الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أبو العلاء ورسالة الغفران:
رسالة الغفران مجموعة من أصداء محنة أبي العلاء؛ بحيث لا يمكن فهمها ما لم ننفذ إلى معنى تلك التجربة البشرية التي عاشها أبو العلاء، وأن ندرك نتائجها الخطيرة في إحساسه وتفكيره، وفهم تلك التجربة على وجهها الصحيح وهو أهم عمل للناقد؛ وذلك لأن التفسير والبحث عن العوامل التي أثرت في حياة الكاتب أو الشاعر لا يمكن أن ينتهي إلى شيء نهائي، فقد يبصرنا العلماء بما في حياة أبي العلاء من مؤثرات، ومع ذلك يظل دائما شيء لا يمكن تفسيره، هو أصالة الأديب التي تتلخص في كيفية انفعاله بتلك المؤثرات، وهذا هو السبب في أن نرى ناقدا كالدكتور طه حسين يعرض لما كان من تفاوت أثر المحنة عند أبي العلاء وبشار، فلا يجد تعليلا غير ما يسميه "غريزة أبي العلاء الوحشية"، ومن الواضح أن هذا التفسير لا يغني لما فيه من دور؛ إذ ما نريد أن نفهمه هو سبب تلك الوحشية التي تميز بها.
وإذن فمحاولة الفهم خير من محاولة التفسير، وعلى أساس هذا الفهم يستقيم النقد أو يعوج، والذي لا شك فيه أن الكثير من النقد الوصفي لم ينجح في أداء رسالته لعجز أصحابه عن كل فهم صحيح لنفوس من ينقدون، بله روح العصر أو الأدب الذي يعرضون له. فالمرء لا يستطيع أن يتذوق الأدب اليوناني مثلا ما لم يبدأ فيخلق لنفسه روحا يونانية قديمة بقراءة ما خلفوا من آثار أدبية وتاريخية، حتى يتشبع بروحهم، فتتداعى خواطره وإحساساته على نحو ما كانت تتداعى عندهم.
والأمر كذلك في أدبنا العربي القديم، فالناقد ذو الخيال القادر على تصور حياة العرب والإحساس بها قدرة الممثل الجيد على أن يحيا الدور الذي يلعب يستطيع أن يدرك ما في بكاء الديار عند هؤلاء القوم الرحل من جمال وصدق لا أعرف لهما مثيلا في أدبنا، ومع ذلك كم نرى من أحمق يسخر من هذا البكاء، بل كم من ناقد لا يرى فيه إلا مجرد تمهيد لأغراض الشعر عند العرب، وهذا نظر فقير لحقائق العربي النفسية، أو قل قصور عن فهم تجارب الغير.
والواقع أن النقد ليس بالمهمة الهينة، ولا هو في مقدور كل إنسان؛ إذ لا بد لمن يريد أن يحاوله أن يكون غنيا بتجارب الحياة غنى يذهب بما في النفس من جمود، بحيث تستطيع أن تخرج من محيطها لتعيش بالخيال في محيط جديد، وهذا يحتاج إلى مرونة نفسية لا تكتسب إلا بإحدى أمرين: إما بالتجارب المباشرة، وإما بالمران الطويل على فهم تجارب الغير كما يقصها الأدباء.
ولقد ضرب النقاد عندنا في فهم روح أبي العلاء كل مضرب. وفي الجزء الثالث من رسالة الغفران طبعة الأستاذ كامل الكيلاني آراء عديدة لكثير من كبار مفكرينا وأدبائنا، ولكنهم في الغالب لم يخضعوا أنفسهم لمنطوق أدبه، بل أتاه كل منهم بفكرة سابقة في مسألة من المسائل التي يثيرها، وهذا موضع الداء عندنا وأكبر دليل على أننا لا نزال بعيدين عن النضج الأدبي المنشود، الذي يخضع للفن وينتزع منه مدلوله بدلا من أن يملي عليه رأيا كونته لنا من قبل ثقافتنا الإسلامية أو مطالعتنا في كتب الأوربيين.
فبين يدي الآن رأي للأستاذ عبد الوهاب النجار، يقرر فيه أن أبا العلاء "كان متين الدين قوي اليقين، وأنه كان شديد الوطأة على منتحلي التقوى المتظاهرين بالدين والتصوف"، وأنه "لم يقصد بالدين هزؤا ولا سخرية، وإنما هو شيء جر إليه الخيال الشعري وأملاه حب الإغراب في التصوير". ومن الواضح أن رحمة الله واسعة وأن أبا العلاء في غير حاجة إلى هذا الدفاع قدر حاجتنا نحن إلى فهم محنة ذلك الرجل ومشاركته إياها لنثري ونفيد، وكذلك الأمر في رأي ذلك المفكر الروحي الأستاذ فريد وجدي، فهو يصدر فيه عن فكرة سابقة عن حقيقة الإيمان يحاول أن يطبقها على أبي العلاء دون أن يبصرنا بكيفية استقرائه لها من أدبه، فهي كالقالب يريد أن يصب فيه إيمان أبي العلاء أراد أبو العلاء أو لم يرد، وذلك حيث يقول: "إذا كان التدين هو الخضوع لصورة ذهنية تنتحل صفات علوية منتزعة من الصفات البشرية، والتأمل في الرذائل خوفا من عقاب، والتحلي بالفضائل طمعا في ثواب، والتقليد في العبادات والمعاملات، وإهمال أحكام العقل والنظر، والجمود على حالة نفسية لا تتغير، والاستعصاء على ناموس الترقي، قلنا: إذا كان التدين هو تقمص هذه الروح فإن أبا العلاء لم يكن متدينا، ولكن إذا كان التدين -على ما نفهمه اليوم من معنى الإسلام- هو محو كل صورة ذهنية وتعريض صفحتي العقل والقلب للوجود المطلق رجاء أن ترتسم عليها الحقيقة تحميها الشكوك من عبث الخيالات، والثورة على كل تقليد يناقض بداهة
العقل، وعلى كل نظام لا يوافق سنن الطبيعة، واستشعار الروعة من المجهول الضخم الذي يحيط بنا من كل مكان، والترفع عن الدنايا؛ لأنها لا تتفق وكرامة الإنسان، وإحالة الحاجات البدنية إلى أدنى حدودها، قلنا: إذا كان التدين هو هذا، فإن أبا العلاء كان من أعمق الناس تدينا. وهذا كلام جميل، ولكنه لا يتفق مع روح الإسلام ولا مع روح أي دين آخر؛ لأن الدي تصديق وشعائر، كما هو حالة نفسية ومبادئ أخلاقية، وهو لا يتفق مع نفسية أبا العلاء، وإنما هو فهم خاص للأستاذ وجدي يريد أن يمليه على أبي العلاء.
والأمر أغرب في الخصومة التي نشبت بين الدكتور طه حسين والأستاذ العقاد. والعقاد يبدأ فيؤكد -فيما يعلم- أن فكرة أبي العلاء في هذه الرحلة إلى العالم الآخر لم يسبقه إليها أحد غير لوسيان في محاوراته في الأولمب والهاوية. وهذا قول عجيب يدخل في سلسلة تأكيدات الأستاذ العقاد التي لا حصر لها في كل ما كتب، والتي كثيرا ما تدهشنا لجرأتها. ففكرة الرحلة إلى العالم الآخر قديمة قدم الإنسانية، عرفها اليونان قبل لوسيان، وعرفها العرب قبل أبي العلاء. والكل يعلم ما في أساطير اليونان من وصف لنزول أورفيوس إلى العالم الآخر ليسترد منه زوجته أوريديس، والكل يعلم وصف هوميروس رحلة أوليس، ووصف فرجيلوس شاعر الإنيادة لرحلة إنيوس بذلك العالم، كما نعلم جميعا أشعار المتصوفة في أحلام يقظتهم ونومهم ومن تلك الرحلات الرائع الجميل، كوصف الحارث بن أسد المحاسبي في "التوهم" الذي نشره المستشرق الدكتور أربري، وصدر له الأستاذ أحمد أمين بك، وفي عصر مقارب لعصر أبي العلاء كتب ابن شهيد رسالة "التوابع والزوابع" المنشورة بكتاب "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة""ج1 ص210" وهي شديدة الشبه برسالة الغفران، ومع ذلك يؤكد العقاد أن فكرة رسالة الغفران لم يسبق أبا العلاء إليها غير لوسيان "؟ " وهو يخلص من ذلك إلى الحكم على الرسالة بأنها "نمط وحدها في آدابنا العربية، وأسلوب شائق، وفن طريف، وفكرة لبقة، وفذلكة جامعة لأشتات من نكات النحو واللغة، وأما أن ينظر إليها كأنها نفحة من نفحات الوحي الشعري على مثال ما نعرف من القصائد الكبرى التي يفتن في تمثيلها الشعراء، والقصص التي يخترعونها اختراعا، أو ينظر إليها كأنها عمل من أعمال توليد الصور والباس المعاني المجردة لباس المدركات المحسوسة، فليس ذلك حقا". وهذا كلام غريب يستند إلى مسلمات لا يعلم من سلم بها. وما نعلم أن الأرض قد أنجبت كُتَّابا يخترعون القصص اختراعا، كما لا نظن
أن أبا العلاء لم يتصور مواقف وأوضاعا حسية عديدة تحمل ما بنفسه من سخرية، ورد الدكتور طه يجادل العقاد في قدرة الخيال أهي خالقة أو معيدة؟ وما كانا أغنانا عن هذه الخصومة بأن نتناول النص نبين ما فيه دون الرجوع إلى "فلسفة علم النفس".
وكذلك الأمر في مشكلتي "تشاؤم أبي العلاء" و"سخرية أبي العلاء".
ففي "مطالعات" الأستاذ العقاد عدة مقالات عن المعري، ولكن موضع الداء هو دائما ما ذكرت من إقحام كتابنا لآراء كونوها من مطالعاتهم في الكتب الأوربية على أدبنا إقحاما، بدلا من الخضوع لذلك الأدب والصبر على فهمه واستخلاص ما به في تواضع وإخلاص، فالعقاد يبدأ بتقرير تشاؤم أبي العلاء "ص70 وما بعدها" مع أن التشاؤم هو ما نريد أن نعلم لونه ونتائجه. ونحن بعد نعلم أن التشاؤم مصدره اتساع الشقة بين الأمل والواقع أي بين قدرتنا وبين ما نبغي، ولكننا نعلم أن نتائجه تتفاوت في النفوس، فهي عند رجل كأبي العلاء قد تبلغ حد اليأس واليأس قد يريح بعض النفوس، كما قد يحطم أخرى، واليأس قد يصرف إلى نوع من السخرية أشبه ما تكون بحساسية العقل. وهنا نلمس الاتجاه الصحيح نحو فهم محنة أبي العلاء ككل، وهو ما كنا نبغيه من نقادنا، ولكنهم لم يفعلوا مكتفين بتعميمات لا غناء فيها.
وكذلك أمر السخرية، فقد تحدث عنها العقاد، كما ذكر الدكتور طه حسين أنه أول من لفت الأنظار إليها في رسالة الغفران، ولكننا لا نخرج من حديثهما بفهم واضح لتلك السخرية أو تمييز لها عما يشابهها من اتجاهات النفس، وعلة ذلك فيما أحسب هي افتقارنا إلى المفارقات الدقيقة، ولنوضح قليلا ما نقصد إليه في التشاؤم وفي السخرية.
فالتشاؤم قد يكون تشاؤما عقليا وليدا لنظرة فلسفية للوجود وما فيه من قوانين كتشاؤم شوبنهور، وهذا لا يعنينا؛ لأننا لسنا من الطموح بحيث نمتد بضعفنا العقلي إلى الحكم على العالم بأنه خير العوالم الممكنة أو أسوأها. ولنترك ذلك للفلاسفة يبنون العالم كما يريدون وإنما يعنينا تشاؤم الأدباء، وتلك صفتهم الغالبة حتى كُتاب الكوميديا منهم، وإن تفاوتت ألوان ذلك التشاؤم، فشعراء الرومانتيكية كلهم متشائمون لما في حسهم من إرهاف يبالغ في الشعور بوقع محن الحياة، وعجز الإرادة البشرية عن كبح جماح الأمل. ولقد يولد أحدهم من أصل شريف، ثم تأتي أحداث الحياة فتعطل من قواه وتذهب
بأمنه، وما كان يبغي من مجد، كما فعلت الثورة الفرنسية بشاتوبريان فإذا به حزين "يتثاءب الحياة" بدلا من أن يحياها، وهذا النوع من الاتجاه أقرب إلى الحزن منه إلى التشاؤم.
ومن الشعراء أمثال الشاعر الإيطالي "ليوباردي" من تقعد به آفات الجسد عن المغامرة في الحياة، كما يريد فإذا به يصيح:"إنه ليس إلا جذعا نخرا يحس ويتألم"، ومنهم أمثال أبي العلاء ممن نزلت بهم محنة لا فرار منها فأصابهم ما يشبه اليأس من الحياة فتبرموا بها في ضرب من الاستهتار العقلي الذي يلهو بكل فكرة وكل عقيدة وكل عاطفة؛ لأن اليأس لا يستطيع غير ذلك، ومنهم من استهتر عملا فغمر والتمس اللذات في غير حياء ولا تعفف كبشار، وكان هذا أيضا مظهرا ليأسه، والأمر بعد سيان. فاستهتار العقل واستهتار العمل مردهما واحد، ونحن بعد لا ندري إلى أي حد نسمي هذا تشاؤما وهو أقرب ما يكون إلى الثورة.
هناك إذن حزن وهناك ألم وهناك يأس وهناك ثورة، ولكل هذه مظاهره، وهي تختلف عن التشاؤم الذي هو توقع دائم لأسوأ الفروض، وتغليب لجانب الشر في الأشياء والناس على جانب الخير فيها. وفي تفكير أبي العلاء شيء من هذا ولكنه ليس صفته الغالبة، التي نراها في يأسه العقلي الذي يرى إمكان كل رأي ولا يكاد يجزم في شيء برأي، وفي يأسه العاطفي الذي لم يعرف يقينا غير اليقين بألمه، لمحنته التي لا ذنب له فيها.
والسخرية كذلك ألوان نفسية لا عداد لها، فلا أقل من أن نميز بين ما نستطيع التمييز بينه منها، فناك "روح العبث" المعروفة بالهيومر Humour وهي غير التهكم Sarcasme وغير السخرية بمعناها الدقيق ironie وغير الضحك le comique فلكل منها مصدره النفسي ولكل منها دوره في حياتنا.
ولجورج ديهامل في كتابه "دفاع عن الأدب" عدة أسطر عميقة يتحدث فيها عن "الهيومر" ويميز بينه وبين ما ليس منه؛ إذ يقول: "إن روح الهيومر تختلف عن روح الإضحاك. فالإضحاك يرمي إلى إثارة الضحك بأسلوب خاص ولغة خاصة؛ بحيث يصعب أن يستعمل في التراجيديا مثلا، وهو غير المرح الخالص الذي هو حالة نفسية عارضة يطول أو يقصر دوامها، وليست لها قدرة على الكشف عن حقائق النفس" وعنده "أن الهيومر نوع من التغير في الضياء، يمكننا من أن نرى الشيء في كافة مظاهره، ولقد يكون بين بعض تلك المظاهر تناقض،
بفضله تكتسب تلك المظاهر دلالتها. وفي الهيومر نوع من الخفر والتحفظ وتمالك النفس لا يعرفه الهزل الصريح" ثم إن "اليهومر استعداد طبيعي في نفس صادقة لا تصدف عن أن تعرف كل ما ترى وأن تقول كل ما ترى وأن تقول كل ما تعرف" أي: إنه -على حد قول ديهامل- "حيلة نفسية نتخذها للعبارة عن كل ما نريد أن نعبر عنه في خفر وتحفط"، وتلك صفة من صفات أبي العلاء البارزة.
وأما السخرية والتهكم فالفرق بينهما مرده إلى طبائع النفوس، فمن الناس من يسخر من آلامه ليهون حملها عليه، فهي حالة نفسية هادئة أميل إلى الطبع الفلسفي منها إلى طبع الشعراء، وأما التهكم فيصدر عن النفوس العنيفة التي لا ترحم حمق الغير أو جهله فتتهكم منه، فالسخرية أغلب ما تكون من النفس وإليها وإن امتدت إلى الغير ففي رفق، بينما التهكم سلاح قوي ضد الآخرين.
وكل هذه طرق مختلفة للعبارة عن مكنون نفوسنا، الذي لا نريد العبارة عنه عبارة مباشرة. فمن الكُتاب أمثال موليير من يضحك من الناس ليقوم من اعوجاجهم، ومنهم أمثال شارلي شابلن ممن يضحكنا ليثير شجوننا، ورفقنا بضعفاء الناس، ثم تورثنا على الظالمين منهم، وهناك من أمثال فيجارو الذي يضحك انتقاما لنفسه وخوفا من أن يبكي من محنه، ومنهم من ضحكه نقد اجتماعي مر لظواهر لا يعرف لها علاجا، ومن هذا النوع ضحك ربليه Rabelais.
ومن الواضح أن ما نسميه سخرية أبي العلاء ليست شيئا من كل هذا، وإنما هي عبث يأس، عبث رجل استوى عنده كل شيء؛ لأنه لا يؤمن بغير ألمه، بل ولا يستطيع بطبعه أن يعبر عن هذا الألم إلا في خفر وحياء.
وهكذا يتضح أمامنا الآن بعض الوضوح، أن ما في نفسية أبي العلاء مما يسميه نقادنا تشاؤما وسخرية ونسميه ثورة وعبثا مردهما إلى ما ابتلي به من محنة نزلت فلاقت مزاجا خاصا أنتج ما بين أيدينا من أدبه، ولنصور تلك النفسية كما نفهمها:
يخيل إلي مفتاح فهمنا لنفسية أبي العلاء ليس في شعره ولا في "الفصول والغايات"؛ وإنما هو في رسائله لداعي الدعاة؛ حيث يناقش مشكلة الخير والشر، وإرادة الله لهذا الشر أو عدم إرادته. ومن الواضح أنه لم يحرك هذه المشكلة في نفسه غير محنة عماه، ولقد عنت مشكلة الشر ومصدره، وإمكان الإفلات منه أو عدم الإمكان أبا العلاء طوال حياته، ولقد انتهى به الأمر إلى اليأس من الفهم؛ ولهذا غلب عليه التفكير الأخلاقي أكثر من التفكير العقلي، ولقد انتهى إلى الشك
في كل شيء والاعتقاد بإمكان كل شيء عقليا؛ ليأسه من كل شيء وثقته من عدم إمكان أي شيء عمليا. إنه لم يستطع أن يدرك لمحنته حكمة. لِمَ لم يخلق أو يترك بصيرا كغيره؟ ثم من أراد به هذا الشر؟ أهو الله الذي هو سبحانه خير مطلق؟ ثم أما لهذه المحنة من نهاية؟
عللاني فإن بيض الأماني
…
فنيت والظلام ليس بفاني
فأي غرابة أن تساوره الشكوك في كل شيء، حتى في الله والأديان، بل في ذلك العقل نفسه الذي عجز أن يحل مشكلة الشر فيحمل إلى نفسه الرضا بما قسم له، وعنده أن العقل أداة هدم لا يقين؟
إذا رجع اللبيب إلى حجاه
…
تهاون بالمذاهب وازدراها
فخذ منها بما أداه لب
…
ولا يغمسك جهل في صراها
وهت أديانهم من كل وجه
…
فهل عقل يشد به عراها
ثم قوله:
ثنان أهل الأرض ذو عقل بلا
…
دين وآخر دين لا عقل له
وإذا كان قد ركن إلى يقين في حياته، فهو لا ريب لم يكن يقين عقل بل يقين حس.
وقال أناس ما لأمر حقيقة
…
فهل أثبتوا أن لا شقاء ولا نعمى
وشكل في الإيجاب والنفي معشر
…
حيارى جرت خيل الضلال بهم سعيا
فنحن وهم في مزعم وتشاجر
…
ويعلم رب الناس أكذبنا زعما
إيمانه إذن إيمان بالشقاء والنعمى، شقاؤه هو ونعمى الغير، وذلك لا ريب إيمان سلبي خليق بأن يحطم النفس لا أن يقودها إلى اليقين، ومتى ولد الألم الإيمان؟ والألم سخط وحيرة وتبلبل وضجر، بينما الإيمان اطمئنان وسكون ورضا وأمان، حتى لتكاد تحس بين الأمرين تناقضا تاما.
يئس أبو العلاء من كل يقين. فاعتزل الحياة والناس رهينا لمحبسيه أو لمحابسه الثلاثة.
وبذلك أسدل ستار عليه في حياته العملية. ولكن بقيت حياته الروحية تعمل ما لم يستطع تحقيقه فعلا من معالجة الحياة والضرب فيها، واتخذ نشاطه العلمي ذلك اللون من العبث الذي جاءت رسالة الغفران أحد مظاهره.