياة، وفي قسوة تلك المجالدة ما لا يترك لهم راحة ولا سبيل إلى الأخذ من لذات الوجود بنصيب. مأساة خليقة بأن تنطقهم بأنبل الشعر، ونسمعه فإذا هو كخير ما نعرف من شعر رومانتيكي، لا شعر أولئك الشعراء الصغار الذين اتخذوامن الرومانتيكية مذهبا أدبيا يتصنعون فيه النجيب، بل كبارهم الذين صدروا عن حالات نفسه صادقة.
ثم أي بساطة مؤثرة في هذه الصورة الجميلة: صورة القلب الذي يبسط يديه كالطفل، والشاعر الذي يرجو نفسه المأخوذة بروعة الجهاد والتحليق في عالم المثل "أن تمد إليه يدا كالأمهات إلى البنين" صورة ساذجة ولكن كم فيها من إنسانية! كم فيها من جمال! كم فيها من قرب إلى النفوس!
وتستمر الصورة:
غذيته مر الفطام
…
وحرمته ذوق الغرام
وصنعت شيخا من غلام
…
يحبو علي باب السنين
ومن منا لا تهزه هذه الصورة الأخيرة: صورة الغلام الذي يحبو على باب السنين ولما يلج أبوابها وقد جعلت منه النفس القاسية شيخا.
فغدا كحفار القبور
…
يئد العواصف في الصدور
ويبيت يهتف بالثبور
…
يشكو إليك وتشمتين
وهنا يجب أن نقف عند البيت الأول، فالغلام قد أصبح كحفار القبور، وهذا تشبيه يقبض النفس ويهز كيانها والحفار يئد العواصف. يئدها، وإذن فهي لا تكاد تنمو بل لا تكاد تظهر حتى يسارع بها إلى الدفن حية، والعواصف شيء قوي مدو؛ لأنها شهوات القلب المكبوت الذي يهم بالانفجار كلما طال به الضيق. أليس في وأد العواصف قوة الشعر؟ وهو يئدها في الصدور.
أعمى تطاعنه الشجون
…
وجراحه صارت عيون
وبها يرى سبل المنون
…
فيسير سير الظافرين
ولقد يكون في مطاعنة الشجون واستحالة الجراح عيونا يسير بها الشاعر في سبل المنون سير الظافرين -الذي يعتبرون الموت غنيمة- من القوة ما يكاد يمس المبالغة البعيدة أو تكلف الأداء، ولكننا مع ذلك لا ننفر من الصورة.
حتى إذا اقترب المراد
…
تطلى رؤاه بالسواد
فيعود أعمى لا يقاد
…
إلا بعكاز الحنين
وهو رغم إحساسه بالظفر لا يلبث عندما يصل إلى نهاية الشوط أن يضطرب بصره فتطلى رؤاه بالسواد، وقد عاوده ضعف البشر فإذا به يقاد بعكاز الحنين. وهذه حقائق نفسية صادقة رغم ما حولها من ضباب الشعر، وفي طرق أدائها بساطة جميلة وبخاصة في "عكاز الحنين" يتكئ عليه متحسسا سبيله، ونحن إذا جمعنا بين هذه المقطوعة وسابقتها استطعنا أن نفهم إسرافه في الأولى؛ إذ ندرك ما يرمي من إظهار المكابرة التي تموه ما فينا من ضعف.
يتلمس النور البعيد
…
بأنامل الفكر الشريد
ويسيل من فمه النشيد
…
سيل الدماء من الطعين
في البيت الأول صورة دالة، صورة الشاعر وهو يتلمس النور البعيد بأنامل الفكر الشريد، تجسيم جميل يرتكز في "الأنامل التي تتلمس". وفي البيت الثاني يتحدث الشاعر عن نشيده، ولكنه غير حديث شعرائنا عن قصائدهم الخطابية القيمة، فالنشيد يسيل من فمه، كما تسيل الدماء من الطعين، يسيل لأن الشاعر يتألم، لا لأنه يريد أن يخلع الخلود على عباد الله، أو لأن الآلهة قد اختصته بملكة الشعر.
أرايت بيت العكبوت
…
وذبابة فيه تموت
رقصت على نغم السكوت
…
ألما فلم يغن الطنين
فكذاك في شرك الرجاء
…
قلبي يلذ له الغناء
وما ذاك شدوا بل رثاء
…
يبكي به الأمل الدفين
وبذا يحدثنا عما نحسه في نشيده: صوت الألم، ورثاء يبكي به الأمل الدفين. وأخيرا نعود إلى الفكرة فإذا بالروح تصعد.
يا نفس إن حم القضاء
…
ورجعت أنت إلى السماء
وعلى قميصك من دما
…
قلبي فماذا تصنعين؟
ضحيت قلبي للوصول
…
وهرعت تبغين المثول
فإذا دعيت إلى الدخول
…
فبأي عين تنظرين؟
وتعود الصور -وقد بعدنا عن حياتنا الأرضية- فترفع من استواء الفكرة -كما قلنا- "فالدم على قميص النفس"، و"العين التي ستنظر بها إذا دعيت إلى الدخول أمام الله"، كل هذه صورة قريبة تزيد من روحانية هذه الخاتمة الجميلة، وتقوي من إحساسنا بذلك الصراع العنيف الذي يدور بنفس الشاعر وقد ألقت به الحياة إلى الجهاد المستمر.
والآن قد يتساءل القارئ: لِمَ استطاع شعراء المهجر ما لم يستطعه غيرهم؟ جوابي هو: لأنهم قد يكونون من بلاد تحرك مناظرها الجبلية من الخيال ما لا تحركه السهول، ومن جنس1 يشهد له التاريخ بالنزوع إلى المغامرة والتوثب، ثم إن غربتهم بأمريكا وكفاحهم ومن أجل الحياة قد أرهف حسهم وقوَّى من نفوسهم.
وأخيرًا -وهذا هو السبب المهم- لأنهم قوم مثقفون، قد أمعنوا النظر في الثقافات الغربية التي لا غنى لنا اليوم عنها، وعرفوا كيف يستفيدون منها بعد أن هضموها في لغاتها الأصلية، فهم إذن ليسوا كأولئك الذين يسرفون في في الغرور عن جهل وكسل، ظانين أن الأدب في متناول كل إنسان، وأن كلام منظوم شعر. الثقافة هي التي تشع في ألفاظ هؤلاء الشعراء، وإنك لتقرأ الجملة لهم فتحس أن خلفها ثروة من التفكير والإحساس.
1 يعني الفينيقيين.