المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌إيضاح أخير: الحنية: قلت: إنني لا أحب اللجاجة فكيف إذا انقلبت مزيجا - في الميزان الجديد

[محمد مندور]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌الأدب المصري المعاصر:

- ‌النقد ووظائفه:

- ‌بجاليون والأساطير في الأدب

- ‌سوء تفاهم وفن الأسلوب:

- ‌أرواح وأشباح الشعر والأساطير:

- ‌نداء المجهول والأدب الواقعي:

- ‌زهرة العمر وحياتنا الثقافية:

- ‌الأدب المهموس

- ‌الشعر المهموس "‌‌أخي" لميخائيل نعيمة

- ‌أخي" لميخائيل نعيمة

- ‌يا نفس" لنسيب عريضة:

- ‌ النثر المهموس:

- ‌أمي" لأمين مشرق:

- ‌حول ترنيمة السرير:

- ‌الشعر الخطابي:

- ‌إيضاح أخير:

- ‌ الهمس في الأناشيد:

- ‌مناهج النقد - تطبيقها على أبي العلاء

- ‌الأدب ومناهج النقد

- ‌النقد الذاتي والنقد الموضوعي

- ‌مشكلة المعنى:

- ‌أبو العلاء والنقد:

- ‌أبو العلاء ورسالة الغفران:

- ‌رسالة الغفران:

- ‌مساجلات جورجياس المصري:

- ‌المعرفةوالنقد - المهج الفقهي

- ‌الشعراء النقاد

- ‌المعرفة والنقد:

- ‌نظرية عبد القاهر الجرجاني:

- ‌النظم عند الجرجاني:

- ‌الذوق عند الجرجاني:

- ‌خلط بين القيم:

- ‌مناقشات لغوية:

- ‌اللغة والتعريب:

- ‌عثرت به وعثرت عليه

- ‌حول أصول النشر:

- ‌كتاب قوانين الدواوين "1

- ‌كتاب قوانين الدواوين "2

- ‌أوزان الشعر

- ‌الشعر الأوروبي

- ‌ الشعر العربي:

- ‌فهرست الموضوعات:

الفصل: ‌ ‌إيضاح أخير: الحنية: قلت: إنني لا أحب اللجاجة فكيف إذا انقلبت مزيجا

‌إيضاح أخير:

الحنية:

قلت: إنني لا أحب اللجاجة فكيف إذا انقلبت مزيجا من المهاترة والمغالطة وها هو الأستاذ سيد قطب يعود إلى "مزاجي" الخاص فيدعي أن آثر شخصية لدي من شخصيات القصص التي حللتها في سلسلة النماذج البشرية هي شخصية "فيلسيتيه" للكاتب الفرنسي "فلوبير" وذلك لما بها من "حنية"، كما يقول!

ولكنني لم أوثر شخصية على أخرى إلا أن يريد الأستاذ قطب حملي على ذلك الإيثار و"فيلسيتيه" بعد ليست النموذج الوحيد الذي تحدثت عنه، فثمت "فوست" يمثل الإقبال على الحياة والهم إلى المعرفة عن سبيل المغامرات، و"دون كيشوت"، والمجالد للبشر، رغم إخفاقه. و"هملت" العقل النافذ نفاذا يشل الإرادة. و"جوليان سوريل" الثائر على مواضعات الحياة الاجتماعية.

و"ألست" الناقم على البشر انحلال أخلاقهم. و"فيجارو" المنتقم من الحياة بالسخرية. "وإبراهيم الكاتب" الذي تعلق بالحياة حتى مجها. "وجفروش" الطفل الباسم عن جسارة قلب، وغيرهم ممن لا صلة لهم "بالحنية" والمزاج الخاص.

لقد حللت هذه النماذج مظهرا ما فيها، وهي عندي سواء، فلا محل إذن لمغالطة الأستاذ قطب وإصراره على زعمه أني لا أوثر إلا لونا واحدا من الإحساس.

ويأبى الأستاذ قطب إلا أن يضيف إلى المغالطة المهاترة بحيث لا أرى بدا من أن تكون هذه الكلمة آخر حديث لي في هذا الموضوع.

يرى الأستاذ قطب أن نوع الإحساس الذي أوثره في زعمه خاص بالنساء وبذوي الأمزجة الخاصة، وأنا لا يرهبني أن يكون إحساسي على هذا النحو.

ويعصمني من تلك الرهبة جهل نفضته عن نفسي، وبربرية لا يزال يسدر فيها الفطريون من الناس.

لقد سمع الأستاذ قطب أستاذه العقاد يكتب مقالات يثبت فيها أن المرأة غير الرجل، وأن بينهما اختلافا سحيقا في الطبيعة، وسمع الحمقى من الرجال

ص: 83

يزدرون المرأة ويعتبرونها سبة أن يشبه الرجل المرأة في شيء، فلم يرَ سبيلا للمهاترة خيرا من أن يرد إحساسي إلى المرأة وإلى ذوي الأمزجة الخاصة.

وأنا أحب أن يعلم الأستاذ قطب، وأن ينقل إلى الأستاذ الكبير العقاد أن الحياة البشرية ليست من البساطة بحيث يظنان، وليس بصحيح أن بين الرجل والمرأة اختلافا حاسما في الطبيعة، وقديما زعم اليونان -وزعمهم حق- أن الآلهة عند خلقها للبشر لم تخلق الرجل والمرأة دفعة واحدة. بل خلقت أعضاء مختلفة، ثم جمعت بين تلك الأعضاء لتسوي الرجل والمرأة كيفما اتفق، وهي لسوء الحظ أو حسنه لم تحرص على نقاء الرجل من عنصر المرأة أو نقاء المرأة من عنصر الرجل، ولهذه الخرافة الرمزية دلالتها، فليست هناك امرأة كاملة الأنوثة، وليس هناك رجل كامل الرجولة، ومن يدعي ذلك إنما يصدر عن عقل باطن أمرضته سخافات العقلية الاجتماعية التي نحيا بينها.

واليونان لا ريب كانوا في خرافتهم هذه أنبه مني ومن العقاد، وطبعا من الأستاذ قطب، وإنه لمن الحمق أن نحاول تنقص الرجل برد إحدى أحاسيسه إلى المرأة، والشعوب المتحضرة ترى على العكس من ذلك أن في إحساس الرجل كالمرأة موضع فخار لكبار رجال الفن والأدب، ولعل الأستاذ قطب قد سمع من العقاد أن رينان قد وصف بأعظم الصفات كفنان عندما قيل عنه:"إنه يفكر كرجل، ويحس كامرأة، ويتصرف كطفل".

الفتات:

وأما فتات الحياة "التي يعرف كبار الأدباء كيف يلتقطونها بأنامل ورعة" فالظاهر أن الأستاذ قطب لم يدرك ما أردته منها. وهأنا أبسط القول. والأستاذ قطب لا بد قد فهم عن الأستاذ الكبير العقاد أن كل فن اختيار للتفاصيل الدالة، فالمصور يختار من الألوان والأضواء وتفاصيل المنظر أقدر الجزئيات على الإيحاء، وكلما سما الفنان في فنه ورهف في وسائله عرف كيف يختار تلك الجزئيات الصغيرة، وليس ثمة علاقة بين "فتات الحياة" التي يختارها "وضخامة الإحساس" الذي يريد أن يثيره، فالإحساس من الواجب طبعا أن يكون قويا، وموضع الإعجاز هو أن يثير الفنان هذا الإحساس القوي "بالفتات" التي لن يدركها الأستاذ قطب، بل إن جميع المثقفين في حقائق الفن والأدب ليعلمون لخبرتهم الطويلة بكافة الفنون في العالم المتمدين -أن إثارة الإحساسات القوية

ص: 84

لا يمكن أن تكون بغير فتات الحياة الأليفة الوثيقة الصلة بالبشر، وأما الطنطنة، وأما تضخيم التوافه، وأما عجيج الألفاظ، وأما التبجح بالقوة الجوفاء، فهذه وسائل العجز والادعاء والجهل.

أضرب للأستاذ قطب مثلا بسيطا أختاره من السينما لنبعد عن الأدب العسير الفهم.

في إحدى الأفلام أراد مؤلف القصة أن يحمل المشاهدين على إدراك ضيق بطل الرواية لطول انتصاره أمرا يهمه فلم ينطقه بخطبة، ولم يعبث بملامحه ولم يحمله على تمزيق ملابسه أو شد شعره، بل ولا على الصياح في أجواز الفضاء، بل عرض على الشاشة بطلنا وأمامه منفضة سجاير خالية، ثم غير المنظر وعرض الرجل في نفس الجلسة، وأمامه المنفضة وقد امتلأت بأعقاب السجاير حتى فاضت، هذه المنفضة المليئة بأعقاب السجاير لا شك من فتات الحياة بل من هناتها، ولكن أوما يرى الأستاذ قطب أنها وسيلة قوية من وسائل الأداء، وأنها قد حملتنا على إدراك نفسية البطل إدراكا لن تبلغه قصيدة طويلة من قصائد الأستاذ قطب؟

هذه هي فتات الحياة التي يجب أن نعرف قدرها في الفن، ولكننا قوم فطريون، نظن الفن ألوانا فاقعة وضجيجا خاويا، نعم يا أستاذ قطب أنا أوثر "الأطياف الباهتة" لأنها نسيج كل فن رفيع، وأما الأطياف الزاهية فلا تسر غير البدائيين من الناس، أولا ترى إلى زنوج إفريقيا كيف يستهويهم الأحمر القاني والأصفر الكركم؟

وأعود فأكرر أننا في سبيل الحديث عن طرق الأداء في الفن، وأما قوة الإحساس المثار فلا دخل لها بالفتات، إلا أن يكون هذا الفتات مبعث ذلك الإحساس القوي.

وأما إنني أستطيع أن أستقل بالمشاعر الضخمة وبالفحولة والجهارة أو لا أستطيع، فهذه دعوى لا أحب أن أناقشاها لأنها صغيرة، ولسنا في مجال مبارزة.

وأنحدر إليها، ورحم الله من قال:"أسرع الناس إلى القتال أقلهم حياء من الفرار". ونحن نناقش مسائل فنية يدور حولها الأستاذ قطب -يدور من الخارج.

مختارات الأستاذ قطب:

قلت: إنني أحب المتنبي وأرى فيه شاعرا كبيرا، ويأبى الأستاذ قطب إلى أن

ص: 85

يقول ويكرر: إنني لا أحبه، وهو يقرن العقاد إلى المتنبي، وفي هذا ظلم للمتنبي وللعقاد، فالمتنبي شاعر والعقاد لا شأن له بالشعر، ولا أدل على ذلك من مختارات قطب نفسها.

لقد أتى الأستاذ قطب بنموذج للنثر المصري الجيد "رثاء أحد الشبان لأمه" والشاب صاحب الرثاء هو الأستاذ قطب نفسه، واحتجاج الإنسان بنثره الخاص شيء سمج، وأمعن في السماجة أن يتحدث المرء عن نفسه في مناقشة الغير فيدعي أن في نثره "معاني كبيرة وأحاسيس عميقة". هذا الأسلوب ليس من آداب المناقشة؛ ولهذا أهمل نثر الأستاذ قطب كله وأترك له مهمة الحديث عن نفسه.

وأما مختاراته الشعرية فهي أولا لشاعر مصري كبير، وثانيا لشاعر من شعراء الشباب المصريين، فأما شاعر الشباب فهو أيضا الأستاذ قطب ولهذا أهمله وأهمل شعره؛ لأنني لا أطيق هذه الصفاقة، ثم إنني لا أرى من اللياقة أن أناقش أشعار التلميذ، بينما لدي أشعار الأستاذ نفسه، لدي أشعار المصري الكبير العقاد. فالشعر له والأستاذ قطب في ركابه.

ولنأخذ من الصورة الشعرية التي أوردها الأستاذ قطب للشاعر الكبير العقاد قصيدته "الكون جميل""الرسالة عدد 520" قال الشاعر:

صفحة الجو على الزر

قاء كالحد الصقيل

لمعة الشمس كعين

لمعت نحو خليل

رجفه الزهر كجسم

هزه الشوق الدخيل

حيث يممت مروج

وعلى البعد نخيل

قل ولا تحفل بشيء

إنما الكون جميل

وقال الأستاذ قطب معلقا على جمال هذه الأبيات: إن فيها ألفة، وإنه يكاد يلمح الشاعر "متسع الحدق مفغور الفم وهو ينشق بل يلتهم ما في الطبيعة" وأنا لا أدري أي ذوق أدبي ذلك الذي يحمل الناقد على تصوير الشاعر "متسع الحدق مفغور الفم". وهل يستطيع القارئ أن يتصور هذه الصورة القبيحة دون أن يملكه الاشمئزاز والضحك؟ تصور شاعرًا مفتوح العينين فاغر الفم! هذه صورة أبله لا صورة شاعر!

ثم أين الجمال في هذه الأبيات؟

ما هذه الصفحة؟ أهي الأثير؟ وهل هي غير الزرقاء؟ وهبها كانت غيرها أهي

ص: 86

كالخد؟ هذا الفضاء الرحب، الفضاء المترامي الذي تسبح فيه الروح فلا تنتهي إلى غاية، هذا الفضاء خد؟ وكيف تصقل الأثير، الأثير اللين الشفاف الخفيف؟

لمعة الشمس كعين

لمعت نحو خليل

هل يرى القارئ عين الحبيب وهي تلمع نحو الخليل فتشبه لمعة الشم؟ لا بد أنها عين حمراء تقدح الشرر وترسل اللهيب!

رجفه الزهر كجسم

هزه الشوق الدخيل

أنا أعلم أن الدخيل معناه الطفيلي. أهو الشوق الطفيلي؟ أهو الشوق الداخلي؟ وهل ترى الجسم يهتز كرجفة الزهر؟ لو أن الهزة كانت في القلب لقلت شاعر يشارك الطبيعة بإحساسه ولكنه الجسم كله. يخيل إليَّ أنني أرى فيلا يهتز بجوار وردة تتمايل على غصنها.

حيث يممت مروج

وعلى البعد نخيل

مرج ونخيل لا تخصيص فيها ولا اختيار، أين الفن في يممت نحو المروج وعلى البعد نخيل؟ وهذا نثر لا روح فيه.

وأما غاية العجب فتأخذك من قوله:

قل ولا تحفل بشيء

إنما الكون جميل

تسمع قل ولا تحفل بشيء، فتتنبه حواسك، ويستيقظ إحساسك.

ويصحو عقلك لهذا التحدي القوي وتلك الشجاعة النادرة، وتحسب أن الشاعر سيخرج على قانون من قوانين الوجود أو على حقيقة من الحقائق الإنسانية الثابتة، ثم ننظر فإذا به لا يأتيك بغير هذه الجملة المبتذلة "إنما الكون جميل". وأنت تتساءل عن سر هذا القصر وذلك التأكيد فلا تهتدي إلى شيء.

ها هو شعر الشاعر الكبير، فما بالك بشعر الشاعر الصغير؟

ص: 87